ثورة الحسين تعميقٌ وتحليلٌ

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن الرّسول محمّدٍ أنّه قال: ”حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبّ اللهُ من أحبّ حسينًا، وأبغض اللهُ من أبغض حسينًا، حسينٌ سبط من الأسباط“

صدق الرّسول الكريم

رأسٌ  يرتّل  فوقَ  رأسِ  الرّمح آياتِ الإمامة

وعلى الكثيبِ الأسمرِ الظمآن أورقت iiالخنيلة

ونُخَيْلَة  بالطف  قد  غرفت بحارًا من iiدموعي

أماه   يا   فدكًا   تمزّق   بين   أنيابِ   iiالطغاةِ

أنت    الحسينُ   ودونَ   مجدِكَ   في   الورى







 
وخيوط قلبٍ في الرّمال تصوغ أثوابَ الكرامة

وجذورها  من  لهفةٍ  تمتصّ مِنْ دمع iiالعقيلة

تبكي  وترنو  أمّها  الزّهراء في أرضِ iiالبقيعِ

لم  تشربي  ماءَ  الغدير ولم أذق ماءَ iiالفراتِ

مجدُ      المسيح      ودون      أمّكَ     iiمريمُ

حديثنا عن الحسين حديثٌ عن الحركة، وعن العنفوان، وعن الكرامة، وعن الحرية، وعن الإباء، حديثٌ عن التضحية والفداء، حديثنا عن الحسين في محورين:

الأول: في هوية الحركة.

والثاني: في دفع الشبهات التي طرِحَت على هذه الحركة المباركة.

المحور الأول: هوية الحركة.

أمّا هوية الحركة فهناك أطروحتان:

الأطورحة الأولى: أن حركة الحسين حركة انفعاليّة.

والأطروحة الأخرى: أنها حركة فاعلة لا انفعاليّة.

الأطروحة الأولى: تقرّر أنّ هناك مجموعة من المبرّرات والعوامل فرضت على الحسين أن يتحرّك، ولولا هذه العوامل والمبرّرات لما تحرّك الحسينُ، فحركة الحسين استجابة لمجموعة من العوامل والمبرّرات.

من هذه المبرّرات: القضاء على النخبة الواعية.

أصحاب الإمام أمير المؤمنين الذين كانوا يشكّلون الطليعة المؤمنة للأمة الإسلاميّة صفّاهم معاوية واحدًا واحدًا، حجر بن عدي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي وأمثالهم من طلائع المسلمين، سمع الحسين بمقتل حجر فكتب إلى معاوية: ”ألستَ القاتل حجرَ بن عدي أخا كندة، والمصلين العابدين من أصحابه، الذين كانوا ينكرون الظلمَ، ويستعظمون البدعَ، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلمًا وعدوانًا بعد أن أعطيتهم المواثيق الغليظة المؤمّنة؟!“ وقتلوا عمرو بن الحمق الخزاعي، وكان أوّل رأس رُفِعَ على خشبةٍ رأسُ عمرو بن الحمق، قُتِلَ في الموصل وحُمِلَ رأسُه إلى الشّام إلى معاوية فأهداه معاوية إلى زوجة عمرو وكانت سجينة عند معاوية، فلما رأته قالت: غيبتموه عني طويلاً وأهديتموه إليّ قتيلاً فأهلاً بها من هدية لا قالية ولا مقلية... إذن قتل الصّحابة الواعين المخلصين كان مبرّرًا من مبرّرات حركة الحسين عليه السّلام.

المبرّر الثاني: التّجويع الاقتصادي.

لما استلم معاوية السّلطة تعامل مع المسلمين الموالين للإمام علي بسياسة التّجويع، حاربهم في أرزاقهم، ضيّق عليهم أعمالهم، قطع عنهم مصادر الرزق، تعامل معهم بلغة الجوع، حتى نقل ابن الأثير في الكامل أن معاوية كتب إلى ولاته، قال لهم: «مَنْ قامت البيّنة عليه أنّه يحب عليًا وأهل بيته فامحوه من الديوان واقطعوا رزقه وعطاءه»، وقال الإمامُ الباقرُ: ”لقد قُتِلَت شيعتُنا بكلّ بلدةٍ، وقُطِعَت الأيدي والأرجل، ومَنْ ثبت عليه أنه يحبّنا نُهِبَ مالُه أو هُدِمَت دارُه أو سُجِنَ أو قُتِلَ“، فالتّجويع الاقتصادي مبرّرٌ آخر لحركة الحسين.

المبرّر الثالث: حدوث الطبقيّة في المجتمع الإسلامي.

معاوية أغدق الثروات على الطبقة الموالية للحكم والموالية لدولته، فعاشت الأمة طبقتين: طبقة رأسماليّة، طبقة كادحة لا تملك قوتَ يومها، المؤرّخون يقولون: زيد بن ثابت - أحد الصحابة - عندما توفي كان عنده من الذهب والفضة ما يكسّر بالفؤوس فضلاً عن الأراضي والضّياع والأموال الأخرى، ومروان بن الحكم كان عنده خمس مئة ألف دينارًا، والدّينار قوت شهر في ذلك الوقت، وعمرو بن العاص ثلاث مئة وخمس وعشرين غير الضياع وغير الأراضي وغير النخيل، إذن معاوية ودولة معاوية التي كانت تسير بالفساد الإداري والفساد المالي وكانت تتلاعب بالثروات فرضت وضعًا اقتصاديًا سيئًا على الأمّة الإسلاميّة.

هذه المبرّرات - قتل النخبة الواعية، تجويع المسلمين، الطبقيّة - هذه المبرّرات الثلاثة فرضت على الحسين أن يقوم بالحركة، فحركة الحسين استجابة وانفعالٌ لهذه المبرّرات، لولا هذه المبرّرات ما تحرّك الحسينُ بن علي، لذلك قال: ”ألا ترون إلى الحق لا يُعْمَلُ به وإلى الباطل لا يُتَنَاهَى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربه“، أي: أنا لما وجدتُ هذه المظالم لم أستطع الصّبر، فإمّا أنْ أبقى فيكون بقائي إقرارًا بهذه الجرائم وبهذه المظالم، وإمّا أنْ أقتل، ”ليرغب المؤمن في لقاء ربه، ألا وإنّي لا أرى الموتَ إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برمًا“، إذن حركة الحسين استجابة لمؤثرات، حيث رأى الحسينُ أنّ بقاءه يُعَدّ إقرارًا للظلم وإضفاءً للشّرعيّة على الجرائم، فضحّى بدمه استجابة لهذه العوامل ولهذه المؤثرات، هذه الأطروحة الأولى.

الأطروحة الثانية: أن حركة الحسين ليست انفعالاً، هي فعلٌ، أي أنّ الحسين خُططَ لحركته وهو صغيرٌ، وهو وليدٌ، خُطط لحركته منذ زمان النبي ، خُطط لحركته وهو يعاصر أباه وأخاه الحسن، الحسين كان المُخَطط لحركته مرسومًا من البداية، كان الحسين يُخَطط للحركة سواءً حصلت هذه المبرّرات أو لم تحصل، فلنفترض جدلاً أنّ معاوية كان عادلاً ولم يحصل منه أي ظلم وأي جور مع ذلك كان الحسين سيتحرّك، حركة الحسين لا ترتبط بهذه المؤثرات وهذه المبرّرات وإن كانت هذه المبرّرات تدعم الحركة وتساهم في ترويج الحركة، لكنّ الحسين كان مخططه للحركة فعلاً هادفًا وإن لم تقع هذه المبرّرات، ما معنى هذا الكلام؟

الحسين بن علي كان لحركته ثلاث مراحل ولكل مرحلة هدفٌ، يعني كان لحركته ثلاثة أهداف: الهدف الأولي، والهدف الثانوي، والهدف التطبيقي، كان للحسين مراحلُ ثلاث لحركته ولكلّ مرحلةٍ هدفٌ.

المرحلة الأولى: مرحلة الإصلاح.

كتب الحسين لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته التي أوصاه بها: ”إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي“، ما يقصد الحسين بذلك؟

يقصد الحسين بذلك أن عنده مشروعًا وهو مشروع الإصلاح، ومن أبرز مصاديقه إصلاح القيادة، القيادة فاسدة، كيف تقود الأمة الإسلاميّة قيادة منحرفة عن الإسلام؟! ”يزيد رجلٌ فاسقٌ شاربٌ للخمر قاتلٌ للنفس المحترمة“، الحسين في المرحلة الأولى ما كان هدفه الدّم ولا كان هدفه المعركة ولا كان هدفه التّضحية أبدًا، الحسين في المرحلة الأولى طرح مشروعًا سلميًا وهو مشروع الإصلاح، أنا أريد أن أصلح القيادة، أنا لا أهدف لا إلى عرش ولا إلى كرسي ولا إلى أن أكون قائدًا ولا إلى أن أكون رئيسًا، أنا أطلب من الأمّة الإسلاميّة أن تعينني على إصلاح القيادة، عندي مشروع إصلاح، مشروعٌ سلميٌ، لا أريد معركة ولا دماء، أريد من الأمة الإسلاميّة أن تعينني على إصلاح القيادة، لو أنّ الأمة الإسلامية عزلت يزيد بن معاوية وانتخبت شخصًا صالحًا موثوقًا عادلاً ما خاض الحسينُ أي معركة، ولا بذل الحسينُ أي دماء، المرحلة الأولى التي أرادها الحسينُ مرحلة الإصلاح السّياسي السّلمي، يعني: إصلاح القيادة.

ولكن يزيد بن معاوية هو الذي نقل الحركة من المرحلة الأولى إلى:

المرحلة الثانية: وهي حصر الحسين في زاوية «إما البيعة أو القتل».

ليس هناك قسمٌ ثالث، نحن لا نريد إصلاحًا، إمّا البيعة أو القتل، يزيد بن معاوية عندما حصر الحسين في هذه الزاوية فهو الذي نقل الحركة من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، نقل الحركة من الهدف الأول - وهو الإصلاح السّلمي للقيادة - إلى الهدف الثاني ألا وهو إعزاز الدين، الحسين الآن انتقل إلى هدفٍ آخر، الأمّة لا تريد إصلاحًا والحسين قد قال في كلماته: ”وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحقّ إنّه خيرُ الحاكمين“، لكنّ الأمة رفضت مشروعَه الإصلاحي فانطلق إلى الهدف الثاني.

يزيد بن معاوية حصر الحسين بين السّلة أو الذلة، يعني: بين البيعة أو القتل، فرأى الحسين أنّ بيعته ليزيد بن معاوية إذلالٌ له، صحيح أن يزيد سيئة من سيئات معاوية، ولكنّ يزيد يختلف عن معاوية بأنّه كان متجاهرًا بالفسق، فكانت بيعته إذلالاً للإمام ، ومن الواضح أنّ إذلال الإمام إذلالٌ للدين؛ لأنه لا تفكيك بين الإمام وبين الدّين، إذلال إمام الأمة إذلالٌ للدّين، الحسين ما كان يشكّل شخصًا اسمه الحسين له أبٌ وأمٌ ومولدٌ وموتٌ، لا، الحسين كان يشكّل القيادة السّماويّة، فبيعة القيادة السّماويّة لرجلٍ منحرفٍ متجاهرٍ بالفسق إذلالٌ للدّين، ولذلك قال الحسينُ: ”يا أمير - وهو يخاطب والي المدينة - إنّا أهل بيت النبوة، وموضع الرّسالة، ومختلفَ الملائكة، ومهبط الوحي، ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ للخمر، قاتلٌ للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“، لأن هذا إذلالٌ للدين، فأنا من أجل إعزاز الدّين أرفض هذه البيعة.

”ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السّلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون“، فالحسين انطلق إلى المرحلة الثانية: مرحلة إعزاز الدّين، ولم يكن إعزاز الدين هدفًا مرحليًا وقتيًا بل هو هدفٌ مستمرٌ دائمٌ؛ لأن الحسين أسّس خطًا لجميع الأجيال: أنه بيعة المتجاهر بالفسق إذلالٌ للدّين، فلا يصحّ من أي جيلٍ أنْ يقبل بيعة المتجاهر بالفسق، سنّ سنة الإعزاز للدّين إلى يوم القيامة.

وأبى  أنْ  يعيشَ  إلا iiعزيزًا

كيف يلوي على الدنيّة iiجيدًا

 
أو تجلى الكفاحُ وهو صريعُ

لسوى الله ما لواه iiالخضوعُ

ثم جاءت المرحلة الثالثة: يزيد فرض القتل.

خلاص انتهى الخيار، كان الحسين مخيّرًا، الآن صدر الأمر بالقتل، يزيد نقل الحركة من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة، صدر الأمر بقتل الحسين: «أينما وجدتم الحسين فاقتلوه ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة»، ”والله لو كنتُ في جحر هامةٍ لأخرجوني وقتلوني“ لا توجد جدوى، قرار القتل صدر، الحسين ما قاد نفسه للقتل ولا قاد نفسه للدم ولكنّ المرحلة تطورت من مرحلة الإصلاح السلمي إلى مرحلة التخيير بين الذلة والسلة إلى مرحلة صدور قرار القتل من يزيد بن معاوية، فلمّا وصل الحسينُ إلى هذه المرتبة وليس هناك خيارٌ - يُقْتَلُ على كلّ حالٍ - لم يكن الحسين مخيّرًا في قتله لكن كان مخيرًا في زمان قتله ومكان قتله، هو الذي اختار، الحسين هو الذي حدّد الزمان وهو الذي حدّد المكان، جاءت مرحلة الهدف التطبيقي، وهو اختيار الزمان واختيار المكان، هذا الهدف الثالث: الهدف التطبيقي، كيف اختيار الزمان واختيار المكان؟

معاوية مات منذ شهر جمادى، الحسين خرج من المدينة شهر رجب أو شهر رمضان إلى مكة المكرمة، الحسين كان بإمكانه أن يختار أي يوم، أي شهر يُقْتَلُ فيه، لكنّه اختار أن يكون مقتله في شهر محرم الحرام، هو مدّد الفترة، مدّد الفترة إلى أن وصل شهر محرم الحرام فأعلن النداء: ”ألا فمَنْ كان فينا باذلاً مهجته موطنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّي راحلٌ مصبحًا إن شاء الله، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلانُ الفلا بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشًا جوفى وأجربة سغبى، لا محيص عن يوم خُط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجورَ الصابرين“، لماذا اختار شهر محرم؟

لأن محرم بداية السنة الجديدة، المسلمون مع بداية محرم يودّعون سنة ويستقبلون سنة أخرى، ومن الطبيعي أن يكون بداية السنة وقتًا لتجديد الذكريات، طبيعي في الناس هكذا، إذا ودّعوا سنة تذكّروا أحداثها وإذا استقبلوا سنة تفاءلوا بأحداثها، إذن يوم الذكرى السّنوية للهجرة يومٌ إعلاميٌ لأن المسلمين سيتذكّرون في يوم الهجرة، في يوم الذكرى - ذكرى السنة الهجريّة - سيتذكّرون الأحداثَ الحافلة، فهو يومٌ مناسبٌ لأنْ يقترن بذكرى معركة كربلاء، ولأنْ يقترن بذكرى عاشوراء، اختار الحسين هذا اليوم - يوم تجدّد السنة - لكي يكون وسيلة إعلاميّة لثورته ولصرخته، فيقول المسلمون: في بداية السنة حدثت ثورة الحسين .

واختار الحسينُ كربلاءَ، المكان هو الذي اختاره، اختار الحسينُ كربلاءَ وله شيعة في كلّ مكان، في اليمن كان هناك شيعة، في الحجاز كان هناك شيعة، في العراق كان هناك شيعة، في البحرين كان هناك شيعة، بلاد البحرين في الزمن القديم تعني ثلاث مناطق: أوال، والقطيف، والأحساء، كانت البحرين متشيّعة منذ زمان النبي محمّدٍ ، بعث إليها الرّسولُ العلاءَ الحضرمي واختاره الرّسولُ لأنه يعرف أنه سيبثّ التشيّع في هذه البلاد المباركة، وفعلاً أقبل العلاءُ الحضرمي في زمن النبي وكان متشيّعًا لأمير المؤمنين علي ، فلمّا توفي النبي كانت المنطقة هذه شيعة لأمير المؤمنين ، الحسين اختار المكان ألا وهو العراق «كربلاء»، وذلك لسببين:

السبب الأول: أن البذرة المترعرعة للتشيّع كانت في العراق ولم تكن في مكان آخر.

كانت هناك شيعة لكن البذرة المترعرعة كانت في العراق، كانت في الكوفة، للتشيع للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، ولذلك الإمام علي نقل العاصمة الإسلاميّة من المدينة إلى الكوفة، لماذا؟ مع أن بلاده الحجاز نقلها إلى الكوفة لأنه يعرف أنها مهد البذرة المترعرعة للتشيّع آنذاك فانتقل إليها، ولذلك إذا تقرأ التاريخ أكثر أصحاب الإمام علي من العراق، بل أكثر أصحاب أهل البيت من العراق، سفراء الإمام المهدي من العراق، أصحاب الإمام علي من العراق، أصحاب الإمام الحسين، أصحاب الأئمة من العراق، رشيد الهجري، حبيب بن مظاهر، ميثم التمار، حجر بن عدي، كميل بن زياد... كلهم من العراق، أنصار الحسين نصفهم من العراق والنصف الآخر موزّعٌ بين الهاشميين وبين اليمنيين وبين بعض الحجازيين، نصف أنصار الحسين من العراق، إذن البذرة المترعرعة التي سقاها أميرُ المؤمنين ورعاها حتى نمت وأثمرت كانت في العراق، فاختار الحسينُ أن يكون مقتله ومدفنه في العراق، في مهد التشيع.

السّبب الثاني: العراق تشكّل موقعًا استدراتيجيًا.

العراق واقعة في القلب، قلب الأمة الإسلامية، تحدّها إيران، وتحدّها الشام، وتحدّها الجزيرة، ويحدّها جميع المناطق الإسلامية، العراق كانت في القلب، كانت واقعة موقعًا استدراتيجيًا مهمًا، فالحسين أدرك أنّه إذا صار قبره في العراق سيكون مشعلاً للحركة وسيكون مشعلاً للتشيّع يمتد شرقًا إلى إيران وغربًا إلى الجزيرة وجنوبًا إلى اليمن وإلى جميع المناطق، اختار الحسينُ أن يكون قبره في العراق حتى يكون منطلقًا للامتداد الشيعي وللامتداد الحركي، وحصل للحسين ما أراد، لو كان قبرُ الحسين في غير العراق لما رأيتَ لقبره أي صدىً وأي تأثير، الحسين من أهداف حركته التي خطط لها من أول الأمر وقبل المبرّرات التي ذكرناها هذا الهدف التطبيقي: أن يكون مقتله ومدفنه أرض العراق؛ لتكون مشعلاً ومنطلقًا للتشيع، فكان للحسين ما أراد.

حاول الأمويّون أن يقضوا على شعلة الحسين وعلى الشمعة الحركيّة للحسين ، ولكن قتلوا من زواره ما قتلوا، وأبادوا من شيعته ما أبادوا، وبقي قبرُ الحسين مشعلاً للحركة والثورة، جاء هارون الرشيد وقطع السّدرة التي كانت تظلل زوّار الحسين وبقي الزوّار على حالهم، وجاء المتوكلُ العباسي وحرث القبرَ وحوّله إلى أرض وأخفى معالمه، يقول ابن الأثير في كتابه الكامل أنّ المتوكّل العباسي كسر الصندوق الذي كان على القبر وحرث القبر وجعله رميمًا وأراق الماءَ على القبر حتى تنمحي كلّ آثاره، فأقبل جماعة من الشيعة في ظلام الليل وصاروا يقبضون من التراب قبضة قبضة ويشمونها إلى أن وصلوا إلى قبضة شموها ففاحت منها رائحة الطيب فعرفوا أنه قبرُ الحسين.

أرادوا  ليخفوا  قبره عن عداوةٍ   وطيبُ تراب القبرِ دلّ على القبرِ

وقد يستغرب الإنسان من هذا، هل لتربة الحسين خصوصية حتى تُشَمَّ؟! الرّسول شمّها قبل أي مخلوق آخر، راجع أحمد بن حنبل في مسنده، راجع ابن حجر في الصواعق المحرقة، البيهقي في سننه، هم يقولون، يقولون: نزل جبرئيل بتربةٍ حمراءَ على النبي وناوله إياها فشمّها النبي، يعني: فيها عطرٌ، فيها طيبٌ، وإلا التراب لا يُشَمّ، شمّها النبي معناه أنها تربة لها تميّزٌ، لها خصوصيّة، شمّها النبي المصطفى وانحدرت دموعه على خديه، قال: ما هذه التربة؟ قال: هذه تربة يُقْتَلُ فيها ولدُك الحسينُ.

فالشّيعة الإماميّة عندما يكرّمون تربة الحسين ويسجدون عليها إنما هم يقتدون بالنبي المصطفى الذي ميّزها على كلّ تربة لأنه شمّها ولم يشم تربة أخرى، وشمّ النبي إكرامٌ واحترامٌ لا يتوفر لأي تربة أخرى، وكانت كربلاء مهد الثورات ومهد الحركات ومنطلقًا لصوت الحسين عليه السّلام، فبقيت الشعائرُ الحسينيّة من اللطم والعزاء والبكاء وجميع ألوان الشعائر تنطلق من أرض كربلاء الحسين ، خصوصًا شعيرة اللطم، شعيرة اللطم التي اتفق كل علماء الشيعة على أنها شعيرة مستحبة مؤكّدة من الشعائر الرّاجحة التي لا كلام فيها ولا تردّد فيها، شعيرة اللطم شعيرة ورثها الشيعة من الأئمة الطاهرين، من نساء الحسين، من أطفال الحسين، من أيتام الحسين، شعيرة اللطم سار عليها الشيعة منذ ذلك اليوم.

وكان مراجع الشيعة في النجف الأشرف وغيرها يسيرون في مواكب اللطم إحياءً لهذه الشعيرة وتعظيمًا لهذه الشعيرة، ومازل إلى الآن في قم المقدسة المراجع يسيرون في بعض مواكب اللطم، خصوصًا في أيام وفاة السّيّدة الزهراء سلام الله عليها حيث يخرج المراجعُ، منهم: الأستاذ الشّيخ التبريزي والأستاذ الشيخ الوحيد الخراساني - دام ظلهما الشّريف - إحياءً لهذه الشعيرة وتعظيمًا لها ألا وهي شعيرة اللطم.

المحور الثاني: في دفع بعض الشبهات حول الثورة الحسينية.

الشبهة الأولى: قد يقول قائلٌ: إذا كان هدف الحسين إصلاح القيادة فإنّ هذا الهدف لم يتحقق، لأن الحسين قُتِلَ ولم تصلح القيادة، بل بقي الحكمُ الأموي بعد مقتل الحسين سبعين سنة من 61 إلى 132، فهدف الحسين لم يتحقق، إذن حركة الحسين كانت حركة عبثية عقيمة لأنها لم تحقق هدفها.

الجواب: هدف الحسين كما ذكرنا الإصلاح، ومن مصاديقه إصلاح القيادة، لكن تحقق له مصداقٌ آخر ألا وهو إصلاح الأمة، يعني: حركة الحسين هي التي أيقظت ضميرَ الأمة، قبل الحسين كانت الأمة مخدّرة، كانت الأمة نائمة، كانت الأمة غافلة، الحسين بحركته أوقظ ضميرَ الأمة، وحرّك إرادتها، ونبّهها من سباتها ومن نومها، فبمجرّد أن قُتِلَ الحسينُ انفجرت الثوراتُ من الأمة، صحيحٌ أنّ الحكم الأموي بقي سبعين سنة لكن ما استقر سنة واحدة، كان متزلزلاً بين الثورات والحركات والانتفاضات، ثورة الحسين قامت بعدها ثورة التوّابين، قامت بعدها ثورة المختار، قامت بعدها ثورة زيد، قامت بعدها ثورة الحسنيين، الثورات توالت وكلها كانت تنادي بصوت الحسين، فاستمرّ ضميرُ الأمة يحاسب الدولة، ويراقب الحكومة الأمويّة، ويعترض عليها، وبقي هذا الصوتُ صامدًا إلى أن يخرج قائمُ آل محمّد فينادي: يا لثارات الحسين.

الشبهة الثانية: إذا كان هدفُ الحسين إصلاحَ المجتمع فالحسين قد أفسد المجتمع، كما تقول بعضُ الأقلام الإسلاميّة مع الأسف، هناك كتابٌ مطبوعٌ: أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، وأخذ عليه الكاتب شهادة الدكتوراه، وفي هذا الكتاب ذكر بأنّ الحسين أحدث فتنة بين المسلمين، يزيد كان أميرًا للمؤمنين ولكن الحسين أحدث فتنة بين المسلمين! الحسين كان هدفه الإصلاح لكنه ما أصلح بل أحدث فتنة، فنقض هدفه، وضرب بأهدافه عرض الحائط؛ لأن المسلمين انقسموا بعد الحسين إلى مؤيّدين ومعارضين، وهذا ليس إصلاحًا بل فتنة.

والجواب عن ذلك:

أولاً: بأنّ انقسام المسلمين لم يأتِ من يوم كربلاء وإنّما أتى من يوم الجمل، فلا تكن غافلاً، الذي قسّم المسلمين هو حرب الجمل التي قسّمت المسلمين إلى قسمين، لا أنّ الحسين بن علي هو الذي قسّم المسلمين وأحدث فتنة بين المسلمين.

وثانيًا: إذا كانت كلّ حركة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر تعتبر فتنة يجب القضاء عليها إذن فلابد أن نلغي النداءات القرآنية التي تقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ! وما صدر من الحسين إلا السّير على هدي القرآن ونداء القرآن، فإذا لم يقبل المسلمون بذلك فهذا ليس قدحًا في الحسين الذي سار على مبدأ القرآن وإنّما القدح في الطرف الذي لم يقبل صوتَ الحسين ولم يقبل نداءَ الحسين.

الشبهة الثالثة: إذا كان الحسين قد سار من أجل الإعزاز ومن أجل رفع الذلّ فإنّ الحسين وقع في الذلّ بحركته؛ لأنّ الحسين لمّا قُتِلَ سُحِقَ جسمُه، ومُثلَ برأسه، وسُبِيت نساؤه، وقيّدَ أبناؤه، فالحسين أراد أنْ يرفع الذلّ لكنه وقع في الذلّ نتيجة معركته التي خاضها، فلم يحقق هدفه.

الجواب عن ذلك: الإذلال الذي وقع، الاعتداء الذي وقع على جسم الحسين وعلى نساء الحسين وعلى زين العابدين صحيحٌ أنه كان فاجعة وكان هتكًا لحرمة رسول الله وكان هتكًا لحرمة آل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولكن مع ذلك ما كان إذلالاً للدّين بل كان إعزازًا للدّين، المجزرة التي جرت على آل بيت رسول الله ركّزتهم في القلوب أكثر وأكثر، اعتقد لولا هذه المجزرة ولولا السّحق والرّضّ والسّبي والتّقييد لكانت قضية الحسين قضية عادية جدًا لا تستحقّ أنْ يُحْتَفَلَ بها وأنْ يُهْتَمّ بها «بنظر بعض المسلمين طبعًا»، ولكن لأنّ قضيّة الحسين اقترنت بالدّم، واقترنت بالسّبي، واقترنت بالتّعذيب، واقترنت بالألم، واقترنت بالحسرة، لذلك صارت صورة للمظلوميّة - لمظلومية آل البيت سلام الله عليهم - فكانت هذه الألوان المأساويّة وسيلة إعلامية خدمت مذهبَ أهل البيت، وخدمت الحسينَ، وخدمت الدّينَ، فكانت عزًا للدّين، ولذلك قال غاندي: «علمني الحسين أنْ أكون مظلومًا فأنتصر»، لأن الحسين صار مظلومًا صار شعارًا لنصره، فهذه الألوان لم تكن إذلالاً للدّين وإن كانت هتكًا لحرمة رسول الله ، جاءت إعزازًا للدّين لأنّها رسّخت حبّ آل البيت ومظلوميّة آل البيت، ولذلك قال الحسينُ: ”شاء اللهُ أنْ يراني قتيلاً وأنْ يرى النساءَ سبايا“.

وكانت معركة كربلاء المعركة الدّامية، المعركة المروّعة، ”إنّ لجدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا“...

والحمد لله رب العالمين