فصل الخطاب - الحلقة 6

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

من الكتب الحسينية التي كتبها الحسين جوابًا عن كتب أهل الكوفة قوله : ”بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد فإن هانئًا وسعيدًا قدما عليَّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلَّ الذي قصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل قدمت عليَّ به رسلكم وقرأتُ في كتبكم، أقدم عليكم وشيكًا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، الآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله عز وجل، والسلام“، وقد بقي من هذا الكتاب عدة فقرات نتعرض إليها.

الفقرة الأولى: أقدم عليكم وشيكًا.

هنا قد تعرض علينا عدة استفهامات: إذا كان الحسين يعلم أن مسلم بن عقيل سيقتله أهل الكوفة على كل حال، فلماذا ضحّى به وأرسله إليهم مع أن هذا الإرسال لغوٌ؟ حيث لم يترتب عليه أي أثر في سبيل نجاح ثورته وحركته المباركة، فهو من جهة لغوٌ؛ إذ لم يترتب عليه أثر، ومن جهة أخرى أن مسلمًا حُرِم من الشهادة بين يدي الحسين بكربلاء، بسبب هذه البعثة إلى أهل الكوفة.

والاستفهام الآخر: إذا كان الحسين يعلم أنه سيُقْتَل قبل أن يصل إلى الكوفة، فلماذا وعد أهل الكوفة بالقدوم إليهم، حيث قال: ”أقدم عليكم وشيكًا إن شاء الله“، مع أنه يعلم بأنه لن يقدم عليهم، فهل يصح منه هذا الوعد وهو يعلم بأنه لن يتحقق أبدًا؟

والاستفهام الثالث: ما هو وجه أن يطالب الحسين أهلَ الكوفة أن يثبتوا صحة ما ذكروه في كتبهم ورسائلهم إليه، مع أنه خارجٌ على يزيد على كل حال، سواء ثبت أهل الكوفة على بيعته أم نقضوا البيعة، فهو الذي كتب إلى أخيه محمد بن الحنفية: ”إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي“، وظاهرها أنه سيخرج على كل حال، سواء تمت بيعة أهل الكوفة أو لم تتم؟ هذه الأسئلة نجيب عنها بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأول: أهمية إرسال مسلم في إقامة الحجة.

إرسال مسلم بن عقيل لأهل الكوفة لم يكن لغوًا؛ فإن الأثر المترتب عليه إقامة الحجة عليهم، إذ لو لم يرسل إليهم أحدًا يختبر ضمائرهم، ويعرف نواياهم ومدى أهدافهم، فإن الحسين سيبقى محجوجًا أمام الأمة آنذاك وأمام التاريخ، فالحسين أراد أن يقطع عذر أهل الكوفة، وأن يقطع حججهم، بأنني ما تخلّيت عنكم، ولا أعرضت عنكم، وإنما أرسلت إليكم رسولي ليختبركم، فكنتم على غير ما كتبتم وذكرتم في رسلكم، إذن فالهدف من إرسال مسلم بن عقيل إقامة الحجة على أهل الكوفة، وعلى الأمة آنذاك.

وأما إرساله إلى الكوفة فلم يكن حرمانًا له من الشهادة في كربلاء، بل الحسين أراد أن يخصّص مسلمًا بشهادة قد تكون أعلى من شهادته في كربلاء، لأنه بذلك استشهد وحيدًا غريبًا، وعندما يستشهد الإنسان وحيدًا غريبًا ليس معه أنصار يقاتلون ستكون مظلوميته أكبر عند الله تبارك وتعالى، وثوابه على صبره على وحدته وغربته أكثر مما لو كان بين أعوانه وإخوانه، كما أراد الحسين بذلك أن يكون لمسلم قبرٌ خاصٌّ ومشهدٌ خاصٌّ بالكوفة، يمتاز به على بقية الشهداء، فإرسال الحسين مسلمًا إلى أهل الكوفة وسامٌ عظيمٌ جعله الحسين لمسلم، وليس حرمانًا له من الشهادة في كربلاء.

الجواب الثاني: أهمية أخذ البيعة في إقامة الحجة.

الحسين يعلم بأن أهل الكوفة سيغدرون به، ولكنه مع ذلك أكّد على بيعتهم، كما ذكرنا في المحاضرة السابقة: الإمامة لا تحتاج إلى البيعة، ولاية الأمر للإمام نافذة سواء بايعته الأمة أم لم تبايعه، ولكن الأئمة الطاهرين كالإمام علي والإمام الحسن والحسين توسّلوا بالبيعة، لا لأجل دخالة البيعة في ولاتهم ونفوذ أمرهم، بل لأجل إقامة الحجة على الناس، وإقامة الحجة على الأمويين، أن لا مجال لكم للمعارضة، لأننا ما وردنا على السلطة إلا بعد بيعة عارمة وكبيرة من الأمة الإسلامية.

ولذلك احتج الإمام أمير المؤمنين على معاوية: أما بعد فإنه قد بايعني الناس الذين بايعوا أبا بكر وعمر على ما بايعوهم عليه.. فلم تكن البيعة دخيلة في ولاية الأمر، ولا أن الإمام يرى شرعية البيعة، وإنما البيعة عقدٌ عقلائيٌ يريد به الأئمة إلزام الأمة بهذا العقد العقلائي، وإقامة الحجة على المعارضين والمناوئين، بأنهم جاؤوا عن طريق البيعة، ولم يجيئوا عن طريق الإكراه والسيف وفرض القوة والقدرة.

الجواب الثالث: مشروطية الوفاء بالوعد.

الحسين ما وعد أهل الكوفة بالقدوم عليهم مطلقًا، وإنما قال: ”فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الفضل منكم والحجى على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم، أقدم عليكم“، إذن وعد الحسين بالقدوم على أهل الكوفة لم يكن وعدًا مطلقًا حتى يقال بأن هذا يتنافى مع علمه بأن الوعد لن يتحقق، بل وعدهم وعدًا مشروطًا، أنه لو تمت البيعة لي، وصار المجتمع الكوفي كما كتبتم إليَّ في رسلكم أنه مدين لي ومبايع لي، حينئذ أقدم وإلا فلا أقدم، وحيث إن الشرط لم يتحقق - وهو شرط الوعد - لذلك لم يكن الوعد لازمًا منه، مضافًا إلى أنه لعل الوعد هو القدوم على العراق، لا القدوم على الكوفة في حد ذاتها، وهذا مما تحقق من الحسين ، حيث قدم إلى كربلاء.

المقطع الثاني: مواصفات إصلاح القيادة.

قال : ”فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله“، وقد ذكرنا أن حركة الحسين حركة إصلاحية على مستويين: على مستوى القيادة، وعلى مستوى الأمة، وهنا يتعرض الحسين للمواصفات والمؤهلات التي يجب توفّرها في القيادة حتى تكون قيادةً رشيدةً، وحتى يكون الشخص مصداقًا للإمام الذي أراده الله تبارك وتعالى.

السمة الأولى: ما الإمام إلا العامل بالكتاب.

من الواضح أن العمل بالكتاب فرع معرفة الكتاب، إذن فهذه السمة اشتراطٌ للعلم والمعرفة بحسب مدلولها الالتزامي، إذا كان الإمام هو العامل بالكتاب، والعمل بالكتاب فرع معرفة الكتاب معرفة واقعية، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، إذن فيشترط في الإمام المعرفة الواقعية بالكتاب، وهذا لا يتوفر إلا في أهل بيت العصمة، الذين هم الثقل الآخر، كما ورد عن النبي : ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي“.

السمة الثانية: والآخذ بالقسط.

المراد بالقسط العدالة، أي أن السمة الثانية من سمات الإمام أن على عاتقه وكاهله توزيع الثروة توزيعًا عادلًا، كما كان الإمام أمير المؤمنين يوزّع الثروة كلها، ويجعل بيت المال خاليًا، ويصلي فيه ركعتين، لا يقر له قرار حتى يوزّع خراج أراضي المسلمين على فقراء المسلمين والمحتاجين من قبل المسلمين.

السمة الثالثة: الدائن بالحق.

المقصود من الدينونة بالحق أن يكون الإمام حقّانيًا، بمعنى ألا تكون دواعيه إلا دواعيَ حقانيةً، لاحظوا عندما قال الرسول الأعظم : ”علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار“، فإنه ليس المقصود بالحق هنا الحق السلوكي فقط، نعم علي لا يصدر منه سلوك إلا إذا كان سلوكًا حقًا وموافقًا للحق، لكنه يريد بذلك أنه حقانيٌّ حتى على مستوى دواعيه النفسانية، فعليٌ نفسه وروحه منصهرة بالحق، فلا تنجذب نفسه إلا إلى حق، ولا تنصرف نفسه عن شيء إلا إذا كان باطلًا، فهو حقانيٌّ حتى في دواعيه وانفعالاته.

لذلك يكون حقانيًا حتى على نفسه، وهذا معنى قوله: ”الدائن بالحق“، من دان الله بالحق انصهرت روحه به، وإذا انصهرت روحه به كان حقانيًا حتى على مستوى دواعيه وانفعالاته واستجاباته وتفكيره، وليس الإمام إلا ذلك؛ لأن الإمام هو الذي يقود المجتمع إلى الحق، فلا بد أن يكون حقانيًا، كي يكون مصدرًا للحق، كما قال تبارك وتعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، إذا لم يكن الإمام مهتديًا بذاته وحقانيًا بذاته، إشارة إلى الحقانية بالذات، مقابل الحقانية بالعرض، هناك من يكون حقانيًا بالعرض، بأن يعلَّم كيف يسير على الحق، وهناك من هو حقانيٌّ بالذات، الحقاني بالذات هو الذي يصلح أن يكون مصدرًا لإفاضة الحق على الناس، ولهداية الناس إلى الحق.

السمة الرابعة: والحابس نفسه على ذات الله.

بمعنى أنه أبعد نفسه عن المطامع الدنيوية، والزخارف المادية، وجعل جميع شؤون حياته لله تبارك وتعالى، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”إن الله فرض على أئمة العدل أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس؛ كي لا يتبيّغ بالفقير فقره“، وهكذا كان الأئمة الطاهرون.