الإمام الهادي وحركة الأمر بالمعروف

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

من الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين الإمام الهادي صلوات الله وسلامه عليه، وحديثنا عن الإمام الهادي عن الخصائص التي يتميّز بها منهجُه الفكري، إذا قرأنا فكر أهل البيت نجد أن لكلّ إمام بعضَ الخصائص لمنهجه في مجال طرح الفكر، فكرهم واحدٌ ولكنّ المنهج في الطرح قد يختلف نتيجة اختلاف الظروف ونتيجة اختلاف المواقع، لأجل ذلك ترى أنّ لكل إمام منهجًا في مجال الطرح قد يتميّز عن منهج الإمام الآخر.

1/ نلاحظ أنّ الإمام عليًا كان منهجه منهجًا فلسفيًا، كان الإمام يركّز على المنهج العقلي والفلسفي في إيصال أفكاره إلى الأمة الإسلاميّة.

2/ بينما كان الإمام زين العابدين سلام الله عليه يركّز على المنهج الرّوحي، يعني: يخاطب الرّوح، كان يوصل أفكاره العقليّة عبر المفاهيم الرّوحيّة وعبر خطاب الرّوح.

3/ بينما كان منهج الإمامين الصّادقين الباقر والصادق سلام الله عليهما كان منهج التأصيل للفكر الإسلامي والذي يعني نقد المناهج الأخرى وبيان الجذور الإيجابيّة للفكر الإسلامي.

4/ منهج الإمام الرّضا كان منهجًا خلافيًا، يعني أن الإمام الرضا كان يركّز على المقارنة بين الفكر الإمامي والفكر الآخر، فكان يركّز على نقاط التباين والخلاف بين الفكر الإمامي والفكر الآخر.

5/ الإمام الهادي سلام الله عليه كان له منهجٌ أيضًا في مجال طرح الفكر، وهناك عدة سمات وخصائص لمنهج الإمام الهادي في مجال طرح الفكر، نحن نركز على ثلاث خصائص في هذا المجال:

الأولى: تصوير الإمام الهادي لحركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولاً وسلوكًا.

تعرفون أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأهداف القرآنيّة العليا، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وورد عن النبي محمّدٍ : ”لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو يسلطنّ عليكم شرارُكم ثم يدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم“، ولكن كيف تعامل المسلمون مع هذه المسؤولية الاجتماعيّة «مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؟

نحن نلاحظ أنّ بعض المسلمين تعامل معها تعاملاً حرفيًا، هناك فرقٌ بين التعامل الحرفي والتعامل الرّوحي، التعامل الحرفي يعني أن تجمد على الألفاظ الواردة في النصوص الشرعية ومن خلالها تقوم بالمسؤولية، بينما التعامل الروحي هو أن تقرأ الأهداف والمقاصد لهذه المسؤولية ولهذا الواجب.

مثلاً أضرب لك مثالاً: الإنسان عندما يحج إلى بيت الله الحرام ويرمي جمرة العقبة بسبع حصيات في أيام رمي الجمار، كثيرٌ من المسلمين يتعامل مع الرمي معاملة حرفية، يعتقد أن الواجب هو أن ترمي سبع حصيات وتنتهي المشكلة، هذا هو الواجب، ولذلك فهو من باب الحرص على أداء الواجب قد يؤذي الآخرين، قد يدخل في شجار مع الآخرين، قد يدخل في معركة حتى يصل إلى جمرة العقبة ويرمي، هذا الفهم فهمٌ حرفيٌ، هذا يفهم رمي الجمار بهذا الشكل الحرفي فيقوم به بأي وسيلة ممكنة لديه، بينما إذا التفت إلى أن رمي الجمار هو صورة من صور البراءة من الشيطان، رمي الجمار هو صورة من صور الخلاص من الشيطان، إذن لابد أن تقرأ رمي الجمار قراءة روحية وهي أنها صورة من صور التخلص من الشيطان، لأجل ذلك كيف يمكن للإنسان أن يتبرأ من الشيطان بطاعة الشيطان؟! كيف يمكن للإنسان أن يتبرأ من الشيطان وهو يؤذي الناس ويدخل معهم في شجار أو صدام أو عراك؟! إذن فهو يضحّي بالأهداف في سبيل حرفية الواجب، هذا تعامل حرفيٌ مع هذه الشعيرة ومع هذا الواجب.

إذن التعامل مع الواجبات قد يكون تعاملاً حرفيًا، وهو الجمود على الألفاظ، وقد يكون تعاملاً روحيًا، وهو قراءة أهداف ومقاصد هذه الواجبات، نأتي إلى مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كثيرٌ من المسلمين تعامل مع هذه المسؤولية معاملة حرفية، يعني قرأ الآيات ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ فقال: الآيات عبّرت بالنهي، والنهي هو الزجر، إذن مسؤولية النهي عن المنكر هي أسلوب زجر وصدام، فهو يفسّر المسؤولية بأسلوب الزجر والصدام، ولذلك يمارس مسؤولية الأمر بالمعروف بدافع الصدام، بدافع الهجوم، بدافع إحراج الآخر وإسقاط الآخر، هذا تصورٌ خاطئٌ، هناك تصوران خاطئان لمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة التعامل الحرفي مع هذه المسؤولية:

التصور الأول:

أن النهي عن المنكر أسلوبٌ هجوميٌ صداميٌ، مع أننا لو تأملنا في النصوص نجد أن مسؤولية النهي عن المنكر أسلوبٌ علاجيٌ وليس أسلوبًا صداميًا، فاعل المنكر مريضٌ كسائر المرضى، المرض قد يكون مرضًا جسميًا، قد يكون مرضًا نفسيًا، قد يكون مرضًا عقليًا، فاعل المنكر مريضٌ مرضًا نفسيًا، نفسه أسيرة لشهواته ولغرائزه، فاعل المنكر إنسانٌ مريضٌ، والمريض لا يمكن أن ترفع عنه المرضَ بالأسلوب الصدامي، بالأسلوب الهجومي، لا يمكن رفع المرض من المريض إلا بالأسلوب العلاجي، المريض يحتاج إلى علاج، فكما أن المريض إذا أتى إلى الطبيبِ الطبيبُ لا يهاجمه، الطبيب يقوم أولاً بدراسة المرض من خلال دراسة أسبابه، ثم يقوم بتشخيص المرض، ثم يقوم بتحديد أساليب العلاج لهذا المرض، أيضًا فاعل المنكر هكذا، يجب أن تتعامل مع فاعل المنكر كإنسان مريض يستحق الدراسة، لابد أن تدرس أسباب إقباله على المنكر، ما هو تشخيص المنكر الذي قام بفعله، ما هي الأساليب والوسائل لعلاجه من خلال إبعاده عن فعل هذا المنكر، فاعل المنكر مريضٌ ويحتاج إلى الرفق والعلاج، وليس فاعل المنكر عدوًا كي يُتْعَامَلُ معه بأسلوب الهجوم والصدام، إذن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسلوبٌ علاجيٌ لا أسلوبٌ صداميٌ.

وأنت إذا قرأتَ الآيات القرآنية التي تتحدث عن النبي محمّدٍ كيف كان يتعامل مع العصاة، كيف كان يتعامل مع أهل المنكرات، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، إذن فاعل المنكر لابد أنْ يُتْعَامَلَ معه معاملة الرفق، معاملة المريض، معاملة العلاج، كما ذكر القرآنُ الكريمُ.

قد يقول قائلٌ: إذن فما معنى قوله : ”مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه“؟! إذن الرسول يأمرنا باستخدام القوة! ”فليغيّره بيده“ كيف نتعامل مع المنكر معاملة المرض والرسول يأمرنا باقتلاعه بالقوة؟!

نقول: لا، اليد في اللغة العربية كناية عن القدرة، ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يعني ماذا؟ يعني قدرة الله فوق قدراتهم، اليد كناية عن القدرة، ”مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده“ يعني: فليبذل قدرته وطاقته وجهده في سبيل اقتلاع المنكر لا أن يستخدم أساليب العنف والقوة في سبيل القضاء على المنكر، نعم إذا توقف استئصال المنكر على استخدام القوة هذه المرحلة الأخيرة، المنكر مثل أي مرض خبيث، إذا توقف استئصاله على استخدام القوة حينئذٍ يتعيّن استخدام القوة، ولذلك ورد في بعض الأحاديث الأمر بالتجهم في وجه العصاة ووجه أهل البدع، يعني: إذا توقف ردعهم على ذلك، على هذه الأساليب الشّديدة، على هذه الأساليب العنفيّة، هذا هو التصور الأول الناشئ عن التّعامل الحرفي مع مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

التصور الثاني:

نحن إذا قرأنا الرسائل العملية نجد في الرسائل العملية موجود أن وجوب النهي عن المنكر مشروط بالقدرة، يعني: إذا كنتَ قادرًا على النهي عن المنكر يجب عليك، إذا لم تكن قادرًا لا يجب عليك، ما معنى القدرة؟

هنا يأتي التعامل الحرفي والتعامل الروحي، إذا كان الإنسان يتعامل مع النصوص معاملة حرفية فإنه يفسّر القدرة ب «القدرة الفعليّة»، ما لم أكن قادرًا فعلاً على النهي عن المنكر لا يجب عليّ النهيُ عن المنكر، بينما لو تعامل مع النصوص معاملة روحية فإنه يفسّر القدرة ب «القدرة الإعداديّة»، ما معنى ذلك؟

لماذا هذه النصوص أمرتنا بالنهي عن المنكر؟ لماذا ورد عن النبي : ”لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر“؟ لماذا؟ من أجل القضاء على المنكر ووجود مجتمع سليم نقي من المنكرات، فلو احتجّ كل شخص منّا بأنني غير قادر، أنا غير قادر أن أنهى الناس عن المنكر، لو كلّ شخص منا تذرّع بأنه غير قادر لانتشرت المنكرات واستحكمت المعاصي وأصبح المجتمع مجتمعًا ملوثًا، إذن لا يمكن لنا أن نقرأ النهي عن المنكر قراءة روحية من خلال أهدافه إلا إذا قلنا بأن المقصود بالقدرة في لسان الفقهاء «القدرة الإعدادية» لا «القدرة الفعلية».

أضرب لك مثالاً: أنا الآن عندما أجد امرأة عند إشارة المرور تتسوّل مثلاً، وأنا أرى أنّ التسول ظاهرة سلبية خطيرة، تسوّل المرأة بالذات قد يقود إلى علاقات غير مشروعة، قد يقود إلى جرائم، أنا عندما أجد هذه الظاهرة إذا تعاملت مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معاملة حرفية سوف أقول: أنا غير قادر على أن أنهاها عن المنكر لأنني لو طلبتُ منها أن تترك التّسوّل لن تستجيب لي ولربما تلصق بي تهمًا تُسْقِط سمعتي بين الناس، فأنا لا أقدر فعلاً على نهيها، إذن أنا خالي المسؤولية، ولكن إذا قرأتُ الأمر بالمعروف قراءة روحية من خلال أهدافه أقول: القدرة هي «القدرة الإعدادية»، أنا فقدتُ «القدرة الفعلية» لكن ما فقدتُ القدرة الإعدادية، بإمكاني أن أسأل عنها، بإمكاني أن أعرف أهلها، بإمكاني أن أحاور أهلها، بإمكاني إذا اكتشفتُ أنّ سبب تسولها حاجتها المادية فبإمكاني أن أرفع حاجتها المادية من خلال الاتصال بالجمعيات الخيرية في سبيل تأمين معيشتها وحينئذ تمتنع عن التسول.

إذن أن الإنسان يبذل المحاولات ويبذل الحلول المختلفة هذا أمرٌ يقدر عليه الإنسان، هو غير قادر فعلاً لكن قادر إعدادًا، هذا الذي نريد أن نقول: النهي عن المنكر إذا تعاملنا معه معاملة حرفية سوف نعتبر أنّ النهي عن المنكر أسلوبٌ صداميٌ، إذا تعاملنا معه معاملة حرفية سوف نفسّر القدرة ب «القدرة الفعلية»، وبالتالي ستكون ذريعة لدينا في التهرب من هذه المسؤولية، أما إذا قرأناه قراءة روحية وقرأنا أهدافه عرفنا أن النهي عن المنكر علاجٌ لا هجوم، رفقٌ لا عداون، وأنّ المراد بالقدرة «القدرة الإعدادية»، يعني: بذل الجهود في سبيل محو هذا المنكر، كما ذكرنا عن النبي محمّدٍ أنه قال: ”مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده“ يعني: ببذل الجهد والطاقة.

وهنا من أجل أن نقرأ مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قراءة روحية نرجع إلى الإمام الهادي سلام الله عليه، كيف مارس عملية النهي عن المنكر؟ المتوكّل العباسي في ليلة من الليالي في ظلام الليل بعث يحيى بن هرثمة وكان رئيس جنوده، بعثه لاعتقال الإمام، فجاء يحيى بن هرثمة، يقول: نصبتُ السلالم، يعني: ما دخلتُ من الباب، نصبتُ السلالم وسقطتُ إلى البيت عن طريق السّطح، كان البيتُ مظلمًا فلم أهتدِ إلى أين أذهب، فناداني الإمامُ الهادي، قال: يا ابن هرثمة انتظر نأتيك بالشّمعة حتى ترى، يقول: انتظرتُ، جاءني أحدُ خدمه بشمعة، أخذتُ الشّمعة ونزلتُ، فتّشتُ البيتَ دارًا دارًا ما وجدتُ سلاحًا وما وجدتُ شيئًا مثيرًا ووجدتُ الإمام عليه جبّة صوفٍ أو مدرعةٍ من الخلف وهو في غرفة مغلقة جالسًا على الحصى والتّراب يدعو ربّه ويقرأ القرآن، أخذتُ الإمامَ على الحالة التي هو فيها لأنّني مأمورٌ بذلك، أخذتُه، أمسكتُ به، ذهبتُ به إلى المتوكّل العباسي، كان المتوكّل في مجلس الخمر بين ندمائه، بين الجواري الرّاقصات والمغنّيات، دخل الإمامُ الهادي، قال المتوكل: اجلس، جلس، قال: اسقوه خمرًا، أتِيَ بالخمر إلى الإمام، قال: ما خالط لحمي ولا دمي، قال: إذا لم تشرب معنا فأنشدنا شعرًا يؤنسنا «أحضر لنا شعرًا غزليًا مثلاً يؤنسنا ويفرحنا»، فالإمام قال: اعفني أنا قليل الرّواية للشّعر، قال: أقسمتُ عليك إلا أن تقرأ لنا شيئًا من الشّعر، هنا اغتنم الإمامُ الهادي الفرصة - لاحظ كيف النهي عن المنكر - وقف الإمامُ وقرأ هذه الأبيات من الشّعر بصوتٍ حزين:

باتوا  على قللِ الأجبالِ iiتحرسُهُمْ

واسْتُنْزِلُوا  بعد  غز مِنْ معاقلِهِمْ

ناداهُمُ   صارخٌ   مِنْ  بعدِ  دفنهم

أينَ  الوجوهُ  التي  كانت  iiمنعّمة

فأفصح القبرُ عنهمْ حِينَ ساءلهُمْ

قد  طالما  أكَلُوا أكلاً وما iiشَرِبُوا









 
غُلْبُ  الرّجال  فلَمْ  تنفعْهُمُ  iiالقُلَلُ

وأسْكِنُوا  حُفرًا  يا  بئسما  نَزَلُوا

أينَ   الأسرّة   والتّيجانُ  والحُلَلُ

مِنْ دونِهَا تُضْرَبُ الأستارُ والكُلَلُ

تلك  الوجوهُ  عليها  الدُودُ  يَقْتَتِلُ

فأصبحوا بَعْدَ طولِ الأكلِ قد أكِلُوا

وانهار المتوكّلُ بالبكاء، وانهار مَنْ معه بالبكاء، حتى أنّ بعض مَنْ معه أصبح من المؤمنين التوّابين، إذن الإمام مارس عملية النهي عن المنكر، لكن كيف مارسها؟ الإمام يريد أنْ يعلمنا من خلال هذه الممارسة أنّ النهي عن المنكر هو ماذا؟ هو الكلمة المؤثرة في الظرف المناسب بالشكل المناسب، ليس النهي عن المنكر أسلوبًا صداميًا، وليس النهي عن المنكر تخليًا وتذرّعًا عن المسؤولية، النهي عن المنكر الكلمة المؤثرة في الظرف المناسب بالشّكل المناسب، لذلك مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى دراسة وتحتاج إلى تخطيط وتحتاج إلى وعي بالوسائل المؤثرة.

الخصوصية الثانية من خصوصيات منهج الإمام الهادي سلام الله عليه: محاربته للغلاة.

الإمام الهادي على نسق وسياق جده الإمام الصادق سلام الله عليه قاد حركة ضد الغلاة، نحن حتى نعرف فحوى الحركة لابد أن نتحدث عن الغلو: ما هو الغلو؟ وما هي مصاديقه؟ لنتعرّف كيف الإمام الهادي حارب ظاهرة الغلو، القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ الغلو تجاوز الحد، هناك حدٌ فمَنْ تجاوزه فهو مغالٍ، ما هي مصاديق الغلو بالنسبة لأهل البيت؟ طبعًا اختلف علماؤنا هنا في تحديد مصاديق الغلو سعة وضيقًا، مفهوم الغلو واضحٌ - تجاوز الحد - لكن ما هو الحد؟ اختلفوا في مصاديق الغلو سعة وضيقًا، الغلو في عبائر فقهائنا وعلمائنا يطلق هذا الغلو على عدة معانٍ:

المعنى الأول: الغلو هو التفويض العزلي، ما هو معنى التفويض العزلي؟

هناك فرقٌ بين التفويض العزلي والتفويض الإذني كما يذكر الفلاسفة:

1/ التفويض العزلي يعني: أننا نعتقد أنّ الله تبارك وتعالى خلق أهل البيت أو غيرهم وفوّض إليهم أمرَ الكون، فهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون مستقلين عن الله، يعني: بينهم وبين الله عزلة، هم مستقلون في الخلق والرزق، هذا يسمّى تفويضًا عزليًا، وهذا شركٌ، وقد حاربه الأئمة الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذلك هناك فرقة الخطابيّة، فرقة المغيريّة، الذين كانوا معاصرين للإمام الصادق ، حاربهم الإمام الصادق لأنهم كانوا يقولون بالتفويض العزلي، الإمام الصادق قال: ”ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، وما لنا على الله مِنْ حجّة، ولا لنا معه من براءة، وإنا لميّتون وموقوفون ومسؤولون، الغلاة كفّارٌ، والمفوّضة مشركون، مَنْ أحبّ الغلاة فقد أبغضنا، ومَنْ أبغض الغلاة فقد أحبّنا، لعن الله الغلاة، ألا كانوا مرجّئة، ألا كانوا حروريّة، ألا كانوا قدريّة“ إذن الإمام الصادق كان شديدًا على الغلاة الذين يطرحون التفويض العزلي.

2/ وعندنا تفويضٌ إذنيٌ: كيف تفويض إذني؟ يعني أن الله تبارك وتعالى يفوّض أحدًا من مخلوقاته بعمل من الأعمال بإذنه، يعني: بقدرته، مثلاً: نقرأ في القرآن الكريم عن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - وهو عيسى - أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ - ما هي الآية؟ - أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ قال: أنا أخلق، لم يقل: الله يخلق، معناه فوّض إليه، ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا - لكن لا باستقلالي - فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ المراد بالإذن هنا الإذن التكويني لا الإذن التشريعي، يعني إذن الله يعني قدرته، يعني: الله أعطاني القدرة على هذا الخلق، ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ هذا يسمّى تفويضًا إذنيًا، التفويض الإذني صحيحٌ لا إشكال فيه، التفويض الإذني ليس غلوًا ولا شركًا ولا كفرًا.

المعنى الثاني من معاني الغلو: التفويض بمعنى إفاضة الحياة، ما هو معنى إفاضة الحياة؟

نحن الآن عندما نأتي إلى خلق الجنين، الجنين كيف يُخْلَق في بطن الأم؟ الجنين يُخْلَق نتيجة اتصال الذكر بالأنثى، أو طريق آخر من الطرق، المهم أنّ هناك طريقًا، واسطة مادية، أنّ الجنين يُولَد أو يُخْلَق في بطن أمّه بواسطة مادية، مثل اتصال الذكر بالأنثى، مَنْ الذي وهب الحياة؟ الله، ولكن وهب الحياة بواسطة، وهي اتصال الذكر بالأنثى، الله شاءت حكمته أنْ يهب الحياة بالواسطة، يمكنه أنْ يهب الحياة بدون واسطة بشكل مباشر، لكن شاءت حكمته أنْ يهب الحياة وأنْ يفيض الحياة بالواسطة، فهو وهب الجنين الحياة بواسطة مادية، وهي اتصال الذكر بالأنثى، فالمفيض للحياة هو الله وإن كانت هناك وسائط مادية.

نفس الشيء بالنّسبة إلى عيسى بن مريم، أو مثلاً غيره، عيسى بن مريم عندما صوّر من الطين طيرًا مَنِ الذي وهبه الحياة؟ الله، عيسى بن مريم كان واسطة، لو قلنا بأن عيسى بن مريم هو المفيض للحياة فإنّ هذا تفويضٌ، كفرٌ، غلوٌ، المفيض للحياة هو الله لكنّ عيسى بن مريم كان واسطة في الإفاضة، الفلاسفة يقولون: شرط متمّمٌ لقابليّة القابل وليس مصحّحًا لفاعليّة الفاعل.

إذن أهل البيت عندما يكونون وسائط في إفاضة الحياة فهذا ليس شركًا ولا غلوًا ولا كفرًا؛ لأنّ المفيض للحياة هو الله، وأهل البيت مجرّد وسائط في الإفاضة وشروط للإفاضة ليس إلا، إذن المعنى الثاني للتّفويض الذي هو غلوٌ وكفرٌ: الاعتقاد بأنّ أهل البيت هم المفيضون للحياة، هذا مستنكرٌ، هذا المعنى الثاني.

المعنى الثالث للتفويض: التفويض في أمر الدّين.

ورد في الرّواية عن الإمام الصّادق سلام الله عليه: ”إنّ الله فوّض إلى نبيه أمرَ دينه - كيف فوّض إلى نبيه أمرَ دينه؟ - فقد فرض اللهُ الصّلاة ركعتين وزادها رسولُ الله ركعتين - الله فرض ركعتين فقط، الرّسول زادها ركعتين - فما فرضه الله يبقى في السّفر والحضر، وما زاده رسول الله يسقط في السّفر، وحرّم اللهُ الخمرَ، وحرّم رسولُ الله كلّ مسكر، وفرض اللهُ الزكاة، وسنّها رسولُ الله في تسعة أشياء“ الإبل والبقر والغنم والغلات الأربع والذهب والفضة، إذن الرسول أعْطِيَ مساحة، أعْطِيَ مساحة مِنْ التّشريع، أنْ يشرّع بيده، لماذا؟

لأن الرسول كان نفسًا قدسية، الله تبارك وتعالى خلق النفس القدسية ووهبها العلم اللدني الذي شرحناه في الليلة السابقة، والنفس القدسية الطاهرة إذا وُهِبَت العلم اللدني دائمًا تكون مصيبة في تصوّراتها، دائمًا قرارتها تكون على طبق المصلحة العامة للمجتمع الإنساني، النفس القدسية المُلْهَمَة بالعلم اللدني دائمًا تصيب الواقع، دائمًا قرارتها على طبق المصالح العامة للمجتمع الإنساني، وهذا ما ذكرناه في حديث النبي عن فاطمة الزهراء: ”فاطمة بضعة مني، يرضا الله لرضاها، ويغضب لغضبها“ يعني: هي نفسٌ قدسية مُلْهَمَة بالعلم اللدني، إذن لا تصيب إلا الواقع ولا تخطئ الواقعَ أبدًا.

إذن الله فوّض إلى النبي أمرَ الدين، قال له: أنا فرضتُ ركعتين، أنت تصرّف بما تريد، فرض الرّسولُ ركعتين لأنّ نفسه القدسيّة بما أوتيت من العلم اللدني أدركت الواقع ورأت أنّ المصلحة العامّة للمجتمع البشري تقتضي زيادة ركعتين، فزاد رسولُ الله ركعتين، هذا معنى ”إنّ الله فوّض إلى نبيه أمرَ دينه“ وهذا ليس غلوًا ولا شركًا ولا كفرًا، ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.

هل أنّ أهل البيت فوّض إليهم أمرُ الدين؟ يعني: هل أنّ أهل البيت أيضًا يشرّعون بحسب ما تُدْرِك نفوسهم القدسيّة الطاهرة المُلْهَمة بالعلم اللدني أم لا؟ هذا محلّ خلافٍ بين علمائنا، بعض العلماء يرى التفويض، بعض العلماء لا يرى التفويض، بعض العلماء يستدل بهذه الرّواية: ”إنّ الله فوّض إلى نبيه أمرَ دينه وخلقه، فما فوِّض إلى محمّدٍ فقد فوّض إلينا“ كما في بعض الرّوايات، بعض علمائنا لا، يقول: لم يفوّض لأهل البيت أمرُ التّشريع، ومن علمائنا السّيّد الأستاذ السّيّد السّيستاني دام ظله، والشّيخ الأستاذ الشّيخ التّبريزي دام ظله، ينكرون التّفويض، يقولون: النبي فوّض إليه أمرُ الدين، أمّا أهل البيت فلم يفوّض إليهم مسألة التشريع، لماذا؟ لا لقصور فيهم وإنّما لأنّ التشريع اكتمل، التّشريع اكتمل منذ زمن النبي محمّدٍ ، كما نلاحظ هذه الرّواية عن الإمام الصادق عليه السّلام: وإنّ عندنا الجامعة، قيل: وما الجامعة؟ قال: ”كتابٌ بإملاء رسول الله وخط علي بن أبي طالب، فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة“، فالتّشريع اكتمل منذ زمن النبي فلم يبقَ مورد ومساحة إلى أنْ يفوّض لأهل البيت صلوات الله عليهم أمر التّشريع، إذن التّفويض بهذا المعنى محلّ خلافٍ، هذا المعنى الثالث للغلو.

المعنى الرابع للغلو: أنّ العبادة رجلٌ.

هذه الفرقة فرقة حدثت في زمان الإمام الهادي، ولهذا نحن استشهدنا بالإمام الهادي على مسألة الغلو، هناك شخصٌ يسمّى علي بن حسكة قاد فرقة في زمان الإمام الهادي، هذه الفرقة تقول: العبادة رجلٌ، ما معنى العبادة رجل؟ مثلاً قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ قال: الصلاة هي الإمام، مَنْ عرف الإمام المعصوم بلغ الكمال، فلا حاجة أن يصلي ولا أن يصوم، الصلاة رجلٌ والصيام رجلٌ والزكاة رجلٌ والحجّ رجلٌ، العبادة رجلٌ، من عرف الرجلَ - وهو الإمام المعصوم - استغنى عن كلّ هذه الطقوس من الصلاة والصيام والصوم والحج، هذه فرقة عاصرت الإمام الهادي سلام الله عليه واعتبرها الإمام فرقة غلو ووقف منها موقفًا صارمًا، نُقِلَ إليه الأمرُ فقال: ”والله ما بعث اللهُ محمّدًا والأنبياء من قبله إلا بالحنيفيّة والصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة والولاية، وما دعا محمّدٌ إلا إلى «لا إله إلا الله، محمّدٌ رسول الله»، وكذلك ما دعا أوصياؤه إلا لما دعا إليه، والله ما لنا على الله حجّة، ولا معنا معه من براءة، إن أطعناه رحمنا، وإن عصيناه عذبنا، لعن اللهُ الغلاة، ليسوا على ديننا فاعتزلوهم“.

وكان هناك واحد اسمه فارس بن حاتم كان يقود حركة الغلو، أتدري أن الإمام أمر بقتله؟! أمر بقتله، ولذلك فقهاؤنا يعتبرون الغلاة كفارًا، يعني يعتبرون الغالي كافرًا نجسًا، الإمام الهادي أمر بقتله، قال: ”من يقتل فارس بن الحاتم ويريحني منه أضمن له على الله الجنة“، وفعلاً قامت مجموعة من أصحاب الإمام وهو خارج من المسجد ضربوه بسيوفهم فقضوا عليه، الإمام الهادي حارب الغلو بهذا المعنى الأخير ألا وهو معنى أن العبادة رجلٌ.

المعنى الأخير للغلو: وهذا صار محل خلافٍ بين علمائنا الأوائل، أما الآن انتهى، كيف؟

عندما نقرأ كلام الشيخ الصدوق عليه الرّحمة، الشيخ الصدوق يذكر في كتابه «من لا يحضره الفقيه، في الجزء الأول، في أحكام السّهو في الصلاة» هناك رواية أنّ النبي سها، يعني: صلى صلاة الظهر ركعتين وهو في المدينة ثم استدبر القبلة، فقال له المسلمون: أقصرت الصلاة يا رسول أم سهوتَ؟ قال: ما قصرت ولا سهوتُ، قالوا: بلى، أنت صليتَ ركعتين، فالتفتَ ورجع وأكمل الصلاة، طبعًا هذه الرواية موجودة عند إخواننا أهل السنة وموجودة عندنا أيضًا، حتى عندنا في كتب الشيعة الشيخ الصدوق نفسه يذكرها، في كتاب «من لا يحضره الفقيه» يذكرها بأسانيدَ صحيحة.

الشيخ الصدوق بعد ذلك يعلق، يقول: «وإنّ الغلاة والمفوّضة أنكروا سهوَ النبي «قالوا: النبي لا يسهو» وقالوا: لو سها في الصلاة لسها في التبليغ، ولا يجوز القياس «يعني: قياس الصلاة على التبليغ» فإن النبوة - هذا كلام الشيخ الصدوق - فإن النبوة حالة خاصة والتبليغ من شؤونها فلا يقع عليه السهو فيما اختص به «وهو التبليغ» وأما الصلاة فهي حالة مشتركة «هو يصلي وغيره يصلي» فيقع عليه ما يقع على غيره، وسهو النبي ليس كسهونا لأن سهونا من الشيطان وسهو النبي بإسهاء من الله تبارك وتعالى كي لا يُعْتَبَر بين العباد ربًا فيُعْبَد من دون الله تبارك وتعالى»، ثم قال: «وإني أحتسب الأجر «يعني: أفكّر في الثواب» في تصنيف كتاب في سهو النبي والرد على من أنكر ذلك»، ثم نقل عن أستاذه، قال: «وقال شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد: إنّ أول الغلو نفي السهو عن النبي».

لاحظ الشيخ الصدوق وأستاذه ومذهب القميين، في ذلك الزمان كان هناك حوزة في قم، في زمان الأئمة - زمان الإمام الهادي والعسكري والغيبة الصغرى - كانت هناك حوزة شيعية في قم، القمّيّون أغلبهم على هذا المذهب: أنّ مِنَ الغلو نفي السّهو عن النبي، أول الغلو نفي السهو عن النبي، طبعًا العلماء الذين كانوا معاصرين للصدوق والذين أتوا من بعده ردّوا عليه، هذه المسألة ليست مسألة.. المسألة دليل عقلي، العقل، العقل يرى استحالة السهو على النبي ؛ لأن النبي لو سها لتطرق الشك إلى شخصيته، وإذا تطرق الشك إلى شخصيته انتفى الهدف من بعثته؛ لأن الهدف من بعثته هو وثوق الناس به وقبولهم لقوله، فلو عرض عليه السهو أو النسيان لتطرق الشك إليه، وإذا تطرق الشك إليه انتفى الهدف من بعثته.

إذن العقل يحكم باستحالة السهو على النبي، وهذه الرواية وإن كانت صحيحة سندًا لكن نضرب بها عرض الحائط، يعني: نرد علمها إلى أهلها، لماذا؟ لأنها تتنافى مع العقل، كلّ رواية تتنافى مع العقل القطعي تطرح، لماذا؟ لأن ديننا دينٌ عقلانيٌ، وفكرنا فكرٌ عقلانيٌ، يسير على أسس العقل ومنطق العقل، إذن رواية تتنافى مع منطق العقل القطعي تطرح الرواية، لذلك العلماء المعاصرون للصّدوق ومن بعده ردّوا عليه وأوسعوا الرّدّ، قالوا: الشيخ الصدوق اشتبه في هذه الفكرة، أخطأ في هذه الفكرة، لا يمكن السهو على النبي ، ومن قال بأنّ النبي لا يسهو فقد محض الإيمان محضًا لا أنّ نفي السهو من الغلو أو من درجات الغلو.

إذن مسألة الغلو من حيث المفهوم واضحة - وهي تجاوز الحد - ولكن من حيث المصاديق قد يختلف فيها بعضُ علمائنا نتيجة اختلافهم في حدود دائرة الغلو بالنسبة للفكر الإمامي، والأئمة إنّما حاربوا الغلو - كالإمام الهادي - من أجل صيانة الفكر ومن أجل تحصين الفكر، كما ذكرنا في ليلة السابع من المحرم أن كل إنسان يؤسّس مشروعًا ثقافيًا لابد أن يقوم بتحصين مشروعه، لا يكفي أن تؤسّس مشروعًا ثقافيًا وتنسحب، بل لابد أن تكون عندك حركة صيانة لهذا المشروع، حركة حصانة لهذا المشروع، بمعنى أنك لابد أن تقرأ مشروعك الثقافي في كل مرحلة من مراحله لتتعرّف على الأفكار الدخيلة والأفكار الأصيلة، لابد لكلّ قائد لأي مشروع ثقافي أن تكون عنده عملية تحصين وعملية صيانة لمشروعه، وإلا فإنّ مشروعه يتبخر ولا يبقى فاعلاً حيًا، وهكذا فعل الأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين.

الخصوصيّة الثالثة من خصوصيّات المنهج الفكري للإمام الهادي صلوات الله وسلامه عليه:

الإمام الهادي صلوات الله وسلامه عليه أسّس من خلال منهجه الفكري منهج مرجعيّة القرآن، كيف يعني مرجعية القرآن؟ الإمام الهادي كان دائمًا يستند إلى القرآن، إذا أصدر حكمًا يحضر دليلاً من القرآن، إذا حاور العلماء وناظرهم يحضر أدلته من القرآن، كان يؤكّد على مرجعيّة القرآن الكريم، أذكر لك بعض القصص في هذه الناحية:

1/ المتوكّل العباسي جيء له برجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، يعني: زنا بها، بعد أن جيء به إلى المتوكّل خاف أن يقام عليه الحد، قال: خلاص أنا صرتُ مسلمًا معكم! «لا إله إلا الله، محمّدٌ رسول الله» أنا صرتُ مسلمًا! اختلف الفقهاءُ، بعض الفقهاء قال: اجلدوه مئة جلدة، بعض الفقهاء قال: سبعين جلدة، يحيى بن أكثم قاضي القضاة في الدولة العباسية قال: لا يُجْلَد، هدم إيمانُه شركَه وجُرْمَه، هذا يشير إلى قاعدة فقهية تسمّى قاعدة الجب، قاعدة الجب: الإسلام يجبّ ما قبله، يعني لو افترض واحد كافر عاش كافرًا أربعين سنة لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا شيء، بعد أربعين سنة صار مسلمًا، يعني يقضي صلوات أربعين سنة؟! هذا إذا تقول له يقول لك أنا لا أسلم أحسن لي! صح لو لا؟! يقضي صلوات أربعين سنة ويصوم أربعين سنة ويطلع زكاة أربعين سنة... لا يقدر، هنا جاءت القاعدة الفقهية: الإسلام يجبّ ما بعده، ليس عليه صلاة ولا صيام، خلاص.

هذا يحيى بن أكثم أراد أن يطبق القاعدة الفقهية هنا، قال: هذا زنا وعليه الحد لكن لمّا أسلم هدم إيمانُه شركَه وجُرْمَه، المتوكل العباسي كتب إلى الإمام الهادي والإمام الهادي كان في المدينة، سأله عن المسألة، كتب إليه الإمامُ الهادي: يُضْرَب حتى يموت، يعني: يُرْجَم لا فقط جلد، وصل الخبرُ إلى يحيى بن أكثم، جاء يحيى بن أكثم إلى المتوكل، قال: يا خليفة المسلمين إن هذا لم ينزل به كتاب ولم تدر به سنة، من أين جاء به الهادي؟! هذا لا بالقرآن موجود، لا بالسنة النبويّة موجود، من أين جاء بهذا الحكم؟! كتب المتوكل إلى الإمام الهادي، رد عليه الإمام الهادي بالقرآن، قال: اقرأ قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ فأقام عليهم الحجة.

2/ مرة أخرى جاءت مسألة إلى علماء البلاط، علماء البلاط يعني: علماء السّلطة، علماء القصر الذين كانوا تحت يد المتوكل العباسي، جاءت المسألة أنّ رجلاً توفي وكتب في وصيته أنه يُتَصَدّق عنه بمال كثير، قال: تصدّقوا عني بمال كثير، ما ندري ما هو الكثير، خمس مئة درهم، ألف درهم، ألفين درهم، بأي مقدار؟! يعني كثير بأي مقدار؟! ما عرفوا، كتب إلى الإمام الهادي سلام الله عليه، الإمام الهادي كتب: ثمانون درهمًا، قيل له: من أين أتيتَ بهذا؟ قال: مِنَ القرآن، القرآن الكريم يقول: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ فعددنا تلك المواطن التي نصر فيها النبي فرأيناها ثمانين موطنًا، فعرفنا أن الكثير هو ثمانون، هذا من باب التفسير المصداقي، يعني: فسّر مصداق الكثير بالثمانين، بالمواطن التي نصر فيها النبي وعبر عنها بالكثير.

إذن الإمام الهادي كان يركّز على الرّجوع إلى القرآن والاستناد إلى القرآن، لماذا؟

القرآن ينادينا بالتدبر، القرآن الكريم يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا نحن مأمورون بقراءة القرآن ومأمورون أيضًا بالتدبّر في القرآن، كثيرٌ منا مع الأسف ما يقرأ قرآن، ولا في اليوم، ولا في الأسبوع مرة، بينما أنت تقدر، أنت تحفظ، ليس من اللازم أن تفتح القرآن، أنت تحفظ قرآن أم لا؟! ألا تحفظ ثلاثين آية من القرآن؟! اقرأها يوميًا وأنت خارج من المدرسة، خارج إلى السوق، اقرأ، فلنكن من قرّاء القرآن، ورد عن النبي محمّدٍ : ”درجات الجنة بعدد آيات القرآن، فكلما قرأ آية رقى درجة“ وورد عن الإمام الصادق : ”من قرأ عشر آيات لم يُكْتَب من الغافلين، ومن قرأ ثلاثين كُتِبَ من الذاكرين، ومن قرأ خمسين كُتِبَ من القانتين“، اقرأ القرآن، وكما مطلوب منا قراءة القرآن مطلوب أيضًا التدبر في القرآن، يعني أن تقرأ آيات العذاب لتستلهم منها الخوف والعظة والعبرة، ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لكنّ التدبر في القرآن له ثلاث مراحل أذكرها لك سريعًا:

المرحلة الأولى: مرحلة الاستظهار، ما هو معنى مرحلة الاستظهار؟

يعني أن نأخذ الآية بظاهرها، مثل ماذا؟ مثلاً قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ نحن عندما نقرأ الآية ما هو ظاهر الآية؟ ظاهر الآية أنّ جسم الإنسان يبقى، لا يموت، يعني: جسم الإنسان لا يصل إلى درجة الاحتراق، كلما قرب من الاحتراق أعيد إلى حالته الأولى حتى يذوق الإنسان عذاب النار، جسم الإنسان لا يحترق بالكامل في جهنم، ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ هذا يسمّى استظهارًا، هذا ليس ممنوعًا، كل إنسان، أي إنسان عادي يقدر أن يستظهر، هو لا يفسّر القرآن، هو يقول: أستظهر من القرآن، ظاهر الآية كذا، هذا ليس ممنوعًا، أي إنسان يقدر أن يقول ظاهر الآية كذا، هذا ليس محجوبًا على أي إنسان.

أذكر لك هذه القصة اللطيفة: جاء ابن أبي العوجاء - وهو أحد الملاحدة - إلى الإمام الصادق ، قال له: يا أبا عبد الله هذه الآية ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ أنا عندي إشكالٌ عليها، قال: ما هو؟ قال: إذا كانت الجلود الأولى قد أذنبت فما ذنب الجلود الثانية؟! الجلود الأولى هي التي مارست الذنب فتعذب، لكن الجلود الثانية لماذا تعذب؟! إذا كانت الجلود الأولى قد أذنبت فما ذنب الجلود الثانية؟! الإمام الصادق أجابه بجواب إفحامي، قال له: ”هي هي وهي غيرها“، كيف هي هي وهي غيرها؟ قال: ”إنّ الجلد كالسّبخة من الطين يسيل عليها الماء فتذوب ثم يمرّ عليها الهواءُ فتيبس“، الآن هذه قطعة الطين لا تتغير، يمر عليها الماء تذوب، يأتي الهواء فتصبح متماسكة مرة أخرى، يريد أن يقول له: المادة الجلدية هي مادة واحدة لا تتغير، المادة الجلدية واحدة، الصّور تتغير، صورة تحترق، صورة تأتي مكانها، وإلا المادة الجلدية واحدة، ”هي هي وهي غيرها“.

طبعًا هذا جوابٌ إفحاميٌ، وإلا الجواب الواقعي: ما هو المانع من تعذيب الجلد؟! لأن العذاب لمن؟ للرّوح وليس للجلد، الجلد لا يذنب ولا يطيع، يعني: أنا عندما أصلي الجسم هو الذي أطاع؟! لا، الذي يطيع ربه هو الروح والذي يعصي ربه هو الروح، الجسم جمادٌ، هذا الجسم الجماد لا يذنب ولا يطيع، فلو عذبه الله لا يسمّى عذبه الله، هذا التعذيب أصلاً غلط، الجماد لا يعذب لأنه غير قابل للإحساس بالألم، الذي يعذب هو الروح من خلال الجسم ومن خلال الجسد، إذن هذه المرحلة الأولى: مرحلة الاستظهار.

المرحلة الثانية: مرحلة التفسير، ما هو معنى مرحلة التفسير؟

يعني: تحديد المعنى الواقعي للآية المباركة، أضرب لك مثالاً: قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ما هو معنى اليد؟ اليد من الكتف؟ أو من المرفق؟ أو من الزند؟ أو من أصول الأصابع؟ من أين اليد؟! هنا لا تستطيع أن تستظهر، لأن اليد ليست ظاهرة في شيء، صح لو لا؟! هنا تنتقل إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة التفسير، يعني: تحديد المراد الواقعي للآية، ولا يمكن تحديد المراد الواقعي بالرأي، ورد عن النبي محمّدٍ: ”من فسّر القرآن برأيه فلتيبوّأ مقعده من النار“، يجب أن ترجع إلى أهل التفسير، أهل الذكر، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وهم أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم أجمعين.

المرحلة الثالثة: مرحلة التأويل، ما هو معنى التأويل؟

التأويل مأخوذ من الأوْل، الأوْل يعني ماذا؟ آل الشيء يعني: رجع إلى أصله، أضرب لك مثالاً: أنت تأخذ قارورة ماء، تضعها على النار، يتحوّل الماء إلى مادة غازية، إلى بخار، تأخذ هذا البخار، تحصره، تعرّضه إلى هواء، يرجع إلى ماء مرة أخرى، هذا تأويلٌ، آل البخارُ إلى أصله، رجع إلى أصله، التأويل يعني: إرجاع الشيء إلى أصله، كذلك القرآن الكريم، القرآن الكريم آياته صنفان، القرآن الكريم يقول: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ما هو معنى هذا الكلام؟

يعني: آيات القرآن صنفان، صنف أصول، هناك صنف من الآيات هي أصول، يعني: قواعد عامة للقرآن، وهناك صنف من الآيات تفريعات وتطبيقات على تلك الأصول، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم عندما يقول: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ يعني القرآن مرّ بمرحلتين: مرحلة الإحكام «وضع الأصول»، ومرحلة التفصيل، يعني: التفريع والتطبيق، فآيات القرآن صنفان: أصول وتطبيقات، هذه التطبيقات لا تقدر أن تفهمها حتى تقوم بعملية تأويل، يعني: إرجاعها إلى الأصول.

مثلاً قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هذه آية تسمّى من الأصول، لأنها وضعت قاعدة عامة، أما عندما تأتي إلى قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ هذا ليس أصلاً، هذا تفريعٌ، تطبيقٌ، ما تقدر أنت أن تحدد معنى اليمين، ما هو معنى اليمين؟ إلا إذا أرجعتَ التطبيق إلى الأصل، إلى تلك الآية، إذا أرجعتها إلى تلك الآية: الله ليس كمثله شيء، إذن ليس له يمينٌ، إذا كان ليس له يمين إذن معنى اليمين هي القوة، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ يعني: بقوته.

هذه تسمّى عملية تأويل، إرجاع التطبيق إلى الأصل، وعملية التأويل تختصّ بأهل بيت النبوّة صلوات الله عليهم لأن تأويل القرآن يحتاج إلى شخص يعرف أصول القرآن وتطبيقاته حتى يُرْجِع التطبيقات إلى الأصول، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، من هنا نفهم لماذا الإمام الهادي ركّز على مرجعيّة القرآن في استدلالته، إنّما ركّز عليها لكي يعلم جميعُ العلماء والفقهاء أنّ علم تأويل القرآن بأيدينا، لا يمكن لأحد أن يدعي أن عنده علم التأويل، لذلك نحن نلتفت إلى القرآن أكثر مما تلتفتون إليه، الإمام الهادي ركّز على مرجعيّة القرآن ليبيّن للأمة أن علم التأويل والتفسير الواقعي للقرآن بيد أهل البيت .

مثلاً ترى قتادة، اقرأ تفسير إخواننا أهل السنة - الرازي غير الرزاي - ل ترى: قال قتادة وقال عكرمة، من هو قتادة؟! واحد! هذا قتادة دخل على الإمام الباقر ، قال له: يا قتادة بلغني أنك تفسّر القرآن، قال: بلى، قال: ”إن كنت قد فسّرته من رأيك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت فسّرته من قِبَلِ الرجال فقد هلكت وأهلكت، إنما يعرف القرآن من خوطب به، وما هو إلا عند الخاصة من ذرية نبينا، وما ورّثك اللهُ من كتابه حرفًا“، والأئمة عانوا من هؤلاء، يعني: الإمام كان يعاني من الجهّال أكثر ممّا يعاني من الظالمين، العالم عمومًا يعاني من الجاهل أكثر ممّا يعاني من الظالم، العالم يؤلمه جرأة الجاهل أكثر ممّا يؤلمه بطش الظالم، لماذا؟ لأن الجاهل يقضي على الشخصية الفكرية، والظالم يقضي على الشخصية المادية الجسدية، وقتل الشخصية الفكرية أفظع جرمًا من قتل الشخصية المادية، ولذلك العالم يتألم إذا وجد جهّالاً يتجرّؤون لقيادة المجتمع أو لزعامة المجتمع، العالم يتأذى، يتألم، لأن جرأة الجاهل على هذه المقامات يقضي على الشخصية الفكرية، وبطش الظالم يقضي على الشخصية المادية، لذلك ورد عن النبي محمّدٍ : ”ثلاثة يشكون إلى الله يوم القيامة: مصحفٌ تعطل، ومسجدٌ مهجورٌ، وعالمٌ ضاع بين جهّال“ يصفّونه مع أي جاهل آخر.

الأئمة عانوا من الجهّال كما عانوا من الظالمين، وأكثر خليفة بطش بأهل البيت المتوكل العباسي، أنسى من قبله ومن بعده، المتوكل العباسي يقول ابن الأثير في الكامل: كان شديد البغض للإمام علي ، وكان عنده واحد من ندمائه اسمه عبّادة المخنث، وكان أصلع، فيقوم ويحمل مخدة في بطنه يربطها على بطنه ويرقص بين يدي المتوكل فيقول جلساءُ المتوكل: جاءنا الأصلع البطين، يقصدون الإمام عليًا ، ويسخرون ويضحكون، المنتصر ابن المتوكل كان جالسًا يومًا من الأيام ورأى المنظر، فقام وأخذ عبّادة وضرب به الأرض، ثم خاطب أباه، قال: أبه هذا ابن عمّك - يقصد الإمام عليًا - وهو لحمك وفخرك فإن أردتَ أن تأكل لحمه - يعني: تغتابه - فكل لحمه أنت ولا تطعمه هذا الكلب، وهذا سببٌ من أسباب قتل المتوكل، الذي قتل المتوكل هو ابنه المنتصر، سلط عليه غلمانه فقتلوه نتيجة هذه الجرائم التي قام بها.

المتوكل العباسي استدعى ابن السكّيت، ابن السكّيت كان شاعرًا شيعيًا وكان يجيد التعليم، فدعا ابن السكّيت حتى يعلّم ولديه المنتصر والناصر، يومًا من الأيام المتوكّل العباسي سأل ابن السكّيت، هو جالس، سأل ابن السكّيت، قال: يا يعقوب أيهما خير لك: ولداي أم الحسن والحسين؟ تصوّر إنسانًا تحت يد ظالم وتحت سيفه ويسأله هذا السؤال كيف يجيبه؟! قال له: أنت وين رايح؟! نعال قنبر - الذي هو خادم الإمام علي - نعال قنبر خير لي منك ومن ولديك! فضلاً عن الحسن والحسين، فامر المتوكل بقطع لسانه، قطع لسانه.

المتوكل العباسي يقول ابن الأثير في كتاب الكامل: المتوكل العباسي ترب قبر الحسين، يعني: هدم القبر، طبعًا هو اتخذ مراحل، كيف؟

المرحلة الأولى: وضع ضرائب على زوّار الحسين، ضرائب مالية، دفعوا الضرائب وذهبوا.

المرحلة الثانية: صار يقطع الأيدي، الذي يذهب تقطع منه يدٌ، قطعوا الأيدي وذهبوا.

المرحلة الثالثة: القتل، قال: إذا ذهب خمسة يقتل واحدٌ منهم، كل خمسة يقتل واحدٌ منهم، ذهبوا وقتلت العشرات في سبيل زيارة الحسين .

ولمّا رأى إصرارَ الشّيعة والإماميّة على زيارة القبر ترب القبرَ، يقول ابنُ الأثير: ولم يتجرأ مسلمٌ في ترب القبر فاستخدم يهودًا، أحضر مجموعة من اليهود وهدموا قبر الحسين ، رفعوا الصندوق، هدموا القبر، حوّلوه إلى أرض، ثم أرسل الماء - هذا كله في حياة الإمام الهادي سلام الله عليه - ثم أرسل الماءَ على القبر حتى يمحو أثرَ القبر، فلمّا وصل الماءُ إلى قرب القبر حار الماءُ فلم ينفذ إلى القبر، فسمّيت منطقة الحائر.

وهذه منطقة تستجاب فيها الدعوات، منطقة الحائر حول قبر الحسين خمسة وعشرين ذراعًا أو عشرين ذراعًا من كل جانب على اختلاف الفقهاء، منطقة الحائر يخيّر الإنسانُ فيها بين القصر والتمام وإن لم يقصد إقامة عشرة أيام في كربلاء، حار الماءُ، أنت قد تستغرب كيف حار الماء؟! معقولة؟! الآن اذهب إلى كربلاء، الآن مازال الأمر كذلك، أنت الآن إذا تذهب إلى كربلاء تزور العبّاس ، هذا الضّريح ضريحٌ فقط، وإلا قبر العباس تحت في الأرض في السرداب، هناك سردابٌ فيه قبر العباس بن علي، هناك فلمٌ فيديو مسجّلٌ في إيران إذا تنزل إلى السّرداب تجد الماء إلى الرّكبة في السرداب، كلّ السّرداب مملوءٌ ماءً إلى الركبة، لكنّ هذا الماء لا يعلو على قبر أبي الفضل أبدًا، ومازال هذا الأمر إلى الآن موجودًا، ترب المتوكلُ قبرَ الحسين ووصل الخبرُ ابنَ السّكّيت - هذا الذي المتوكل قطع لسانه - وأنشد:

تالله   إنْ  كانت  أميّة  قد  أتتْ

فلقد    أتته   بنو   أبيه   بمثلهِ

أسفوا على ألا يكونوا شاركوا



 
قبرَ   ابن  بنتِ  نبيّها  iiمظلومًا

فغدا   لعمرك   قبرُه   iiمهدومًا

في     قتله    فتتبّعوه    رميمًا

وبقي قبرُ الحسين مشعلاً للثورات ومنارًا للزائرين، مرّ عليه ذو الرّمة فوجده صريعًا على الثرى فأنشد:

وإنّ قتيلَ الطفّ مِنْ آل هاشم   أذلّ   رقابَ  المسلمينَ  فذلّتِ

والحمد لله رب العالمين