فصل الخطاب - الحلقة 3

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

من جملة البيانات التي أصدرها الحسين حين شروعه في ثورته المباركة: وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، وقد تضمنت هذه الوصية مقطعين: الأول هو الحديث عن الدين وأصوله وأسسه، والمقطع الثاني هو الحديث عن حقيقة الثورة الحسينية.

المقطع الأول: الإقرار بأصول الدين.

تحدث فيه الحسين بقوله: ”هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية، أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور“. ومن الواضح أن الحسين أوصى لأخيه محمد بن الحنفية لأن ولده علي بن الحسين السجاد كان معه في كربلاء، لذلك كان ينبغي أن يوصى لشخصٍ باقٍ في المدينة المنورة، كي يرجع الناس إليه بعد مقتل الحسين لمعرفة وصية الحسين ، فكان ذلك الشخص هو محمد بن الحنفية.

ومن المعروف في الأدب الإسلامي - كما ورد في الروايات عن الأئمة الطاهرين - ابتداء الوصية بالإقرار بأصول الدين، وهنا نلاحظ أن الحسين أقرّ بأصول الدين خمسة، فقد أقر بالتوحيد في قوله: ”يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له“، وأقر بالنبوة في قوله: ”وأن محمدًا عبده ورسوله“، وأقر بالمعاد في قوله: ”وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور“، وبقيت هذه الجملة، وهي قوله : ”جاء بالحق من عند الحق“، فإن هذه الجملة ترمز لمدلولين، وهما أصلان من أصول الدين الخمسة، أي العدل والإمامة.

أما أنها ترمز للعدل فلأن قوله : ”جاء بالحق من عند الحق“ في أن الموجود الذي هو حقٌ مطلقٌ - وهو الله تبارك وتعالى - لا يصدر منه إلا الحق، فإن هناك مناسبة بين الصادر وبين مصدره، فلأنه حق مطلق لذلك لا يعقل أن يصدر منه إلا الحق، وهذا ما استدل به علماؤنا الأبرار على العدل، وقالوا: بما أن الذات المقدسة جامعةٌ لسائر صفات الكمال، وجامعةٌ لسائر صفات الجلال والجمال، فمقتضى جامعيته تعالى لسائر صفات الجمال ألا يصدر منه إلا الجمال، وألا يصدر منه إلا العدل؛ لأن العدل جمال، ولأن العدل كمال، ولأن العدل حق، لذلك مقتضى أنه حق مطلق ألا يصدر منه إلا الحق، وهو العدل.

وأما أن هذه الجملة ترمز لأصل الإمامة، فبلحاظ أن هذه الجملة ليس المقصود منها الإقرار بالنبوة، فقد أقر بالنبوة حينما قال: ”ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله“، فإذا كان محمد رسولًا فلا محالة سيكون ما أتى به حقًا من قبل الحق، فهذا لا يحتاج إلى بيان مرة أخرى، إذن فمقصوده من قوله: ”جاء بالحق من عند الحق“ أن ما صدع به من تبليغ أمة النبي بإمامة علي وولايته، كما في يوم الغدير، حيث قال: ”فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله“، أن هذا ليس من عند النبي، وإنما هو حقٌ من قبل الحق.

هذه التولية وهذه التوصية من النبي للإمام أمير المؤمنين حاول أن يستغلها القوم المناوئون في أنها اجتهاد من النبي، وترشيح شخصي من النبي ، مع أن الرسول أكّد على أن هذه وصيةٌ إلهيةٌ، وجعلٌ إلهيٌ، فالإمام الحسين يؤكّد على هذه النقطة، أن ما قام به النبي من بيان إمامة الإمام أمير المؤمنين ولايته فإنه حق جاء من قبل الحق. إذن، فهذا المقطع مقطعٌ يتضمن الإقرار بأصول الدين الخمسة التي ازدانت بها الوصايا الواردة عن الأئمة الطاهرين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

المقطع الآخر: الحديث عن ثورته المباركة.

هذا المقطع يتضمن ثلاثة أمور: الحديث عن حقيقة الثورة، والحديث عن منهج الثورة، والحديث عن تفاعل الأمة مع هذه الثورة.

الأمر الأول: حقيقة الثورة.

كل ظاهرة اجتماعية لا يمكن لنا قراءتها ومعرفتها والوصول إلى حقيقتها إلا بمعرفة أهدافها، كما أن الظواهر الطبيعية لا يمكن معرفتها والإحاطة بها إلا بمعرفة أسبابها ومبادئها، كذلك الظواهر الاجتماعية لا يمكن الوصول إلى حقيقتها إلا عندما تعرف أهدافها، والثورة وأي ثورة هي من الظواهر الاجتماعية، التي لا يمكن الوصول إلى حقيقتها إلا بمعرفة أهدافها، فحقيقة الثورة هي بأهدافها، لذلك الحسين قسّم في هذا المقطع الثورات إلى خمسة أقسام: ”لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح“.

فهناك ثورة عبّر عنها الحسين بأنها ثورة أشرة، وهي الثورة القائمة على تقسيم المجتمع، كل ثورة كان هدفها وسمتها العامة إحداث الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، وتقسيمه وبعثرته، فإن هذه الثورة تسمى ثورة أشرة. الحسين ردًا على الإعلام الأموي الذي سبق ثورة الحسين، واتهم الحسين بأنه خرج لتفريق الجماعة، ولشق عصا الأمة، ولشق صفوفها، الحسين يرد على هذا الإعلام بأن ثورته ليست ثورة أشرة، بمعنى أنه ليس هدفها وسمتها تقسيم المجتمع الإسلامي.

والثورة الأخرى: ثورة البطر، وهي ما كان الهدف منها التوسعة في الملك، إذا كان هناك ملك على بلد معين، وغزا بلدًا آخر من أجل توسعة ملكه وسلطانه فيقال: إن هذه ثورة بطر، لأنها ثورة الهدف منها الترف وزيادة رقع السلطان والملك، والحسين يريد أن يبلغ الأمة أنه ليس طالبًا لملك ولا سلطان، فما يملكه من الإمامة والسيادة نعمةٌ لا تضاهيها نعمة، وكمال لا يضاهيه كمال، فهو لا يحتاج إلى أن يملك الملك والسلطان.

والثورة الثالثة: ولا مفسدًا، الثورة التي يكون القصد من خروجها السيطرة على المجتمع وإذلال رقابه تسمى ثورة مفسدة، عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، الثورة التي يقصد منها السيطرة على الثروات، والسيطرة على الرقاب، فهي ثورة مفسدة، والحسين يقول: أنا لم أخرج لأجل السيطرة على الثروات ولا على النعم.

والثورة الرابعة: ثورة الظلم، كل ثورة ترجع بدون إذن إمام العصر وإمام الزمان فهي ثورة ظالمة؛ لأن الولاية على شؤون الأمة وإدارتها بيد وبصلاحية إمام الأمة في كل جيل بحسبه، لذلك يقول الحسين: أنا إمام الأمة، فلا أحتاج في ثورتي إلى إذن أحد، أو إلى استئذان شخص آخر، فمن صلاحياتي وولايتي القيام بهذه الثورة، إذن ثورتي ليست ثورة ظالمة.

إذن، حقيقة الثورة الحسينية هي في القسم الخامس: ”وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي“، حركة الحسين حركة إصلاحية، ثورة الحسين ثورة إصلاحية، والإصلاح هنا على مستويين: إصلاح القيادة، حيث إن الأمة تحتاج إلى قيادة رشيدة تمتلك المؤهلات والمواصفات التي تجعلها جديرة بهذا المنصب، وهذا ما تحدث عنه الحسين بقوله: ”ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، الدائن بالحق، القائم بالقسط، الحابس نفسه على ذات الله“، والمستوى الثاني: مستوى الأمة، فإن الأمة الإسلامية ماتت إرادتها، ومات ضميرها، فأصبحت الأمة الإسلامية ميتة الضمير، وميتة الإرادة، لذلك تضاءلت واضمحلت فيها حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاحتاجت لحركة إصلاحية تبعث فيها الإرادة الصامدة نحو حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأمر الثاني: منهج الثورة.

”أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب“. بعد أن عرّف الحسين حقيقة ثورته وأنها ثورة إصلاحية جاء السؤال: فما هو المنهج الذي سيقوم عليه الحسين إذا أصبحت الدولة بيده أو أصبحت مقاليد الأمة تحت يده؟ هنا يتحدث الحسين عن منهجه، إن منهجي هو منهج القرآن، القائل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، إذن منهجي هو منهج النهي عن المنكر.

والمنكر بتمام شؤونه، فهناك منكر فكري، وهناك منكر اقتصادي، وهناك منكر سلوكي. المنكر الفكري: من خرج على طاغية زمانه أو سلطان زمانه فقد شقّ عصا المسلمين فاقتلوه كائنًا ما كان، هذا منكر فكري لا بد من تغييره. وهناك منكر اقتصادي، حيث استغلت الدولة الأموية التلاعب بثروات المسلمين، وأشغلتهم بلقمة العيش، وهذا المنكر الاقتصادي لا بد من محاربته، وهناك المنكر السلوكي، حيث ماتت الضمائر والإرادات، وأصبحت الناس مشغولة بجيوبها وبطونها.

إذن فلا بد من إحياء المعروف على المستويات الثلاثة، وهذه هي سيرة أبي وجدي، أراد الحسين بذلك أن يبيّن أن لا شرعية لسيرة مهما كانت إلا سيرة النبي وسيرة الإمام علي ، وفي هذا تعريضٌ بمن أمسك بالخلافة بعد وفاة النبي .

الأمر الثالث: تفاعل الأمة مع الثورة.

قال: ”فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق“، لأن الثورة ثورة حق فعلى الأمة أن تقبلها بالحق لا بالباطل، ”ومن ردّ عليَّ“ فأنا لست ديكتاتورًا، ولا أتعامل مع الناس بالقهر والغلبة، وإنما من ردّ علي فالقاضي بيني وبينه الله، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين.