موقعية أهل البيت (ع) في الأقلام الإسلامية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

قيل لي أنت أوحد الناس iiطرًا

لك  من  جوهر  الكلام  iiبديعٌ

فلماذا تركتَ مدح ابن موسى

قلتُ   لا  أهتدي  لمدح  iiإمام





 
في  فنون  من  الكلام iiالبديعِ

يثمر  الدرّ  في  يدي  iiمجتنيهِ

والخصال  التي  تجمعنّ  iiفيهِ

كان   جبرئيلُ   خادمًا   iiلأبيهِ

الحديث عن الإمام الرضا حديثٌ في محاورَ ثلاثةٍ:

  • موقف الإمام الرضا من مبدأ حرية التعبير.
  •  الدور الاجتماعي للإمام .
  • تجسيد الإمام لموقعية أهل البيت في نفوس المسلمين.

المحور الأول:

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصّ على أنّ للإنسان حرية التعبير، الإنسان حرٌ في أن يعتقد بما يشاء، وأن يعبر عن رأيه وعن معتقده بأي وسيلةٍ متاحةٍ، وحرية التعبير عن الأديان والمعتقدات محترمة، ملكة بريطانيا عندما زارت الهندَ زارت المعابد البوذية، وخلعت حذاءها احترامًا لهذه المعابد، فماذا يقول الإسلام عن حرية التعبير: هل يرى الإسلام أن للإنسان حرية مطلقة في أن يعتقد ويعبر كما يشاء، أم أن هناك حدودًا بحسب المبدأ الإسلامي؟

هناك فرقٌ بين الفكر وبين المعتقد، الفكر هو الخواطر التي تمر على ذهن الإنسان، يفكر في وجود الله، يفكر في التوحيد، يفكر في النبوة، هذا فكر، خواطر، الإنسان حرٌ في أن يفكر كما يشاء، وحرٌ في أن يعبر عن فكره كما يشاء، القرآن الكريم حثّ على التفكير: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ - لأنهم يفكرون - أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ... القرآن يعتبر التفكير فاصلاً بين الإنسان وبين الحيوان، التفكير هو ميزة الإنسان، فالإنسان حرٌ في أن يفكر كما يريد، حتى لو فكر في الله وفي وجود الله.

جاء رجلٌ إلى رسول الله : يا رسول الله هلكت! قال: وما ذاك؟ قال: جاءني الشيطان وحدثني، قال: جاءك الشيطان وقال لك: من خلقك؟ فقلتَ: الله، قال: ومن خلق الله؟ فسكتَّ؟ قال: نعم هكذا حدثتُ نفسي، قال: هذا ليس هلاكًا، هذا محض الإيمان.

لا تتخوّف، فكّر فإنّ التفكير يقودك إلى الحقيقة، ”تفكر ساعة خيرٌ من عبادة سنة“، التفكير الذي يقود إلى الحقيقة تفكيرٌ مطلوبٌ، التفكير لا نناقش فيه، لك الحرية في أن تفكر، لك الحرية أن تعبر عن فكرك، تقول: أنا عندي إشكالٌ في النبوة، في الإمامة، في المعاد.. حلوا إشكالي، هذا لك الحق فيه، أن تطرح إشكالاتك وشبهاتك في أي عقيدة وفي أي أصل من الأصول، لك الحق في ذلك، هذا يسمى فكرًا.

لكن هناك معتقدًا، المعتقد يختلف عن الفكر، المعتقد هو ما يتبناه الإنسان، يتبناه عقلاً وقولاً وسلوكًا، ما يتبناه الإنسان عقلاً وسلوكًا هو المعتقد، يختلف عن الفكرة، والله أنا عندي إشكال في النبوة، هذه فكرةٌ ليس في التعبير عنها محذورٌ، لكن عندما تتبنى معتقدًا معينًا هل لك الحرية أن تتبنى معتقدًا - قولاً، لسانًا، سلوكًا - أي معتقد كان أو هناك حدودٌ للتعبير عن المعتقد؟ مسألتنا في المعتقد لا في الفكر، التعبير عن المعتقد له حدودٌ ثلاثة نتحدث عنها، ليس لك حرية مطلقة في أن تعبر عن أي معتقد كما تريد بحسب المبدأ الإسلامي، لا، تفكر كما تريد، تتكلم عن أفكارك نعم، أما يصل الأمر إلى حد الاعتقاد والتبني فهناك حدود، حدود ثلاثة:

الحد الأول: أن يكون المعتقد له أساسٌ عقليٌ أو أساسٌ عقلائيٌ.

إذا كانت عقيدتك لها أسسٌ عقلية، لها أسسٌ عقلائية، لو عُرِضَت على العقلاء لقال العقلاءُ: هذا كلامٌ مقبولٌ، صح أو خطأ المهم أنه كلامٌ مبنيٌ على أسس، مبنيٌ على براهين، هنا يحقّ لك أن تعبّر عن معتقدك كما تشاء لأن معتقدك عقليٌ عقلائيٌ، أما إذا لم يكن لمعتقدك أساسٌ عقليٌ، كان أساسه أساسًا عاطفيًا، كان أساسُه أساسًا تقليديًا، أساسًا ناشئًا عن العادات والتقاليد، فليس لك الحقّ في إعلان هذا المعتقد.

مثلاً: الإنسان يعبد الأصنام ويقول: أعطوني فرصة أن أعبد الأصنام وأن أشيّد معبدًا! نقول: لا، ليس لك حق التعبير، إنسانٌ يعبد البقر أو يعبد الفئران، وهناك من يعبد المرأة، هناك من يعبد أعضاء التناسل في جسم الإنسان، هل لهؤلاء حرية أن يعبّروا عن معتقدهم كما يريدون؟! لا، لماذا؟ لأن هذا المعتقد ليس له برهانٌ عقليٌ، هذا المعتقد لا أساس له إلا عادات وتقاليد اكتسبها هذا الإنسان فقدّس البقرة أو قدّس الفأر أو قدّس المرأة، لماذا لا يعطى حق التعبير؟ لا يعطى حقّ التعبير لوجهين:

الوجه الأول:

هناك مجموعة من البنود في لائحة حقوق الإنسان تعتبر بنودًا إلزامية، كيف يعني إلزامية؟

مثل الصحة، التعليم، عدم الرق، هذه أمور إلزامية، مثلاً: لو أن مجتمعًا من المجتمعات رفض الصحة، قال: لا أريد مرافق صحية، أريد أن أبقى في بيئة ملوثة، هل له الحق؟! ليس له الحق ولا يعطى الحرية في ذلك، لا يعطى الحرية في أن يمرض، لا يعطى الحرية في أن يعيش في بيئة ملوثة، لماذا؟

لأن الحرية هنا تتنافى مع كرامة الإنسان، من كرامة الإنسان أن يكون سليم البدن في بيئة سليمة، لو قال إنسانٌ: أنا لا أريد أن أتعلم، دعني، لا أريد أن أتعلم، أريد أن أبقى أميًا، قانون الأمم المتحدة يقول: لا، التعليم إلزاميٌ، كل إنسان لابد أن يتعلم، ليس له الحرية في أن يتعلم أو لا يتعلم، لماذا؟ لأن الجهل يتنافى مع كرامة الإنسان فلا يعطى الحرية في الجهل، لو أصر مجتمعٌ وقال: أنا أريد الرق، أريد أسترق الناس، والعبيد أيضًا راضون، قابلون بأن يكون عبيدًا، يصير؟! لا، نظام الرق مرفوضٌ، يجب التحرر من نظام الرق إلزاميًا ولا حرية في هذا المجال.

إذن لا حرية في الصحة، لا حرية في التعليم، لا حرية في الرق، لماذا؟ لأن الحرية في هذه الأمور تتنافى مع كرامة الإنسان وعقلانية الإنسان، فالحرية في إطار الكرامة وفي إطار العقلانية، من هذا المنطلق نقول: كل عقيدة تتنافى مع عقلانية الإنسان ومع إنسانية الإنسان هذا الإنسان الذي غزا الفضاء يعبد الفأر؟! هذا الإنسان الذي اخترع كل شيء يعبد البقرة؟! المعتقدات التي تتنافى مع عقلانية الإنسان ومع كرامة الإنسان لا حرية للإنسان في أن يعبر عنها صونًا لكرامة الإنسان وصونًا لعقلانية الإنسان.

الوجه الثاني:

لو فتحنا الحرية للتعبير عن المعتقدات الفاسدة لحصل تعارضٌ وتناقضٌ بين حرية الاعتقاد وبين حرية الفكر، لأن الإنسان لا يمكنه أن يعبد البقر إلا إذا قيّد فكره، وإلا إنسان فكره حرٌ يعبد بقرًا؟! طبعًا لا، لا يمكن للإنسان أن يعبد فأرًا أو بقرًا أو وثنًا إلا إذا كان فكرُه مطوّقًا، يعني: يقدّم العادات والتقاليد على الفكر، إذن حرية الاعتقاد هنا تتعارض مع حرية الفكر، لأنه لو كان فكره حرًا طليقًا لتحرر من العادات، لتحرّر من التقاليد، لعبد عبادة عقلية عقلانية، فعندما يقدّم عاداته وتقاليده فإذن هو قدّم حرية الاعتقاد على حرية الفكر، فنحن من أجل أن نوازن بين حرية الاعتقاد وحرية الفكر نقول: لك حقّ أن تعتقد وأن تعبّر عمّا تعتقد لكن في إطار ألا يكون منافيًا للفكر والعقلانية.

الحد الثاني من حدود حرية التعبير: ألا يصل التعبير إلى حد الارتداد.

الارتداد إنكار وجود الله، إنكار النبوة، إنكار المعاد، أصل من أصول الدين، أو إنكار ضروري من ضروريات الدين بحيث تكون ملازمة بين إنكار الضروري وتكذيب النبي محمّدٍ ، كما لو أنكر الإنسان الصلاة وهو يعيش بين المسلمين، هذا يعد إنكاره لوجوب الصلاة تكذيبًا للنبي لأن الصلاة أمرٌ تواتر نقله بالقطع عن النبي ، إذا كان إنكار الضروري يعني تكذيبًا للنبي فهو ارتدادٌ أيضًا، الارتداد على قسمين:

1. ارتداد ملي: يعني إنسان كان مسيحيًا ثم أسلم ثم عاد للمسيحية، هذا الارتداد لا يوجب القتل، يستتاب.

2. وهناك ارتداد فطري: يعني إنسان وُلِدَ بين أبوَيْن مسلمَيْن ثم أعلن إنكاره لأصل من الأصول أو لضرورة من الضرورات التي يلازم إنكارها تكذيبَ النبي ، هذا يسمى ارتدادًا فطريًا، وهذا الارتداد يوجب حد القتل، يُقْتَل، طبعًا عندنا نحن الإمامية متفقٌ عليه، أما عند إخواننا أهل السنة مختلفٌ فيه، بعض علمائهم كأبي حنيفة لا يرى الارتداد موجبًا للقتل حتى لو كان ارتدادًا فطريًا، يقول: لا، لا يوجب القتل، وكذلك بعض العلماء، مثل الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر وغيره لا يرون الارتداد موجبًا للقتل، عندنا نحن الإمامية اتفاقٌ على أن الارتداد الفطري يوجب القتل، تُقْتَل، لماذا؟ طيب دعه يعبّر عن رأيه!

نحن قلنا طبعًا إذا يعبّر عن فكره هذا ليس ارتدادًا، إذا يقول والله أنا عندي إشكال في النبوة أو في الإمامة أجيبوا عن إشكالي، هذا ليس ارتدادًا، الارتداد أن يعتقد، يعني: أن يعلن أنه منكرٌ لله، منكرٌ للنبوة، منكرٌ لأي أصل من الأصول المتفق عليها بين المسلمين على نحو الاعتقاد، الارتداد يوجب القتل بشرطين «ليس كل واحد نحن نقتله»:

الشرط الأول: ألا يكون هناك شبهة.

لو كان الإنسان عنده شبهة فكريّة مستعصية على ذهنه ما يقدر يحلها ونتيجة هذه الشّبهة أعلن الإنكار، إذا كان عنده شبهة فكرية فلا يُحْكَمُ بالقتل، الحدود تدرء بالشبهات، هذه قاعدة فقهية متفق عليها بين المسلمين، الحدود تدرء بالشبهات، إذا عنده شبهة مستعصية لا يُقْتَل.

الشرط الثاني: أن يعلن الارتداد.

يعني: ليست المشكلة في الارتداد، المشكلة في إعلان الارتداد، لو كان ارتدادًا بينه وبين ربه جهنم! نحن لا دخل لنا فيه، المشكلة إذا أعلن الارتداد، إعلان الارتداد هو الذي يكون موجبًا لإقامة حد القتل، لماذا؟ لماذا لا يعطى حق التعبير؟ لوجهين:

الوجه الأول:

أنّ إعلان الارتداد نوعٌ من الحرب النفسيّة للمجتمع الإسلامي، كيف إعلانٌ عن الحرب النفسيّة؟

لاحظ القرآن الكريم دقيقٌ في تعبيراته، القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أول النهار يقولون: آمنا، وإذا جاء آخر النهار: بطلنا! طبعًا هذا النوع يعد حربًا نفسية، حربًا نفسية للمسلمين، إعلان الارتداد حربٌ نفسية، لأن الإعلان لو فُتِحَ هنا يُعْلِنُ إنسانٌ ارتدادًا، هناك يُعْلِنُ إنسانٌ ارتدادًا، هناك يُعْلِنُ إنسانٌ ارتدادًا... يصاب المجتمع الإسلامي بالإحباط، يصاب المجتمع الإسلامي بالريبة، يصاب المجتمع الإسلامي بالوهن والتراجع، فإعلان الارتداد نوعٌ من الحرب النفسية، وعبّر عنها القرآن بالفتنة.

ذكرنا في الليالي السابقة أن الجهاد ما شُرِّعَ في الإسلام مطلقًا، كيفي أنا أجاهد؟! لا، الجهاد ما شُرِّعَ لاستئصال الشعوب ولإخضاع الشّعوب للدّين بالإكراه والغلبة، لا، الجهاد شُرِّعَ لدفع الفتنة، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ما معنى الفتنة؟ الفتنة هي هذه، الحرب النفسيّة، يعني: عندما يتصدّى جماعة لحرب المسلمين حربًا نفسية، عندما يتصدّى جماعة للاستهزاء بالإسلام، للتّعريض بالإسلام، يؤمنون تارة ويكفرون أخرى، يكونوا في مقام الحرب النفسيّة مع المجتمع الإسلامي يجب جهادهم، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ الفتنة هي الرّيبة الناشئة عن الحرب النفسيّة.

إذن إعلان الارتداد نوعٌ من الحرب النفسية، فمن حقّ الدولة الإسلاميّة أن تدافع عن نفسها، من باب الدفاع عن النفس نقتل المرتد لأنه أعلن حربًا نفسيّة ضد المجتمع الإسلامي.

الوجه الثاني:

أضرب لك مثالاً واضحًا: الآن دوليًا جميع الدول بلا استثناء - أي دولة كانت - حتى الدّول الدّيمقراطيّة الغربيّة تقول لك: أنت لك الحرية في كل شيء إلا شيئًا واحدًا، وهو الخيانة الوطنيّة، أي إنسان يثبت عليه خيانة وطنيّة يُقْتَلُ في أي دولة كانت، دولة غربيّة أو شرقيّة، لك الحرّيّة في كل شيء إلا في خيانة الوطن بأن تكون عميلاً لوطن آخر، لحكومة أخرى، لماذا؟

يقولون: لأن الخيانة الوطنية تمزيقٌ لوحدة المجتمع، هناك مجتمعٌ واحدٌ، هناك مجتمعٌ متماسكٌ، الخيانة الوطنيّة تمزيقٌ لوحدة المجتمع ولتماسك المجتمع، لذلك يحدث هنا تعارضٌ بين حقّ الإنسان وحقّ المجتمع، الإنسان يقول: من حقي أن أخون وطني، حق، أنا حرٌ، ولكن المجتمع يقول: من حقي أن أبقى مجتمعًا واحدًا متماسكًا، فيحصل التعارض بين حق المجتمع وحق الفرد، أيهما يقدّم؟! طبعًا يقدّم حقّ المجتمع، يقدّم حقّ المجتمع في التماسك وفي التوحّد على حقّ الفرد في الخيانة الوطنيّة.

نفس الكلام في الارتداد، إعلان الارتداد تمزيقٌ للمجتمع الإسلامي، إعلان الارتداد تمزيقٌ للصف الإسلامي، لذلك من أجل المحافظة على وحدة الصف وتماسك المجتمع الإسلامي نقدّم حق المجتمع في التماسك والوحدة على حق الإنسان في إعلان الارتداد، فنقول: الارتداد يوجب القتل.

الحد الثالث من حدود حرية التعبير: ألا يصل التعبير إلى الإساءة إلى الرموز الدينيّة.

الإساءة إلى الرموز الدينية محذورٌ، حدٌ من حدود حرية التعبير، لماذا؟ لأن الإساءة للرّمز الدّيني بذرة الحرب بين أبناء المجتمع البشري، الإساءة إلى الرموز الدينية تفجّر العواطف، تفجّر المشاعر، تكون بداية لحرب اجتماعية لا يمكن تحديدها ولا يمكن الوقوف أمامها، ليس من حقك، والله أنا أعبر عن معتقدي! عبّر كيفك لكن ليس من حقك أن يصل إلى حد الإساءة أو التعريض بالرمز الديني، رسول، نبي، وصي، مرجع ديني... الإساءة إلى الرموز الدينية حدٌ من حدود التعبير، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ.

مع الأسف إلى الآن نحن نجد أن الدينمارك، النرويج، فرنسا تعتبر أن الإساءة للنبي نوعٌ من الحرية، حرية التعبير وحرية إبداء المعتقد، ومع الأسف يكتفي المسلمون بالاحتجاج والمعارضة والمواجهة، ليس المطلوب مجرد الاحتجاج، المطلوب أن تصر الدول الإسلامية جميعًا على استصدار قرار من الأمم المتحدة وهو منع الإساءة للرموز الدينية، هذا هو المطلوب، المطلوب صدور قانون يمنع الإساءة لأي رمز ديني، وأن الذي يسيء إلى أي رمز ديني يجرّم، يُلاحَق قضائيًا، إذن هناك حدٌ من حدود التعبير وهو ألا يصل إلى الإساءة إلى الرموز الدينية لأن الإساءة للرمز الديني مفتاحٌ للحرب، بذرة للحرب، بذرة لتفكك المجتمع البشري، لحرب لا تحمد عقباها.

لاحظوا أدب أهل البيت، جاء جماعة إلى الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وقالوا له: إنّ جماعة معاوية ينالون منك، فهل تأذن لنا أن نال منهم كما ينالون منا؟ قال: ”إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، فلو وصفتم أعمالَهم، وذكرتم أفعالَهم، لكان ذلك أصوبَ في القول، وأبلغَ في العذر“.

إذن حرية التعبير عن المعتقد قد تلحظ لكن بهذه الحدود الثلاثة التي ذكرناها، من هنا يطرح السؤال: ما هو موقف الإمام الرضا من حرية التعبير؟

في زمان الإمام الرضا وُجِدَت فرقة تسمّى الواقفيّة، هؤلاء وقفوا على الإمام الكاظم وما قالوا بإمامة الإمام الرضا، كيف تعامل الإمام الرضا معهم؟ تعامل معهم على مرحلتين:

المرحلة الأولى: مرحلة الحوار.

حوارهم، يقول إسماعيل بن سهل: كنتُ مع الرضا فدخل عليه علي بن أبي حمزة البطائني وابن البكاري، هؤلاء واجهة فرقة الواقفية، دخلوا عليه، قالوا: يا أبا الحسن - يعني: الرضا - كيف مضى أبوك موسى بن جعفر؟ قال: مضى موتًا، مات، قالوا: هل عَهِدَ لأحد بعده؟ قال: نعم، قالوا: هل عَهِدَ إليك؟ قال: نعم، قالوا: أنت إمامٌ؟ قال: أنا إمامٌ مفترض الطاعة، ضحكوا، قالوا: ما عهدنا أحدًا من آبائك يقول: أنا إمام، ما في إلا أنت! قال: إنّ خير آبائي رسول الله وهو جمع قريش يوم الدار وقال: أنا رسول الله إليكم بين يدي عذاب شديد، أنا أيضًا أقول: أنا إمام، قالوا: إنّا سمعنا من آبائك أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام، أبوك مات في بغداد وأنت في المدينة فمن وَلِيَ أمر أبيك؟ قال لهم: الحسين بن علي كان إمامًا؟ قالوا: نعم، قال: مَنْ وَلِيَ أمره؟ هو في كربلاء وابنه زين العابدين في الكوفة، مَنْ وَلِيَ أمره؟ قالوا: إن الله مكّن زين العابدين أن يخرج من الكوفة إلى كربلاء ويَلِيَ أمره أبيه ويرجع إلى الكوفة، قال: إنّ الذي مكّن زين العابدين وهو أسيرٌ مقيّدٌ أن يخرج من الكوفة إلى كربلاء مكّنني أن أخرج من المدينة إلى بغداد وأنا لستُ أسيرًا.

فلمّا لم يجد الإمام لهم أي برهان، أي دليل، انتقل إلى:

المرحلة الثانية: مرحلة المقاطعة.

أصدر الإمام أمره: لا تزاوجوهم ولا تحادثوهم، إنهم كلابٌ منطورة، كلاب منطورة، هنا يتساءل إنسان: لماذا الإمام تعامل معهم بهذه القسوة؟ لماذا لم يفتح لهم المجال في التعبير عن معتقدهم؟ لماذا لم يتعامل معهم كما تعامل الإمام الحسن مع الذين عارضوه «احتضنهم واستوعبهم واستقبل كلامهم وأقنعهم برأيه»؟ لماذا اختلف موقف الإمام الرضا عن موقف الإمام الحسن الزكي من معارضيه عليهما السلام؟

السر في ذلك: الإمام لم يخنق حقّ التعبير، هو أعطاهم المجال يعبّرون كما يريدون، إنما الإمام اكتشف أن دوافعهم دوافع مادية وليست دوافع فكرية، موقفهم كان موقفًا ماديًا ولم يكن موقفًا فكريًا، كيف؟

يونس بن عبد الرحمن - أحد أصحاب الإمام الرضا - هو يقول: مات أبو الحسن وليس من قوّامه - قوّامه يعني: وكلائه - وليس من قوّامه إلا وبيده مالٌ كثيرٌ، زياد بن مروان عنده سبعون ألف، علي بن أبي حمزة عنده ثلاثون ألف دينارًا، عثمان بن عيسى الرواسي ثلاثون ألف دينارًا، أموال طائلة كانت عندهم، لأن الإمام سجين فالأموال اجتمعت عند وكلائه، مات الإمام الكاظم، وأموال ضخمة عند وكلائه، يقول يونس: فكان ذلك - يعني: الأموال - سبب وقوفهم وجحدهم، يعني: ما كانت دوافعهم دوافع فكرية، كانت دوافعهم دوافع مادية، لأنهم إذا آمنوا بالإمام الرضا قال: ائتوني بالأموال التي بين أيديكم، يقول يونس: فلما تبين لي الحق وعرفتُ الأمرَ دعوتُ إلى الإمام الرضا فأرسلوا لي، قالوا: إن كنتَ تريد المال فنحن نغنيك فاسكت عن ذلك، قلتُ لهم: أما سمعتم من الصادقين يقولان: ”إذا ظهرت البدع وجب على العالم أن يظهر علمه فإن لم يفعل سُلِبَ منه نور الإيمان“؟! إني لا أدع الجهاد في أمر الله، فناصبوا لي العداوة.

إذن المسألة مسألة مادية، الإمام لم يمنع حق التعبير وإنما شكّل مواجهة عنيفة لهم لكي يفضحهم على الملأ ولكي يُعَرّف الأمة الإسلاميّة بأن موقفهم موقفٌ ماديٌ مصلحيٌ، هذا لا يتنافى مع حق التعبير، ولذلك ترى الإمام الرضا هناك ميزة عنده، إذا تراجع التاريخ الإمام الرضا أكثر إمام في المناظرات، يعني: عندما تقرأ المناظرات - حجم المناظرات - الإمام الصادق خاض مناظراتٍ وحواراتٍ، الإمام الكاظم خاض مناظراتٍ وحواراتٍ، أكثر الأئمة حوارًا ومناظرة هو الإمام الرضا ، وكثير من عقائدنا التي الآن نحن نعتقد بها مستلة من حوارات الإمام الرضا ومن مناظرات الإمام الرضا ، راجع عيون أخبار الرضا، راجع الاحتجاج للطبرسي، أغلب معتقداتنا مستلة من حوارات الإمام الرضا ، كيف تمكّن الإمام الرضا من هذه الحوارات والمناظرات؟

من خلال ولاية العهد، كثير من الناس يعترضون: كيف الإمام قَبِلَ ولاية العهد؟! كيف علي بن موسى يكون ولي عهد المأمون؟! المأمون خليفة غير شرعي كيف الإمام يكون ولي عهده؟! قبول الإمام لولاية العهد إضفاءٌ للشرعية على من؟ على خلافة المأمون، والقرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ كيف ركن علي بن موسى للمأمون العباسي وهو خليفة غير شرعي؟!

أنا الآن أبين لك لماذا قَبِلَ ولاية العهد، دعوا جانب الإكراه، بعض العلماء يقولون: أكره، لا، توجد علة أخرى غير الإكراه منضمة مع الإكراه وهي: الإمام الرضا أدرك أنه إذا قَبِلَ ولاية العهد سينفتح المجال له لمناظرة علماء الأديان وعلماء المذاهب الإسلاميّة الأخرى وسيكون ولاية العهد وسيلة إعلامية لعظمة المذهب ولفكر الإمام الرضا سلام الله عليه، علماء الأديان ما كانوا يجتمعون في المجالس، يعني: تذهب إلى المجالس أو القهاوي وتراهم قاعدين! لا، علماء الأديان وعلماء المذاهب كانوا يقصدون الخليفة، كان مجلس الخليفة هو مجلس المناظرة، لا توجد مجالس أخرى، مجالس الحوار والمناظرة في ذلك الزمن هي مجالس الخليفة، قصر الخليفة هو مجلس الحوار، هو مجلس المناظرة، الإمام قَبِلَ ولاية العهد، انتقل إلى خراسان، صار يجلس كل اثنين وكل خميس في مجلس المأمون العباسي فتجتمع معه علماءُ الأديان وعلماءُ المذاهب الإسلامية فيفتح معهم بابَ الحوار وبابَ المناظرة، وكان الثمرة في ذلك هو بذرة التشيّع في بلاد إيران، إيران الآن أكبر بلد من بلدان التشيّع نتيجة لماذا؟ الذي زرع التشيّع في إيران الإمام الرضا عندما انتقل من المدينة إلى خراسان، والذي زرع التشيع في إيران هو مناظرات الإمام الرضا وحوارات الإمام الرضا .

إذن قبول الإمام الرضا بولاية العهد كان وسيلة إعلامية لنشر المذهب ولنشر فكر الإمامية، فالإمام جعل مقارنة بين المهم والأهم، ترك ولاية العهد أمرٌ مهمٌ حتى لا يعطي شرعية للمأمون العباسي، ولكنّ نشر المذهب أهمّ، فقدّم الإمامُ الأهمَ على المهم وتمّ له ما أراد صلوات الله وسلامه عليه، فالإمام كان حواريًا، ما كان إنسانًا يصدم حقّ التعبير إلا أن الواقفية كانت لهم دوافعُ مادية ومصلحيّة اقتضت أن يُوَاجَهُوا هذه المواجهة الساخنة الحادة.

المحور الثاني: الدور الاجتماعي للإمام الرضا.

يقول إبراهيم بن العباس الصولي: صاحبتُ الإمام الرضا فترة من الزمن - لاحظ كيف الآداب - فما وجدته جفا أحدًا بكلامه قط، وما وجدته قطع على أحد حديثه قط، وما وجدته مد رجليه بين يدي جليس قط، وما رأيته ردّ إنسانًا في حاجةٍ يقدر عليها قط، وما رأيته شتم أحدًا من مواليه أو خدمه، وما رأيته تفل، وما رأيته تقهقه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا جعل المائدة - جلس لكي يتغدى، يتغشّى - دعا غلمانه وعبيده وأجلسهم معه، حتى السائس والحاجب والبوّاب، فقلتُ له يومًا: سيّدي لو غزلت لهؤلاء السّود مائدة «مثلنا نحن لا نأكل مع الخدم، صح لو لا؟! نقول: والله أنا آكل مع الخدم كيف؟! والله ما لي «زاغر» آكل مع الخدم! الإمام الرضا لا، يقول دعهم يجلسوا معي» لو عزلتَ لهؤلاء السّود مائدة، فالتفت إليّ، قال: مه! إنّ الرّبّ واحدٌ والأب واحدٌ والأمّ واحدة والجزاء بالأعمال ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.

لاحظ هذه الروح الإنسانية، النبل الإنساني، الإمام الرضا يكتب إلى ولده الإمام الجواد: ”بلغني أن الموالي - يعني: الخدم - إذا ركبت أخروجك من الباب الصغير، وإنما ذلك لبخلٍ فيهم كي لا ينال أحدٌ منك شيئًا، فبحقي عليك إذا ركبتَ ألا يكون مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير، وأن تحمل معك ذهبًا وفضة، فمتى ما سألك أحدٌ أعطيته“، يرشد ابنه إلى الدور الاجتماعي، الدور الاجتماعي للإمام الرضا يتمثل في عنصرين: عنصر الحب، وعنصر الحضور.

ما معنى عنصر الحب؟

كثيرٌ منا - خصوصًا نحن رجال الدّين - كثيرٌ منا يتعامل مع المجتمع بروح الوظيفة، يقول: أنا ماذا أفعل؟! الله فرض عليّ أن أتعامل مع الناس فلذلك أتعامل مع الناس! إذن أنا لا أرغب أن أتعامل مع الناس ولكنه واجبٌ، ماذا أفعل؟! نتعامل مع الناس بروح الوظيفة، بدافع أن التعامل مع الناس وظيفة، نتخلق مع الناس الأخلاق الحسنة ونتحمّل آلام الناس بدافع الوظيفة، أما الإمام الرضا فيتعامل مع الناس بدافع الحب لا بدافع الوظيفة، لأنه يحب الناس يعاملهم، لأنه يشعر أن الإنسانية تقتضي أن يتعامل مع الناس، لأنه يشعر أن الإنسانية تقتضي أن يتواضع للناس، الإمام الرضا ما كانت دوافعه الوظيفة، كانت دوافعه المحبّة كما كان جدّه رسول الله ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، الأئمة يحبّون الناس، يتعاملون مع الناس لأنهم يحبّون الناس لا لأنهم موظفون من قِبَلِ الله في التعامل مع الناس.

العنصر الثاني: الحضور.

الأئمة كانوا حاضرين مع المجتمع، ما كان بينهم وبين المجتمع وسائط، كثيرٌ من القادة يعيش وحدَه، لا يتعامل مع المجتمع إلا بالواسطة، حوله حجّابٌ، حوله بوّابٌ، حوله مثلاً جسورٌ، حوله حصانة، يتعامل مع الناس بالوسائط، يتعامل مع الناس بالقطارة، الإمام الرضا يبيّن لنا أن القائد الاجتماعي الفاعل هو الحاضر بين الناس، يتفاعل معهم، يتألم آلامهم، يفرح أفراحهم، يحزن أحزانهم، يعيش مع الناس حاضرًا، يحمل همومهم ويحمل مشاكلهم بقلبه، بلسانه، بسلوكه، كما أمر بذلك ولدَه محمّد الجواد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين... لا أريد أن أطيل، أنتقل إلى المحور الثالث.

المحور الثالث: تمثيل الإمام الرضا لموقعية أهل البيت في نفوس المسلمين.

أبو الصلط الهروي يقول: خرجتُ مع الإمام الرضا من المدينة إلى خراسان، وصلنا إلى نيشابور، لما وصلنا إلى نيشابور - نيشابور كانت منطقة سنية في ذلك الوقت، يعني: على مذهب إخواننا أهل السنة - يقول: خرج علماؤها يرحّبون بالإمام الرضا، وصل أبو زرعة الرازي، أبو أسلم الطوسي، أحمد بن الحارث، محمد بن عارف، وصلوا إلى الإمام، قالوا: يا ابن رسول الله أرنا طلعتك الرشيدة واقرأ لنا حديثًا عن أبيك عن أجدادك الطاهرين بحق آبائك الطاهرين، فأخرج وجهه من القبة وعليه عمامة لها ذهابتان على كتفيه وقال لهم: ”رويتُ عن أبي موسى عن أبيه جعفر عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه الحسين عن أخيه الحسن عن أبيه علي عن أخيه رسول الله عن أخيه جبرئيل عن الله جلّ جلاله:“ كلمة «لا إله إلا الله» حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي ”ولكن بشرطها وشروطها وأنا من شروطها“.

هذا الحدث نحن لا نمر عليه مرور الكرام مثل الكتّاب، لا، هذا الحدث نحن يستوقفنا، يدعنا نتأمّل فيه، هذا الحدث ينقلنا إلى ظاهرة تاريخية تستحقّ الدراسة وهي تفاعل المسلمين مع أهل البيت، تفاعل المسلمين مع موقعية أهل البيت ، نحن عندما نقرأ التاريخ نجد تباينًا واضحًا بين جيلين:

1 - الجيل المعاصر لأهل البيت.

2 - وجيل زماننا هذا.

الجيل المعاصر لأهل البيت كان متفاعلاً مع أهل البيت، كان محبًا لأهل البيت، كان مرتبطًا مع أهل البيت، مع أنهم بعضهم ما كانوا من الشيعة لكنهم كانوا متفاعلين محبين لأهل البيت، ولكن جيل زماننا هذا يشعر بالتوجّس والحسّاسيّة المفرطة تجاه أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ما هي الأسباب؟

أنا الآن أذكر لك شواهدَ للجيل السابق وشواهدَ من هذا الجيل:

1 - للجيل السابق:

1/ أبو حنيفة «إمام المذهب الحنفي»: أتدري أن أبا حنيفة أيّد ثورة زيد بن علي بن الحسين وأفتى بوجوب الخروج مع زيد وأيّد ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وأفتى بوجوب الخروج معها؟! أبو حنيفة لم يقبل القضاء من قِبَلِ بني أمية، عندما عرض عليه يزيد بن عمر بن هبيرة القضاء قال: لا أقبل القضاء، ثم أقامه يزيد وجلده مئة وعشر سوطًا، أبو حنيفة كان متفاعلاً مع أهل البيت.

2/ مالك «إمام المذهب المالكي»: مالك أفتى بوجوب الخروج مع ثورة محمد ذي النفس الزكية من أبناء الحسن، وعندما قال له أهلُ المدينة: إن في أعناقنا بيعة للمنصور، قال: إنما بايعتم المنصور مكرهين وما على مكره يمينٌ، مالك وشاه أهلُ المدينة إلى المنصور فجلده سبعين سوطًا حتى انخلعت كفاه.

3/ أحمد بن حنبل «إمام المذهب الحنبلي»: يقول ولده عبد الله بن أحمد في تعليقته على مسند أبيه، يقول... يذكر هذا الحديث الذي نحن قرأناه، الإمام الرضا يقول: عن أبي عن جدي عن رسول الله عن الله: ”كلمة «لا إله إلا الله» حصني“، يعلق عليه، يقول: قال أبي «يعني: أحمد»: لو قرئ هذه الأسناد على مجنون لبرئ من جنته.

4/ الإمام الشافعي الذي كان يقول:

يا   راكبًا   قِفْ   بالمحصبِ  iiمن

سَحَرًا إذا فاض الحجيجُ إلى منى

إنْ   كان  رفضًا  حبُ  آل  iiمحمّدٍ



 
واهتف  بساكن خَيْفِها iiوالناهضِ

فيضًا   كملتطم   الغديرِ  iiالفائضِ

فليشهدِ   الثقلانِ   أنّي   iiرافضي

وهو القائل:

يا   آلَ  بيتِ  رسولِ  اللهِ  iiحبكمُ

كفاكُمُ  مِنْ  عظيمِ  الشّأنِ iiأنّكُمُ

 
فرضٌ مِنَ اللهِ في القرآنِ أنزلَهُ

مَنْ  لَمْ يصلِ عليكم لا صلاةَ iiلَهُ

إذن الجيل السابق كان يتفاعل مع أهل البيت، كان محبًا لأهل البيت، أئمة المذاهب الأربعة متفاعلون مع أهل البيت لأنهم كانوا يقدّسون أحاديث رسول الله كما روى الحاكم في مستدركه: ”مَثَلُ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من تمسّك بها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى“.

2 - وتعال إلى الواقع المعاصر:

تعال اقرأ جيلنا الآن، تعال اقرأ المسلمين أيامنا الآن، هل هم متفاعلون مع أهل البيت كما كان الجيل المعاصر لأهل البيت؟! مع الأسف هناك حسّاسيّة مفرطة عند بعض المسلمين تجاه أهل البيت، تجاه فضائلهم، تجاه مناقبهم، وهناك صورٌ عديدة لهذه الحسّاسيّة المفرطة:

الصّورة الأولى: عدم الصّلاة عليهم.

تأتي أنت تفتح شاشة التلفزيون ترى برنامج الشّريعة والحياة، تراه عالِمًا يتكلم لك ساعة يذكر النبي فيقول: صلى الله عليه وسلم! طيب أنت عالمٌ تعرف الأحاديث، لماذا هذا التجاهل؟!

1/ مسلم في صحيحه في الجزء الرابع ينقل: قال الصحابة: يا رسول الله عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة؟ قال: ”أن تقولوا: اللهم صلّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ كما صليتَ على إبراهيم وآل إبراهيم“.

2/ البيهقي في سننه يروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ”من لم يصلِ عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل له صلاة“.

3/ ابن حجر في الصواعق المحرقة يروي عن رسول الله : ”لا تصلوا عليّ الصّلاة البتراء“، قيل: وما البتراء؟ قال: أن تقولوا: «اللهم صل على محمد» وتسكتوا، بل قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليتَ على إبراهيم وآل إبراهيم".

الصّورة الثانية: تهميش ذكرهم.

يعني أنت تقرأ كتبًا لا تجد فيها ذكرًا لأهل البيت، يتكلم في أي موضوع، في الزهد، في الحلم، في العلم، في تفسير القرآن، في أي موضوع ديني خلقي لا ينقل لك ولا رواية واحدة، لا عن الحسن أو الحسين أو السجّاد أو الباقر أو الصّادق، كأنّ هؤلاء لا تراث لهم، كأنّ هؤلاء لا وجود لهم، هناك محاولة تهميش واضحة، وهذه لم تبدأ من الآن، يعني دعني أرجع معك قليلاً، اقرأ مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون في الفصل السّابع في الفقه من مقدمته أتدري ماذا يقول؟! «وشذ أهل البيت»! ما يقول أيضًا الشّيعة، أهل البيت! الشذوذ آتٍ من هناك! يعتبر أهل البيت شاذين! «وشذ أهل البيت بمذاهبَ ابتدعوها، وفقهٍ انفردوا به، وبنوه على قولهم بالعصمة، وأرجعوا أمر الخلاف إليهم، وأصولهم واهية، ولذلك لم يحفل الجمهورُ بشيءٍ من كتبهم وأحاديثهم، بل أوسع الردّ والنكير عليها، فنحن لا ننقل شيئًا من كتبهم، ولا نروي شيئًا من أحديثهم»، واضحة الخطة، محاولة ماذا؟ تهميش فكر أهل البيت وتراث أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الصورة الثالثة: عدم الاحتفال لا بمواليدهم ولا بوفيّاتهم.

بل حتى مولد النبي الذي هو نبي الأمّة لا يُحْتَفَلُ بميلاده، والقرآن الكريم يقول: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ عزّروه ما معناه؟ عزّروه يعني مجّدوه، التّعزير يعني التّمجيد والتّكريم، وتمجيد النبي كما ينطق به القرآن ﴿وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ تمجيد النبي بالاحتفال بمولده وبالاحتفال بوفاته، القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى مودة القربى يعني ماذا؟ يعني: إظهار فضائلهم، إظهار مناقبهم، مودة القربى يعني: الاحتفال بذكرهم، المودة بمعنى إظهار المحبة من خلال ذكر فضائلهم ومناقبهم، ونحن نستغرب حتى من بعض الشيعة، يتكاسل عن الحضور في مآتم أهل البيت بحجة والله أنا أشاهد القنوات الفضائية وأشاهد الفرات والمنار وأشاهد مثلاً الأنوار وهذا كافٍ بعد ماذا تريدون مني؟! الحضور في مآتم أهل البيت، الحضور في مجالسهم إظهارٌ لمودتهم وإظهارٌ لمحبتهم وإعلاءٌ لذكرهم، الإمام يقول: يا فضيل أتجلسون وتتحدثون؟ قلتُ: بلى سيدي، قال: ”إني أحب تلك المجالس فأحيوا فيها أمرنا“.

الصورة الرابعة: محاولة طمس فضائلهم.

ليست المشكلة أيضًا أنه لا يذكرهم، لا، أينما وجد فضيلة جعلها على جنب، أنت الآن تستغرب محمد حسين هيكل كاتب مصري على أساس أنه كاتبٌ موضوعيٌ ينشد الحقيقة، عنده كتاب حياة محمّدٍ ، في الطبعة الأولى ذكر الحديث جيدًا، حديث الدار: قال الرّسولُ: أيّكم يؤازرني على أمري على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فقام عليٌ، قال: أنا يا رسول الله، قال: ”اشهدوا إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم“، حسنًا، كل شيء جيد، في الطبعة الثانية لا أدري ماذا جاءه! في الطبعة الثانية قال: فقال الرّسولُ: أيكم يؤازرني على أمري على أن يكون أخي وكذا وكذا! فقال عليٌ: أنا يا رسول الله، قال: اشهدوا أنّ هذا أخي وكذا وكذا! ماذا كذا وكذا يعني؟! أين الأمانة العلمية؟! أين الموضوعيّة؟! يعني البشر غنم؟! نضحك على البشر نحن؟! يعني الناس لا تفهم؟! لا تقرأ؟! لا تقارن بين الطبعتين؟! لا تكتشف ما هو الخلل؟!

هذه صورٌ عديدةٌ إذا قارنتها تجد تباينًا واضحًا بين ذاك الجيل وبين هذا الجيل مع الأسف، ما هي الأسباب؟

طبعًا هناك سببان رئيسيان:

السّبب الأول: السّلطات.

السّلطات الأمويّة والعبّاسيّة كانت ترى أن انتشار مذهب أهل البيت يهدّد عرشها ويهدّد سلطانها فسخّرت كلّ أجهزتها لطمس ذكر أهل البيت ولعزلهم عن الحياة الإسلاميّة ولتهميشهم بكل الوسائل الممكنة ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.

السّبب الثّاني: يرجع إلينا.

نحن الشّيعة متخلفون إعلاميًا ولازلنا متخلفين إعلاميًا، نحن الشّيعة نحتاج إلى وسائلَ إعلاميّةٍ كافيةٍ، الزمن زمن إعلام، مازلنا متخلفين في مجال وسائل الإعلام، مازلنا نحتاج إلى وسائل إعلاميّة حيّة تعكس نقاء مذهبنا، تعكس أدلتنا، تعكس براهيننا، تعكس آراء علمائنا، ونتيجة لهذا التقهقر الإعلامي يحدث تقهقر في مسيرة المذهب، ويُهَمّش دورُ أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

نحن لا نريد بهذا الحديث أن نبرز مظلوميتنا حتى يقال لنا: أنتم الشيعة دائمًا تؤكّدون على نبرة المظلوميّة! إننا بهذا الحديث نخاطب الواعين والعقلاء من أعلام المسلمين أن يلتفتوا إلى هذا التّهميش لدور أهل البيت في الكتب وفي المؤلفات وفي الدّراسات، نخاطب الواعين أن يلتفتوا إلى أنّ لأهل البيت تراثًا ضخمًا على المسلمين أن يستفيدوا منه وأن يستنيروا به، نخاطب الواعين من علماء المسلمين أن يقتدوا بالشّيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في زمانه والشيخ محمد الفحّام شيخ الأزهر في زمانه اللذين أفتيا بأنه يجوز التعبّد والتديّن بالمذهب الجعفري مذهب الإماميّة الاثني عشريّة.

وأخيرًا - وإن شاء الله ليس آخر، أخيرًا نقول - اعترفت رابطة العالم الإسلامي بمذهب أهل البيت واعتبرته من جملة المذاهب الثمانية المعروفة بين المسلمين، نعم إنّ المقارنة بين الجيلين تثير الحسرة والأسف، إذا قرأنا الجيل السابق أبو نواس يدخل على الإمام الرّضا وهو على بغلته يقول:

مطهرونَ        نقيّاتٌ       iiثيابُهُمُ

واللهُ    لمّا   برى   خَلْقًا   iiفأتقنهُ

فأنتمُ    الملأ    الأعلى   وعندكُمُ



 
تجري الصّلاةُ عليهمْ أينما iiذكِرُوا

صفّاكُمُ   واصفاكُمْ   أيّهَا   iiالبشرُ

عِلْمُ الكتابْ وما جاءتْ به السّورُ

والحمد لله ربّ العالمين