القِيَم الخُلُقيّة بين المثاليّة والواقع

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في ثلاثة محاور:

المحور الأول: الصراع بين القيم وبين الطبع

كتب بعض الأقلام أن القيم الخلقية ترجع إلى جذور بيولوجية وجينية في الإنسان، ولأجل ذلك لا يمكن أن ينفك عنها الإنسان، فهناك بعض الأشخاص يولد كريما، والآخر يولد بخيلا، وثالث يولد عفيفا، ورابع يولد شرها، وخامس يولد غضوبا، وسادس يولد حليما، فلكل شخص صفة ناشئة عن جيناته وجذوره البيولوجية، لأجل ذلك يبقى الكريم كريما، والبخيل بخيلا، والغضوب غضوبا، على ما تولد عليه وعلى ما اقتضته طبيعته، وربما يؤيد ذلك بما ورد عن النبي : ”الناس معادن كمعادن الذهب والفضة“ وهنا أمامنا اتجاهان: اتجاه علم التربية الحديث واتجاه علم التربية الإسلامي.

علم التربية الحديث يقول: لا تقسروا الناس على تغيير طباعهم من ترك كريما يترك كريما، من ولد بخيلا يترك على طبعه، لا يقسر أحد على تغيير طبعه، فإن قسره لتغيير طبعه يؤدي لردة فعل معاكسة، ونتيجة ذلك يتحول الإنسان إلى شخصية ازدواجية، يظهر أمام الناس بطبع، ويبطن طبعا آخر، فمقتضى التربية أن يترك الناس على طباعهم، غاية الأمر هناك قيمة لابد بأن يلتزم بها الناس نتيجة عقد اجتماعي بينهم، وهي أن لا يعتدي أحد على آخر فقط، وإلا فكل واحد تعطى له الفرصة أن يمارس طبعه وميوله، سواء أعجبنا طبعه أم لم يعجبنا، المهم أن لا يعتدي على الآخر فعلم التربية الحديث علم واقعي، لأنه يتعامل مع الناس على ضوء طباعهم من دون قسر وتغيير.

بينما علم التربية الإسلامي يطلب من الناس أن يغيروا، فيقول ينبغي للإنسان أن يكون كريما، عفيفا، حليما، مضحيا، وهذا يعني أن يقسر الإنسان على تغيير طبعه مما تكون له آثار خطيرة على شخصيته وسلوكه، هذه المقالة تحتاج أن نسلط الضوء عليها، وذلك من خلال أمور ثلاثة:

1 - هل أن الإنسان بفطرته يمتلك الاستعداد لأن يتحلى بالقيم كلها أو لا يملك الاستعداد لذلك؟

نحن نرى بشهادة الوجدان أن الإنسان يمتلك الاستعداد لأن يكون فاضلا، عفيفا، كريما، حليما، متواضعا، لا أنه ولد بخيلا أو ولد شرها أو ولد متحررا فلا يمكن أن يتغير، بل الوجدان شاهد أن الإنسان يمتلك الاستعداد لأن يتحلى بالقيم كلها.

كيف يكون الوجدان شاهد؟

لدينا دليلان على هذا الوجدان:

الدليل الأول: البهجة والنفور

نلاحظ أن الإنسان إذا سمع بظلم نفر منه بطبعه، إذا سمع أن هناك مجزرة في أطفال أبرياء في العراق في فلسطين ينفر من ذلك ويستنكر ذلك، إذا سمع بالعدل، أن هناك مجرمين عوقبوا على جرائمهم يأنس ويبتهج، النفور من الظلم والأنس بالعدل شاهد على أن الفطرة الإنسانية تملك الاستعداد لأن تكون عادلة، صادق، أمينة، عفيفة، بمعنى أن الإنسان بفطرته يعشق الكمال، يشعر بالنقص فيسعى نحو الكمال، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ والكمال له أمثلة: العدل، الصدق، الأمانة، التواضع، ما يعشقه الإنسان بطبعه هو الكمال، والشاهد الوجداني على أنه يعشق الكمال، أنه يبتهج بهذه الأمثلة وينفر من أضدادها.

الدليل الثاني:

المجتمع العقلائي اتفق على مدح العادل وذم الظالم، مدح الصادق وذم الكاذب، مدح الأمين وذم الخائن، إذا الإنسان ليس لديه استعداد أن يغير طبعه لا يمكن أن يتفق المجتمع العقلائي على مدح العادل الأمين الصادق، وذم الظالم الكاذب الخائن، إذا كان الإنسان لا يملك استعدادا لذلك، المجتمع العقلائي لا يمكن أن يتفق على أمر مالم يكن لذلك الأمر منشأ فطري وعقلائي، مثلا: المجتمع العقلائي لو قلت له هناك شخص يحب أولاده، يقول لك طبيعي أن يحب أولاده، بينما لو قلت لهم هناك شخص يكره أولاده، يقول لك هذا إنسان مريض، إنسان منحرف عن الطبع، هذا معناه اتفاق مجتمع العقلاء بما هم عقلاء في كل زمن في كل مجتمع على مدح من يحب أولاده وذم من يبغض أولاده، هذا شاهد على أن هذا البناء له منشأ فطري في شخصية الإنسان فلولا ميول الإنسان ونزعته نحو العدالة والصدق لما اتفق المجتمع العقلائي في كل زمان، في كل مكان على مدح العادل الصادق الأمين، وذم الظالم الكاذب الخائن.

إذا هاذان دليلان على أن الوجدان يشهد أن الإنسان يمتلك استعدادا لأن يتحلى بالقيم والفضائل.

2 - هل يمكن أن يولد الإنسان بخيل، شره، غضوب، متحرر أم لا؟ هل يمكن للإنسان أن يكتسب هذه الطباع منذ الولادة أم لا؟

هناك فرق بين الروح وبين النفس:

الروح: شاهد من شواهد عالم الربوبية

النفس: محل لعوارض المادة

ما هو الفرق بين التعريفين؟

التعريف الأول: الروح شاهد من شواهد عالم الربوبية، الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق هذا العالم وهو عالم المادة الذي نعيش فيه برأ عالم وهو عالم الأرواح، عالم الملكوت، عالم الذر، وفي ذلك العالم وجدت الروح، وهي تشهد صفات الله وأسماءه وتسبح الله وتقدسه، وقد أشار إلى هذا المعنى القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا إذا الروح شهدت بالربوبية في عالم آخر قبل هذا العالم وهو عالم المادة، لما جاء عالم المادة وجدت النطفة، لما علقت النطفة بجدار الرحم نفخ الله فيها الحياة، فبالنفخ بدأت النفس قبل هذا النفخ لم تكن هناك نفس فيها روح، بنفخ الحياة في النطفة وجدت وولدت النفس ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ عندما تنفخ شرارة الحياة في النطفة يتولد شيء جديد اسمه النفس هذه النفس صياغة تتشكل عبر حركة المادة كلما تحركت المادة تشكلت النفس، القرآن الكريم يشير إلى حركة المادة وتشكيل النفس يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ إذا حركة المادة تولد عنها النفس، فالنفس صياغة تشكلت عبر حركة المادة، لأجل ذلك جميع العوامل التي تعرض على المادة تؤثر على النفس، ما تتأثر به المادة، النفس، النطفة، الجنين تتأثر به النفس، مثلا: النصوص أشارت إلى عوامل ثلاثة تؤثر على المادة فينعكس أثرها على النفس:

العامل الأول: عامل النطفة

النطفة تتخلق عبر غذاء، هذا الغذاء يؤثر على صياغة النفس، ورد عن النبي : ”من زوج كريمته شارب خمر فقد قطع رحمها“ أي أن النطفة التي تنحدر من شارب الخمر تتأثر بها النفس التي صيغت من خلال هذه النطفة.

العامل الثاني: عامل الجينات الوراثية

الجينوم الكامن في الحمض النووي للإنسان يحمل بصمات الآباء والأجداد، ينقل صفات الآباء والأجداد إلى هذه النطفة فتنعكس على النفس، ولذلك ورد عن النبي محمد : ”اختاروا لنطفكم فإن العرق دساس“ وورد عنه : ”إياكم وخضراء الدمن“ قيل وما خضراء الدمن؟ قال: ”المرأة الحسناء في منبت السوء“ إذا العامل الوراثي يضع بصماته على النفس.

العامل الثالث: الرضاع

الرضاع يؤثر على صياغة شخصيته لاحظوا ما ورد عن النبي : ”لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يعدي“ وورد عن الإمام علي : ”لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغلب على الطباع“.

إذا النفس صياغة شكلتها حركة المادة فأي عامل يؤثر على المادة يؤثر على صياغة النفس لأجل ذلك قد يولد الإنسان كريما لأن أحد أجداد كريم، قد يولد هذا الإنسان شرها لأن أحد أجداده شره وقد يولد هذا الإنسان بخيلا لأن نطفته تكونت من منشأ بخيل، ولذلك ورد عن النبي : ”الناس معادن كمعادن الذهب والفضة“.

3 - هل أن هذه الطباع التي يكتسبها الإنسان بالوراثة، بمنشأ تخلق النطفة، بالرضاع، هل أن هذه الطباع يمكن أن تتغير أم لا؟

نعم يمكن أن يتغير، لأن هذه الصفات التي تحملها الجينات الوراثية إنما تنعكس في النفس على مستوى الاقتضاء لا على مستوى العلية التامة.

ما معنى اقتضاء لا علية تامة؟

هذا منهج دائما يتبعه فقهاؤنا في تفسير كثير من النصوص، كل نص يتضمن سبب ومسبب، يأتي يبحث الفقهاء هل هذا السبب علية تامة أو على نحو الاقتضاء؟ مثلا: عندما نقرأ ما ورد عن النبي أنه قال: ”صلة الرحم تنمي الأموال وتزكي الأعمال وتعمر الديار وتنسيء الآجال“ هل معنى هذا الحديث أن من وصل رحمه أوتوماتيكيا يطول عمره ويصبح مئة سنة! هل معنى هذا أن صلة الرحم سبب تام وعلة تامة لطول العمر لأن الرسول قال: ”تنسيء الآجال“ لا ليس معناها أن صلة الرحم علة تامة لطول العمر، معناها اقتضاء.

ما معنى اقتضاء؟

يعني أن صلة الرحم تعطي الجسم استعدادا لطول العمر مالم يمنع مانع، فصلة الرحم تعطيك الاستعداد فقط لطول العمر لا أن طول العمر يحصل بالفعل بشكل اوتوماتيكي، صلة الرحم تعطي استعدادا لأن يكون عمره طويلا، أما هل سيكون عمره طويلا؟ هذا يحتاج إلى أن تنتفي الموانع من طول العمر وتجتمع الشرائط.

نفس الشيء في محل كلامه عندما يقول النبي : ”الناس معادن“ يعني ولد وعنده استعداد لأن يكون كريما، أن يكون بخيلا، أن يكون عفيفا، هذه كلها استعدادات ليس أنها موجودة بالفعل، من كان جده كريما يولد ولديه الاستعداد لأن يكون كريما ليس أنه انطبع وصار كريما لا يتغير، الجينات الوراثية تغرس الاستعداد، لا أنها تنقل الصفات بالفعل إلى الولد، والاستعداد قد يتغير، ولد وعنده استعداد للكرم لكنه عاش في بيئة بخيلة فصار بخيلا، ولد ولديه استعداد لأن يكون بخيلا لكنه عاش في بيئة كريمة تحول إلى كريم، ولذلك في الحديث الشريف عن النبي : ”السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه“ قد يسمع هذا الحديث شخص فيقول اذا هو شقي من اول الامر منذ كان في بطن امه هو شقي او سعيد فليس هناك مجال للتغيير، في صحيحة محمد بن أبي عمير يسأل الإمام الكاظم يقول له: ورد عن رسول الله أنه قال: ”السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه“ فقال له الكاظم : ”السعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل بعد ذلك عمل السعداء والشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل بعد ذلك عمل الأشقياء“ ليس أن الله خلقه سعيد وخلقه شقي، هذه نطفة والله يعلم هذه النطفة ستعمل في المستقبل عمل السعداء بإرادتها واختيارها، وهذه النطفة علم الله أنها ستعمل في المستقبل عمل الأشقياء لكن بإرادتها واختيارها.

إذا تلخص من هذا المحور أن الطبائع مجرد استعدادات، والاستعدادات قد تتغير وتتحول، فلا معنى لأن يقال أن القيم والأخلاق ثابتة في الإنسان، من ولد بخيل لا تطالبه بأن يصبح كريما، من ولد شره لا تطالبه بأن يصبح عفيف، هذه المقالة خاطئة.

المحور الثاني: روافد اكتساب القيم

هنا خلاف بين الفلاسفة وبين العرفاء، الفلاسفة يقولون: أول غريزة وأقوى غريزة تسيطر على الإنسان غريزة حب الذات، فالإنسان أناني بطبعه.

بينما العرفاء يقولون: كما أن لدى الإنسان غريزة تسمى غريزة حب الذات وتدعوه إلى الأنانية، لديه غريزة أخرى في عرضها تماما ألا وهي غريزة الغيرية المعبر عنها بالرحمة.

ما هو دليل العرفاء؟

العرفاء هنا يذكرون أمرين:

الأمر الأول: يقولون أبرز صفة للخالق عز وجل هي صفة الرحمن، ولذلك قرن الرحمن بالله ﴿قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى أبرز صفة، صفة الرحمن لأنها الصفة التي تعامل الله بها مع خلقه لذلك قرنت باسمه جل وعلا.

الأمر الثاني: مقتضى المسانخة بين الله وبين خلقه، بين الفاعل وفعله، بين العلة ومعلولها، إذا كان الخالق رحمن فمقتضى ذلك أن يكون المخلوق رحيما، فالخالق الرحمن جل وعلا أبدع المخلوقات بصفة الرحمة فأعطى كل مخلوق صفة الرحمة، لا يوجد إنسان ليس لديه رحمة، حتى الظالم يرحم نفسه، الله تبارك وتعالى أودع في كل إنسان نزعة الرحمة، وخلق الرحمة، فإن هذا مقتضى المسانخة بين العلة والمعلول، أن يكون الإنسان أيضا مظهرا للرحمة، لذلك كما يمتلك الإنسان غريزة الأنانية، فإنه يمتلك غريزة الرحمة، فالإنسان لديه غريزتان ونزعتان في عرض واحد، غريزة حب الذات وغريزة الرحمة، غريزة حب الذات تدعوه للرذائل، كل الرذائل تجتمع في حب الذات، الكذب، الظلم، الخيانة، التكبر، الشره، بينما الفضائل كلها تتلخص في الرحمة، التواضع، الكرم، الإيثار، فالإنسان كما له نزعة حب الذات وهي الأنانية، له نزعة الرحمة أيضا، كلاهما في عرض واحد، إنما كيف يتحول الإنسان إلى أناني ويغفل نزعة الرحمة، أو كيف يتحول الإنسان إلى رحيم ويغفل نزعة الأنانية هذا يحتاج إلى تدريبات وتمرينات عملية يمر بها الإنسان حتى يتحول أناني بامتياز، أو يتحول إلى رحيم بامتياز.

لذلك ما طرحه بعض علماء التربية الحديثة من أن الإنسان لا يتغير، غير صحيح لأن الإنسان ولد ولديه نزعتان نزعة الأنانية تدعوه إلى البخل ونزعة الرحمة تدعوه إلى الكرم، ومقتضى ذلك أن يمر بتدريبات تدخله تحت هذه النزعة أو هذه النزعة، لذلك ترى شخص لديه ذرة من الرحمة وهو أن يرحم نفسه فقط، وهناك شخص كله رحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ محمد .

إذا تغيير القيم والأخلاق أمر ممكن حتى علم التربية الحديث يشهد بذلك، مثلا: هل تستطيع أن تحول ولدك إلى بروفيسور في الفيزياء أم هو شيء غير ممكن؟

علماء التربية يقولون بأنه ممكن إذا اجتمعت عوامل ثلاثة:

1 - العامل النفسي: وهو الاستعداد.

2 - العامل التعليمي: وهو التلقين على المفهوم.

3 - العامل التربوي: وهو المحفز نحو الإرادة.

كل شيء تريد أن تصنعه، بهذه العوامل الثلاثة تستطيع تحقيقه.

العامل الأول: العامل النفسي، هل يمتلك ولدك الاستعداد الذهني والرغبة لأن يكون فيزيائيا أم لا؟ إذا أحرزت أن ابنك يمتلك طاقة ذهنية عالية ويمتلك إرادة حازمة، إذا العامل الأول توفر.

العامل الثاني: العامل التعليمي، هل أنت تقوم بتلقينه بهذا الموضوع أم لا؟ إذا قمت بتلقينه على مدى زمن معين بأهمية الفيزياء، توفر العامل الثاني.

العامل الثالث: المحفز، لابد أن تعطيه محفز، المحفز الذي يبعث إرادته.

إذا اجتمعت العوامل الثلاثة: النفسي والتعليمي والتربوي، سيصبح عالما فيزيائيا، كما يمكن لنا أن نصنع من أولادنا علماء، يمكن أيضا أن نصنع من أولادنا كرماء، أعفاء، متواضعين، بنفس العوامل تماما، كما نستخدم هذه العوال الثلاثة لأن يصبح الولد بروفيسورا في الفيزياء، علينا أن نستخدم هذه العوامل الثلاثة لكي يصبح الولد كريما، عفيفا، متواضعا، صادقا، عادلا، سائر الصفات وسائر القيم يمكن الحصول عليها عبر هذه العوامل الثلاثة.

إذا يمكن أن يتحول الإنسان من نزعة أنانية إلى نزعة الرحمة عبر هذه العوامل الثلاثة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه العوامل الثلاثة:

العامل الأول: العامل النفسي، قال القرآن الكريم ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا النفس تمتلك الاستعداد لأن تكون قطعة من الرحمة.

العامل الثاني: العامل التعليمي، تلقين الإنسان عظمة الصفات، القرآن دائما يركز على عظمة الصفات ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ

العامل الثالث: العامل التربوي وهو المحفز نحو الإرادة أيضا القرآن يستخدمه يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وأمثالها من الآيات.

تبين لنا من المحور الأول أن الطباع يمكن أن تتغير، وتبين لنا بالمحور الثاني أننا يمكن أن نخلق من أولادنا من يتحلى بالقيم والفضائل عبر العوامل الثلاثة التي تحدثنا عنها.

المحور الثالث: إن للقيم مراتب بمراتب الإنسانية

من يزعم أن الطبع لا يتغير، زعمه مناقش بوجهين:

الوجه الأول: أن صفة الانضباط يمكن تربية الناس عليها وقد اعترف صاحب المقالة، قال يمكن تربية الناس على صفة الانضباط، أي يمكن أن يتوافق الناس على أن لا يعتدي أحد على الآخر، هذه الصفة تسمى صفة الانضباط، يمكن تربية المجتمعات عليها.

إذا أمكن تربية المجتمعات على صفة الانضباط أمكن تربيتهم على صفة الكرم، التواضع، فلا فرق بين صفة الانضباط وغيرها من الصفات في إمكان تربية المجتمع على الجري عليها.

ثانيا كل القيم لها درجات، الصدق له درجات لا يطالب الإنسان أن يحصل على أعلى درجة من الصدق، التواضع له درجات، العفة لها درجات، إذا لم يقدر على أن يصل إلى أعلى درجة من الصدق والعفة والكمال، فيمكن ان يحصل على بعض درجاتها.

درجات القيم بدرجات الإنسانية، بدرجتك في الإنسانية التي حصلت عليها من خلال تربيتك، ستحصل على درجة من القيم تتناسب مع درجتك في الإنسانية، ولذلك ورد عن الإمام علي : ”إن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه ألا وإن إمامكم - يقصد نفسه - قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد“ ومن أبرز مظاهر الرحمة صفاء النفس، أن تكون نفسك صافية تجاه الآخر وإن أساء إليك واعتدى عليك.

هل يمكن أن تكون نفسك صافية تجاه الآخر وإن أساء إليك واعتدى عليك؟

هل يمكن أن تفرز بين الآخر وإساءته أم لا يمكن؟ أن تقول نعم هو أساء إلي، ولكن لعل إساءته صدرت عن خطأ، عن ضغط نفسي، عن ظرف قاهر، لعل إساءته لم تصدر عن خبث، عن عمد، مادام يمكنك التفكيك بين الإنسان وبين فعله بأن تقول هذا الإنسان محترم أنا تجاهه صافي النفس، نقي النفس، وإن كانت إساءته لي أمرا مبغوضا أنا أبغض إساءته لكنني لا أبغضه، أكره فعله لكنني لا أكرهه، إذا دار الإنسان حول أنانيته لن يرحم الآخرين، لن يغفر للآخرين إساءتهم، لن يقبل حتى اعتذارهم، أما إذا تجاوز أنانيته أمكنه التفكيك بين الإساءة والمسيء، فيقول أنا أبغض الإساءة لكنني أحب الشخص المسيء، لعل إساءته صدرت عن خطأ ومن دون عمد، من هنا جاءت الأدعية الشريفة كما في دعاء مكارم الأخلاق: «اللهم وفقني أن أجزي من هجرني بالبر وأثيب من حرمني بالبذل وأكافئ من قطعني بالصلة وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر اللهم وفقني أن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة» ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ الإحسان هذا هو معناه، أن تكون نفسك صافية تجاه الآخرين تحسن إليهم بلا مقابل، تعطيهم وإن أساءوا إليك وإن اجترحوا عليك، هذا هو معنى الإحسان، والغيرية، والرحمة.