فصل الخطاب - الحلقة 5

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

ممّا كتبه الحسين لأهل الكوفة جوابًا عن كتبهم قوله : «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعدُ فإنّ هانئًا وسعيدًا قدما إليّ بكتبكم...» إلى آخر ما ذكر، وهذا الكتاب الحسيني العظيم نقف عند فقراته لنتأمّل فيها:

الفقرة الأولى: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي»

نلاحظ هنا أنّ في مجموعةٍ من خطابات الحسين لم يذكر فيها الصلاة على النبي أو أنه إذا ذكر الصلاة على النبي لا يقرنها بالصلاة على الآل مع أنّ ذلك من الضروريات التي اتّسم بها مذهب الإمامية، وهو رجحان الابتداء بالصلاة على النبي وأنّها لا يترتّب عليها ثواب ما لم تقرن بالصلاة على الآل، فما هو السرّ في ذلك؟

لعلّ السرّ في ذلك أنّ الصلاة على النبي وآله دعاءٌ يُقْصَد به رفعة مقامهم وازدياد درجاتهم، فعندما نقول: «اللهم صلِ على محمد وآل محمد» فهو دعاءٌ منّا لرفعة مقامه ومقام أهل بيته، وبالتالي فأيّ عمل يصدر من المعصوم - كالحسين - سواءً كان عملاً سلوكيًا أو كان عملاً خطابيًا فإنّ كلّ عمل يصدر من المعصوم وهو يتضمّن خيرًا أو نفعًا للأمّة - وكلّ أعمالهم نفعٌ - فإنّه يُعَدّ صلاةً على النبي وآله، لأنّه من جهة كلّ عمل يصدر من المعصوم فهو ينتسب إلى المعصومين جميعًا؛ لأنّ مقتضى العصمة ألا يصدر من أحدهم إلا الحقّ، فما يصدر من أحدهم يُنْسَب إلى جميعهم لأنّه حقّ، وفي نفس وقت كلّ عمل يصدر منهم فهو عملٌ طاهرٌ معصومٌ لذلك يُعَدّ نفس هذا العمل سببًا من أسباب رفعة مقامهم وعلو درجاتهم، إذن نفس هذه الخطابات الحسينية وإن لم تتضمّن صلاةً على النبي وآله فإنّها هي بنفسها صلاةٌ على النبي وآله؛ لأنّها خيرٌ طاهرٌ معصومٌ والخير الطاهر المعصوم سببٌ من أسباب رفعة مقامهم فيقوم مقام الصلاة التي هي دعاءٌ لهم برفعة مقامهم وجلالة قدرهم، وهذا لا يتأتى لو صدر من غير المعصوم؛ لأنّه عمل مشوبٌ بأمرٍ دنيويٍ أو ماديٍ وليس عملاً معصومًا كالعمل الصادر عن المعصوم.

الفقرة الثانية: «إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين»

هذا التعميم وأنّه لا يخاطب خصوص المؤمنين بإمامته بل يخاطب عموم المسلمين شاهدٌ على أنّ حركته حركة قرآنية وليست حركة مذهبية، فهي منطلقة من قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ فبما أنّ انطلاقته انطلاقة قرآنية لذلك هذه الانطلاقة والحركة لا تختصّ بالمؤمنين أو الطائفة الإمامية بل هي انطلاقة وحركة إسلامية يدعمها جميع المسلمين لا خصوص المؤمنين، ولذلك يخطئ من يؤطّر حركة الحسين بإطار الطائفة الإمامية أو يعتبرها شأنًا خاصًا من شؤون الشيعة مع أنها حركة منطلقة من خلال الآيات القرآنية الشريفة.

الفقرة الثالثة: «أما بعدُ فإنّ هانئًا - وهو السبيعي - وسعيدًا - وهو الحنفي - قدما إليّ بكتبكم وكانا آخر مَنْ قدما عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي قصصتم وذكرتم ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك».

المقصود هنا في هذه الفقرة «أنّه ليس علينا إمام» لا يراد من الإمام الرئيس أو المتسلّط لأنّه؛ كان عليهم إمامٌ متسلّطٌ وهو الوالي من قِبَل يزيد بن معاوية، وإنّما المقصود إمام الحقّ فإنّ الإمام إذا أطلق ينصرف إلى الإمام الحقّ، مثلاً: في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ المقصود بإمامهم الواقعي لأنّ الإمام الواقعي من وظيفته الشهادة على الخلق، مثلاً: في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا من مقام الإمام الشهادة على أعمال المجتمع، وهذه الشهادة أمرٌ واقعيٌ، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ أي: بالشاهد عليهم شهادةً واقعيةً، فالإمام إذا أطلق يراد به الإمام الواقعي الذي يتحملّ درجة الشهادة على الأمّة، إذن فمقصودهم: «ليس علينا إمام» يعني ليس هناك إمامٌ واقعيٌ معنا في بلدنا يشهد على أعمالنا، وهذا هو المراد من هذه الرسل ومن هذه الكتب التي أُرْسِلَت للحسين أنّك أنت الإمام الواقعي وأنت الإمام الذي تتحمّل الشهادة على الأمّة ولكنّ دورك مضيّقٌ من قِبَل الأمويين فنحن نخاطبك بأن تقوم بدورك الذي أناطه الله تبارك وتعالى بك.

الفقرة الرابعة: «أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ»

هذه الفقرة قالت: «لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ» وهنا قد يرد السؤال: ما هو الفرق بين الهدى والحقّ؟

مثلاً: نلاحظ في قوله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فهناك حق - وهو عبارة عن الدين - وهناك هدى، وأحدهما مقدّمة للآخر، الإنسان قد يكون متديّنًا بدين الحقّ بمعنى أنّه عقد قلبه على طبق المعتقدات الدينية من الأصول وتوابع هذه الأصول، ولكنّ عقد القلب على هذه المعتقدات الدينية مرتبة من مراتب الإسلام، والمرتبة الأخرى من مراتب الإسلام: الهدى، الهدى عبارة عن نورانية النفس التي أشار إليها تبارك وتعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ وقال تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ إذن الهدى هو عبارة عن نورانية للنفس يحصل عليها الإنسان بعد سلوكٍ وإرادةٍ صامدةٍ أمام المعاصي وأمام الرذائل.

فنحن كجوابٍ وكرسالةٍ من أهل الكوفة أنّهم يخاطبون الحسين : نحن نريد أن يجمعنا بك على الدين بأن نثبت على معتقداتنا الدينية، «اللهم ثبّتنا على دينك ما أحييتنا» فببركتك يقع الثبات على المعتقدات الدينية، وهذا هو المراد بالحقّ، وببركتك ننتقل إلى مرتبة أخرى وهي مرتبة النورانية والهدى لأنّ من نورك يفيض النور على القلوب.

الفقرة الخامسة: «وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي»

والمقصود به مسلم بن عقيل، من طبيعة القائد المحنّك الحكيم ألا يقدم على أمر حتى يتدبّر عواقبه ويتأمّل مقتضياته ولوازمه، لذلك قال الحسين: مقتضى الحكمة ألا أفِدَ عليكم بشكل مباشر وإنّما أبعث إليكم رسولاً من قِبَلي، فإن رآكم كما كتبتم كان ذلك عذرًا لي أمام ربّي وعذرًا لي أمام الأمّة في القدوم إليكم وإلا فلا، وقد عبّر عن هذا الرسول العظيم - وهو الشهيد مسلم بن عقيل - بسمتين عظيمتين:

1. الأخوّة: «وقد بعثتُ إليكم أخي»

ومن المعروف أنّ الأخوّة تارةً تكون أخوّة نسبية، وهذه لا تتوقّف على شرطٍ سوى أن يكون الشخصان مولودان من أب أو أمٍّ، وتارةً تكون الأخوّة أخوّة إيمانية، وهي يشترك فيها كلّ من يدين بدين الإسلام ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وكلّ من يدين بولاية أمير المؤمنين ، وقد تكون الأخوّة أخوّة اختصاصية اتّخاذية بمعنى أنّي أتّخذ الآخر أخًا لي وأعتبر الآخر أخًا لي، فهذه الأخوّة الاتخاذية والاعتبارية هي أعلى من الأخوّة الإيمانية والأخوّة النسبية، فإنّ الأخوّة الاتخاذية تفتقر إلى التكافؤ، ما لم يكن هناك تكافؤٌ بين الطرفين لا يمكن أن تقع الأخوّة الاتخاذية، لأجل ذلك النبي عندما آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بين المتكافئين ثم بقي علي وقال: «يا رسول الله! آخيت بين المهاجرين والأنصار وجعلتني من دون أخ قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة» لأنّ الأخوّة الاتخاذية تحتاج إلى تكافؤ، ولا يكافئك - يا علي - من هؤلاء الناس غيري ولا يكافئني غيرك.

إذن فاتخاذ الحسين مسلمًا أخًا شاهدٌ واضحٌ على أنّ مسلمًا بلغ درجةً من العصمة والكمال أنّه أصبح لائقًا ومؤهّلاً إلى أن يكون متّسمًا بالأخوّة الاتخاذية التي حصل عليها من قِبَل الحسين .

2. السمة الأخرى حيث قال: «ثقتي من أهل بيتي»

وأيّ عظمة أن يكون الشخص ثقة لإمامٍ معصومٍ مطّلعٍ على أسرار الخفايا وغوامض الأعمال؟! الثقة هنا مطلقة ولم يحدّد الحسين الثقة في مجال دون مجال، مقتضى إطلاق العنوان هنا أن يكون مسلم ثقةً في سلوكه، ثقة في إدارته، ثقةً في علمه أيضًا، «وثقتي من أهل بيتي» أي أنّ له مقام الوثاقة المطلقة.

«وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم - أي: رأي الجمهور والرأي العام - وأهل الفضل والحجى سمنكم» أراد الحسين أن تكون بيعته بيعة جماهيرية وفي نفس الوقت بيعة من قِبَل أهل الحلّ والعقد من المجتمع حيث قال: «وأهل الفضل والحجى منكم» فإنّه ما لم تكن البيعة عامةً وما لم تكن البيعة معقودة من قِبَل أهل الحلّ والعقد لأجل ذلك لا يمكن القيام بأعباء القيادة، الإمامة لا يشترط فيها بيعة الناس للإمام، الإمام إمامٌ بُويِعَ أو لم يُبَايَع، ولكن لكي يتمكّن الإمام من القيام بدوره، لكي يتمكّن الإمام من القيام بشأنه، البيعة تساعده على القيام بدوره؛ لأنّ الناس لو عارضوه لكانت معارضتهم مانعًا له من القيام بدوره، فالبيعة لا لدخالتها في الإمامة بل لأنّ القيام بالدور أحيانًا يتوقّف على بيعةٍ من الناس لكي يكون ذلك ممهّدًا لأداء دوره القيادي صلوات الله وسلامه عليه.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطاهرين