التعامل مع الظالمين بين السلب والايجاب

تحرير المحاضرات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ

صدق الله العليّ العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في عدّة محاورَ:

المحور الأوّل: في تحديد ماهيّة الظلم.

الظلم هو سلب ذي الحقّ حقّه، وبيان ذلك بذكر أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ الظلم من المعقولات الثانويّة لا من المعقولات الأوليّة.

علماء الفلسفة يقسّمون المعقولَ إلى:

1. معقولٍ أولي.

2. ومعقول ثانوي.

فالمعقول الأوّلي هو الذي يتعقله الإنسانُ ابتداءً، بينما المعقول الثانوي هو الذي يتعقله الإنسانُ بعد تعقله لمفهوم آخر، مثلاً أضرب لك أمثلة: إذا أردنا أنْ نتعقل فعلاً خارجيًا، كما لو قام إنسانٌ ليصلي فتصوّرنا الصّلاة، أو تصوّرنا المشي، أو تصوّرنا القيامَ، هذه تسمّى معقولاتٍ أوليّة، بمجرّد أنْ يشعر الإنسانُ بالخارج فيشعر أنّ هناك مشيًا أو قيامًا أو قعودًا يتعقل هذه الأمور، فتعقل هذه الأمور وتصوّرها لا يتوقف على شيء، بمجرّد أنْ يتصل الإحساسُ بما في الخارج يدرك الإنسانُ أنّ هناك قيامًا، هناك قعودًا، هناك مشيًا، هناك صلاة، هناك أمورًا أخرى، فهذه الأمور يتصوّرها الإنسانُ بمجرّد اتصال إحساسه بالخارج، تسمّى معقولاتٍ أوليّة.

لكن هناك بعض الأشياء تحتاج أنْ تتعقل أوّلاً مفهومًا ثم تتعقلها، مثلاً: هل الإنسان كليٌ أم جزئيٌ؟ يعني: هل الإنسان مفهومٌ عامٌ أو الإنسان مفهومٌ خاصٌ؟ هناك فرقٌ بين المفهوم العام والمفهوم الخاص، مثلاً: محمّدٌ هذا مفهومٌ خاصٌ، يسمّى جزئيًا، لا ينطبق إلا على ذاتٍ واحدةٍ، بينما مفهوم الإنسان ينطبق على أفراد كثيرين، مفهوم العالِم، مفهوم الشّاعِر ينطبق على أفرادٍ كثيرين، فمفهوم الإنسان كليٌ، ومفهوم محمّد جزئيٌ؛ لأنه لا ينطبق إلا على ذاتٍ واحدةٍ معينةٍ، أنت حتى تتصوّر أنّ الإنسان كليٌ لابدّ أنْ تتصوّر الإنسانَ أوّلاً، أوّلاً لابدّ أنْ تتصوّر مفهومَ الإنسان، إذا تصوّرتَ مفهومَ الإنسان بعد ذلك ستتصوّر أنّه كليٌ أو جزئيٌ، بعد ذلك ستتصوّر أنّ هذا المفهوم ينطبق على أفراد كثيرين أو ينطبق على ذاتٍ معيّنةٍ، فالكليّة من المعقولات الثانويّة، يعني: التي لا يمكن تصوّرها إلا بعد تصوّر موضوعها ألا وهو الإنسان، فيتصوّر الذهنُ مفهومَ الإنسان أوّلاً ثم يتصوّر أنّ هذا المفهوم كليٌ ينطبق على أفراد كثيرين، هذا يسمّى معقولاً ثانويًا.

الظلم يختلف عن الصّدق والكذب، الظلم معقولٌ ثانويٌ، الصّدق معقولٌ أوليٌ، كيف؟

يعني أنا الآن إذا أخبرني شخصٌ بخبرٍ فإنْ كان خبرُه مطابقًا للواقع هذا يسمّى صدقًا، إذا خبره مخالف للواقع فهذا كذبٌ، أنا بمجرّد أنْ أتصوّر خبرَ فلان أتصوّر أنّ هذا الخبر صدقٌ، لا يحتاج إلى مفهوم آخر أتصوّره ثم أتصوّر الصّدقَ، الصّدق معقولٌ أوليٌ، بينما الظلم، الظلم ماذا يقولون في تعريفه؟ الظلم سلب ذي الحقّ حقّه، يجب أنْ أتصوّر أنّ له حقًا حتى أتصوّر أنّ سلب حقّه ظلمٌ، لا أستطيع أنْ أقول أنّ هذا ظلمٌ إلا إذا تعقلت أنّ هنالك حقًا، لأنّ الظلم سلب ذي الحقّ حقّه، فإذن تصوّر الظلم يحتاج إلى تصوّرٍ سابقٍ عليه، يحتاج إلى تصوّرٍ قبله، أنْ أتصوّر أنّ هناك حقًا ثم أتصوّر أنّ سلب ذلك الحقّ عن صاحبه يكون ظلمًا، وأنّ هذا الظلم قبيحٌ، فالظلم من المعقولات الثانويّة، يعني: التي يتوقف تصوّرها على تصوّر مفهوم قبلها.

مثلاً: نأتي إلى حقّ الحياة، هل أنّ للإنسان حقّ الحياة أم لا؟ أوّلاً أتصوّر هذا التّصوّر: هل أنّ الإنسان له حقّ الحياة أم لا؟ إذا تصوّرتُ أنّ للإنسان حقّ الحياة بعد ذلك أتصوّر أنّ سلب هذا الحقّ من الإنسان يكون ظلمًا، فالظلم من المعقولات الثانويّة لا من المعقولات الأوليّة.

المحور الثاني:

قلنا بأنّ الظلم سلب ذي الحقّ حقّه، فلابدّ أنْ يحكم العقلُ أنّ هناك حقًا، ثم يحكم بأنّ سلب هذا الحقّ قبيحٌ، من أين يحكم العقلُ أنّ هناك حقًا؟ لماذا؟! على أيّ أساس نقول: فلان له حقّ الحياة؟! على أيّ أساسٍ نقول: فلان له حقّ الكرامة؟! على أي أساس نقول...؟! على أيّ أساسٍ الحقوق؟! ما هو منشأ حكم العقل بالحقوق؟! لماذا يقال: الشّعب له حقّ الحرّية الدّينيّة، الشّعب له حقّ المواطنة، الشّعب له حقّ الكرامة...؟! من أين العقل يحكم بهذه الحقوق؟! ما هو منشأ حكم العقل بالحقّ؟

مناشئ الحقوق ثلاثة:

1 - العلة الفاعليّة.

2 - والعلة الغائيّة.

3 - واقتضاء المصلحة العامّة.

نأتي إلى كلّ منشأ من هذه المناشئ:

المنشأ الأوّل: العلة الفاعليّة.

طبعًا أنتم تعرفون أنّ علماء المنطق يقسّمون العلة إلى أقسام أربعة: فاعليّة، غائيّة، صوريّة، ماديّة، مثلاً: إذا أراد الإنسانُ أنْ يصنع كرسيًا، يقولون: هذا الكرسي حتى يُوجَد يحتاج إلى عللٍ أربع:

1/ علة فاعليّة: وهو النجار الذي يقوم بصنعه.

2/ علة غائيّة: وهو الهدف من صنعه، الهدف من صنعه الجلوس عليه.

3/ علة ماديّة: وهو أنْ يهيّئ المادّة الخشبيّة التي منها يُصْنَعُ هذا الكرسيّ.

4/ علة صوريّة: وهي الشّكل والهيأة التي على أساسه يصنع الكرسي.

فالكرسي حتى يوجد يحتاج إلى العلل الأربع: الفاعليّة والغائيّة والماديّة والصّوريّة، العة الفاعليّة تكون منشأ من مناشئ الحقّ، كيف؟

مثلاً: الحيازة، إذا حاز الإنسانُ شيئًا، هذا بذل جهدًا، علة فاعليّة يعني بذل جهدًا، نتيجة بذله لجهدٍ يكون له حقٌ في ذلك الجهد، إذا دخل الإنسانُ البحرَ وحاز سمكًا يكون له حقٌ في ذلك السّمك، من أين نشأ هذا الحقّ؟ من خلال بذل الجهد، جهده لا يذهب هدرًا، جهده لا يذهب ضائعًا، بما أنّه حاز السّمك، أي: بذل جهدًا في السّيطرة عليه والاستيلاء عليه فهذا الجهد منشأ للحقّ، يعني: لو أنه أي إنسانٍ يستطيع أنْ يأتي ويأخذ السّمك منه هذا يعتبر إهدارًا لجهده الذي بذله، إذن العلة الفاعليّة بمعنى القيام بجهدٍ من الجهود يكون منشأ لحقٍ، ولذلك ورد عن النبي محمّدٍ : ”مَنْ أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ أرض موات يأتي ويحييها بزراعةٍ أو ببناءٍ أو بأيّ فعلٍ آخر يثبت له حقٌ فيها نتيجة لجهده الذي بذله في هذه الأرض، فالعلة الفاعليّة منشأ لحقٍ.

المنشأ الثاني: العلة الغائيّة.

هناك أشياءُ خُلِقَت لهدفٍ لو لم يكن لذلك الهدف حقٌ فيها لكان إيجادها لغوًا وعبثًا، دعني أضرب أمثلة:

1/ مثلاً: الله تبارك وتعالى يخلق حليبًا في ثدي الأمّ، لماذا؟ الهدف من خلق هذا الحليب في ثدي الأمّ هو اغتذاء الطفل به، هنا صارت العلة الغائية منشأ للحقّ، بما أنّ العلة الغائيّة - يعني: الهدف - من خلق هذا الحليب في هذا الموضع من الجسم اغتذاء الطفل به إذن للطفل حقٌ في هذا الحليب، فهنا صار منشأ الحقّ علة غائيّة، ولو لم يكن للطفل حقٌ في هذا الحليب لكان خلقه لغوًا، واللغو قبيحٌ، فالعقل يحكم بأنّ مقتضى العلة الغائيّة هنا ثبوت حقٍ للطفل في ثدي أمّه.

2/ الآن أيّ أرضٍ فيها معادن، كنوز، هذه الأرض التي فيها أنهار من البترول، فيها طاقات من الغاز، فيها معادن وكنوز، لماذا خُلِقَت؟ هذه المعادن التي تحت الأرض من نفطٍ، من غازٍ، من كنوزٍ، ما هو الهدف من خلقها وإيجادها؟ الهدف من خلقها وإيجادها أنْ يستفيد الشّعبُ منها، أنْ يستفيد الخلقُ منها، إذن بما أنّ العلة الغائيّة من خلق هذه الكنوز وإيجادها تحت الأرض استفادة الشّعب والمواطنين منها إذن للمواطن حقٌ فيها، هذه تسمّى علة غائيّة، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا يعني: ما تحت الأرض هو لكم، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا، فمنشأ ثبوت الحقّ هنا هو العلة الغائيّة، ولذلك الثروة التي تحت الأرض أو فوق الأرض، الثروة التي تحت الأرض من نفطٍ، من غازٍ، والثروة التي فوق الأرض من طاقاتٍ في هذا الفضاء، أو من ثروة طبيعيّة تعيش على الأرض وتغتذي بالأرض.. هذه الثروة كلها ملكٌ للجميع، لجميع الشّعب، لجميع المواطنين، لجميع مَنْ يعيش على الأرض، بحيث إذا طغت فئة على هذه الثروات واستبدّت فئة معينة بهذه الثروات فهذا يعني اختلالاً في توزيع الثروة.

لذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: ”ما جاع فقيرٌ إلا بما متع به غنيٌ“ يعني: هذا الذي بيد الغني هو حقٌ لذلك الفقير، هذا نتيجة الاختلال في توزيع الثروة أن طغت فئة على ثروات الأرض، أن طغت فئة على بركات الأرض وكنوز الأرض، ”ما جاع فقيرٌ إلا بما متع به غنيٌ“، ولذلك يكون لهذا الفقير حقٌ في هذه الثروات التي بيد الغني، له حقٌ فيها، لِمَ؟ لأنّ عدم توزيع الثروة توزيعًا عادلاً هو الذي أوصل أمواله إلى هذا الغني، ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.

المنشأ الثالث هو: اقتضاء النظام وضع الحقّ.

أحيانًا يكون منشأ الحقّ هو اقتضاء النظام، نحن عندنا نظامٌ، ما هو معنى النظام؟ يعني: نظام الحياة، الحياة نظامٌ على الأرض، نظام الحياة على الأرض حتى يبقى مستقرًا فاعلاً مثمرًا لابدّ من وضع حدود، ما لم يكن هناك حدودٌ لا يمكن أنْ يستقرّ نظامُ الحياة على الأرض، وهذه الحدود على قسمين:

1 - حدود سلبيّة.

2 - حدود إيجابيّة.

1 - الحدود السّلبيّة:

مثلاً: هل للإنسان أنْ يقتل نفسه «يهدر حياته»؟! يقول لك: أنا اكتفيتُ من الحياة فلماذا أطوّلها؟! قالظم هيا أهدر حياتي فأنتحر مثلاً! هل للإنسان ذلك؟! لا، ليس له، حتى لو كانت نفسه، حتى لو كان جسمه، ليس له أن يهدر حياته، لماذا نقول ليس له؟ هذا حدٌ سلبيٌ، العقل والعقلاء والمجتمع العقلائي وضع هذا الحدّ السّلبي: ليس للإنسان أن يهدر حياته، ليس للإنسان أن يهدر جسده، يقطع شيئًا من جسده ليس من حقه، ليس للإنسان أن يهدر طاقته، ليس من حقه، لماذا؟ لماذا ليس له؟ لماذا وضعنا هذا الحد السلبي؟ لأن نظام الحياة لا يستقر إلا بوضع هذا الحد، فلذلك ليس للإنسان أن يهدر حياته، بل ليس للإنسان أن يهدر كرامته، لو واحد قال: أنا متخلٍ عن الكرامة لا أريدها! الذي يريد أنْ يعتدي على كرامتي على كيفه! الذي يريد أنْ يغتابني على كيفه! الذي يريد أنْ ينتقص مني على كيفه! الذي يريد أنْ يحتقرني...!! لا، ليس من حقك أصلاً، كرامتك ليست حقًا من حقك كي تتنازل عنها أو تهدرها، هنا حدٌ سلبيٌ لابد من وضعه من أجل استقرار نظام الحياة.

2 - الحدود الإيجابيّة:

الحقّ هو السّلطنة، السلطنة توضع، هذه السّلطنة الاعتباريّة التي تسمّى بالحقّ وضعها المجتمعُ العقلائي من أجل استقرار نظام الحياة، مَنْ كان له مالٌ حصل عليه بإرث، بحيازة، بشراء.. فله سلطنة عليه، هذا حدٌ إيجابيٌ من الحدود التي يتوقف عليها استقرارُ النظام، ولذلك ورد عن النبي محمّدٍ : ”الناس مسلطون على أموالهم“ الإنسان له سلطنة على ماله، ليس لأحد أنْ يتصرف في أمواله إلا بإذنه، وهذه السّلطنة حدٌ اعتباريٌ نسمّيه بالحقّ وضعه المجتمعُ العقلائيُ من أجل استقرار نظام الحياة على الأرض.

إذن مناشئ الحق ثلاثة: إمّا علة فاعليّة، إمّا على غائيّة، إمّا اقتضاء نظام الحياة لوضع ذلك الحقّ سواءً كان حدًا سلبيًا أو كان حدًا إيجابيًا.

المحور الثالث: ما هي أنواع الظلم؟

نحن عرّفنا الظلم، قلنا: الظلم سلب ذي الحقّ حقه، الظلم له أنواعٌ، ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام: ”الظلم ثلاثة: ظلمٌ لا يُطْلَبُ، وهو ظلم الإنسان لجسمه، ظلمٌ لا يُغْفَر، وهو الشّرك بالله ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وظلمٌ لا يترك، وهو ظلم الإنسان لغيره“ ظلم الإنسان لنفسه لا يُطْلَبُ يعني: إذا كان ظلمًا عرفيًا، كأنْ يقصّر في نظافة جسمه أو يقصّر في رياضة جسمه، هذا الظلم العرفي لا يُطْلَبُ يوم القيامة، أمّا أعظم أنواع الظلم القرآن يذكر: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الافتراء على الله ﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ الافتراء على الله أو تكذيب آياته، أنبيائه، رسله، أوصيائه.. أشدّ أنواع الظلم، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ.

المحور الأخير: التعامل مع الظلمة.

التّعامل مع الظلمة له صورٌ تعرّضت لها النصوصُ والأحاديثُ الشّريفة فلابدّ من عرض تلك الصّور:

الصّورة الأولى: الرّكون للظالم.

القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ما هو المقصود بالرّكون؟

علماء اللغة يقولون: الرّكون إلى الشّيء بمعنى الاعتماد والميل، إذا اعتمدتَ عليه عن ميلٍ إليه فهذا ركونٌ، ومنه يؤخذ الرّكن، لماذا يسمّى ركنًا؟ الرّكن هو الذي يُعْتَمَدُ عليه، والقرآن الكريم يقول: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ الرّكن ما يُرْكَنُ إليه، وما يُرْكَن إليه يعني: ما يُعْتَمَدُ عليه مع الميل القلبي إليه، وحينئذٍ ﴿لَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الرّكون المنهي عنه: الاعتماد على الظالم في أمرٍ من الأمور مع الميل النفسي إليه، هذا يسمّى ركونًا، الرّكون منهيٌ عنه، الرّكون إلى الظالم على ثلاثة أقسام: ركون نفسي، وركون ديني، وركون دينوي، ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الركون النفسي.

بمعنى أنْ يشعر الإنسانُ في قلبه بحبّ الظالم، الإنسان الذي يعوّد قلبه على حبّ الظلمة، على مودّتهم، تحسيس القلب وتلقين القلب مودة الظلمة هذا ركونٌ نفسيٌ، وهو من الرّكون المنهي عنه، لاحظوا ما ورد عن الإمام الكاظم عليه السّلام يخاطب صفوان الجمّال «صفوان أحد أصحاب الإمام الكاظم عليه السّلام»: ”يا صفوان، كلّ شيءٍ منك جميلٌ ما خلا شيئًا واحدًا“ قال: ما هو؟ قال:: إكراؤك جمالك لهذا الرّجل" يعني هارون الرشيد، صفوان الجمّال هو لقبه الجمّال لأنّ مهنته أنْ كان يكري الجمال، في السّابق طبعًا لا توجد سيارات، فهذا عنده جمالٌ كثيرة، هارون الرّشيد طبعًا جعل نفسه أميرَ المؤمنين، فكلّ سنةٍ يجب أنْ يذهب الحج، فإذا أراد أنْ يذهب إلى الحجّ يحتاج إلى جمالٍ كثيرةٍ؛ لأن قافلة الخليفة! فيستأجر الجمال من صفوان وغيره...

”كلّ شيءٍ منك جميلٌ ما خلا شيئًا واحدًا“ قال: ما هو؟ قال: ”إكراؤك جمالك لهذا الرّجل“ قال: إنني ما أكريته أشرًا ولا بطرًا وإنما أكريته لهذا الطريق - طريق الحجّ، يعني: طريق طاعةٍ، ما أكريته لعمل معصيةٍ، أكريته في عمل طاعةٍ - لهذا الطريق ولا أباشر العمل بنفسي وإنما يقوم به الغلمة - غلماني وصبيتي والعمّال، أنا قاعد في المكتب مرتاح، العمّال هم الذين يقومون بالعمل، ولا أباشره بنفسي - قال: ”يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟“ من أين تأخذ الأجرة أنت؟ ببلاش يعني؟! قال: بلى آخذ منهم الأجرة، ”أتحب بقاءهم إلى أنْ يخرج كراؤك أم لا؟“ ألا تحب أنْ يبقوا إلى أنْ ينتهي الحجّ وتأتي بعد ذلك الغلة؟! قال: بلى، قال: ”مَنْ أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومَنْ كان منهم أكبّه الله على وجهه في النار“، هذا الرّكون النفسي، هذا مثالٌ للرّكون النفسي.

القسم الثاني: الرّكون الدّيني - والعياذ بالله - أنْ يقوم عالِمُ الدّين بطمس بعض الحقائق الدّينيّة أو بتغيير بعض الحقائق الدّينيّة أو بإخفاء بعض الحقائق الدّينيّة في سبيل أنْ يرضى الظالمُ، تغيير الحقائق، تغيير المفاهيم الدّينيّة، طمسها إرضاءً للظالم، هذا من أشدّ أنواع الرّكون، هذا الرّكون الدّيني.

القسم الثالث: الرّكون الدّنيوي.

الرّكون الدّنيوي وهو المعونة، بمعنى أنْ أقوم بعملٍ يعين الظالِمَ على ظلمه، وقد ورد في الحديث الصّحيح عن النبي محمّدٍ : ”إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين“ يعني: معونتهم في ظلمهم، وورد عن الإمام الصّادق في تفسير الآية: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ورد في تفسيرها: ”ركون مودةٍ ونصيحةٍ وطاعةٍ“ عندما يكون هناك مودة ونصيحة وطاعة فهذا هو مصداق الرّكون.

المنصور العبّاسي كان يأتي إلى المدينة كلّ سنةٍ مقدِّمة لحجّ بيت الله الحرام، وإذا وصل الخليفة إلى المدينة يخرج وجهاءُ المدينة وكبارُهم، ما يصير بعد يأتي الخليفة ولا يستقبلوه! ما يصير! يخرج كبارُ المدينة ووجهاؤها لاستقباله والسّلام عليه لكنّ الإمام الصّادق لا يذهب في المستقبلين ولا في المهنئين، فكتب المنصورُ العبّاسي إلى الإمام الصّادق عليه السّلام: لِمَ لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ ما هي ميزتك على الناس يعني؟! لِمَ لا تغشانا كما يغشانا الناسُ؟ فكتب إليه...

وهذا المنصور كان أعرج، المنصور العبّاسي كان أعرج، ولهذا في مؤتمر الأبواء - يعني: قبل انتصار العبّاسيّين - لمّا قام العبّاسيّون على بني أميّة عقدوا مؤتمرًا في منطقة الأبواء بين مكّة والمدينة، هذه المنطقة التي فيها قبر آمنة بنت وهب أمّ النبي ، في هذه المنطقة عقد العبّاسيّون مؤتمرًا قبل انتصارهم، ودعوا بني هاشم لأنّهم أبناء عمّهم حتى يساعدونهم، فدعوا الإمامَ الصّادقَ عليه السّلام، ذاك الوقت بعده ما صار خليفة، دعوا الإمامَ الصّادقَ عليه السّلام وبني هاشم، منهم: عبد الله المحض، يعني: عبد الله بن الحسن بن الحسن المثنى، وأولاده محمّد وإبراهيم، هؤلاء محمد وإبراهيم أبناء عبد الله، نصر العباسيّين في الإطاحة ببني أميّة، لكنّ العبّاسيّين عندما وصلوا إلى السّلطة أول ما تخلصوا من أبناء عمّهم، بمجرّد أنْ وصلوا إلى السّلطة أوّل عملٍ قاموا به تصفية مَنْ أعانهم، وهم أبناء عمّهم محمّد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن، المهم في هذا المؤتمر مؤتمر الأبواء صار الحديث: غدًا إذا صارت لنا الخلافة مَنْ الذي سيأخذها؟ وكيف؟ وتقسيم الوزارات؟ وتقسيم... كيف يصير؟ وصار تبادل الحديث، الإمام الصّادق كان ساكتًا صامتًا عارفًا القضيّة ما هي ستصير، المهمّ اتفقوا اتفاقًا صوريًا على أنْ يبايعوا محمد ذا النفس الزكية الذي هو محمّد بن عبد الله بن الحسن، أنْ يُبَايَع هو بالخلافة، فقاموا وبايعوا محمّدًا، الإمام الصّادق ما قام.

قال عبدُ الله بن الحسن للإمام الصّادق: ما حملك على ألا تبايع ابني محمّدًا؟! لماذا لا تقوم تبايعه؟! ما حملك على ألا تبايع ابني إلا الحسد! أنت تحسده ولهذا لا تريد تبايعه، قال: يا عبد الله إنّ الأمر ليس لك وليس لابنك، هذا ابنك لن يحصل شيئًا، افهم، قال: لا.. قال: ليس لك وليس لابنك، إنّه لصاحب الرّداء الأصفر، يعني المنصور هذا الذي سيأخذها، هذا المنصور سمع الكلمة، طبعًا هو يعرف أن هؤلاء لا يخبرون باطلاً، قام مِنْ مكانه، قال: ماذا قلتَ؟! سمّعني ماذا قلتَ؟! فجرّه، هو أعرج جرّ الرّداء طاح! طاح على الأرض! هذه الطيحة فوتت الحديث وإلا هو سمع الحديث من الصّادق عليه السّلام: إنها لصاحب الرّداء الأصفر.

المنصور العبّاسي لما أقبل على المدينة كتب إلى الإمام الصّادق عليه السّلام: لِمَ لا تغشانا كما يغاشانا الناس؟ كتب إليه الإمامُ الصّادقُ عليه السّلام: ”ليس لنا مِنَ الدّنيا ما نخافك عليه وليس لك مِنَ الآخرة ما نرجوه منك“ لا نحن عندنا دنيا وعقارات ونخاف تأخذها مِنْ عندنا ولا أنت عندك آخرة حتى نأتي نزورك ونقول لك: التماس دعاء! فكتب إلى الصّادق عليه السّلام مرة أخرى: تصحبنا لتنصحنا! نحن نريد النصيحة منك! كتب إليه الإمامُ الصّادقُ عليه السّلام: ”إنّ مَنْ أراد الدّنيا لا ينصحك، ومَنْ أراد الآخرة لا يصحبك“ سدّ البابَ، فالرّكون الدّنيوي بمعنى القيام بأي عملٍ يوجب امتداد الظلم وترسيخ الظلم وسيطرة الظالم هذا هو الرّكون وهذا الذي قال عنه الإمامُ الكاظمُ عليه السّلام: ”لَئِنْ أسقط مِنْ أعلى حالق فأتقطع قطعة قطعة أحبّ إليّ مِنْ أنْ أطأ لهم بساطًا أو أتولى لهم عملاً“.

الصّورة الثانية: التعامل مع الظالم بمعاملات ماديّة.

بيع، شراء، تبيعه شيئًا، تشتري مِنْ عنده شيئًا.. هذا لا إشكال فيه شرعًا، ما لم يكن معونة له على ظلمه ليس فيه إشكالٌ شرعيٌ، التعامل معه بأمور المعاملات الماديّة كالتعامل مع أي إنسانٍ آخر، ما لم يكن فيه إعانة على ظلمه فليس فيه إشكالٌ شرعيٌ.

الصّورة الثالثة: أنْ يكون التعاملُ مع الظلمة لأجل قضاء حوائج المؤمنين.

هنا وردت عدّة أحاديث تمدح ذلك، مثلاً: ورد عن الإمام الكاظم عليه السّلام يخاطب علي بن يقطين، علي بن يقطين كان وزيرًا في خلافة هارون الرشيد، قال له: ”يا علي بن يقطين اضمن لي واحدة - فقط - أضمن لك ثلاثًا: اضمن لي ألا تلقى أحدًا مِنْ موالينا في دار الخلافة إلا وقد قضيتَ حاجته، وأنا اضمن لك ثلاثًا: ألا يمسّك الحديدُ أبدًا، وألا يظلك سقفُ سجنٍ أبدًا، وألا يمسّك الفقرُ أبدًا“ ماذا تريد أيضًا؟! يعني أنا سأضمن لك السّلامة في الدنيا، لا تصير فقيرًا، لا تصير ملاحَقًا، لا تصير سجينًا، سأضمن لك هذه الأمور، تعيش في الدّنيا سالمًا مطمئنًا وفي عيش رغيد، لكن أنت اضمن لي واحدة، فضمن للإمام الكاظم عليه السّلام فقال في حقه الإمام الكاظم : ”كفارة عمل السّلطان قضاء حوائج الإخوان“ وقال الإمام الكاظم : ”إنّ لله مع السّلطان أولياءَ يدفع بهم عن أوليائه“ فأي عملٍ يكون الهدف منه قضاء حوائج المؤمنين وتفريج كرب المؤمنين فإنه يدخل ضمن هذه الأحاديث الشريفة الواردة عن الإمام الكاظم عليه السّلام.

وعندما نتحدّث عن مضمون الآية: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ لا يختصّ الذين ظلموا بالحكّام الجائرين بل يشمل حتى الظلمة مِنَ الشيعة، الشيعة أيضًا فيهم ظلمة، هناك أناسٌ مِنَ الشيعة مستبدّون بالثروات، يأكلون الأوقافَ، يظلمون الأيتامَ، يعتدون على الضّعفاء، هذا يدخل تحت الظلمة، مثله مثل الظلمة، أو - والعياذ بالله - إذا حصل على وظيفة «صار رئيس قسم» أول ما يؤذي يؤذي الشّيعة، ناس هكذا، بعض الأشخاص نفسيته قذرة، إذا حصل على منصب صّب أذاه على الشّيعة وهو منهم، يؤذيهم، يؤخّرهم، يحاصرهم، يضيّق عليهم، هذا أيضًا مِنَ الظلمة، فعنوان الظلمة يشمل هذه المصاديق ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ.

نسأل الله تبارك وتعالى أنْ يقينا مِنَ الظلم والظالمين، وأنْ يجعلنا مِنَ الموالين لأهل بيت النبي محمّد وآله الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين