فصل الخطاب - الحلقة 9

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

من جملة البيانات التي اقترنت بشروع الحسين في ثورته المباركة: تلك البيانات والخطابات التي صدرت من الحسين حين لقائه بالحر بن يزيد الرياحي، فالبيان الأول: حينما صلى الحسين صلاة الظهر، وقام خطيبًا، وكان من جملة الحاضرين الحر وجماعته، فقال في خطابه: ”أيها الناس، إني لم آتاكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم، أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم“.

وهنا نلاحظ أن الحسين قال: ”وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم“، فهل هذا يعني أن الحسين عدل في تلك الفترة عن ثورته وحركته لأنه اكتشف انعدام الناصر، وأن الأرضية في العراق لم تكن مؤهلةً لنصرته والمساهمة في إنجاح ثورته المباركة؟ ألم يكن الحسين مصمّمًا على هذه الحركة على كل حال؟ فما هو وجه قوله: ”فإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم“؟ والجواب عن هذا السؤال يتبيّن بذكر أمور:

الأمر الأول: موضوع التغيير هو موقع الحركة لا أصلها.

إنَّ الحسين يتحدث هنا عن تغيير موقع الحركة، لا عن تغيير الحركة نفسها، فالحركة التي شرع فيها الحسين ، وهي حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحركة الإصلاح، التي عبّر عنها بقوله: ”وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وشيعة أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق“، بما أن منطلق الحسين منطلقٌ قرآنيٌ في حركته، وهو قوله عز وجل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فلا يمكن للحسين العدول عن هذه الحركة لأنه لم يجد العراق مؤهلًا للقيام بحركته، والحسين عارفٌ مسبقًا بقتل مسلم بن عقيل، وغدر كثير من أهل الكوفة به.

إذن فقوله: ”فإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت“ ليس المقصود به العدول عن أصل الحركة، وإنما تغيير موقع الحركة، فالحسين سيخوض حركة الإصلاح والتغيير على كل حال، ولكن موقع هذه الحركة هل هو الكوفة، أو هو المدينة، أو هو مكان آخر؟ الحسين يقول: إذا كان أهل الكوفة كارهين لمقدمي، وغير مستعدين لنصرتي، فإنني أتجه إلى موقع آخر للحركة، باعتبار أن الحركة تحتاج إلى الموقع المناسب، كما صنع النبي عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فإن هجرة النبي من مكة إلى المدينة لم تكن عدولًا عن مواجهة المشركين في سبيل الدعوة الإسلامية، وإن كان تغييرًا لموقع الحركة باختيار الموقع الأفضل، وهذا هو مقصود الحسين ، لا أنه انسحاب وعدول عن أصل ثورته التي انطلق إليها - كما ذكرنا - بمنطلق قرآني.

الأمر الثاني: علاقة كلامه بإقامة الحجة على أهل الكوفة.

إنَّ قول الحسين : ”انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم“ مع علمه بأنه سيقتل في منطقة كربلاء، وكما ذكرنا في خطابه السابق بمكة: ”كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا“، فبعد أن كان عالمًا بأن مقتله كربلاء، وأنه خطط للوصول إلى هذا المكان، والدليل على ذلك أنه لما أخبره أصحابه بأن تلك المنطقة هي كربلاء لم يتجاوزها، بل قال: انزلوا هاهنا محل رحالنا، فنزل بمنطقة كربلاء، وهذا كله يكشف عن تخطيط سماوي مسبق يسير عليه الحسين، وهو الوصول إلى هذه المنطقة، ليكون مقتله بها، وقبره فيها. فلأجل ذلك، ما هو مقصوده من قوله: ”انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم“؟

إنَّ هذا الخطاب - كما يقال - لا يراد به ما هو ظاهره، المراد الاستعمالي منه غير ما هو المراد الجدي، فالمراد الاستعمالي منه هو أن يعود الحسين إلى المدينة، لكن المراد الجدي منه هو قطع العذر وإقامة الحجة، الحسين يقول: إذا كنتم كارهين لمقدمي انصرفت عنكم، بمعنى: انقطعت حجتكم في قتالي، فإنني إذا انصرفت عنكم، بمعنى: لم أقاتلكم، فليس لكم حجة في قتالي، وهذا من باب إقامة الحجة عليهم، وهو أن المبرّر لقتالكم لي ومواجهتكم لي أنني قدمت عليكم، وأما إذا أنا عدلت عن القدوم إليكم، وانصرفت إلى المكان الذي جئت منه فلا حجة لكم ولا مبرر لكم في قتالي.

إذن فالمقصود من هذا الخطاب ليس ما هو ظاهره، من أنه يريد أن يعود إلى المدينة، مع أنه مخططٌ للوصول إلى كربلاء، وإنما المراد به قطع الحجة وقطع العذر أمام القوم في قتالهم إياه. أيها القوم، ما دمتم كارهين لمقدمي فدعوني أنصرف، بمعنى: فليس لكم الحجة في قتالي بعد هذه اللحظة، وبعد هذه الساعة؛ حيث علمتم بأنني لن أقدم إلى الكوفة، ولن أدخلها، فبما أنني سأنصرف إذن فليس لكم الحجة وليس لكم المبرر في قتالي، فهذا البيان منه قطعٌ للعذر في قتالهم إياه، وإقامةٌ للحجة عليهم، بأنهم لا مبرر لهم لقتالهم، ما دام قد عزم على الانصراف عنهم، أي: عن الدخول إلى الكوفة.

الأمر الثالث: طلب إخلاء السبيل.

المستفاد من هذا المقطع من كلامه الشريف المبارك أن الحسين يريد منهم إخلاء سبيله، فقوله: ”وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم“ بمعنى: أعطوني الفرصة للانصراف، أعطوني الفرصة للخروج من مواجهتكم، هذا طلبٌ من الحسين بإخلاء سبيله، وإعطائه الفرصة حتى لا تكون بينه وبين القوم مواجهة، فهو ليس عدولًا عن ثورته المباركة، ورجوعًا للمدينة، وإنما المراد منه أن يُظْهِر للقوم أنه أسيرٌ بين أيديهم، وأن عليهم إذا كانوا مؤمنين بالله، وإذا كانت لهم قيم عربية وشيم عربية، أن يخلوا سبيله، ما دام ليس عازمًا على مواجهتهم، ولا ناويًا لقتالهم.

ثم نلاحظ في لقائه مع الحر بن يزيد الرياحي أن الحسين عندما أراد الصلاة صلى معه الحر، فقال الحسين للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك. وهذا معناه أن الحر بن يزيد الرياحي مع جماعته كان يرى في الحسين القدوة الصالحة، مع أنه جاء من أجل أسره وتسليمه لعبيد الله بن زياد، لكنه مع ذلك كان يرى فيه القدوة الصالحة التي يُتَقَرَّب بالصلاة معها.

صلى بهم الحسين ، فلما كان وقت العصر قام الحسين خطيبًا فيهم مرة أخرى، وهذا دليلٌ على مدى رحمته وعطفه ، لماذا الحسين يكرر هذه الخطابات؟ لماذا الحسين يؤكد على نفس المضمون في كل خطاب؟ لأنه يريد أن يوصلهم إلى آخر رمق من الرحمة، يريد أن يقول لهم إلى آخر لحظة هناك فرصة لكم لتنالوا الرحمة الإلهية، ولتنالوا الشفقة الحسينية، أراد أن يطيعهم فرصة للتوبة، أراد أن يعطيهم فرصة للرجوع، أراد أن يعطيهم فرصة للإنابة، وهذه رشحات من رحمته المباركة.

وكيف لا وهو مظهر لرحمة جده رسول الله الذي قال القرآن الكريم عنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، والرسول كان رحيمًا بالمشركين حتى عندما فتح مكة، قال: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فالحسين امتدادٌ لهذه الرحمة ولهذا العطف الذي تجسّد في جده رسول الله ، وتمثّل في شخصية الحسين ، فإنه في يوم عاشوراء بكى على القوم بكاءً شديدًا، وقال: ”أبكي على هؤلاء؛ يدخلون النار بسبب قتلي“، وكان الحسين من شدة رأفته ورحمته بالقوم أنه كان كثير الوعظ وكثير الزجر وكثير التنبيه، لعل الله يهدي منهم واحدًا إلى الحق.

قال: ”أما بعد أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم“، أي أنه يريد منهم أن يسلكوا سبيل الرضا إلى الله، أن يسلكوا سبيل التوبة والإنابة إلى الله، ”فإنكم إن تتقوا الله“ بأي شيء يتقون الله؟ ربما كان هؤلاء يصلون ويصومون، ولكن مراده بالتقوى هو تسليم الحق لأهله، تسليم ولاية الأمر لأهلها من آل بيت رسول الله ، ولذلك أردفها بقوله: ”فإنكم تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم“، وليس المقصود بالمعرفة هنا المعرفة العلمية، فهم جميعًا يعرفون أن الحق لآل النبي ، وعلى الأقل إن لم يؤمنوا بأن آل محمد أئمة أوصياء مجعولون من قِبَل الله تبارك وتعالى، فعلى الأقل أنهم أولى من بني أمية بولاية أمر الأمة؛ لكونهم ورثة رسول الله في علمه وفي خلقه وفي قيادته الرشيدة، وهذا هو مقصوده من قوله: ”يكن أرضى لله عنكم“.