مراتب الغفران

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا[1] .

صدق الله العلي العظيم.

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث في عدة محاور:

المحور الأول: في ضرورة الوعد والوعيد.

بيان ذلك: إن الإنسان بطبعه ميّال للانجرار والاسترسال وراء شهواته، فقد ذكرت الآية المباركة ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ[2] . والمقصود بالنفس الأمارة سيطرة الغريزة والشهوة على الإنسان وحاكميتها عليه، بحيث يسترسل ويتماشى معها بمقتضى حاكميتها وسيطرتها، فلذلك لا ينفع في الإنسان أن يسجّل أوامر ونواهي في حقه فقط، بمعنى أن مجرد صدور التكاليف من الأوامر والنواهي الإلهية ومجرد صدور التشريعات لا يكفي في ضمان عدم انحراف الإنسان.

لو أن الله تبارك وتعالى اكتفى بالتشريعات فشرع الأوامر كالأمر بالصلاة والصوم، وشرّع النواهي كالنهي عن الخمر والغيبة وغيرها من المعاصي، فإن مجرد التشريع لا يكفي في صيانة الإنسان عن الانحراف وعن الاختلاف والبعد عن الصراط المستقيم، لأن الإنسان ميّال بطبعه لأن ينحرف ولأن يجري وراء غريزته، فمجرد التشريع لا يكفي في صيانته بل لا بد من ضميمة مع التشريع وهي الوعد والوعيد، وعد الإنسان المطيع بالجنان والثواب والرحمة يكون محفزاً له للعمل بالطاعة وباعثاً له نحو البعد عن المعصية فوعد المطيع بالجزاء بالأوفى ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا[3] . ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[4] .

هذا الوعد باعث نحو الطاعة ومحرك نحو القربة لله تعالى، وكذلك يحتاج إلى مرتبة الوعيد، ما لم يكن هناك وعيد بالعقاب وبالعذاب لا ينثني الإنسان عن الاسترسال وراء شهوته، فلو أن الله تبارك وتعالى ترك العباد وقال: لقد شرعت لكم الأمر والنهي والوجوب والحرمة والتكاليف المختلفة ولكنكم لو خالفتم التشريع فلن أعاقبكم لما أطاعه احد، فلو أن الله لم يجعل مع التشريع وعيداً لما أطاعه احد، ولما انجذب نحو الطاعة أحد، ولما ابتعد عن المعصية احد إلا النادر الخلص من الناس، فمجرد التشريع لا يكفي في ضمان الطاعة وإحراز الانضباط والاستواء على الصراط المستقيم.

بل لا بد مع التشريع من ضميمة الوعد والوعيد فهما ضروريان عقلاً لضمان انضباط الإنسان واستقامته، فإن الإنسان إذا حفّ بالوعد كانت غريزة الخوف تحركه نحو الطاعة تخلصاً وفراراً من الوعيد، وغريزة الرغبة تبعثه نحو الطاعة تحصيلا للوعد الذي وعِد إياه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[5] . فالوعد والعيد عنصران ضروريان لضمان استقامة الإنسان.

وهل يجب على الله أن يفي بوعده؟ وهل يجب عليه أن يفي بوعيده؟ في الجملة نعم، عدم الوفاء بالوعد أصلاً قبيح، والقبيح لا يصدر عن الحكيم المطلق تبارك وتعالى، فهو بلاحظ مولويته لا يجب عليه تبارك تعالى لا الوفاء بالوعد ولا الوفاء بالوعيد، لأن مولويته مطلقة، ومالكيته مطلقة، ولا يحد مولويته ولا مالكيته حد، فليس هناك مولى فوقه كي يفرض عليه أن يفي بالوعد أو أن يفي بالوعيد، كما أن العقل ليس مولى تجاه المولى الحكيم تبارك وتعالى كي يفرض على الله أن يفي بالوعد أو يفي بالوعيد، ولكن لأن الله تبارك وتعالى كامل ومجمع الكمال؛ فمقتضى كماله وفاؤه بالوعد، فوفاؤه بالوعد ليس حكماً مفروضاً عليه، وإلا فإن مولوية الله تبارك وتعالى تأبى أن يفرض عليها حكم فإنه المولى المطلق وفوق كل مولى ولكن مقتضى كماله وحكمته تبارك وتعالى وفاؤه بالوعد فوفاؤه بالوعد واجب عقلاً يعني مقتضى كماله، ليس معنى الوجوب إلا هذا، أنه مقتضى كماله.

وكذلك وفاؤه بالوعيد، يعني لو افترضنا أن الله لا يعذب أحداً، صحيح أنه توعد العاصين بالعقاب والنار لكن لا يعذب أحداً؛ هذا يبطل فاعلية الأحكام الشرعية لو أحرز الخلق أن الله وإن توعدهم بالعقاب لكنه لن يعاقب أحداً بمقتضى سعة رحمته تبارك وتعالى التي قال عنها ”ورحمتي وسعت كل شيء“ لو أحرز الخلق ذلك لتجرؤا على المعاصي، ولبطلت التكاليف ولم يكن لهذه التشريعات فاعلية ولا محركية للإنسان نحو الطاعة والقربة، إذن كما أن وفاءه بوعده واجب، بمعنى انه مقتضى حكمته وكماله، فإن وفاءه بالوعيد في الجملة - يعني عقاب البعض - واجب أيضاً عقلاً فإنه مقتضى حكمته إذ لولا إن نحرز انه سيفي بالوعيد في الجملة - ولو بالنسبة لبعض الخلق - لما كانت هذه التكاليف محركة لنا نحو الطاعة والقربة، فمقتضى الحكمة وفاءه بالوعيد أيضاً وإن كان في الجملة وبالنسبة لبعض الناس هذا بالنسبة للمحور الأول: ضرورة الوعد والعيد.

المحور الثاني: الفرق بين العفو وبين المغفرة.

هناك عنوانان وردا في القرآن الكريم: عنوان العفو وعنوان المغفرة، وفرق بين العنوانين.

العفو عبارة عن تناول الشيء، إذا تناولت شيئاً فقد عفيته، مثلاً يقال عفت الرياح على الديار، إذا مرت الرياح على الديار وتناولت ما فيها وحولته إلى رماد وإلى رميم، أو يقال عفا الزمان على بني فلان، يعني تناولهم فلم يبق منهم بقية ولا أحداً، فالعفو: تناول الشيء؛ لذلك يقال: عفا الله عن فلانٍ يعني تناول ذنبه، فتركه بلا ذنب، أخذ الذنب منه، فصار بلا ذنب، فالعفو بمعنى تناول الذنب ومحوه وإسقاطه.

وأما المغفرة فهي عبارة عن الستر، لذلك المغفرة متفرعة عن العفو، إذا حصل العفو؛ حصلت المغفرة، إذا تناول الله الذنب ورفعه فقد ستر هذا الذنب، ستره عن الملائكة فلا يرون ذنباً، ستره عن الخلق فلا يرون ذنباً، ستره حتى عن المذنب نفسه لأن المذنب يعيش ألم الذنب ويعيش وخزة الذنب ويعيش الآثار الروحية والوضعية للذنب، فإذا عفا الله عنه ومحا آثار الذنوب من نفسه، فقد ستر ذنبه عنه أيضاً، فالمغفرة هي الستر، والعفو هو المحو، لذلك المغفرة مترتبة على العفو.

ولذلك ورد في القرآن تقدم العفو على المغفرة: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا[6] . يعني المغفرة بعد العفو، وقال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[7] . وكما ان العفو يتناول الذنوب، كذلك يتناول الآثار السيئة للذنوب مثلاً إنسان يصاب بمرض فهذا أثر سيء في بدنه، يعفو الله عن بدنه، يعني يزيله عن بدنه فالعفو ليس خاصاً بالذنوب، حتى بالنسبة للآثار السيئة على البدن، مثلاً: قوله عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ[8] . يعني يمحو كثير من المصائب ومن الابتلاءات ﴿وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ[9] .

لاحظوا أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الشرك والكفر فإنه يعتبره موتاً والذنب ظلمة، يعني درجات: الكفر موت لكن الذنب ليس موتاً بل هو ظلمة، وفي مقابل الكفر والذنب النور، والنور له درجات، عندما يقول الباري تبارك وتعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ[10] . أحييناه يعني نقلناه من الكفر إلى الإيمان ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا[11] . يعني الطاعة مقابل المعصية لأن المعصية ظلمة والطاعة نور، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا[12] .

فالإيمان حياة والطاعة نور ولكن هذا النور يقبل النقيصة والزيادة، فإذا صنع الإنسان بعض الذنوب تناقص نوره، فيحتاج إلى أن يتم نوره بالعفو والمغفرة، فإن العفو والمغفرة من الله إتمام لنور الإيمان، ولنور الطاعة، ولذلك قال تبارك وتعالى في بعض الآيات القرآنية: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا[13] . يعني بالعفو والمغفرة حتى يزول النقص﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا[14] .

أما كلمة «عفا» في قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ[15] . واستشهاد البعض بها على أن النبي أذنب، فهذا دعاء وليس إخباراً، فلو كان إخباراً لدل على وجود ذنب، فتارة مثلاً أنا أخبر عنك فأقول: لقد عفا أبوك عنك، «لقد عفا» يعني كنت مذنباً، والآن أبوك عفا عن ذنبك تجاهه، فهذا إخبار يدل على وجود ذنب، أما إذا كان دعاءً مثل: «غفر الله لك» فليس بالضرورة أن يكون مذنباً، الدعاء لا يتوقف على صدور ذنب، حتى تكون المغفرة لك واجبة، وإنما هو مجرد دعاء لطلب الرفعة، رفعة مقامك، هنا ايضاً هذه الآية دعاء وليس إخباراً، ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ دعاء للنبي بالرفعة وكمال المقام وليس إخباراً، حتى يدل على وجود ذنب صدر من النبي محمد . إذن هذا هو المحور الثاني وهو الفرق بين معنى العفو والمغفرة.

المحور الثالث: مراتب ودرجات العفو.

العفو له مراتب ودرجات كما أن الذنوب لها مراتب ودرجات، قسّم علماؤنا علماء الكلام رضوان الله تعالى عليهم الذنب إلى أربعة أقسام: الذنب الشرعي، والذنب الإرشادي، والذنب الخُلُقي، والذنب الروحي، وسنعدد هذه الذنوب حتى نعرف ما يقابلها من العفو والمغفرة.

القسم الأول: الذنب الشرعي.

وهو مخالفة الأمر والنهي الشرعيين الصادرين من الله تبارك وتعالى بما هو مشرع كترك الصلاة وارتكاب الغيبة والنميمة وأشباه ذلك، فهذا ذنب شرعي يجب على الإنسان أن يتوب منه، ومتى ما تاب منه غفر الله له، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[16] . ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ يعني بالتوبة.

القسم الثاني: الذنب الخُلقي.

وهو مخالفة ما يقتضيه العقل العملي، فالإنسان عنده عقل عملي، فإذا خالف مقتضى العقل العملي - حتى لو لم يخالف الشرع - فإنه يسمى ذنباً، وهذا ذنب خلقي. وسأضرب لك بعض الأمثلة: علماؤنا يقولون أن الإحسان للناس أمر خلقي راجح لكنه ليس بواجب فلو أن إنساناً ما أحسن فإنه لم يرتكب أمراً محرماً: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[17] . ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

فلو قال أحد: إن فلاناً أساء إليّ ولا أريد أن أتجاوز عن هذه الإساءة وسأطالبه بها يوم القيامة، فهذا من حقه فهو ليس بمجبور عن تجاوزها، ولكنه لو عفا عنه لكن العفو إحساناً والإحسان كمال مطلوب، هنا العقل العملي يتدخل، فالشرع يقول: لا يجب عليك ان تحسن، - وأما ﴿وَأَحْسِنُواْ[18]  فهو أمر استحبابي وليس وجوبياً -، فالشرع يقول: لا يجوز لك الإساءة لكن لا يجب عليك الإحسان.

لكن العقل العملي يقول: أنت لو لم تعف عن فلان لصارت بينك وبينه حزازات، وبين عائلتك وعائلته، وربما يسبب أضراراً اجتماعية خطيرة، فعليك أن تحسن. هذا حكم من أحكام اعقل العملي فلو ان إنساناً خالف حكم العقل العلمي لاعتُبر ذلك ذنباً خلقياً، لكنه ليس ذنباً شرعياً، وهنا الإنسان يحتاج إلى المعفرة، لا لأنه خالف حكماً شرعياً بل لأجل ترميم وترقيع هذا النقص الذي حدث منه نتيجة مخالفة العقل العملي، هذا قسم ثاني من الذنب.

القسم الثالث: الذنب الإرشادي.

فما معنى الذنب الإرشادي؟ مثلاً: أنا أذهب إلى الطبيب والطبيب يقول أنا لست أباك فضلاً عن أن أكون لهك، يعني أنا ليست لي مولوية ولا حاكمية عليك، أنا مجرد طبيب، فأنا أقول لك على نحو الإرشاد لا على نحو الأمر لأني لست مولى حتى يصدر مني أمر تجاهك فلست أباً ولا سيداً ولا مشرّعاً، ولكنّ ما يصدر مني إرشاد، أقول لك بما أنك مصاب بالسكر فلا تتناول الحلويات فهذه تؤثر على جسمك واستقامة صحتك. فلو قال مريض: وإن نصحني الطبيب وأرشدني محافظةً على صحتي إلى أن لا أتناول هذه الحلويات، إلا أنني لا أقوى على ترك الحلويات، فلو أن المريض خالف الأمر الإرشادي الصادر من الطبيب فهذا يعتر ذنباً لكنه ذنب إرشادي وليس ذنباً شرعياً، لأنه ظلم نفسه وظلم جسده وقصر حياته ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا[19] . هذا يعتبر ذنب إرشادي، مثلما حدث لآدم ، فآدم عندما نهاه الله عن الأكل من الشجرة

ما كان أمراً مولوياً، فآدم ما كان على الأرض حتى يُكلّف، الأرض هي دار التكليف، وآدم كان في مرحلة قبل دار التكليف، فآدم وحوّاء عندما أكلا من الشجرة ما كانا في دار التكليف أصلاً، كانا في دار معنوية أخروية قبل دار التكليف، ما كان يوجد تكليف أصلاً، ولكن الأمر الذي صدر تجاه آدم أن لا يقرب الشجرة كان أمراً إرشادياً، كأمر الطبيب للمريض، الله تعالى قال له: إذا أكلت من الشجرة ستنكشف لك سوءتك، وإذا انكشفت لك سوءتك لن تكون من أهل الجنان حينئذ، فنضطر إلى إنزالك إلى دار التكليف، وهي الأرض، فهذا مجرد أمر إرشادياً ولم يكن أمراً مولوياً.

آدم اقترب من الشجرة وأكل، عبّر عنه القرآن بالمعصية: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى[20] . فليست المعصية معصيةً شرعية بل كانت معصية إرشادية، وهذا من القسم الثالث من الذنوب، معصية إرشادية، يعني خالف الأمر الإرشادي الذي أخسره تلك الدار، وحوّله إلى هذه الدار. دار التزاحم والتضاد والتكليف والثواب والعقاب، ألا وهي الأرض، نزل آدم إلى الأرض.

القسم الرابع: الذنب الروحي.

فما المقصود بالذنب الروحي؟ إذا تعلّق المحب بمحبوبه، إنسان احب زوجته وتعلق بها، هناك من يحب زوجته إلى حد الجنون مثل مجنون ليلى كما يقولون، ولهذا يقولون أن المجانين في النساء كثير بينما في الرجال فهم معدودون مثل مجنون ليلى مثلاً، لأن تعلق المرأة بزوجها أشد من تعلق الزوج بزوجته، فالمجانين من النساء كثير، لكن المجانين من النساء قليل كمجنون ليلى مثلاً ذُكر من الرجال.

فلو تعلق زوج بزوجته أو زوجة بزوجها تعلقاً شديداً فإن مقتضى شدة الحب والتعلق أن لا ينشغل المحب عن محبوبه، دائماً يجعل نفسه في خدمة محبوبه، لأنه متعلق به، وإذا انشغل عنه ساعةً من الوقت يرى هذا الانشغال ذنباً، هو ما أذنب، لكن يرى انشغاله عن محبوبه ذنباً، لأنه في هذا الوقت وهي الساعة التي انشغل فيها عن محبوبه لم يحظ بطعم الجب، ولم يحظ بلذة العشق، فيعتبر هذا الانشغال ذنب، كأنه أذنب في حق محبوبه بالانشغال عنه، هذا يسمى ذنب روحي، وهذا الذنب الروحي هو الذي يصدر من الأولياء أو بعض الأوصياء، بمقتضى سيطرة الحياة.

بالنتيجة هذا النبي أو هذا الوصي إنسان، فهذا الإنسان يحتاج إلى أن يأكل ويشرب وينكح وينام، هو يعتبر هذا الوقت الذي تفرض عليه الحاجة ويضطر فيه إلى أن يأكل أو يشرب أو ينكح أو ينام، يعتبر الانشغال عن معشوقه ومحبوبه الأتم وهو الله تبارك وتعالى ولو انشغال بنوم قهري، بنوم اضطراري، يعتبر الاضطرار للنوم أو النكاح أو الأكل والشرب ذنباً، مع أنه خالص في محبة الله، غارق في عشق الله، فانٍ في لقاء الله، لكن الانشغال بنوم قهري او طعام قهري - ولو لبعض الدقائق - يعتبره ذنباً، لأنه خرج عن الانشغال بالساحة الربوبية، هذا يعتبر ذنب روحي، وهذا الذنب الروحي هو الذي نفسر به الآيات الورادة في حق الأنبياء، التعبير بالذنب أو المعصية في حق بعض الأنبياء يُحمل على الذنب الروحي، لماذا يُحمل على الذنب الروحي؟ لقرينتين:

القرينة الأولى:

لو لم تُحمل هذه الألفاظ على الذنوب الروحية والمقاماتية للزم التناقض بين آيات القرآن، لأن القرآن من جهة يعبّر عن الأنبياء بأنهم مخلَصون: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ[21] . هؤلاء مخلَصون مصَفَون، وقال في حق موسى: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي[22] .

أنت إنسان خالص، فالمخلَص كيف يصدر منه ذنب؟ لأن الشيطان لا يستطيع أن يصل إلى العباد المخلَصين، ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[23] . المخلص لا يصل إليه الشيطان، والقرآن يعبّر عن الأنبياء والرسل بأنهم مخلصون: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ[24] . وقال في حق النبي يوسف عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام: ”إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ“ [25] . وقال في حق موسى: ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا[26] .

لا يجتمع الخلوص مع مقارفة الذنب، لأن المخلص لا يصل إليه الشيطان، فلو لم نفسّر هذه الآيات بالذنب الروحي للزم التناقض بين آيات القرآن، فالقرآن يقول عن النبي نوح: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا[27] . ويقول عن النبي إبراهيم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ[28] . ويقول في حق النبي محمد : ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[29] .

القرينة الثانية:

القرآن الكريم يعبّر بالمغفرة في عدة موارد مع عدم وجود ذنب. مثلاً: عندما يتحدث القرآن عن الظالمين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ[30]  هم لم يذنبوا حتى يعفو الله عنهم! المستضعفين لم يذنبوا، لأنهم مستضعفون، والقرآن نفسه يقول: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً[31] . يعني هم مضطرون لأن يبقوا في هذا المكان فليسوا مذنبين فلمَ يقول: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ كَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا[32] ؟

إذن العفو ليس دائماً لوجود ذنب. هنا استعمل العفو واستعمل المغفرة مع أنه لا يوجد ذنب، لأن المستضعفين غير مذنبين ومع ذلك قال: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ كَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا[33] . إذن يحمل العفو هنا على العفو عن ذنب إرشادي او ذنب خلقي أو ذنب روحي، لأن المستضعفين لم يصدر منهم ذنب شرعي لأنهم مستضعفون.

وأيضاً لاحظ قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[34] . كيف يغفر له وهو مضطر؟ إذا كان مضطراً فهو ليس بمذنب، فالقرآن نفسه يقول: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ[35] . لم يصدر منه إثم، فكيف يقول: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[36] ؟ إذن المغفرة هنا لا تستتبع ذنباً شرعياً، فقد استعنل المغفرة مع عدم وجود ذنب شرعي.

وقال تبارك وتعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا[37] . هذا تيمم ولا يحتاج إلى عفو ومغفرة، تيمم أُمر به الإنسان، وأتى به، وامتثله، فما هي الحاجة إلى العفو والمغفرة؟ إذن هنا أيضاً استعمل العفو والمغفرة مع عدم وجود ذنب شرعي.

وأيضاً عندما يتحدث عن المحسنين: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[38] . هم محسنون فكيف يقول أنهم يحتاجون للمغفرة؟

إذن القرآن استخدم المغفرة في موارد كثيرة ليس فيها ذنب شرعي ولا معصية شرعية، مما يدل على أنه إذا قال: «غُفِرَ» أو «مغفور» فهذا لا يدل على أنه اذنب ذنباً شرعياً.

من هنا نصل إلى الآية المباركة التي قرأناها: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا[39] . هنا عبّر بالمغفرة، والتعبير بالمغفرة لا يدل على وجود ذنب، فقد جئنا بالآيات واستشهدنا بها، فقد عبّر بالمغفرة مع عدم وجود ذنب، هذا أوّلاً.

ثانياً: علّق المغفرة على الفتح، ولو كان المراد بالمغفرة مغفرة الذنب الشرعي لما كان لها ربط بالفتح، فتح مكة، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ[40] . معناها أن هذا الذنب ليس ذنباً شرعياً، ذنب يرتبط بالفتح وليس ذنباً شرعياً، ولذلك علّقه على الفتح.

وثالثاً: عطف عليه النصر، قال: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا[41] .

كل هذه قرائن على أن المراد بالذنب أمر مرتبط بالفتح والنصر، وليس له ربط بالذنب الشرعي.

ولذلك قال علماؤنا أن المراد بهذا الذنب الذنب الاجتماعي، يعني ما اعتبرته قريش ذنباً وهو ليس بذنب.

النبي طبعاً لما صدع بالدعوة أذل صناديد قريش، وتحول بلال الحبشي بمثابة وزير في الدولة، وتحول ذلك الأموي أبو سفيان إلى شخص ليس له أي كيان، فاعتبرت قريش مجيء الدعوة الإسلامية التي رفعت العبيد ووضعت أسيادها، اعتبرته ذنباً كبيراً صدر من النبي في حقها، اعتبرت النبي أذنب في حقها، لأنه أذل أسيادها ورفع عبيدها عليها كما أن مواجهة النبي لقريش في هذه الحروب في بدر وأحد والخندق قبل الفتح وبعد الفتح أيضاً استمرت الحروب كما في الطائف وغيرها، اعتبرت هذا كله ذنباً.

لذلك القرآن يقول سنعطيك الفتح والنصر ونمحو ما تعتبره قريش ذنباً، فهذا الذنب سنمحوه، سينصرك الله عليهم وسيضطرون للاعتراف بنبوتك ورسالتك وسينمحي هذا الذي يعدّ عند قريش ذنباً: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ «يعني قبل الفتح» وَمَا تَأَخَّرَ «يعني بعد الفتح» وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا[42] . وإلا ليس المراد به الذنب الشرعي.

والحمد لله رب العالمين.

[1]  سورة الفتح: 2.
[2]  سورة يوسف: 53.
[3]  سورة آل عمران: 15.
[4]  سورة الطلاق: 2 - 3.
[5]  سورة الزلزلة: 7 - 8.
[6]  سورة البقرة: 286.
[7]  سورة آل عمران: 159.
[8]  سورة الشورى: 30.
[9]  سورة الشورى: 30.
[10]  سورة الأنعام: 122.
[11]  سورة الأنعام: 122.
[12]  سورة الأنعام: 122.
[13]  سورة التحريم: 8.
[14]  سورة التحريم: 8.
[15]  سورة التوبة: 43.
[16]  سورة الزمر: 53.
[17]  سورة آل عمران: 134.
[18]  سورة البقرة: 195.
[19]  سورة الأعراف: 23.
[20]  سورة طه: 121.
[21]  سورة ص: 46.
[22]  سورة طه: 40 - 41.
[23]  سورة ص: 82 - 83.
[24]  سورة ص: 46.
[25]  سورة يوسف: 24.
[26]  سورة مريم: 51.
[27]  سورة نوح: 28.
[28]  سورة إبراهيم: 41.
[29]  سورة النصر: 3.
[30]  سورة النساء: 97 - 99.
[31]  سورة النساء: 98.
[32]  سورة النساء: 97 - 99.
[33]  سورة النساء: 97 - 99.
[34]  سورة المائدة: 3.
[35]  سورة المائدة: 3.
[36]  سورة المائدة: 3.
[37]  سورة النساء: 43.
[38]  سورة التوبة: 91.
[39]  سور الفتح: 1 - 3.
[40]  سور الفتح: 1 - 3.
[41]  سور الفتح: 1 - 3.
[42]  سور الفتح: 1 - 3.