فصل الخطاب - الحلقة 8

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين

من حديث الحسين لعبد الله بن الزبير: «إنّ أبي حدّثني أنّ بمكّة كبشًا به تُسْتَحَلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون ذلك الكبش، ولَئِن أُقْتَل خارجًا منها بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقْتَل فيها، وأيم الله لو كنتُ في ثقب هامّةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، واللهِ ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت» وقال في كلامه لأخيه محمد بن الحنفية: «أخافُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي تُسْتَبَاح به حرمة هذا البيت» وحديثه يتضمّن الكلام حول مضمونين:

المضمون الأوّل: أهمّية حرمة الكعبة الشريفة.

هنا قد يقال بأنّ الشيعة الإمامية لا يرون للكعبة حرمة كما يرون لقبر الحسين أو لقبور الأئمة الطاهرين من أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مع أنّ رواياتنا وأحاديثنا كلّها مؤشّرة بإشارةٍ واضحةٍ على عظمة حرمة البيت الحرام لدى الأئمة الطاهرين والشيعة الإمامية، فهنا تعرّض الفقهاء إلى أمور ثلاثة لبيان حرمة الكعبة الشريفة وحرمة البيت الحرام:

الأمر الأوّل:

لو دار الأمر بين الكعبة وبين نفس المؤمن، لو فرضنا بأنّ هناك داهمًا قد دهم فإمّا أن يقضي على الكعبة أو يقضي على المؤمن بحيث لا يمكن الحفاظ على كليهما فهنا تقدّم نفس المؤمن لما ورد في الحديث عن النبي لدى الفريقين: «إنّ المؤمن أكرم عند الله من الكعبة» أي أنّ نفس المؤمن أشدّ حرمة في مقام التزاحم بين حفظ المؤمن أو حفظ الكعبة، في مقام التزاحم حرمة نفس المؤمن أشدّ من حرمة نفس الكعبة، إذن إذا دار الأمر بين هذين الطرفين قدّمت نفس المؤمن لأنّها أشدّ حرمة من حرمة الكعبة الشريفة، وهذا بلا خلاف بين المسلمين.

الأمر الثاني:

إذا اعتدى ظالمٌ أو سلطانٌ أو قوّة أو جهة معيّنة على الكعبة بقصد الاعتداء على الدين - لأنّ الكعبة رمزٌ للدين ومنارٌ للدين، فلو أراد ظالمٌ أو جهة معيّنة الاعتداء على هذا الرمز بقصد إهانة الدين وكسره في قلوب المسلمين - فهنا يجب على المسلمين الدفاع عن الكعبة، لا الدفاع عن هذه الأحجار بما هي أحجار بل بما هي رمزٌ للدين؛ لأنّ الاعتداء عليها اعتداءٌ على الدين نفسه، فهنا يدور الأمر بين الدين وبين نفوس المؤمنين، وليس بين الكعبة ونفوس المؤمنين كي يقال بأنّ نفس المؤمن أهمّ حرمة عند الله من الكعبة، الكعبة هنا ستكون رمزًا للدين فالأمر دائرٌ بين كسر الدين وبين بذل نفوس المؤمنين، وهنا يكون الدفاع عن الدين واجبًا بالحفاظ على حرمة الكعبة وبالحفاظ على رمزيتها لهذا الدين القويم.

الأمر الثالث: في المفاضلة بين الكعبة وبين كربلاء، فتوجد رواية مشهورة بأنّ كربلاء أفضل من الكعبة.

وفي حديث كربلا والكعبة   لكربلا  بان  علو  iiالرتبة

المقصود بهذه المفاضلةِ المفاضلة بلحاظ من فيها وليس بلحاظ ذاتها، أي أنّ الكعبة تشتمل وتقترن حولها قبور الأنبياء - كإسماعيل وغيره من الأنبياء - فإذا دار الأمر في مقام التفضيل بين الكعبة بلحاظ من ينزل ويسكن حولها من الأنبياء الصالحين وبين تربة كربلاء بلحاظ من يسكن فيها من الحسين وذرّيته الطاهرة التي أُبِدَيت دفاعًا عن الدين وعن المبادئ فهنا تكون كربلاء مقدّمة.

إذن تفضيل كربلاء على الكعبة بلحاظ من حوته هذه التربة المباركة في مقابل من حوته تربة الكعبة من قبور الأنبياء والمرسلين.

والنتيجة أنّ حرمة الكعبة الشريفة شديدة عظيمة لدى الأئمة الطاهرين ولدى الشيعة الإمامية، لذلك على الإنسان لو علم بأنّه لو بقي في الكعبة لقُتِلَ أن يخرج منها كيلا يكون قتله سببًا لانتهاك حرمتها وسببًا للاستخفاف بمقامها، نعم لو دار الأمر بين حفظه كما لو جاء سيل أو جاء زلزال ودار الأمر بين حفظه وحفظ الكعبة قدّمت النفس المحترمة على حفظ الكعبة، أمّا لو لم يدر الأمر بينهما وأحرز الإنسانُ أو احتمل أنّه لو بقي عند الكعبة لقُتِلَ فإنّه يجب عليه الخروج لكيلا يكون قتله سببًا في انتهاك حرمة الكعبة المشرّفة، وهذا ما تحدّث عنه الحسين في هذا المقطع حيث قال: «إنّ أبي حدّثني بأنّ بمكّة كبشًا به تُسْتَحَلّ حرمتها» أي: بسببه تُسْتَحَلّ حرمتها، وفي هذا تعريضٌ بابن الزبير نفسه، فالحسين لم يقل هذا لغير ابن الزبير لعلمه بأنّ ابن الزبير سيأوي للكعبة في قتاله للأمويين، وسيجعل الكعبة منطلقًا لقتاله الدولة الأمويّة فهو بذلك سيكون سببًا في انتهاك حرمة الكعبة الشريفة، «إنّ أبي حدّثني بأنّ بمكّة كبشًا به تُسْتَحَلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون ذلك الكبش، ولَئِن أُقْتَل خارجًا منها بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقْتَل فيها».

المضمون الثاني في هذا الحديث الشريف: الحديث عن ضرورة شهادته وقتله .

حيث قال: «وأيم الله لو كنتُ في ثقب هامّةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني كي يقضوا فيّ حاجتهم، واللهِ ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت» وهذا يرتبط بحقيقة الثورة الحسينية، فقد قلنا فيما سبق: إنّ حقيقة كلّ ثورة بأهدافها، إذا عُرِفَت أهدافها عُرِفَت حقيقة الثورة، وهنا هل أنّ ثورة الحسين ثورة انفعالية؟ أي: نتيجة الاستجابة لمطالب أهل الكوفة ورسائلهم جاءت ثورة الحسين فهي ثورة انفعالية؟

ليس الأمر كذلك، فإنّ الحسين سواءً بايعه أهل الكوفة أم لم يبايعوه فإنّه سيخرج بهذه الثورة والحركة الإصلاحية على كلّ حال، والدليل على ذلك أنّ الحسين لمّا عَلِم بغدر أهل الكوفة وقتلهم لمسلم بن عقيل لم ينثنِ ولم يرجع إلى المدينة مرّة أخرى، بل واصل مسيرته إلى كربلاء من أجل إتمام حركته المباركة.

أم أنّ العامل والهدف من ثورة الحسين هو صيانة منصب الإمامة عن الإذلال بمعنى أنّه حينما عُرِضَت بيعة يزيد على الحسين رفضها وعلّل رفضه لبيعة يزيد بأنّ في بيعة يزيد إذلالاً لمنصب الإمامة وموقع الإمامة «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون» فهل أنّ الثورة تتلخّص في رفض الحسين للبيعة صيانة لمقام الإمامة عن الإذلال بحيث لو لم تُعْرَض عليه بيعة يزيد وترك يزيد له الخيار له بحيث يبايع أو لا يبايع فهل أنّ الحسين سيرجع عن حركته لأنّه لم تُعْرَض عليه بيعة يزيد؟

ليس الأمر كذلك فإنّ صيانة مقام الإمامة عن الإذلال وإن كان هدفًا من أهداف حركته إلا أنّ هدفه أسبق من هذا، وهو ما عبّر عنه الحسين بقوله: «إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

إذن السرّ في الحركة والهدف الأوّل الأصلي للحركة أنّها حركة إصلاحية عُرِضَت عليه بيعة يزيد أو لم تُعْرَض أُرْسِلَت إليه كتب أهل الكوفة أو لم تُرْسَل، فحقيقة الثورة أنّها حركة إصلاحية، من هنا يأتي سؤال آخر وهو أنّ هذه الحركة الإصلاحية إذا كانت تنتهي بقتله والقضاء عليه فما هو جدواها وما هي الفائدة منها مادامت ستنتهي بقتله والقضاء عليه وهو يعلم بذلك «كما ذكرنا في الخطاب السابق الذي تحدّث به في مكّة المكرّمة»؟

والجواب عن هذا:

إنّ الحسين يعلم بأنّه مقتول على كلّ حال، حتى لو بايع يزيد فإنّه سيُقْتَل على كلّ حال، الحسين يعلم بقتله على كلّ حال، لم يكن له خيار في مسألة قتله وإنّما كان له الخيار في تحديد مكان قتله وزمان قتله وكيفية قتله، وإلا فأصل قتله أمرٌ محتومٌ لا يمكن الفرار منه، وهذا ما عبّر عنه بقوله: «وأيم الله لو كنتُ في ثقب هامّةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني» لا مفرّ لي من هذا الأمر، أنا مقتولٌ على كلّ حال سواءً بايعتُ يزيد أو لم أبايعه، «لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، واللهِ ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت» إشارة إلى أنّ جريمة قتله لا تقلّ عن جريمة اليهود عندما قتلوا عشرات الأنبياء في السبت حتى أصبح السبت يومًا مريعًا ومذكّرًا بتلك الجرائم البشعة، الحسين يقول: أنا لم أخيّر في قتلي، وإنّما خُيّرتُ من قِبَل الله في تحديد مكان قتلي، فاخترتُ أن يكون مكان قتلي كربلاء وليس مكّة ولا المدينة لكي تكون كربلاء قِبْلة للأحرار وقِبْلة للمؤمنين الشيعة والمسلمين جميعًا إلى يوم القيامة، قِبْلة للثورة والحركة «حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وأنا خُيّرتُ في زمان قتلي فاخترتُ أن يكون زمان قتلي يوم عاشوراء، لاحظوا أنّ الحسين قد أخّر القتال إلى يوم عاشوراء، حيث أراد عمر بن سعد أن يبرم القتال وأن يوقعه يوم التاسع، فالحسين طلب تأخيره إلى يوم العاشر لعلمه بأنّ هذا اليوم يومٌ عظيمٌ عند الله تبارك وتعالى، فإنّه اليوم الذي هيّأه الله لِأنْ يكون موعدًا لخروج المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وبارك فيه على كثيرٍ من الأنبياء والمرسلين، فهو يومٌ عظيم ولذلك اختار الحسين أن يكون مقتله في هذا اليوم، كما اختار كيفية قتله حيث أنّه حمل النساء معه والأطفال ليكون قتله جريمة ترتكبها الأمويّون لا يمكن اغتفارها أبدًا.

إذن الحسين سائرٌ على كلّ حال وهو يعلم بقتله على كلّ حال، فلم يكن مخيّرًا في قتله وإنّما كان مخيّرًا في مكانه فاختار كربلاء وخرج من مكّة المكرّمة كيلا تُسْتَحَلّ حرمتها، واختار زمان قتله لكي يكون يوم عاشوراء فيكون هذا اليوم متّصلاً بحركة الأنبياء في هذا اليوم وحركة المهدي عجّل الله تعالى فرجه في هذا اليوم، واختار كيفية قتله لتكون مظلوميته درسًا للأحرار ومنبّهًا لضمير الأمّة ومحرّكًا لإرادتها وعزيمتها، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا بالحسين وأن يحشرنا مع الحسين.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين