المقدس العمران في رحاب الخلود قبس من الذكرى

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث عن ثلاث نقاط:

  • النقطة الأولى: في بيان مفهوم الفقه.
  • والنقطة الثانية: في ذكر العوامل المؤثرة في عملية التفقه.
  • والنقطة الثالثة: في الحديث عن شخصيّة المرحوم المقدّس الجدّ العلامة الحجّة الشيخ فرج العمران قدّس سرّه.

أمّا بالنسبة للنقطة الأولى:

الآية الكريمة تقول: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ما معنى التفقه؟ ما معنى علم الفقه؟

علم الفقه علمٌ تطبيقيٌ آليٌ وليس علمًا تقنينيًا، العلوم تنقسم إلى قسمين:

1. علمٌ تقنينيٌ: يعني دور هذا العلم وضع القوانين وتحديد القوانين.

2. وعلمٌ تطبيقيٌ: ليس دوره دور التقنين ووضع القوانين وإنّما دوره دور التطبيق، تطبيق القوانين والقواعد على مصاديقها وعلى مواردها.

علم الفقه ليس علمًا دوره دور وضع القوانين وإنّما دوره دور تطبيق هذه القوانين على مصاديقها وعلى مواردها، لكي نشرح هذا المعنى أذكر لكم مثالاً ولعله يصعب على بعضٍ منكم ويسهل على البعض الآخر.

نحن عندما نأخذ حديثًا واحدًا، مثلاً: ما ورد عن النبي محمدٍ وهو قوله : ”لا ضرر ولا ضرار“، هذه الكلمة: ”لا ضرر ولا ضرار“ حديث نبويٌ عنه ، إذا جاء الفقيه يريد أن يتعامل مع هذا الحديث ويريد أن يستخلص من هذا الحديث بعض الفتاوى وبعض الأحكام الفقهيّة كيف يمارس الفقيه علميّة الفقه؟ كيف يمارس الفقيه تناول الحديث من خلال العمليّة الفقهيّة؟

هنا عدّة علوم لابدّ أن يرجع إليها الفقيه في هذا الحديث وحده، هذا الحديث الصغير كي يستنبط منه الفقيه الفتوى والحكم لابدّ أن يراجع عدّة علوم وعدّة معارف كي يتوصّل إلى تلك الفتوى وذلك الحكم:

العلم الأول: علم الحديث.

هل هذا الحديث حديثٌ متواترٌ كما ذكره بعض فقهائنا أم أنّ هذا الحديث خبرُ آحادٍ وليس حديثًا متواترًا لأنّ الرواة الأوائل لهذا الحديث هم زرارة بن أعين وعقبة بن خالد وهما راويان والتواتر يُعْتَبَرُ فيه عددٌ يُطمَأن بعدم تواطئهم على الكذب؟ هل الحديث حديث متواترٌ أو خبر آحاد؟ هذه مسألة يتكفل بها علم الحديث.

ينتهي الفقيه من مراجعة علم الحديث ينتقل إلى:

2 - علم الدراية: علم الدراية ما معناه؟

علم الدراية هو العلم المتكفل بدراسة متن الحديث، هذا الحديث نفسه متنه مختلفٌ، بعض الروايات ذكرت كما في رواية الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه: ”لا ضرر ولا ضرار في الإسلام“، بعض الروايات ذكرت كما في رواية الكليني أعلى الله مقامه: ”لا ضرر ولا ضرار على مؤمن“، هنا الفقيه يجد أنّ المتن مختلفٌ، عند الصندوق شيءٌ وعند الكليني شيءٌ آخر، هذا زاد كلمة «في الإسلام» هذا زاد كلمة «على مؤمن»، كيف يعالج الفقيه هذه الزيادة؟ هنا الفقيه يحتاج إلى علم الدراية، يرجع إلى علم الدراية، يدرس الزيادة الأولى: ”لا ضرر ولا ضرار في الإسلام“ هذه الزيادة أخبر عنها الصدوق بقوله: قال رسول الله: ”لا ضرر ولا ضرار في الإسلام“، هل ما يخبر عنه الصدوقُ إخبارًا جزميًا حتميًا كقوله: «قال رسول الله»، ما قال: «رُوِيَ عن رسول الله»، ما قال: «ورد»، قال: «قال رسول الله»، هل الإخبار الجزمي كاشفٌ عن صدور هذا الحديث أم لا؟ هذا مطلب وقاعدة يتكفل بها علم الدراية، الزيادة الثانية: ”على مؤمن“ زرارة هو الذي روى هذه الرواية، عبد الله بن بكير عندما نقل عن زرارة نقل هذه الزيادة، عبد الله بن مستان عندما نقل عن زرارة ما نقل هذه الزرارة، فإذن ما هي رواية زرارة: هل هي مشتملة على الزيادة أم غير مشتملة؟ هنا الفقيه يرجع إلى قاعدةٍ في علم الدراية: هل أصالة عدم الزيادة مقدّمة على أصالة عدم النقيصة أم لا؟ لابدّ أن يبحث هذه القاعدة حتى يحقق أنّ هذه الزيادة موجودة أم ليست بموجودة.

انتهى الفقيه من علم الدراية جاء إلى علم ثالث وكله في هذه الفقرة الصغيرة وفي هذا الحديث الصغير، ينتقل إلى:

3 - علم الرّواية: يعني علم الرجال، علم الرجال هو المسمّى بعلم الرواية، يأتي الفقيه إلى هذا العلم يقول: هذا الحديث ورد عن عدّة رواة، من جملة ألئك الرواة محمد بن خالد البرقي الذي كان من شيوخ وفقهاء الشيعة في قمّ المقدّسة في زمان الإمام العسكري سلام الله عليه، هذا الرجل محمد بن خالد البرقي كان يروي عن الضعفاء كثيرًا ويروي المراسيل كثيرًا، هل روايته عن الضعفاء تُضْعِفُ من مقامه وتُضْعِفُ من وثاقته أم لا؟ لابدّ أن يبحث الفقيه هذا الجانب في علم الرجال، من رواة هذا الحديث أيضًا: الحسن الصيقل، الحسن الصيقل روى عنه علية الرواة وعلية الفقهاء، هل رواية أصحاب الإجماع وعلية الفقهاء عن شخص دليلٌ على وثاقته أم لا؟ لابدّ أن يبحث الفقيه ذلك، هذا ما يسمّى بعلم الرواية وعلم الرجال، ولابدّ أن يرجع إليه الفقيه.

إذا انتهى الفقيه من هذا العلم جاء إلى علم رابع لابدّ أن يبحث من خلاله ألا وهو:

4 - علم اللغة: علم اللغة، كلمة الضرر ما معناها في علم اللغة؟ كلمة الضرار ما معناها في علم اللغة؟ ”لا ضرر ولا ضرار“ الضرر هل يراد به النقص أو يراد به سوء الحال؟ لابدّ أن يبلور الفقيه ما هو المعنى اللغوي للضرر ويراجع مختلف كتب اللغة ويقارن بينها ويرجّح البعض على البعض الآخر ويدرس شخصيات اللغويين ويدرس الكتب اللغويّة ويعرف مشاربها ودوافعها ومناهجها في مقام تحديد المعنى اللغوي، هل الضرر بمعنى النقص أم الضرر بمعنى سوء الحال؟ وإذا كان بمعنى النقص فهل يراد به النقص الحقيقي أو الأعمّ من النقص الحقيقي والنقص الاعتباري؟ ثم يلجأ إلى كلمة الضرار، ما معنى الضرار؟ هل الضرار فعل الاثنين أو فعل الواحد؟ هل الضرار بمعنى الجزاء على الضرر أو الإضرار الابتدائي؟ هل الضرار بمعنى إيقاع الغير في الضرر أو بمعنى إيقاع الغير في الحرج والشدّة؟ هنا لابدّ أن يدرس الفقيه معنى كلمة الضرار.

ينتهي الفقيه من علم اللغة يدخل إلى علم النحو، علم النحو يقول: الضرر مصدرٌ أو اسم مصدر؟ على كلٍ منهما تترتّب نتائج، الضرار هيأة مفاعلة، هل المفاعلة تدلّ على المشاركة؟ هل تدلّ على مجرّد التصدّي للمادة؟ هل تدلّ على إسراء المادّة من شخص لشخص آخر؟ هل تدلّ على استتباع نسبة لنسبةٍ أخرى؟ كلّ هذه البحوث بحوث نحوية لابدّ أن ينقحها الفقيه ويعرف الصحيح منها وغير الصحيح من خلال كلمة الضرار التي مرّت عليه في هذا الحديث الشريف.

إذا انتهى الفقيه من علم النحو والصرف جاء إلى العلم الخامس ألا وهو:

5 - علم الدلالة: بما يشتمل على علم البلاغة، علم المعاني، علم البيان، علم البديع، هنا يأتي لهذه الهيأة، كلمة «لا ضرار»، الهيأة كلها يدرسها، لا يدرس كلمة «الضرر» وحدها أو كلمة «لا» وحدها، لا، يدرس الهيأة بتمامها، «لا ضرر» ماذا تعني هذه الهيأة؟ «لا ضرار» ماذا تعني هذه الهيأة؟ هل تعني النهي أو تعني النفي؟ بعض الفقهاء قال: هذه تعني النهي، ذهب إلى هذا المحقق شيخ الشريعة الأصفهاني قدّس سرّه أستاذ الإمام أبي الحسن الخنيزي قدّس سرّهما، الرواية تعني النهي، إذا كانت الرواية تعني النهي يعني الرسول يريد أن يقول: يحرم أن يضرّ الشخصُ بنفسه، يحرم أن يضرّ الشخصُ بغيره، الرواية تعني النهي، فهل هذا النهي نهيٌ شرعيٌ كما قال به شيخ الشريعة الأصفهاني أو هذا النهي نهيٌ سلطانيٌ كما قال به السيّد الإمام قدّس سرّه حيث ذهب إلى أنّ مفاد هذه الرّواية النهي السلطاني «يعني النهي الولايتي الصادر عن الفقيه بما هو وليّ الأمر وليس مفادها النهي التشريعي القانوني»؟ إذن لابدّ أن يحدّد الفقيه ذلك، وإذا كان المقصود بها النفي فهل المقصود بها نفي الحكم الضرري كما ذهب إليه السيّد الخوئي قدّس سرّه أو المقصود بها نفي التسبيب إلى الضرر كما ذهب إليه السيّدان السيّد الصدر والسيّد الأستاذ السيّد السيستاني دام ظله؟ إذن بالنتيجة: لابدّ أن يدرس الفقيه من خلال علم الدلالة ما معنى هذه الهيأة هيأة ”لا ضرر ولا ضرار“.

بعد أن ينتهي الفقيه من هذا العلم ألا وهو علم الدلالة يدخل في العلم السادس ألا وهو:

6 - علم الأصول: هذا الحديث بمضمونه يُعْتَبَرُ في حجيّة أيّ حديثٍ أن يكون موافقًا للكتاب والسنة موافقة روحيّة، هل هذا الحديث بمضمونه موافقٌ للكتاب والسنة موافقة روحيّة؟ الحديث يقول: لا يوجد ضررٌ ولا ضرار في الشريعة، مع أنّا نجد بعض الأحكام الضرريّة في الشريعة، حكم الشارع بالجهاد حكمٌ ضرريٌ، حكم الشارع بالزكاة حكمٌ ضرريٌ، حكم الشارع بالخمس حكمٌ ضرريٌ، كيف نوفق بين هذه الأحكام الضرريّة وبين قوله عن النبي محمدٍ : ”لا ضرر ولا ضرار“؟ هنا تتدخل القاعدة الأصوليّة، وهي: هل الحديث موافقٌ للكتاب والسنة موافقة روحيّة أم لا؟ أيضًا الفقيه لابدّ أن يبحث ما هي نسبة هذا الحديث للأحكام الأوليّة، هل هي نسبة الحكومة؟ هل هي نسبة التخصيص؟ أم أيّ نسبةٍ أخرى؟ هذه قواعد أصوليّة لابدّ أن ينقحها الفقيه.

إذن ماذا وصلنا؟ استنتجنا ماذا؟

استنتجنا أنّ الفقه هو عبارة عن عدّة قواعد من عدّة علوم يقوم الفقيه بتنقيحها وتطبيقها على الحديث الذي بيده، يرجع إلى قواعد علم الحديث، يرجع إلى قواعد علم الدراية، يرجع إلى قواعد علم الرجال، يرجع إلى قواعد علم اللغة، يرجع إلى قواعد علم النحو، يرجع إلى قواعد علم الأصول، يرجع إلى قواعد علم الدلالة، بعد أن يدرس هذه القواعد وينقحها ويختار الصحيح منها يأتي لتطبيقها على هذا الحديث، تطبيق هذه القواعد على هذا الحديث يسمّى بعمليّة الفقه، فإذن عمليّة الفقه وعمليّة الاستنباط عمليّة تطبيقيّة، عمليّة آليّة، بعد دراسة القواعد وتنقيحها ومعرفة الصحيح منها يقوم الفقيه بتطبيقها على هذا المورد وعلى هذه الجزئيّة من جزئيّات الفقه، إذا كان هذا الحديث الواحد يحتاج إلى عدّةٍ من العلوم وعدّةٍ من القواعد فما بال الفقيه الذي يتصدّى للمرجعيّة والإفتاء ويريد أن ينقح الفقه من باب التقليد إلى باب الطهارة، إلى باب الديّات، إلى باب الحدود؟! باب التقليد، باب الطهارة، باب الصلاة، باب الصوم، باب الزكاة، باب الخمس، باب الأمر بالمعروف، باب الجهاد، باب البيع، باب المضاربة، باب الصلح، باب العهد، باب اليمين، باب النذر، باب الشِرْكة، باب الوقف، باب الغصب، باب الرهن، باب الضمان، باب الحوالة، باب الحدود، باب الديات، باب المواريث... كيف؟! كيف ينقح هذه القواعد كلها دارسة وتمحيصًا وتحقيقًا ثم يقوم بتطبيقها على مواردها الجزئيّة في هذه الأبواب بشتّى تفاصيلها وشتّى جزئياتها من أوّل بابٍ في الفقه وحتّى آخر بابٍ في الفقه حتى يُصْدِرَ الرسالة العمليّة المسمّاة مثلاً بمنهاج الصالحين أو المسمّاة مثلاً بالمسائل المنتخبة أو المسمّاة بأيّ رسالةٍ أخرى؟! هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية:

الفقيه كي يصل إلى الفقاهة التامّة، كي يصل إلى درجة الفقاهة وأنّه قادرٌ على خوض هذه العلوم المختلفة وتحكيم رأيه ونظره في هذه العلوم المختلفة ثم القيام بتطبيقها على مواردها الجزئيّة وعلى صغرياتها في الفقه هناك عدّة عوامل تتحكّم في هذه المسيرة حتّى تكون المسيرة تامّة:

العامل الأوّل: العامل المعرفي.

لابدّ أن يلمّ بهذه العلوم، إذا لم يكن له إلمامٌ بكلّ هذه العلوم وإذا لم يكن له معرفة بكلّ هذه العلوم كيف يكون قادرًا على ممارسة العمليّة الاستنباطيّة من خلال الاستناد إلى هذه العلوم؟! هذا العامل الأوّل.

العامل الثاني: العامل التوثيقي.

توثيق هذه المعلومات، من يقول بأنّها صحيحة أو غير صحيحة؟! لا يجوز للفقيه أن يقلّد غيره في أيّ قاعدةٍ من القواعد وإلا كانت فتواه فتوى بغير علم، وقد قال القرآن الكريم: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [2] ، وقد ورد في الحديث عن النبي محمدٍ عن طريق ابنه الإمام الصادق : ”من أفتى الناسَ بغير علم لعنته ملائكة السّماء وملائكة الأرض“، إذن لابدّ أن يكون موثقًا، أيّ قاعدةٍ من القواعد لابدّ أن يبحثها بنفسه، وأن يبلورها بنفسه، وأن يعرف صحّتها من فسادها بنفسه، لابدّ من توثيق هذه القواعد بتمامها، حتى تكون فتواه فتوىً بعلم وليست فتوىً بظن ولا باستحسان ولا باستذواق وإنّما هي فتوىً بعلم.

العامل الثالث: العامل الذاتي.

عامل الدقة والمهارة، ليس كلّ من عَرَفَ المعلومات فهو دقيقٌ في تطبيقها، ليس كلّ من عرف المعلومات فهو صاحب مهارةٍ وفن في مجال تطبيقها، كما أنّ هذا الإنسان يدرس الطبَ لمدّة عشر سنوات أو اثني عشر سنة أو خمسة عشر سنة ثم يُطَالَب من درس الطب بتطبيق القواعد الطبيّة التي مرّت عليه، تطبيقها على هذا المريض الذي عنده في العيادة، تطبيقها على هذه الحالة المرضيّة التي كتبت له، كما أنّ هذا الإنسان إنّما يتفوّق على غيره بالعوامل الذاتيّة، إذا كان عنده ذكاءٌ مفرط، إذا كانت عند سليقة جيّدة، إذا كان عنده ذوقٌ مستقيمٌ، عامل الذكاء المفرط، عامل الذوق المستقيم، عامل السليقة المعتدلة، هذه عوامل ومواهب وملكات ذاتيّة تتوفر في الإنسان، إذا توفرت عنده هذه المواهب الذاتيّة صار هذا الإنسانُ قادرًا على تطبيق القواعد على موردها بدقةٍ، بمهارةٍ، بتقنيّةٍ واضحةٍ وبارزةٍ من خلال مواهبه وملكاته الذاتيّة، إذن هذا العامل الثالث لابدّ من تأثيره في مسيرة عمليّة الفقاهة.

العامل الرابع «وهو الذي أريد أن أشير إليه»: العامل الزمني.

ليس العامل الزمني عاملاً سهلاً، لابدّ حتى يصل إلى هذه الدرجة أن يمرّ بأربعة مراحل:

1 - مرحلة المقدّمات.

2 - مرحلة السطوح.

3 - مرحلة البحث الخارج.

4 - مرحلة الاختصاص.

1 - مرحلة المقدّمات: أن يدرس علم النحو، علم الصرف، علم البلاغة، علم المنطق، لابدّ أن يدرس هذه العلوم في مرحلةٍ تسمّى بمرحلة المقدّمات، تستغرق من البعض ثلاث سنوات، تستغرق من البعض ستّ سنوات، تستغرق من البعض سبع سنوات، تختلف الأشخاص من حيث الذكاء والنشاط والقدرة على طيّ المرحلة بحسب عامل زمني معيّن.

ينتقل من هذه المرحلة إلى:

2 - مرحلة السطح: لابدّ أن يدرس علم الكلام، علم الفلسفة، علم الرجال، لابدّ أن يدرس علم الأصول، لابدّ أن يدرس دورة فقهيّة في المعاملات والعبادات، هذه المرحلة - مرحلة السطح - تستغرق من الأذكياء وأذكياء الأذكياء سبع سنوات، وتستغرق من غيرهم عشر سنوات، وتستغرق من غيرهم عشرين سنة، حسب اختلاف الأشخاص في درجة الذكاء ومستوى الذكاء ومستوى الجهد والطاقة المبذول في هذه الناحية.

ينتقل بعدها إلى:

3 - مرحلة البحث الخارج: يحضر عند أستاذٍ فقيهٍ متضلع يتعلّم على يديه كيف يمارس عمليّة الاستنباط، كيف يمارس إحضار القواعد المختلفة ومناقشتها ونقدها وتحليلها وتطبيقها على هذا المورد، وهنا مرحلة البحث الخارج يدرس فيها الفقه، يدرس فيه الأصول على يد فقيهٍ متضلع أقلاً عشر سنوات، أقلاً عشر سنوات لابدّ أن يمرّ بهذه المرحلة.

إذا انتهى من هذه المرحلة وكان بمستوىً عالٍ من الذكاء وبمستوىً عالٍ من المهارة والنشاط يذهب إلى المرحلة الرابعة ألا وهي:

4 - مرحلة الاختصاص: يعني يختصّ بأستاذٍ معيّن، يتفرّغ مع هذا الأستاذ للمناقشة والبحث، دائمًا مع هذا الأستاذ في مناقشةٍ، في بحثٍ، في جدلٍ، في معرفة هذه القواعد تنقيحًا وتحقيقًا، حتى يشهد له هذا الأستاذ بكتابةٍ خطيّةٍ أو بكلام شفهي أنّه صار فقيهًا صاحب رأي ونظر، صار قادرًا على إعطاء الرأي وإعطاء النظر في المسائل المختلفة، صار صاحب قوّة قدسيّة وملكةٍ ربانيّةٍ يقتدر بها على تعيين الآراء واختيارها وتحقيقها ونقدها، فمنهم من يصل إلى هذه الدرجة في سنين قليلةٍ إذا كان معروفًا بالعبقريّة والنبوغ، ومنهم من تطول به السنين إلى ثلاثين سنة فأكثر، ومنهم من لا يصل ويتعثر في وسط الطريق، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص ومهارتهم في هذا الجانب المعيّن.

نأتي إلى النقطة الثالثة:

المرحوم الجدّ العلامة الحجّة المقدّس الشيخ فرج العمران، بمناسبة مرور 23 سنة على وفاته في هذا الأسبوع، في هذا الأسبوع يكمل 23 سنة على وفاته قدّس سرّه، رأينا من البرّ به وتكريمًا لمآثره وعطائه وتخليدًا لذكره واهتمامًا بشأن هذا الوطن القطيف أن نوّه بفضائله وملامح شخصيته المباركة قدّس الله نفسه الزكيّة، عندما نريد أن نتحدّث عن شخصيّة المرحوم الحجّة الشيخ فرج العمران وما تميّزت به هذه الشخصيّة عن غيرها من العلماء العاملين المعاصرين لها أو السابقين عليها أو اللاحقين بها فهناك عدّة عناصر توفرت في شخصيته قدّس سرّه ميّزت هذه الشخصيّة عن غيرها من الشخصيات العلمائيّة:

العنصر الأوّل: ألا وهو العنصر النفسي.

وهو عبارة عن قوّة الإرادة، كان قويّ الإرادة، كان حديديّ الإرادة، كان صامد الإرادة، من خلال قوّة إرادته استطاع هذا الإنسانُ أن يصبر على مواصلة الدراسة العلميّة الفقهيّة درسًا وتدريسًا لمدّةٍ تربو على ثلاثين سنة من عمره، استطاع أن يواصل هذا الدرب وأن يواصل هذا الطريق هذه السنين الطويلة بقوّة إرادةٍ وصمودٍ، كان يقاسي آلام الفقر، وكلكم تعرفون هذا، كان فقيرًا معدمًا ومع أنّه كان يقاسي آلام الفقر مع ذلك لم يعقه الفقر ولم تعقه الحاجة الماسّة إلى رغيف الخبز أو لقمة العيش أن يواصل دربه وأن يواصل مسيرته حتى برع فيها وأنتج، لم يعقه الفقرُ أن باع كلّ أثاثه، أن باع كلّ كتبه، في سبيل أن يواصل دراسته وأن يصل إلى طموحه، وأن يصل إلى غايته قدّس سرّه، المرحوم الشاعر أبو رياض محمد سعيد الجشي رحمه الله - وهو من المعاصرين له - كان يقول:

أيها الحفلُ في ادكار فقيدٍ هو نجمٌ مشعشع وضّاءُ

هل عرفتم عن سعيه للمعالي كان يسعى وما عليه رداءُ

كان لا يملك الطعام ليوم فهو يطوي وملئه استعلاءُ

يا ابن عمران عشت فينا فقيرًا إنّما عنك تقصر الأغنياءُ

تحمّل عقبة الفقر وتحمّل آلام الفقر الشديد في سبيل أن يصل إلى غايته وإلى هدفه وإلى طموحه بثباتٍ وقوّة إرادةٍ، كان يملك إرادة استطاع من خلالها أن يعاصر الأحداث المريرة التي مرّ بها في حياته من دون أن تعيقه، فقد ولديه وهما في ريعان شبابهما، فقد حسنًا وعليًا وهما في ريعان شبابهما، وما بدا ذلك على شخصيّته، وما بدا ذلك على مسيرته، كان قويّ الإرادة، في اليوم الذي وصل إليه نبأ وفاة ولده حسن في نفس اليوم تلقى النبأ وذهب إلى منطقة التوبي يبارك لأحد المتزوّجين ذلك اليوم، حضر غداء الزفاف، وحضر ليلة الزفاف، مع أنّه وصل إليه نبأ وفاة ولده في نفس ذلك اليوم صابرًا محتسبًا لم يتغيّر ولم يتبدّل رغم هذه الصدمة العنيفة التي وصلت إليه في خلال ذلك اليوم، هذا العنصر - ألا وهو عنصر قوّة الإرادة - أثر على نموّ شخصيته وكمال منهجه ومسيرته.

العنصر الآخر: ألا وهو عنصر الإنتاج.

كان إنسانًا منتجًا، كثيرٌ من العلماء عاشوا في القطيف وغيرها لا نرى لهم نتاجًا، ولا نرى لهم أثرًا، أمّا الحجّة المقدّس الشيخ فرج العمران فقد كان عالمًا منتجًا، كان عالمًا مثمرًا، النتاج تحقق على يديه من خلال مسيرته في مختلف الجهات:

1/ على مستوى تلامذته: هو أستاذ علماء الوطن، هو أستاذ المرحوم العلامة الشيخ منصور البيات، هو أستاذ المرحوم العلامة الخطيب الكبير الشيخ ميرزا حسين البريكي، هو أستاذ المرحوم العلامة الفذ الشيخ عبد الحميد الخطي، يكفي من نتاجه أنّه أستاذ هؤلاء، يكفي من نتاجه أنّه خرّج هؤلاء وأنتج هؤلاء، علماء قادوا مسيرة الوطن في فتراتٍ حرجةٍ وفي ظروفٍ قاسيةٍ ببركة أستاذيّته وجهوده وعطائه الذي من خلاله ربّى هؤلاء العلماء وأنتج هؤلاء العلماء الأفذاذ.

2/ تعال على مستوى قلمه: كان لا يترك الكتابة، أنا عاصرته سنين قلائل، يعني رأيته صغيرًا، عمري 13 سنة يوم توفي، ومع ذلك أنا مع أني عاصرتُ هذه السنين القلائل من حياته رأيته لا يترك الكتابة ولا ليلة واحدة، كلّ ليلة رغم كبر سنه، رغم أنّه مصابٌ بداء القلب، رغم أنّه مصابٌ بالأتعاب البدنيّة والجسديّة والنفسيّة كان لا يترك القراءة ولا الكتابة ولا التأليف في أيّ يوم يمرّ عليه رغم أوضاعه الصحيّة القاسية، ولقد أنتج بقلمه نتاجًا كبيرًا:

1. كتب في الفقه: «الخمس على المذاهب الخمسة» و«قاعدة لا ضرر».

2. كتب في الفلسفة: «سفط الغوالي وملتقط اللآلي».

3. كتب في الأدب: «النفحات الأرجيّة».

4. كتب في الشعر: ديوانه «الروض الأنيق».

5. كتب في مجال التأريخ: كتابه وموسوعته الكبيرة «الأزهار الأرجيّة».

الأزهار الأرجيّة كتابٌ يضمّ أكثر من 140 ترجمة لعلماء المنطقة ولمفكريها ولأدبائها، وليس في كتاب غيره، الكتاب الذي يعدّ الآن المرجع التأريخي الموثق في معرفة تاريخ علماء المنطقة وشخصياتها وأفذاذها بعد كتاب «أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين» للشيخ العلامة الشيخ علي القديحي رحمه الله، بعد هذا الكتاب يأتي كتاب: «الأزهار الأرجيّة» للحجّة المقدّس الشيخ فرج العمران، إذن أنتج، أكثر من ثلاثين كتاب كتب، أنتج ونتاجه هو الدّليل على علمه وعلى مثابرته وعلى عطائه الوافر قدّس سرّه.

3/ وتعال إليه على مظهر خدماته: خدماته للمنطقة خدمات جليلة، كان قبل زمانه، نحن لم نرَ قبل زمانه، ولكنّ الكبير هم الذين يذكرون، أنا سمعت من المرحوم العلامة الشيخ منصور البيات قدّس سرّه، قبل زمان الشيخ فرج ما كان الخمس أمرًا معروفًا، كان الذي يقوم بتخميس أمواله أفراد قلائل، لم يكن التخميس حتى ظاهرة، ما كان ظاهرة، كان حالات جزئيّة، حالات نادرة، ولكن ببركة جهوده أصبح الخمس في المنطقة تيّارًا دينيًا واضحًا حتى أنّ الشخص الذي لا يخمّس شخصٌ معابٌ وشخصٌ ملامٌ وشخصٌ منظورٌ إليه بنوع من الازدراء ونوع من التقليل من تديّنه وثباته، تحوّل الخمس من حالاتٍ نادرةٍ إلى تيّار ديني فرض نفسه على المنطقة ببركة جهوده.

2. قِبلة القطيف: كثيرٌ من العلماء الذين عاشوا في القطيف وكانوا يصلون بأيّ منهج شرعي هم يروه، هم أعرف وتكاليفهم، ولكنّ المرحوم المقدّس أصرّ على أن قِبلة القطيف تعيش ميلاً وانحرافًا من الغرب إلى الجنوب بمقدار ثلاثين درجة، أصرّ على ذلك إلى أن أثبت القِبلة على هذا الشكل، وكان يبذل الجهود المضنية في سبيل أن يثبت هذا الأمر، أنّ قِبلة القطيف تعني الميل من الغرب إلى الجنوب بمقدار ثلاثين درجة.

3. إحياء ليلة القدر: قبل زمانه كيف كانت ليلة القدر؟ ما كان إحياء ليلة القدر ظاهرة واضحة في القطيف أبدًا، كان بعض الناس يحيي ليلة القدر في بيوتهم، هو الذي أصرّ على ذلك وتنقل بين المناطق وتنقل بين القرى لإحياء ليلة القدر حتى أصبح إحياء ليلة القدر في المساجد وفي الحسينيّات من أعظم الظواهر في شهر رمضان المبارك ببركة جهوده قدّس سرّه.

وكثيرٌ من الخدمات الاجتماعيّة والدينيّة التي كان يقوم بها ويصرّ عليها، كان سنويًا يخرج شهرين أو ثلاثة يفارق أهله ومنزله ويتنقل بين المناطق والقرى للإرشاد والتوعية وتعليم الناس العقائدَ الصحيحة والأحكام الشرعيّة إلى أن عُرِفَت له هذه المسيرة وأنّه مصدر خير وعطاء لأهالي القطيف بشتى القرى وبشتى المناطق قدّس سرّه الشريف.

4/ ومن نتاجه: ذرّيته، فإنّ من نتاج الإنسان الذريّة الصالحة، وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي محمدٍ : ”سعادة المرء بالولد الصالح“، وورد عنه : ”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وسنة يُهْتَدَى بها - وفي بعض الروايات: وعلم ينتفع به - وولد صالح يدعو له“، ولقد حظي قدّس سرّه بالذريّة الصالحة وفي طليعتها سماحة الخال العلامة الكبير العَلم المؤيّد الشيخ حسين العمران الذي مازال يمثل أباه علمًا وأدبًا وخلقًا كما كان أبوه الحجّة المقدّس الشيخ فرج العمران رحمه الله، إذن فمن إنتاج الرّجل امتداده في ذريّته الصالحة وامتداده في وِلده وفي وَلدِه الصالح كما كان رحمه الله وقدّس سرّه الحجّة المقدّس الشيخ فرج العمران.

العنصر الثالث: العنصر الخلقي.

هذا العنصر أشرتُ إليه في بعض المحاضرات والبحوث الماضية، الشيخ فرج العمران كان يتمتع بموضوعيّةٍ وإنصافٍ لا نظير لها، إذا اختلف مع إنسان ورأى أنّ الرأي الصحيح لغيره يذعن بذلك ويظهر للناس أنّ الرأي الصحيح هو رأي فلان وليس رأيي، اختلف مع المرحوم العلامة المقدّس الشيخ علي بن يحيى التاروتي قدّس سرّه في إعراب كلمة «إحدى»، هل تُعْرَب كلمة «إحدى» كإعراب كلمة «الفتى» أو تُعْرَب كلمة «إحدى» كإعراب «كلا» و«كلتا»؟ وكان الحق مع الشيخ علي بن يحيى فلمّا رجع كتب إليه رسالة اعتذار وكتب رأيه وما جرى بينه وبينه في كتابه «الأزهار الأرجيّة»، كتب: حصل بيني وبين العلامة الشيخ علي بن يحيى نقاش في هذه المسألة وكان الحق معه، وذكر ذلك في كتابه الأزهار.

حصل بينه وبين العلامة المرحوم السيد محفوظ العوامي الذي كان يعيش في منطقة التوبي مسألة في الميراث وكان الحق مع هذا السيّد فكتب إليه رسالة اعتذار وسجّل الاعتذار بنفسه في بعض كتبه ذكر فيه أنّ الرأي الصحيح في هذه المسألة الميراثيّة ما أفاده هذا السيّد وليس ما ذكرته أنا.

كانت روحه روح الموضوعيّة ورح الإنصاف، ربّما اختلف معه كثيرٌ في بعض أفكاره، ربّما اختلف معه كثيرٌ في بعض مناهجه، وفي بعض طرقه، ولكنّه كان يتعامل مع الذين اختلفوا معه بالتواضع والبسمة والرّأفة والحنان، يزورهم ويعودهم ويلتقي بهم ويعظم من شأنهم ويضع كلاً في مقامه وينصف لكلٍ مستواه العلمي أو مستواه الأدبي، كان يتعامل مع الكلّ بالموضوعيّة والإنصاف ووضع كلٍ في مقامه وفي موضعه.

العنصر الأخير.. وليس هذه العناصر وحدها توفرت في شخصيته ولكن من باب الإلمام بشخصيته والتذكير بمسيرته ومنهجه اقتصرنا على هذه العناصر.

العنصر الأخير: هو العنصر الرّوحي.

كان عاشقًا للعبادة، من عاصر منكم الشيخ منصور البيات فالشيخ منصور البيات كان صورة أخرى عن الشيخ فرج العمران في عبادته وإصراره على التهجّد والدّعاء والزيارة والنافلة، صورة أخرى عن شيخه وأستاذه الحجّة المقدّس الشيخ فرج العمران، وهو بنفسه قدّس سرّه المرحوم الشيخ منصور البيات كان يقول: «أنا صنعة الشيخ فرج» أنا صنعته وأنا صورة أخرى عنه، إذن فبالنتيجة: كان عاشقًا للعبادة، كان عاشقًا للدّعاء، كان عاشقًا للتهجّد، كان لا يفتأ ولا يسأم يوميًا وفي كلّ فريضةٍ من الانكباب على الدّعاء وعلى التهجّد، كان مواظبًا على الأدعية اليوميّة، كلّ يوم يقرأ أدعيته اليوميّة، كلّ يوم يقرأ الزيارة، كلّ يوم يقرأ دعاء التوسّل، مواظبٌ على الأدعية، مواظبٌ على مستحبّات كلّ يوم بيومه.

وإذا قرأتم كتابه: كتاب «الأزهار الأرجيّة» تجدون هذه الرّوح العباديّة واضحة في شخصه قدّس سرّه، كتابه: زرنا ودعونا وتلونا.. ذهبنا إلى المكان الفلاني وصلينا وزرنا ودعونا.. زرنا فلانًا وذكرنا كذا وتلونا كذا... حياته سطّرها في كتاب الأزهار كلّها زيارة، كلّها دعاء، كلّها تهجّد، كلّها نافلة، كلّها عبادة، عاش مع العبادة والتقوى وعاش مع التعلق الرّوحي بعالم اللاهوت، وعاش مع الغرام الرّوحي والعشق الرّوحي والصفاء الرّوحي بالله ومناجاة الله، وكان يأنس ليلاً بلذة المناجاة، وكان يأنس ليلاً بلذة الدّعاء، وكان يأنس ليلاً بأن يقف بين يدي ربّه، ولقد قال له بعض معاصريه - ولا أذكر اسمه - قال له بعض معاصريه: إنّ فلانًا ينال منك يقول فيك كذا وكذا، قال: أو ما تعلم أنّ هذا أحد أربعين مؤمنًا أدعو لهم في صلاة الليل؟!

كان مواظبًا على هذه النافلة وكان يلتذ بها ويأنس بها لشدّة عشقه وتعلقه بعالم اللاهوت قدّس سرّه الشريف، وبدأ حياته بالعبادة وسار مع العبادة وختم حياته بالعبادة، مات وهو في العبادة، قُبِضَت روحه وهو في العبادة، وهذا دليلٌ على شرفه ومنزلته ومقامه عند ربّه أنّ الله اختار روحه وهو يتوضأ لصلاة الفجر، أثناء وضوئه لصلاة الفجر اختار اللهُ روحَه الطاهرة، عرجت روحه القدسيّة الطاهرة من الأرض إلى السّماء وهي في حالة الخشوع وفي حالة الإخلاص وفي حالة العبادة، سار مع العبادة وختم حياته بالعبادة قدّس سرّه، كما ذكر المرحوم المعاصِر له الشاعر محمد سعيد الجشي أبو رياض رحمه الله، كان يقول:

يا فجعة الخطِ في صبح بواعيةٍ على فقيهٍ غفا في يقظةِ السحرِ

وعى يجدّد طهرًا للصّلاةِ فلمْ يمهلهُ داعٍ دعا من ساحةِ القدرِ

فأسلمَ الروحَ للباري على طهرٍ ومثله ما غفا إلا على طهرِ

نسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتنا على مسيرة هؤلاء العلماء الأعلام، وأن يجعلنا من المقتدين بمناهجهم ومن المحتذين بسيرتهم المباركة المعطاة، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يخلف على هذا البلد وعلى هذا الوطن بأمثالهم من العلماء العاملين الروحانيين الربانيين المنتجين المثمرين إنه سميع الدعاء قريبٌ مجيبٌ، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يُجْزل لنا الأجر والمثوبة في الاهتداء بهداهم والاستنان بسننهم قدّس الله أسرارهم الشريفة، اللهم بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها..

طبعًا بعض الإخوة الشباب - جزاهم الله خيرًا - قاموا بإعداد ونشر ما قيل في المرحوم الحجّة المقدّس الجدّ الشيخ فرج العمران، ما قيل فيه شعرًا ونثرًا في كتيّب سميناه «قبسٌ من الذكرى»، وهذا الكتاب وفرنا منه اليوم خمسين نسخة في الخارج موجودة على أمل أن نتابع نشره في سبيل إحياء شخصيّة هذا الإنسان قدّس سرّه.

والحمدلله رب العالمين

 

[1]  التوبة: 122.
[2]  الإسراء: 36.