موقف الإسلام من لذة الغناء

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في نقطتين:

  • عملية البحث عن اللذة.
  • موقف الإسلام من لذة الغناء.
النقطة الأولى: عملية البحث عن اللذة.

ذكرنا في بحوث سابقة أن من أقوى الغرائز المسيطرة على سلوك الإنسان: غريزة البحث عن اللذة، فإن الإنسان بدافع البحث عن اللذة ينطلق إلى مجموعة من الأفعال والسلوكيات، ولكن قد يكون هناك مانعٌ أو حاجزٌ عن استيفاء اللذة وتحصيلها، وهنا يوجد فرقٌ بين نظريتين: النظرية الإسلامية، والنظرية التي يطرحها أفرويد، حيث يقول أفرويد بأن هناك ثلاثة عناصر في المقام: عنصر الهو، وعنصر الأنا، وعنصر الأنا الأعلى.

1/ عنصر الهو: هو عبارة عن النزوع والميل إلى تحصيل اللذة، وهو ما نعبّر عنه بالشهوة، ويعبّر عنه القرآن الكريم بالنفس الأمارة، حيث يقول: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، فالنفس الأمارة هي عبارة عن هذا النزوع وهذا الميل إلى تحصيل اللذة واستيفائها. وقد يسترسل الإنسان ويندرج من أجل البحث عن اللذة، كمن يشاهد شاشة التلفزيون فيتعرض إلى مثير من المثيرات الجنسية مثلاً، ونتيجة التعرض للمثير يحصل عنده عنصر الهو، وهو عنصر البحث عن اللذة، فيريد أن يشبع لذته وأن يغطيها، ولكن الذي يقف أمامه ويحجزه عن استيفاء اللذة وتحصيلها عاملان: عامل الأنا، وعامل الأنا الأعلى.

2/ عامل الأنا: هو عبارة عن أرض الواقع، إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يشبع لذته بأي طريق، ولا يستطيع أن يخرج إلى الشارع العام ويشبع لذته مع أي فتاة، بل إنه يصطدم بأرض الواقع، فقد يفرض عليه الواقع أحيانًا أن يرجع من حيث أتى، حيث لم تتهيأ له السبل ولم تُعَد له الفرصة الكافية لإشباع لذته، وهذا العامل الحاجز أمام استيفاء اللذة - وهو الاصطدام بأرض الواقع - يعبّر عنه أفرويد بعنصر الأنا.

3/ عنصر الأنا الأعلى: أحيانًا أرض الواقع تسمح للإنسان أن يمارس لذته وأن يشبع غريزته بأي لون وشكل، لكن القيم الموروثة عنده تمنعه أحيانًا من إشباع لذته، فلا يستطيع أن يشبع لذته عن طريق المحارم مثلاً، كالأم والأخت والعمة والخالة، وذلك لأن القيم الموروثة التي اكتسبها من مجتمعه أو من أسرته تمنعه عن إشباع لذته بهذا الطريق، وهذه القيم الموروثة تسمّى بالأنا الأعلى.

إذن أفرويد يركّز على أن عملية البحث عن اللذة العائق أمامها دائمًا عائق خارجي، وإلا لو خُلِّيَ الإنسانُ من دون أي عائق خارجي، بحيث لم يكن أمامه أي حاجز خارجي، فلم يصطدم بأي الواقع، ولم يكن عنده قيم موروثة، لانقاد واستوفى لذته، فلا يقف أمام غريزة البحث عن اللذة إلا العائق الخارجي، وبعبارة أخرى: لا يوجد عائق داخلي يمنع من البحث عن اللذة، فإن الإنسان إذا فتّشنا جوانحه وتأملنا داخل وجدانه لم نجد عنده مانعًا داخليًا من استيفاء اللذة، فالمانع إنما هو مانع خارجي، والعامل ينحصر في العامل الخارجي، وهو إمام الاصطدام بأرض الواقع، أو بالقيم والتقاليد والأعراف الموروثة عند الإنسان، وإلا لو جُرِّد الإنسان عن العوامل الخارجية لاستوفى لذته بلا حاجز ولا مانع داخلي.

النظرية الإسلامية:

نحن في المقابل عندما نطرح النظرية الإسلامية نجدها تقول بأن عملية البحث عن اللذة قد تعاق بعائق خارجي، ولكن قد يكون العائق داخليًا، أي أن الإنسان قد ينجرف وراء سعير الشهوة ووراء غليان الغريزة، فيخرج من البيت من أجل الذهاب إلى مكان معين لممارسة المعصية، ولكنه قد يعاق بعامل خارجي، فلا تعمل سيارته، أو يذهب إلى المكان فيراه مقفلاً، أو يفتح شاشة التلفزيون لمشاهدة الفلم الخليع فيصاب التلفزيون بعطل، وكل ذلك عوائق خارجية، حيث أصر الإنسان على إشباع اللذة، إلى أن وقف أمامه عائق خارجي وصده عن إشباعها. لكن قد يكون العائق أحيانًا عائقًا داخليًا، ويكون الحاجز حاجزًا داخليًا، وليس حاجزًا خارجيًا، وهنا أمران لا بد من الالتفات إليهما:

الأمر الأول: عملية البحث عن اللذة عملية ثنائية.

البحث عن اللذة عملية تجاذب بين طرفين: طرف العقل وطرف النفس، فليست عملية البحث عن اللذة عملية وحدوية، فليس معنى البحث عن اللذة أن النفس تنطلق في أفق فارغ وفي مساحة فارغة وفي مجال فارغ إلى أن تعاق بعائق خارجي، بل إن عملية البحث عن اللذة هي في داخلها وفي حقيقتها عملية مزدوجة ثنائية، إذ أنها عملية تجاذب بين طرفين قويين، فالنفس في مجال البحث عن اللذة لا تنطلق في مساحة فارغة وتذهب إلى أن تعاق، بل إن النفس تعيش عملية صراع حاد، وتعيش تناقضًا وحالة تجاذب بين طرفين قويين: طرف العقل، وطرف النفس.

ولذلك ورد عن أمير المؤمنين : ”إن الله خلق الملائكة على عقل بدون شهوة، وخلق البهائم بشهوة دون عقل، وركّب في الإنسان عقلاً وشهوةً، فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه فهو أدنى من البهائم“، فهناك عملية تجاذب، وعملية صراع حاد، وعملية حرب بين طرفين خطيرين: طرف العقل، وطرف النفس.

الأمر الثاني: اللذة على أقسام.

قد يتصور الكثير منا أن اللذة هي عبارة عن اللذة الحسية الجسدية، فإذا أكل تفاحة لذيذة التذ بأكلها، وإذا أشبع شهوته الجنسية التذ بذلك، وإذا رأى المناظر الجميلة التذ بريتها.. ولكن هذه مظاهر للذة الحسية فحسب، والحال أن اللذة على أقسام ثلاثة: لذة حسية، ولذة وجدانية، ولذة عقلية. والمقصود من اللذة الحسية واضح، حيث يستوفي الإنسان بواسطة جوارحه وأحاسيسه متعةً معينةً، ويستوفي لذةً معينةً، تنعكس على النفس بالراحة والرضا والوداعة.

وأما اللذة الوجدانية فلا ربط لها بعملية جوارحية، فمثلاً: عندما يقف الإنسان أمام ربه، ويتصوّر أنه واقف أمام مصدر الرحمة والفيض والعطاء والعطف والرأفة، وأمام نهر فيّاض بالرأفة والرحمة، فإن هذا التصوّر يُطْعِمُه بطعم روحي وجداني، وهذا الطعم الروحي الوجداني ليس لذة حسية، وإنما هو لذة روحية وجدانية. أمير المؤمنين يعبّر عن هذه اللذة التي لا يشعر بها إلا المتعبدون والمتقربون إلى الله «عز وجل»: ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“. أنت قد تميلون إلى لذة القصور، ولذة الخمر، ولذة الحور العين، ولذة الأنهار، ولذة الأشجار، ولكن هذه كلها لذائذ حسية، وأما أنا فميلي للذة الروحية، فإن لذة لقاء المحب بمحبوبه والعاشق بمعشوقه لذةٌ وجدانيةٌ لا تضاهيها لذة أخرى.

وأما القسم الثالث من اللذة فهو اللذة العقلية، فعندما يعطى الإنسان معادلةً رياضيةً مثلاً، ويبدأ بحلها وكشف رموزها، فإنه بمجرد أن ينتهي من حلها وكشف رموزها وألغازها يحصل على نوع من اللذة والاسترخاء، وهذا يسمّى باللذة العقلية، وهي لذة العلم والمعلومات التي يحصل عليها الإنسان عندما يجلس أمام المحاضِر في الحرم الجامعي أو في المسجد أو في المأتم، حيث يتحرّك عقل الإنسان من المعلومات إلى المجهولات، فإنه كلما انكشفت له معلومات وزوايا كانت غامضة عنده يحصل على نوع من اللذة تسمّى باللذة العقلية.

وبناءً على أن اللذة على أقسام يتبيّن لنا وجه المناقشة مع نظرية أفرويد، فإن الإنسان عندما ينطلق مع اللذة الجسدية، كما لو تعرّض إلى مثير من المثيرات الجنسية، وبدأ بالتحرك لإشباع نهم الجنس والحصول على اللذة الجنسية، فهنا يعيش صراعًا جادًا بين العقل والنفس، ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى، فيعيش عملية الصراع بين الجحيم والجنة، وبين العقل والنفس، وبين طرفين خطيرين وكبيرين.

وهذه العملية بنظر علماء العرفان ليست صراعًا، بل هي تجاذبٌ بين لذتين: لذة جسدية ولذة روحية، فإن العقل يلتذ وهو يصارع النفس، فهو يعيش حالة لذة لا حالة ألم. الإنسان عندما يصارع النفس ويضغط عليها ويكسر شوكتها ويدوس كبرياءها فإنه يصارع ألمًا حسيًا، ولكنه يعيش لذة عقليةً؛ لأن العقل يلتذ وهو يصارع النفس، إذ أن لذته في أن يكسر لذة الحس، فليست المسألة مسألة صراع بين ألمين، وإنما هي مسألة تجاذب بين لذتين: لذة حسية مؤقتة، ولذة روحية عقلية دائمة.

إذا انتصر العقل على النفس وسيطر عليها - مع قطع النظر عن القيم الموروثة - حتى لو كان الإنسان يعيش في غابة لا يعرف دينًا ولا ملة وقيمًا، فإن هذا الإنسان يلتذ بانتصار عقله، حتى لو لم تكن هناك عوائق خارجية أمامية تمنعه عن إشباع لذته الحسية. إذا انتصر العقل على النفس ووصل إلى قمة اللذة العقلية في هذه الحرب وفي هذا الصراع فإن هذه اللذة العقلية هي العائق أمام اللذة الحسية، فالعائق عن استيفاء اللذة قد يكون عائقًا داخليًا، ولا ينحصر في العائق الخارجي كما ذكر أفرويد، فإن قوة اللذة العقلية الروحية وسيطرتها على اللذة الحسية عائق داخلي، وكما ذكر علماء العرفان: «اللذة في ترك اللذة»، أي أن اللذة في الصمود أمام الشهوة، واللذة في الوقوف أمام الغريزة، واللذة في قوة الإرادة.

النقطة الثانية: موقف الإسلام من لذة الغناء.

من أقوى اللذات التي يبحث عنها الإنسان بطبعه: لذة الغناء، فإن الإنسان يبحث عن اللحن والصوت الجميلين، ولا يوجد إنسان لا يحب أن يسمع الغناء، فإن هذا أمرٌ طبيعيٌ. كل إنسان يحب هذه اللذة ويعشقها، لكن هنا أمورًا ثلاثة لا بد من معرفتها:

الأمر الأول: ما هي حدود حرمة الغناء؟

النصوص الشريفة أكّدت على عدة محرّمات:

المحرّم الأول: التغني.

بمعنى أن يمارس الإنسان بنفسه عملية الغناء. يقول القرآن الكريم: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، وورد عن الإمام الصادق أن الرجس من الأوثان: الشطرنج، وقول الزور: الغناء، أي أن الغناء من المصاديق الجلية الواضحة لقول الزور، فالتغني نفسه محرّم.

المحرم الثاني: استماع الغناء لا سماعه.

لو مر إنسان والمغني يغني، لكنه لم يصغ إليه، وإن سمع صوته، فهنا السماع ليس محرمًا، وإنما المحرّم هو الاستماع، أي: العمل القصدي الذي يقصد به الإنسان الإصغاء إلى الأغنية.

جاء أحد الإمام الصادق وقال: سيدي، ربما دخلتُ الكنيف - أي: بيت الخلاء - وكان للجار مغنية تغني، فأطلتُ الجلوس، قال: لا تفعل، قال: إنني لم أذهب برجلي! أي أنني لم أكن قاصدًا، وإنما بالصدفة سمعت الغناء لدقيقة أو دقيقتين! قال: ويحك! أما قرأت قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا؟! سمعك مسؤول، بصرك مسؤول، فكيف تقول بأنك لم تقصد برجلك وقد أصغيت بسمعك؟! ثم قال له: ”قم واغتسل، وتب إلى ربك، فإنك كنتَ مقيمًا على أمر عظيم“. قد يقول قائل: هذه مجرد أغنية! أنا لم أسرق مالاً ولا اعتديت على عرض ولا ظلمت بشرًا، وإنما سمعت أغنية! هذا عمل من الذنوب الكبائر، ومن الجرائم الكبيرة، فلا أن تتصور أنه أمر سهل وأنه مجرد ذنب عادي.

المحرّم الثالث: الحضور في مجلس الغناء.

القرآن الكريم يقول: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وورد أن الإمام الصادق قد فسّر ”لا يشهدون الزور“ بأن من صفات المؤمنين أنهم لا يحضرون في مجلس الغناء، ومع الأسف هذه الظاهرة بدأت تختفي من مجتمعاتنا، فنجد بعض المؤمنين المتدينين يحضرون الأعراس والغناء يُعْزَف والرقص يشاع وهم حاضرون وجالسون، بحجة أن هؤلاء أقاربهم وأرحامهم وأنهم لا يستطيعون ألا يحضروا أعراسهم وأفراحهم! هذا شهودٌ للزور لأنه حضورٌ في مجلس الغناء، وهو من المحرّمات. على المؤمن أن يثبت جدارته، وأن يثبت موقفه الإيماني، وأن يتحدى مثل هذه الأعاصير الاجتماعية بحجة صلة الرحم أو بحجة الأقارب، فإن هذه الحجج الواهية لا تنفع أمام الله يوم القيامة. هذا حضور لمجلس الزور، وحضور لمجلس الغناء، وهو من المحرّمات.

المحرّم الرابع: ترويج الغناء.

القرآن الكريم يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، ويشرح هذه الآيةَ الإمامُ الصادقُ فيقول بأن لهو الحديث هو الغناء. بعض الناس يوزعون أشرطة غناء، أو يؤجرون دكاكينهم كأستوديو من أجل الغناء، أو يقيمون حفلات غناء في بيتهم، وهذا من الترويج للغناء، وهو من أعظم الذنوب والكبائر، ومرتكبها له عذاب مهين.

ومن ترويج الغناء: ما هو متعارف في بعض الأعراس. العروس إذا أريد نقلها من مكان إلى مكان فإن الموسيقى الكلاسيكية تُعْزَف! مع أن الموسيقى الكلاسيكية تجر إلى الموسيقى غير الكلاسيكية، وهذا باب ينفتح منه ألف باب، والمعاصي يجر بعضها بعضًا، والنفس إذا فُتِح لها الباب طغت وبغت، فأصبحت تتوسل بالحيل الشرعية، فتجد صاحبها يقول: قال بعض الفقهاء هذه الموسيقى حلال.. وتجد النفس لا تبحث عن الحيل الشرعية إلا في هذه الأمور! بمجرد أن تأتي مسألة الغناء أو مسألة التعامل مع البنوك يبحث عن الحيل الشرعية! النفس راغبة للمعصية، وراغبة للخروج عن الطوق والقيد، ولذلك يركّز الإنسان على الحيل الشرعية.

المحرّم الخامس: استئجار المغنيات.

استئجار المغنيات اللاتي يغنين بالفسوق وبالباطل وبآلات الطرب واللهو من أعظم المحرمات، وقد ورد عن الإمام الرضا : ”قد تكون للرجل الجارية تلهيه وما ثمنها إلا كثمن الكلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار“. استئجار المغنيات اللاتي يغنين بالباطل في الأعراس من المحرمات الكبيرة.

نعم، هنا مسألة غناء النساء في الأعراس. لو غنت امرأة ليلة الزفاف من دون آلات لهو ومن دون أن تقول كلمات الباطل والفسوق التي تهيّج الغرائز وتثير الشهوات، فإن هذا الغناء محللٌ عند أغلب الفقهاء، كما عند سيدنا الخوئي «قدس سره»، اعتمادًا على الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق : ”أجر المغنية التي تزف العرائس لا بأس به، ليست بالتي يدخل عليها الرجال“، أي أن الغناء في ليلة الزفاف في حد ذاته جائز، ما لم ينضم إليه محرم آخر، ودخول الرجال مثالٌ من الأمثلة، فإن كان صوتها موجبًا لدخول الرجال الأجانب، أو كان هناك اصطحابٌ لآلات الموسيقى، أو إذا كان هناك قولٌ للفحش ولألفاظ الفسوق المهيّجة للغرائز والشهوات فهذا أمرٌ محرّمٌ.

ومن الغريب من بعض النساء المؤمنات أن تستغل هذه الفرص في أن تتعرى في لبسها، أو تمارس بعض أنواع الرقص الذي يخدش كرامتها ويهتك حرمتها، فإن هتك حرمة المؤمن من المحرمات. أنت إذا قمتَ بعمل يوجب هتك كرامتك وحرمتك ويوجب استصغارك فإن عملك هذا محرّمٌ.

إذن فغناء النساء في الأعراس بشرطه: ألا ينضم إليه محرم آخر، بل عند بعض فقهائنا الآخرين - كالسيد السيستاني «دام ظله» - حتى الغناء نفسه عندهم إشكال فيه، أي أن أصل غناء النساء في الأعراس يستشكل فيه، وهذه الرواية التي قرأناها يرى بأنها معارَضة برواية أخرى، وهي موثقة عبد الله الأعلى مولى آل سام عن الصادق : يقولون إن رسول الله رخّص لهن أن يقلن: جئناكم جئناكم! حيونا نحييكم! قال: كذبوا على رسول الله، ما رخّص لهن في ذلك، ثم تلا الآية المباركة... وكيفما كان، فلسنا في مقام البحث الفقهي، وإنما نريد أن نقول بأن أصل غناء النساء في الأعراس على فتاوى أغلب الفقهاء جائزٌ ما لم ينضم إليه محرمٌ آخر، وأما غناء الرجال في الأعراس وفي غيرها أمرٌ محرّمٌ.

الأمر الثاني: فلسفة تحريم الغناء.

الكثير من الإخوة الشباب يطرح هذه الشبهة: لماذا الإسلام يحرّم الغناء؟! لماذا الإسلام يمنعنا عن هذه اللذة الممتعة؟! أليس الإسلام دينًا إنسانيًا؟! مقتضى الإنسانية والفطرة الإنسانية أن يُفْتَح لنا المجال لإشباع لذاتنا، خصوصًا لذة الأغنية، فلماذا يحرّم الإسلام علينا ذلك؟! الإسلام لا يحرّم علينا أن نسمع صوت هديل الحمام مثلاً، ولا صوت خرير الماء، وغيرها من الأصوات الطبيعية الجميلة، فلماذا يحرّم الصوت الجميل للمرأة إذا كان كسائر الأصوات الجميلة؟!

الإسلام - كما ذكر علماء العرفان - يريد أن يربي عند الإنسان ظاهرة الانقياد والتعبّد، وحتى يتضح المقصود من ظاهرة الانقياد والتعبد نضرب مثالاً: الجندي الذي يخضع للتدريب يكون فوقه ضابط يأمره بأوامر لا هدف لها ولا فلسفة وراءها، فيقول لها: استرح، استعد، يمين، شمال، اصعد، انزل، افعل كذا... ويأمره بتمارين قاسية وبتدريبات مختلفة لا لهدف إلا لتربيته على الانقياد والطاعة والتعبد من دون مناقشة، فهذا المسؤول يربّي الجندي بتدريبات مختلفة قاسية لأجل هدف واحد، وهو تربيته على روح الانقياد والطاعة والاستماع للأمر.

الإسلام عنده هذا المنطلق، ولذلك يقول: صل صلاة المغرب ثلاث ركعات، وصل صلاة الفجر ركعتين فقط، وصل صلاة الظهر أربع ركعات في الحضر، وارم جمرة العقبة بسبع حصيات، وطف بالبيت سبعة أشواط... فلماذا لا نصلي الفجر ثلاث ركعات؟! ولماذا لا نصلي الظهر ركعتين؟! ولماذا لا نرمي الجمرة بثمان حصيات؟! ولماذا لا نطوف بالبيت ستة أشواط؟! هذه كلها حدود لتربية روح الانقياد عند الإنسان، إذ أن هناك أمورًا غيبيةً تعبديةً أمر بها الإسلام لهدف تربية الإنسان على روح الانقياد. ألا تعترف بأن هناك مولى لك خلقك وأنعم عليك؟! إذا كنتَ معترفًا بوجود المولى، فإن مقتضى التعبد بمولويته أن تطيعه وأن تنقاد لأوامره.

أما إذا تفلسف الإنسان وقال: أخبرني لماذا تحرّم وإلا لن أطيعك! أخبرني لماذا توجب وإلا لن أطعيك! إذا كان هذا منطقك فلستَ عبدًا! إذا كنتَ عبدًا وهو مولاك فعليك الانقياد لأوامره، وأما إذا وقفت أمام كل أمر يأمرك بك، وإن لم تفهم الحكمة لم تطع، فإنك حينئذٍ لستَ عبدًا، لأن مقتضى العبودية إطاعة أمر المولى.

قصة بشر الحافي:

كان بشر من الأثرياء المترفين، حيث كان يملك الأموال الطائلة، ولكن كما قال القرآن الكريم: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، فبمجرد أن تكون عنده سيارة فخمة ووسادة ناعمة وفلة واسعة فإنه ينجرف نحو المعاصي والشهوات، كما قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، ومن هنا انطلق بشر إلى المعاصي، حيث قاده الترف والبذخ إلى الرذيلة، فصار بيته بيتَ الرقص والغناء والمجون، فكان يستأجر المغنيات للغناء في بيته.

مر الإمام الكاظم وأصوات الغناء تتعالى من بيت بشر، فوجد إحدى جواريه قد خرجت من البيت لتلقي القمامة، فالتفت إلى الجارية، وقال لها: بيت من هذا؟ قالت: بيت بشر، قال: هل سيدك عبدٌ أم حرٌ؟ قالت له: حر، قال: صدقتِ، لو كان عبدًا لأطاع مولاه. دخلت الخادمة وأبلغت بشرًا بالموضوع، فتغير بشر وارتعدت فرائصه، وخرج من البيت حافيًا يهرول إلى الإمام الكاظم ، فدخل عليه وقال: أنت الذي مررت بالبيت وقلتَ للجارية كذا وكذا؟ قال: نعم. إلى متى تتوب يا بشر؟ إلى متى ستخاف الله؟ إلى متى ستربي نفسك على الخوف من الله؟ وصار من العبّاد، فسمّي بشر الحافي لأنه خرج إلى التوبة حافي القدمين.

لو عاش الإنسان في مجتمع منفتح، واستطاع أن يستمع للغناء، وأن يمارس اللذة الجنسية في أي وقت، وأن يرتكب أي معصية، فحينئذٍ لا رادع أمامه إلا الخوف من الله، ولذلك ورد عن الإمام الصادق : ”خف الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنك يراك، وإن كنتَ ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنتَ أنه يراك ثم برزتَ له بالمعصية - وكأنك تتحدى أوامره - فقد جعلتَه من أهون الناظرين إليك“، ويقول القرآن الكريم: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، ويقول: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.

المسألة مسألة تعبد بأمر المولى، والمسألة مسألة الخوف من المولى، والمسألة مسألة الخشية من الله «عز وجل»، وهذا هو العائق الحقيقي والحاجز الحقيقي أمام المعاصي وأمام استماع الغناء وأمام الانجراف وراء هذه الأمور. وقد ورد عن الإمام الصادق : ”بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تستجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك“، فهل يسرك أن يكون بيتك مهجورًا من قِبَل الملائكة ومعمورًا من قِبَل الشياطين؟! هل يسرك أن يكون بيتك محلاً للفجائع؟!

الكثير من الناس يظنون أن الفجيعة هي الكارثة المادية، كالحريق مثلاً، والحال أن الفاجعة قد تكون في الدين أو في العرض، ولذلك نقرأ في الدعاء: ”اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا“، فإن البيت إذا غمرته الموسيقى وغمره الغناء وغمرته الأفلام من أول النهار إلى الليل فإن هذه الأمور تؤثر على نفوس أهل البيت شيئًا فشيئًا، وبمرور الوقت ينجر أهل البيت بالتدريج شيئًا فشيئًا للمعاصي والفسق والرذائل، وقد يصل بيت الغناء إلى أن تقام فيه جريمة الزنا والفواحش بشكل طبيعي؛ نتيجة انغمار الإنسان تحت تأثير الغناء، وتحت دافعية الموسيقى المطربة، وهنا تكون الفجيعة: الفجيعة في العرض، والفجيعة في الدين.

الأمر الثالث: علاقة الغناء بالنفاق.

ورد عن الصادق عن جده محمد : ”الغناء ينبت في القلب النفاقَ كما ينبت الماءُ الزرعَ“، وقد يستغرب الإنسان فيقول: أنا لا أرى أنني أصبح منافقًا إذا استمعت للأغاني! الكثير من الناس يستمعون للغناء ليلاً ونهارًا ولكنهم ليسوا منافقين! فكيف يقول الإمام عن جده بأن الغناء ينبت النفاق؟! والجواب عن ذلك: أن المنافق في بداية الأمر يعيش صراعًا بين خطين، فيلقاك بوجه ضحوك، ولكنه يضمر لك العداوة والبغضاء.

المنافق عندما يبدأ بعملية النفاق فإنه يعيش صراعًا بين وجهه وداخله، فيريد أن يلقاك بوجه ضحوك ولكن نفسه في نفس الوقت مملوءة عليك حقدًا وضغينة، فيعيش الصراع بين شكله وداخله، وبين ظاهره وباطنه، وبمرور الوقت يصبح النفاق عنده ملكةً وفنًا وحرفةً وصنعةً، حيث تعوّد على أن يكون شخصيتين ووجهين وشكلين، وقد ورد عن الإمام الرضا : ”بئس العبد عبدٌ يكون ذا وجهين: يلقى أخاه باسمًا، ويأكله غائبًا“.

والغناء يشترك مع النفاق في هذه الناحية، فإن الإنسان عندما يبدأ باستماع الغناء فإنه يعيش صراعًا بين العقل والنفس، وبين درب الإيمان ودرب الانحراف، ونتيجة الإصرار على استماع الأغاني يتعود على أن يكون شخصيتين ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فتراه في المسجد يصلي جماعة ويتعبد ويصوم شهر رمضان، ولكن بمجرد أن يخرج من المسجد يتغير «دين وتين»! فهذه جهة وتلك جهة أخرى، وذلك لأنه عوّد نفسه على أن يكون شكلين ووجهين، فهو من جهة يحضر المسجد ويستمع المحاضرة ويحضر المأتم، ومن جهة أخرى عنده علاقة غير مشروعة، ويستمع الغناء، فهو منصرف لهذه اللذات والشهوات، ولذلك ينبت الغناء في القلب النفاقَ كما ينبت الماءُ الزرعَ.

نحن غافلون نعيش مرض الغفلة، ونصر على لذات الدنيا وزخارفها ومتعها، فإذا جاءنا الموت واستيقظنا لعالم آخر ولوجه آخر ولأفق آخر انتبهنا من غفلتنا، ”الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا“، ولذلك نطلب من الله أن ينبهنا من نومة الغافلين ونحن أحياء، والمدار على حسن الخاتمة.