العرفان هو الطريق الى الله

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

صدق الله العلي العظيم

قسم العلماء - انطلاقا من الآية المباركة - المعرفة إلى معرفة آفاقية، ومعرفة نفسية حيث قال جل وعلا ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وهذه إشارة إلى المعرفة الآفاقية. ﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ وهذه إشارة إلى المعرفة النفسية.

وحديثنا في هذا اليوم حول المعرفة النفسية المسماة ب ”علم العرفان“ وذلك في عدة محاور أتعرض إليها:

المحور الأول: في بيان عنوان المعرفة وماهية المعرفة.

المعرفة لها مصطلحان، مصطلح لغوى ومصطلح عرفاني - لدى أهل العرفان -.

المصطلح اللغوي: ما هو الفرق بين كلمة العلم وكلمة المعرفة؟، تارة تقول علمت بالفكرة، وتارة تقول عرفت الفكرة، فما هو الفرق بين العلم والمعرفة؟

العلم هو الصورة التي ترتسم في ذهن الإنسان، بينما المعرفة هي تطبيق الصورة على ما هو المخزون في النفس، مثلا عندما تريني صورة إنسان وتقول لي هذه صورة فلان، أنا عندما أرى الصورة الفوتوغرافية لفلان المعين، هذه الصورة الفوتوغرافية تنتقل إلى ذهني فترتسم في ذهني نفس هذه الصورة الفوتوغرافية، فارتسام الصورة في الذهن علم.

لكن أنا ما زلت متردد في أن صاحب هذه الصورة الفوتوغرافية من هو، ارتسمت صورته في ذهني لكن أنا لا زلت لا أعرفه هل هو من أبناء العشيرة الفلانية؟، هل مو من أبناء المنطقة الفلانية؟، ما زلت مترددا في شخصية صاحب هذه الصورة، فإذا راجعت المخزون عندي من المعلومات - أنا عندي مخزون من المعلومات عن كثير من الناس الذين التقيتهم وصاحبتهم وعاشرتهم - فإذا رجعت إلى المخزون الموجود عندي من المعلومات طبقت هذه الصورة الموجودة في ذهني على واحد ممن أعرفهم قلت نعم صاحب هذه الصورة هو فلان الذي التقيته يوما من الأيام هو فلان الذي تحدثت معه يوما من الأيام.

تطبيق الصورة على ماهو مخزون في النفس يسمى معرفة فالمعرفة مرحلة أرقى من مرحلة العلم لأن العلم هو ارتسام الصورة بينما المعرفة الإذعان لانطباق الصورة على ما هو مخزون في النفس، هذا مو الفرق أو المصطلح اللغوي لكلمة المعرفة لعنوان المعرفة.

أما مصطلح المعرفة لدى أهل العرفان: المقصود به عندما يقال المعرفة لدى أهل هذا العلم ولدى السالكين في هذا الطريق فإن المقصود به هو التوصل بانكشاف حقيقة النفس إلى انكشاف حقيقة الباري تبارك ة تعالى وهو ما عبر عنه الحديث النبوي الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، لقد اهتمت كثير من الأديان والملل والنحل باكتشاف النفس البوذية، المانوية، البرهومانية، المسيحيون، اليهود، والمسلمون، كثير من الأديان اهتمت بمسألة اكتشاف النفس، كيف يكتشف الإنسان نفسه؟!.

طبعا نحن مشغولون بالأمور المادية ولذلك انشغالنا بالأمور المادية يحجبنا عن اكتشاف أنفسنا، لا يمكن للنفس أن تشتغل بعملين في آن واحد ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لا يمكن للنفس أن تشتغل ب تفكيرين وبعملين في آن واحد، الإنسان إذا اشتغل بمذاكرة دروسه لا يمكنه في نفس الوقت أن يشتغل بنظم قصيدة، لا يجتمعان، لا يمكن للأإنسان إذا اشتغل بمذاكرة دروسه أن يشتغل في نفس الوقت بنصية أخيه وبتعليم أخيه لا يجتمعان.

النفس إذا انشغلت بعمل صرفها عن الإشتغال بعمل آخر فإذا اشتغل الإنسان بإعداد حياته يخرج من الصباح يرجع الليل، في عمله، في وظيفته من أجل كسب الراتب، من أجل كسب المعاش، اشتغال الإنسان في وقت الذروة وقت ذروة نشاط الإنسان هو الصباح، الإنسان بطبيعته في الليل يخلد إلى الاسترخاء، يخلد إلى الكسل.

طبيعة جسم الإنسان ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا، الليل يخلد فيه جسم الإنسان إلى الراحة والاسترخاء فوقت ذروة النشاط وقت الصباح لا يمكن للنفس في هذا الوقت وقت ذروة النشاط أن تشتغل بعملين فإذا اشتغل الإنسان بمعاشه بحياته المادية بإعداد راتبه لا يمكنه في نفس الوقت أن يشتغل باكتشاف نفسه فلذلك انشغالنا بأمورنا المعاشية انشغالنا بأمورنا المادية حاجب وعائق أمام اكتشاف أنفسنا.

لا يمكن لنا الجمع بين اكتشاف النفس والاشتغال بالأمور المالية لذلك اهتمت كثير من الملل والأديان بإبعاد الإنسان فترة ما ليس من اللازم أن تكون طول السنة، بل ولو فترة شهر رمضان، ولو فترة من الفترات، اهتمت كثير من الأمم والأديان والملل بإبعاد الإنسان فترة ما عن الإنشغال بالأمور الدنيوية عن الاشتغال بالأمور المادية من أجل أن يشتغل بإكتشاف نفسه ومن أجل أن يشتغل بالوصول إلى جوهر نفسه وحقيقة نفسه.

وانقسم هؤلاء المشتغلون إلى ثلاث طوائف:

طائفة من هؤلاء اشتغلت باكتشاف النفس لأجل أن تصل إلى الغرائب والعجائب من الأفعال: يعني الآن مثلا أهل السحر، أهل الطلسمات، أهل السيمياء، أهل تحضير الأرواح، أهل تسفير الأرواح، هؤلاء اشتغلوا بإكتشاف النفس لكن هدفهم من الإشتغال برياضة النفس واكتشاف النفس ليس إلا أن يصلوا إلى الأفعال الغريبة أن يتمكنوا من السحر، أن يتمكنوا من الطلسمات أن يتمكنوا من تحضير الأرواح من تسفير الأرواح فهم اشتغلوا برياضة نفسية، خصوصا في الهند.

ترى أن هذا الإنسان بأتي يحفر له حفيرة في الأرض ويجلس في الحفيرة ستة أشهر، أو يعود نفسه مثلا على أكل الزجاج، أو يعود نفسه على أكل التراب أو يعود نفسه على أن لا يأكل اللحوم كلها، هذا رياضة للنفس لكن هذه الرياضة المقصود منها أن يصل إلى أفعال غريبة لا يصل إليها غيره.

طائفة الأخرى: اشتغلت باكتشاف النفس من أجل اكتشاف النفس، فاكتشاف النفس عندها هدف تسعى إليه، كثيرون سمعوا أن اكتشاف النفس ومعرفة النفس شيء جميل فاتعبوا أنفسهم في اكتشاف النفس لأجل اكتشاف النفس، أصبح الهدف والغاية هو اكتشاف النفس، هؤلاء هم أهل التصوف، المتصوفة أيضا أشلغوا أوقاتهم وأنفسهم بإكتشاف النفس ورياضتها لكن هدفهم من ذلك هو نفس العمل هو اكتشاف النفس وليس شيئا آخر.

أما الطائفة الثالثة - وهي الطائفة الصحيحة -: هي التي اشتغلت باكتشاف النفس لا لأجل اكتشاف النفس، لا لأجل اكتشاف النفس بل لأجل أن يكون اكتشاف النفس طريقا للوصول إلى الله، فاكتشاف النفس مجرد طريق ملحوظ كما يقول العلماء على نحو الطريقية، لا على نحو الموضوعية، ما اكتشاف النفس إلا جسر يوصل إلى معرفة حقيقة الباري تبارك وتعالى.

”من عرف نفسه فقد عرف ربه“ وهؤلاء هم أهل العرفان الحقيقيون الذين اشتغلوا بتهذيب أنفسهم وإصلاحها واكتشاف كنهها وجوهرها سبيلا إلى الوصول إلى الله تبارك وتعالى.

المحور الثاني: ما هي الخطوات التي يسلكها الإنسان في سبيل اكتشاف النفس وفي سبيل معرفة النفس وفي سبيل أن يضع قدمه على طريق السالكين إلى الله تبارك وتعالى؟

الخطوة الأولى: أن يدرك الإنسان نقطة المنتهى، كيف يدرك نقطة المنتهى؟

نلاحظ عندنا عدة آيات قرآنية تصرح أن الإنسان يسير إلى الله وهو لا يدري، هو يسير إلى الله، كيف؟ هو لا يدري، مثلا ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ أين أنت كادح؟! لست كادح للراتب ولا للمعاش ولا للثروة أنت مشتبه، أنت كادح إلى شيء آخر ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ في لقاء يوم من الأيام أنت تسير نحو الله.

أنت تظن أنك تسير نحو الثروة نحو المال نحو الجاه، لا أنت تسير نحو الله ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ وقال من آية أخرى ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى منتهى السير هو الله، ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، كل إنسان هو يسير نحو الله لكن المهم أن يلتفت إلى أنه يسير نحو الله هذا هو المهم، كل إنسان هو سالك إلى الله شاء أم أبى.

فالمهم أن يلتفت ويشعر أنه يسير إلى الله، أن يشعر ويلتفت أنه سالك إلى الله هذا هو المهم، فالخطوة الأولى من خطوات معرفة النفس أن تشعر أنك تسير نحو الله، أن تشعر أنك سالك نحو الله، أن تعرف ذلك أنك في الطريق إلى الله عز وجل وأن إلى ربك المنتهى.

الخطوة الثانية: أن يدرك الإنسان أن النقس البشرية عين التعلق لا شيء له التعلق، صدر المتألهين الشيرازي - رحمه الله - يقول: لو كان الإنسان شيئا له التعلق لا أنه عين التعلق لكان مستقلا في شيئيته عن الله عز وجل وهذا محال.

الآن مثلا لما تقارن نفسك مع أفكارك، أنا انسان عندي أفكار أو عندي مشاعر، عندما أقارن بيني وبين مشاعري، ما هي النسبة بيني وبين مشاعري؟، يعني مشاعري مصنوعة لي، أنا اللي أصنعها، النسبة بيني وبين مشاعري نسبة الصنع للصانع، مشاعري مصنوعة لي، أفكاري مصنوعة لي، أفكاري مبتدعة مني.

هذه الفكرة اللي ارتسمت في رأسك انت فكرت بفكرة معينة، هذه الفكرة التي ارتسمت في ذهنك وهي مصنوعة لك شيء له التعلق أم أنها عين التعلق؟ شيء له الربط بك أو أنها عين الربط بك؟، يقول لا هذه الفكرة ليست شيئا مرتبطا بي بل هي عين الربط بي، لا أنها شيء مرتبط، هي الارتباط هي عين الربط لأن هذه الفكرة ما دامت مصنوعة لي فلا يمكن أن تستقل عني، آنا من الآنات فكرة لا تستقل عني لأن أنا الذي صنعتها لا يمكن أن تنفك عني وأن تستقل عني من آن من الآنات، فهي في حد ذاتها وفي ذات شيئيتها هي ارتباط بي، فهي عين الارتباط بي لا شيء له الارتباط.

يقولون شيء له الارتباط إذا وجد شيئين وحصل بينها ارتباط يقولون هذا شيء مرتبط بذاك، مثلا الله تبارك وتعالى عندما يضفى على الإنسان علما منه، لسن أنا من صنعته، هو أضافه علي، هنا يقال لهذا العلم الذي أفاضه الله على قلبي يقال أنه شيء مرتبط بي أنا إنسان جاهل وهذا العمل نعمة من الله، الله أفاض العلم على قلبي، صار العلم مرتبطا بي لكن العلم شيء وأنا شيء آخر، أنا شيء والعلم شيء والله ربط بيننا لأنه أنعم بالعلم على قلبي ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لكن الأفكار التي أنا أصنعها ليست علم يضاف إلي، أنا صنعت الفكرة.

قال لي أن أعمل مخطط - أنا مهندس مثلا -، أنا صنعت المخطط، هذه الفكرة التي صنعتها ليست شيء مرتبط بي وإنما هو نفس التعلق والإرتباط بي لأنه صنعي فلا يستقل عني لحظة ما، وآنا - الأنسان - إذا أدرك أن نفسه هكذا كما يقارن بين أفكاره ونفسه، دعه يقارن بين نفسه وبين ربه، أولم يدرك أن إلى ربه المنتهى ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى وأدرك أن ﴿إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.

دعني أقارن بين نفسي وبين ربي، هل أنا شيء مرتبط بربي؟، أو أنا عين الارتباط بربي؟، أم كنت شيئا مرتبطا بربي لكان هو شيء وأنا شيء ومن ثم ارتبطنا؟

لا ليست نفسي إلا صنعه وإفاضته وعطاؤه، فنفسي مصنوعة له مفاضة منه، فنفسي هي عين التعلق والارتباط لا إنية لها ولا استقلال لها ولا حقيقة إلا أنها عين الارتباط بالله تبارك وتعالى، هذا إدراك حقيقة النفس أنها عاجزة لا قدرة لها إلا من القادر المطلق، جاهلة لا علم لها إلى من العالم المطلق، ميتة لا حياة لها إلى من الحي المطلق، محدودة لا تتحرر من حدودها إلا باللامحدود المطلق.

فهي في تمام شؤونها وتفاصيل وجودها محتاجة إلى المدد، إلى العطاء، إذا ادرك الإنسان أن نفسه بهذا النحو فقد خطى الخطوة الثانية في سبيل اكتشاف النفس.

الخطوة الثالثة: أن يدرك حقيقة نفسه إدراكا حضوريا لا إدراكا حصوليا، فرق بين العلم الحصولي والعلم الحضوري، في علم المنطق يقولون العلم الحصولي حصول صورة الشيء والعلم الحضوري حضور نفس الشيء، لا صورة الشيء، الآن مثلا أنا أعلم بك من خلال صورة، أنت لم تحضر عندي بنفسك، بل صورتك.

كل ما هو خارج جسم الإنسان يعلم به الإنسان بالصورة كله، أنت الآن جالس أمامي أنا أعلم بك من خلال صورتك، لولا انتقاش صورتك في ذهني لما علمت بك، عندما أسمع الصوت صوت القرآن الكريم علمي بهذه الآيات من خلال صورة الصوت يتحول إلى صورة في دماغي، عندما أضع يدي على الجسم الحار يغلي كغلي الحميم، فإذا وضعت يدي على هذا الماء الحار وشعرت بحرارته، الحرارة تتحول من لمس إلى صورة تأتي في ذهني.

إذن علمي بالأشياء التي حولي مرئية مسموعة ملموسة مشمومة كلها عن طريق الصور، هذا يسموه علم حصولي، حصول صورة الشيء في الذهن.

وهناك قسم آخر من العلم حضوري يعني حضور نفس الشيء لا صورة الشيء هو بنفسه يحضر مثل علمي بفرحي وحزني وأفكاري هذا ليس نتيجة صورة، هو فكري حاضر عندي، إذا أنا صنعت فكرة ففكرتي حاضرة بنفسها عندي، علمي بفكرتي علم حضوري وليس علم حصولي، لا نحتاج إلى واسطة، الصورة - الفكرة - حاضرة بنفسها عندي، هذا العلم العلم الحضوري الذي نسميه العلم الوجداني، وهو المطلوب في علم العرفان، المطلوب هو هذا العلم لا العلم الحصولي لا الصور، المطلوب هو الوجدان.

يعني أن أتعرف على نفسي وعلى ضعفها وعجزها ومحدوديتها تعرفا وجدانيا حضوريا بأن أشعر شعورا واضحا كما أشعر بالألم كما أشعر بالفرح، أشعر شعورا وجدانية بضعف نفسي وحاجتها وعجزها ومحدوديتها وأنها في تمام شؤونها هي عين الربط والتعلق بالله عز وجل يجب أن يتحول هذا إلى شعور ووجدان، ورد عن أمير المؤمنين علي ”ما لابن آدم والفخر، وإنما أوله نطفه وآخره جيفة قذرة وهو ما بينهما يحمل العذرة“، هذه التعبيرات كناية عن معرفة عجز النفس، ضعف النفس، حقارة النفس وإذا أدرك الإنسان ذلك إدراكا وجدانيا أدرك ربه إدراكا وجدانية.

نحن الآن ندرك ربنا إدراك صوري، أنت الآن عندما يقال لك الله تصير عندك صورة إلى الله، حقا لا تقدر تحديد معالم هذه الصورة، لكن تتكون عندك صورة إلى الله، الله صارت صورة في ذهنك، أما الذين عرفوا أنفسهم معرفة وجدانية فإن معرفتهم بالله ليست عبر الصور، لا، بمجرد أن يمر ذكر الله يشعرون بلذة النور في أنفسهم، هناك نور له لذة، له طعم خاص، له نكهة خاصة يشعرون ضمن أنفسهم.

الله ليس صورة وإنما الله نور حاضر مسيطر على القلب، ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، فئة خاصة هم الذين هدوا إلى النور أي شعروا به شعورا وجدانيا ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ ابدأ بالنفس، إبدأ باكتشاف النفس، حاول أن تستغل عمرك، كم عشت أنا من العمر؟!، عشت عشرين سنة، عشت ثلاثين سنة، عشن خمسين سنة، عشت ستين سنة، فرص راحت لكن البعض لا، يأتي ويقول ما دمت أنا وما زلت أنا حيا إذن الفرصة ما زالت موجودة، ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله ”بادر بأربع قبل أربع، بشبابك قبل هرمك“

مادمت شاب عندك قوة تصلي النافلة وتقرأ قرآن وتأتي بالمستحبات، الإنسان الكبير لا يقدر تأديتها ”بشبابك قبل هرمك، بصحتك قبل سقمك“ ما دمت تقدر أن تقف وتصلي هذه نعمة، قبل أن تصلي وأنت على السرير، ”و بصحتك قبل سقمك، وبغناك قبل فقرك، وبحياتك قبل موتك“ ما دمت حيا إذا أنت صاحب فرصة فرصة آتية إذا لم تكتشف نفسك فيما مضى فاكتشفها فيما يأتي.

تفرغ لبعض الوقت، تفرغ في بعض الأيام لأن تشتغل بنفسك باكتشافها باكتشاف ضعفها باكتشاف عيوبها باكتشاف نقائصها كي يكون ذلك منطلقا للوصول إلى الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ «18» وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي لم يكتشفوا أنفسهم، مرت السنين وهم ناسون غافلون.

تراه بعد أربعين سنة تقول له ما صرت بعد أربعين سنة؟، يقول لك صرت دكتور، هذا ممتاز، وأنت ما صرت بعد أربعين سنة؟، أنا صرت تاجر، ممتاز، وأنت ما صرت بعد أربعين سنة؟، أنا صرت مثلا فقيه عالم ممتاز، لكن ليس هذا مو المطلوب، كل هذا لن تسأل عنه في قبرك، كل هذا لن يضيء لك قبرك، كل هذا لن يتحول إلى نور وشعاع في لحدك، كل هذا زينة الحياة الدنيا.

إنما السؤال أنت بعد أربعين سنة هل اكتشفت نفسك؟، هذا هو السؤال أنا بعد أربعين سنة صرت دكتور وصرت مهندس وصرت تاجر وصرت وصرت صرت.. الخ، عنوان ”صرت“ لقب لا يفيد، السؤال الذي ينبغي أن تسأله نفسك: هل اكتشفت نفسك أم لا؟، تزوجت وأنجبت عيال واكتسبت ثروة لا يفيد، هل اكتشفت نفسك؟، هل عرفت نفسك؟، هل عرفت هذا الداخل قبل أن تعرف الخارج؟

هذا كله من الخارج، الزوجة والأولاد والثروة والعلم والدراسة والعمل كل هذا خارج، نحن نريد الداخل، كيف تعرفت على الخارج قبل أن تتعرف على الداخل؟!، هل اكتشفت نفسك؟، فإذا اكتشف الإنسان نفسه اكتشافا وجدانيا اكتشف ربه اكتشافا وجدانيا وتبينت له الملازمة بين معرفة النفس ومعرفة الله ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“ يعني من عرف محدودية نفسه معرفة وجدانية عرف اللامحدودية لربه معرفة أيضا وجدانية.

وهذه المعرفة النفسية هي التي يتحدث عنها الأولياء وأهل بيت العصمة، هي التي يقول عنها الإمام أمير المؤمنين ”يا من دل على ذاته بذاته“، ”بك عرفتك وأن دللتني عليك“ يعني وصلت إليك وصولا وجدانيا من خلال نفسي لا من خلال أشياء أخرى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ «20» وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.

المحور الثالث: إن معرفة النفس وعرفانها - علم العرفان - ليس علم نظري، حقا أننا على المنبر نقول قال علماء العرفان وذكر علماء العرفان لكن هذه ليست معلومات مكتوبة، لا هذا ليس علم يدرس، هذا ليس علم يشرح، لا هذه المعلومات أو هذه المعارف أو هذه اللطائف يكتسبها أهل العرفان من خلال التربية، من خلال الرياضة من خلال السلوك إلى طريق معرفة النفس.

ليست معلومات تقال، لذلك الطريق لاكتشاف النفس ولمعرفة النفس هو إصلاحها وتهذيبها ”وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي“، وكما يذكر علماء هذا الفن وعلماء هذا الحقل هناك خمس مراحل: المراقبة، المحاسبة، المعاتبة، المحاربة، المواظبة.

المرحلة الأولى: المراقبة.

ماذا جالس أعمل أنا؟، أسأل نفسي هذا السؤال، ماذا جلس أعمل هذه الساعات التي تمر علي في الليل أو النهار؟، ماذا أصنع فيها، هل اغتبت فيها مؤمن؟، هل كذبت فيها على إنسان؟، هل ارتكبت معصية؟، هل اخطأت خطيئة؟، فليكن عندي مراقبة، مراجعة لجدول الأعمال.

المرحلة الثانية: المحاسبة.

حسنٌ، أنا الآن عرفت جدول أعمالي لكن لماذا فعلت هذا؟، فقط عرفت جدول أعمالي وانتهي كل شيء؟!، لابد أسأل السؤال الثاني لماذا فعلت ذلك؟، ما هو السبب؟، أنا تجرأت على هذه المعصية، تجرأت على أن أعق والدي، تجرأت على أن أغتاب المؤمن، تجرأت على أن أسمع الأغنية المطربة... وهكذا، لماذا؟، ما هي الفائدة؟، ما هي الجدوى؟، ما هي النتيجة من هذه المعصية؟

ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا“، وورد عن الكاظم ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم فإن عمل حسنة استزاد الله وإن عمل سيئة استغفر الله“

المرحلة الثالثة: مرحلة المعاتبة.

أنا فعلت الرذيلة الآن، شخص يقول: مذا أعمل أنا؟!، دون العالم كل الناس تخلط وأنا خلطت مع الناس!، لا، لا يفيد هذا، فهي ليست معاتبة، إنسان آخر يقول هذا خطأ بسيط ليس سوى يوم!، يوم خلطت فيه غلط بسيط!، لا هذا ليس معاتبة أيضا.

”إن المنافق - كما في الحديث - إذا أنذب كان ذنبه كذبابة مرت على أنفه فأطارها - انتهي المحذور - وأما المؤمن فإنه إذا أذنب كان ذنبه أشد من جبل أبي قبيس على صدره“، إذا أذنب تضيق به الدنيا يسوّد في عينه الأفق، تظلم في عينه الدنيا تراه لا يطيق أن يأكل، لا يطيق أن يتكلم، لا يطيق أن يضحك، لأنه أذنب، لأنه شعر بلسعة الذنب ووخزته ولا يفتأ يستغفر الله ولا يفتأ يكبر الله ولايفتأ يتضرع إلى الله.

هذه هي المعاتبة، المعاتبة التوبيخ والإلحاح في التوبيخ، والإصرار في التوبيخ ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ «1» وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لوم النفس على ما صنعت.

المرحلة الرابعة: المحاربة.

أنا الآن ارتكبت الخطيئة وأنّبت نفسي ووبختها، لكن يجب علي أن أكون حذر في الأيام القادمة، لا أعود إلى العمل مرة ثانية، أتعلم من أخطائي العاقل من يتعلم من الخطأ ويستفيد، فأكون حذر أنا في الأيام القادمة أن لا أعود إلى هذا الخطأ مرة أخرى، كل أسباب الخطأ أبتعد عنها، كل المغريات كل الإثارات.

المجلس الذي يجرني إلى الذنب أتركه، الصديق الذي يجرني إلى الذنب أتركه، كل إثارة، كل إغراء يجرني إلى الذنب أبتعد عنه، ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا «28» لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا، ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“.

المرحلة الخامسة: المواظبة.

المواظبة على العمل الصالح إلى أن يصبح العمل الصالح ملكة، كيف الإنسان الغضوب يتعلم الحلم إلى أن يصبح الحلم ملكة له، كيف الإنسان يتعلم الشجاعة إلى أن تصير الشجاعة ملكة له؟، أيضا أنت تتجاوز السيئات أتعود على الصالحات إلى أن يصبح العمل الصالح ملكة لك ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أرض طيبة دائما تثمر أعمال صالحة، ﴿وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا، فهناك خمس مراحل تمر بها النفس في إصلاح ذاتها وتهذيبها.

والحمدلله رب العالمين