الإمام علي ودولة الإنسان

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

صدق الله العلي العظيم

ذكر الرازي في تفسيره عن أبي ذر الغفاري «رضي الله تعالى عنه» أنه قال: رأيتُ بهاتين وإلا عميتا وسمعت بهاتين وإلا صمتا رسولَ الله وهو يقول: ”علي قائد البررة، علي قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، وذلك إن سائلاً أتى مسجد رسول الله فلم يكن عند الرسول ما يعطيه، فأومأ إليه علي بخنصره وهو راكع، فاشترى السائل بثمنه طعامًا له، فلما سمع رسول الله بذلك رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن أخي موسى سألك ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي فأنزلت عليه: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا، وأنا أسألك يا ربي: اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرًا من أهلي، عليًا اشدد به أزري، وأشركه في أمري“، فنزل عليه: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.

الإمام أمير المؤمنين هو الذي تحدث عن نفسه بالنسبة إلى علاقته برسول الله فقال: ”لقد علمتُم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصّيصة، لقد كفلني في حجره وأنا ولدٌ، يضمني إلى صدره، ويشمني عرفه، ويمسني جسده، ويكنفني فراشه، ويمضغ لي الطعام ويلقمنيه، وقد قرن الله به منذ كان فطيمًا أعظم ملك من ملائكته، يسلك به سبيل المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، وكنتُ أتبعه اتباع الفصيل أثرَ أمه، وكان يرفع لي كل يوم علمًا من أعلامه، ويأمرني بالاقتداء به، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، وكان يجاور كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعتُ رنة الشيطان عندما نزل الوحي، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الرنة؟ قال: هذه رنة الشيطان، لقد يئس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، غير أنك لست بنبي، إنك وزير، وإنك لعلى خير“.

نحن عندما نريد أن نقرأ الإمام أمير المؤمنين فإننا نريد أن نقرأه من خلال واقعنا ومن خلال مجتمعاتنا، فلذلك نقرؤه من هذه الزاوية: علي ودولة الإنسان. علي أقام في زمانه دولة الإنسان، الدولة التي تحترم الإنسان من حيث كونه إنسانًا، وعندما نريد أن نتحدث عن هذه الزاوية نتكلم في محورين:

  • فلسفة حقوق الإنسان.
  • ركائز دولة الإنسان في زمن الإمام أمير المؤمنين .
المحور الأول: فلسفة حقوق الإنسان.

في العاشر من شهر ديسمبر عام 1948 أعلنت جمعية الأمم المتحدة اللائحة العالمية لحقوق الإنسان، وصودق عليها عام 1966، ونحن نريد أن نتكلم عن فلسفة حقوق الإنسان. لماذا يجب أن يكون للإنسان حقوق؟ وما هو المصدر الذي يملي علينا أن نقول بحقوق الإنسان؟

نرجع هنا إلى علماء القانون ليتحدثوا لنا عن بحث قانوني فلسفي حول حقوق الإنسان، حيث يقولون بأن فلسفة حقوق الإنسان تعتمد على أربع ركائز: الموضوعات، والشكل المنطقي، والأساس، والعقد الاجتماعي، وحتى نأخذ نظرة عامة مختصرة لفلسفة الحقوق نتعرض لهذه الركائز.

الركيزة الأولى: الموضوعات.

والمقصود بها: المجالات التي يثبت للإنسان حقٌ فيها، وهذه المجالات أهمها وأبرزها أربعة، وما سواها يتفرع عليها، وهذه المجالات الأساسية الأربعة التي نادى بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي التعليم والصحة والملكية والحكم، فالإنسان له حقٌ في أن يتعلم، بمعنى أن من حقه أن تهيَّأ له فرصةٌ ليحقق له مستوى تعليميًا لائقًا بشأنه. ومن حقه أيضًا أن يمتلك جسمًا صحيحًا، أي أن من حقه أن يعيش في بيئة صحية نقية غير ملوثة. ومن حقه أيضًا أن يمتلك الثروة، بمعنى أن من حقه أن يجد له فرصة عمل، ومن حقه أن يرتكب أجرًا يتناسب مع مجهوده وطاقته التي يبذلها في مجال العمل. وللإنسان أيضًا حقٌ في الحكم، بمعنى أن من حق الشعوب تقرير مصيرها، ومن حقها التصويت على برلماناتها.

الركيزة الثانية: الشكل المنطقي.

نحن عندما نقول بأن للإنسان حقًا، فإن كلمة الحق قانونيًا تستبطن عناصر ثلاثة: حرية، وواجب، وسلطة، فمثلاً: إذا قلنا بأن للإنسان حقًا في أن يعمل، بمعنى أن للإنسان حقًا في أن تهيّأ له فرصة العمل، فمعنى هذا الحق أن الإنسان حرٌ في الاستثمار، وحرٌ في خلق فرص العمل، وحرٌ في تهيئة وإعداد مجالات العمل.

وكلما كانت هناك حرية كان هناك واجبٌ، فالحق والوظيفة توأم متمازجان، فكلما ثبتت حرية لطرف ثبت واجب على طرف آخر، وهذا ما أكّده الإمام أمير المؤمنين عندما قال: ”الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحدٍ إلا جرى عليه، ولا يجري على أحد إلا جرى له“، أي أن الإنسان إذا أعطي حريةً ثبت عليه واجبٌ آخر تجاه تلك الحرية. فعندما يقال بأن للمواطن حرية الصحافة مثلاً، أو بأن له حرية التعبير، فمعنى ذلك أن على الدولة واجبًا تجاه هذه الحرية، وهو أن تدعم هذه الحرية وأن تحميها وتدافع عنها، فكلما ثبتت حرية ثبت مقابلها واجب على طرف آخر.

وهناك عنصر ثالث تستبطنه كلمة الحق، وهي السلطة، إذ لا حقوق بلا سلطة. الحقوق إذا تزاحمت فكيف نحل التزاحم؟ المصالح إذا تعارضت فكيف نحل التعارض؟ لا بد من وجود سلطة تتكفل بحل التزاحم بين الحقوق وبحل التعارض بين المصالح. مثلاً: من حق المجتمع تنمية الثروة، وتنمية الثورة تتحقق بتأسيس مصانع وشركات تعمر البلاد مثلاً، فمن حق المواطن إنشاء المصانع، ومن حق المواطن أيضًا أن يعيش في بيئة غير ملوثة، وهنا قد يقع التعارض والتزاحم بين الحقين، إذ أن المصانع تساعد على نشر الغازات السامة الملوثة للبيئة، فهنا تتدخل السلطة، وتفرض على الشركات التي تؤسّس المصانع أن تستخدم نوعًا من الطاقة في تشغيل مصانعها وتفعيلها لا يكون سببًا في تلويث البيئة، وفي نشر الأمراض والأوبئة. إذن فالحق كما يستبطن حرية وواجبًا، كذلك يستبطن سلطةً تتدخل للفصل بين الحقوق ولحل التزاحم بين المصالح.

الركيزة الثالثة: الأساس.

نحن عندما نقول بأن الإنسان له حق الحرية وحق المساواة وحق التعبير عن رأيه، فإن مصدر هذه الحقوق هي الطبيعة، فمثلاً: الإنسان عنده حق الحياة، وله حق الحرية، وله حق المساواة، وله حق امتلاك الثورة، وهذه الحقوق الأربعة مصدرها طبيعة الإنسان، إذ أن الإنسان وُلِدَ حيًا، فله حق الحياة، ووُلِدَ حرًا، فله حق الحرية بأقسامها، كالحرية الدينية والمدنية والفكرية والسياسية، ووُلِدَ الإنسان مساويًا لغيره في الأوصاف الجسمية والنفسية، فإنه يمتلك جسمًا، وحواسًا خمسًا، ومشاعر وعواطف وإرادة وضميرًا وعقلاً، وبما أن يمتلك أطرافًا وصفاتٍ مساوية لغيره، فله حق المساواة. وبما أن الإنسان وُلِد وهو يمتلك القدرة على حيازة الأشياء والسيطرة عليها، فله حق الملكية، وهو حق امتلاك الثروة. وجميع هذه الحقوق مأخوذة من طبيعة الإنسان، ولكن هل تكفي طبيعة الإنسان في تسجيل هذه الحقوق؟ هل كل ما تمليه الطبيعة نأخذه ونضعه حقًا من حقوق الإنسان؟!

لا، يقول علماء القانون: إذا اجتمعت علتان: علة غائية وعلة فاعلية - بحسب تعبيري أنا - ثبت الحق للإنسان، فمثلاً: هذا الكرسي الذي أنا جالسٌ عليه له علتان: علة فاعلية، وهي النجّار الذي صنع هذا الكرسي، وعلة غائية، وهي الهدف من وجود هذا الكرسي، والهدف من وجوده هو الجلوس عليه، فالكرسي له علة فاعلية وله علة غائية. الحقوق لا تثبت إلا باجتماع هاتين العلتين، فإن هذه الأرض التي نحن نعيش عليها تستبطن في باطنها كنوزًا وثرواتٍ، وقد خُلِقَت هذه الثروات لأجل الإنسان، ولذلك للإنسان حقٌ فيها، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وهذه هي العلة الغائية، ولكن هذا الحق لا يصل إليَّ بمجرد أن هذه المعادن خُلِقَت إليَّ، بل لا يصل إليَّ إلا بعلة فاعلية، وهي السعي، فإذا سعى الإنسان، واستخرج الكنوز واستثمرها، ثبت له الحق فيها.

إذن إنما يثبت لي حق في الثروة إذا اجتمعت علتان: علة غائية، وهي أن الثروة خلقت لأجلي، وعلة فاعلية، وهي أنني سعيت من أجل استخراج واستثمار هذه الثروة.

الركيزة الرابعة: العقد الاجتماعي.

حقوق الإنسان أعلنت عام 1948 لكنها لم تفعّل إلا عام 1966؛ لأن مجرد تشريع الحقوق وتقنينها لا يكفي في تفعيلها وفي ضمانها، بل اللازم في ضمانها وتفعيلها العقد الاجتماعي، بمعنى أن يتفق أبناء المجتمع البشري ويتعهدون على احترام هذه الحقوق وتطبيقها والمحاسبة عليها، فإذا حصل عقدٌ اجتماعيٌ تفعّلت الحقوق، وإلا لم تتفعل. ولذلك الكثير من الدول لم تصادق على لائحة الحقوق إلا عام 1966، وبالتالي لم تأخذ هذه الحقوق حيز الفاعلية إلا منذ ذلك العام ببركة العقد الاجتماعي.

المحور الثاني: الإمام علي ودولة الإنسان.

الإمام أمير المؤمنين بنى دولة قبل ألف وأربعة مئة سنة تقريبًا، وكانت دولة الإنسان بمعنى الكلمة، وقد بنى الإمام أمير المؤمنين دولة الإنسان على دعائم ثلاث: القيادة والاقتصاد والمواطنة.

الدعامة الأولى: القيادة.

نحن عندما نريد أن نتحدث عن القيادة فإننا نتحدث عنها من زاويتين: زاوية عامة، وزاوية خاصة، وتتمثل الزاوية العامة في تعريف القيادة ومواصفاتها، بينما تتمثل الزاوية الخاصة في قيادة دولة الإنسان ومواصفاتها.

1- الزاوية العامة: من أين يكتسب الإنسان القيادة؟ ما هي مواصفات القيادة؟

عندما نرجع كتب علم الإدارة لنرى ما يقولون عن القيادة - كما في [مجلة عالم المعرفة، عدد 176] وكتاب [السلوك التنظيمي، الدكتور عبد الله طجم] - نجدهم يعرّفونها بأنها القدرة على التأثير في سلوك الآخرين، فالقائد هو القادر على التأثير في سلوك الآخرين، ولذلك هناك فرق بين المدير والقائد، فليس كل مدير قائدًا، وليس كل رئيس قائدًا، إذ أن المدير هو الذي يضع برنامج العمل وخطته، ولكن ليس كل من وضع برنامجًا فهو قادر على تطبيقه وتفعيله. القيادة هي القدرة على التأثير، والقدرة على التطبيق، وليست مجرد التنظير ووضع البرنامج. وتعتمد القيادة على ثلاثة عناصر: الأتباع، والقوة، والموقف.

العنصر الأول: الأتباع.

القائد بلا أتباع قائد فاشل، إذ أن القيادة تحتاج إلى قاعدة شعبية، بمعنى أن يكون هناك مجموعة من الأتباع الذين يرون هذا الشخص فيه الكفاءة لإشباع حاجاتهم وتلبية متطلباتهم وتطلعاتهم، فإذا آمنت مجموعة بأن فلانًا قادر على إشباع حاجاتهم تحقق العنصر الأول من عناصر القيادة.

العنصر الثاني: القوة.

لا بد من أن يكون القائد قويًا، وإلا فليس قائدًا، ويكتسب القائد القوةَ من مصدرين: القوة المركزية، وقوة الشخصية. بعض القادة يكتسب قوته من خلال مركزته، سواء كان مركزًا وظيفيًا، كما لو كان مدير شركة أو رئيس دولة، أم كان مركزًا اجتماعيًا، كما لو كان شيخ عشيرة، أو وجيهًا من وجهاء المجتمع، أو رجلَ دين مثلاً، وهذا ما نعبّر عنه بالقوة المركزية. وأما المصدر الآخر فهو: قوة الشخصية، بمعنى أن تكون شخصية القائد شخصيةً قويةً حتى لو لم يكن له مركزٌ، وهناك مظاهر ثلاثة لقوة الشخصية:

المظهر الأول: وفرة المعلومات، فإن الناس بطبيعتهم ينجذبون نحو المفكر، ونحو المثقف، ونحو من يحمل المعلومات والمعارف، فمن امتلك وفرة المعلومات، ومن امتلك التجربة، ومن امتلك الخبرة، فقد امتلك المظهر الأول من مظاهر قوة الشخصية.

المظهر الثاني: قوة الأسلوب، بمعنى أن يمتلك أسلوبًا مؤثرًا، وأن يمتلك مهارة في الأداء والبيان، وأن يمتلك أسلوبًا يستطيع من خلاله الإقناع وإيصال أفكاره.

المظهر الثالث: الكاريزمية، والمقصود من الشخصية الكاريزمية: الشخصية الجذّابة، وقد يكون الجذب بحسن الشكل، وقد يكون بحسب الصوت، وقد يكون ببعض الخصائص الجسمية أو الخُلُقية، كأن يكون متواضعًا أو صاحب إرادة حازمة أو صاحب شجاعة وجرأة. الخصائص الكاريزمية تعطي القائد قوة شخصية. إذا امتلك المظاهر الثلاثة أصبح قائدًا ناجحًا ومحنكًا.

العنصر الثالث: الموقف.

القيادة ليست كلامًا يقال وليست خطبًا رنانة، بل هي موقف، فإن قيادة القائد تنبع من خلال مواقفه، وهناك نظريات في القيادة: نظرية السمات، والنظرية السلوكية، حيث يقول بعض علماء النفس بأن القيادة موهبة، فيُولَد القائد وهو قائد؛ لأنه يحمل سمات القيادة، وهاذ ما يعبّر عنه بنظرية السمات. وفي المقابل توجد نظرية أخرى تقول بأن القيادة قد تكون مكتسبة وليست موهبة بالضرورة، فقد يكتسب القائد القيادةَ من خلال سلوكه. وأما النظرية الثالثة فتقول بأن القيادة بالموقف.

الكثير منا يظن أن الثبات هو عنصر القيادة، فمن يثبت فهو القائد، أي أن من يجلس خمسين أو ستين سنة على منهج واحد فهو القائد لأنه ثبت! فنجعل الثبات هو عنصر القيادة وملاكها، وهذا خطأ؛ لأن القائد يقود أمة، والأمة تتغير ظروفها وأوضاعها، وتتغير ثقافاتها والعوامل الداخلية والخارجية المحيطة بها. القائد هو المرن الذي ينسجم مع جميع الظروف، ومع جميع التغيرات. القائد هو الذي يمتلك المرونة في أن ينسجم مع مختلف التغيرات، ومع مختلف التحولات. القائد هو الإنسان الذي يستغل الظروف، فكلما مر ظرف استغله في أن يسجّل الموقف المناسب في الظرف المناسب بالشكل المناسب. القائد هو القائد الموقفي الذي تكون مواقفه منسجمةً مع طبيعة الظروف، بحيث تكون مواقفه مؤثرةً وفاعلةً في القاعدة التابعة له، ولذلك فالموقف عنصر أساس من عناصر القيادة.

2- الزاوية الخاصة: ما هي مواصفات قيادة دولة الإنسان؟

هنا يتحدث أمير المؤمنين ليكلمنا عن قيادة دولة الإنسان، وهناك مواصفات خمسة يركز عليها الإمام أمير المؤمنين:

الصفة الأولى: أن المنصب وسيلة وليس غاية.

القائد الناجح هو الذي لا يتشبث بالمنصب وإن خسر كل شيء، وإنما القائد الناجح هو الذي يرى المنصب وسيلة لتحقيق التأثير في التاريخ وفي مجتمعه. جاء جمع إلى الإمام أمير المؤمنين وقالوا له: يا أبا الحسن، لو أغدقتَ على الأشراف من قريش هذه الأموال، وقرّبتهم إليك، وفضّلتهم على الموالي، لأمنت فرارهم وخلافهم، فأجابهم: ”ويحكم! أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟!“ أي: هل الغاية تبرر الوسيلة؟! ثم قال: ”والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم؟! لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“. لا يهم أن يأخذ الكرسي معاوية، وإنما المهم أن يبقى [..... خلل في التسجيل.....] القيادة الناجحة.

الصفة الثانية: القائد هو الذي يمتلك حسًا اجتماعيًا.

القائد ليس إنسانًا أنانيًا لا يفكّر إلا في جيبه وبطنه وفرجه ووسادته الناعمة، ولا يفكر إلا في شهواته وغرائزه، بل إن القائد هو [..... خلل في التسجيل.....] ”لو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، أو يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطانًا وحولي بطون غرسى وأكباد حرى؟! أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!“. هذا هو الحس الاجتماعي.

الصفة الثالثة: الشفافية.

القائد صريح مع شعبه وأمته. الكونغرس الأمريكي أصدر قانونًا عام 1976 سمّاه «قانون الحكومة تحت أشعة الشمس»، بمعنى أن الوكلات الفيدرالية يُحْظَر عليها أن تعقد أي اجتماع إلا بمسمع من الشعب والأمة. الإمام أمير المؤمنين علّمنا صفة الشفافية، فقد تحدث عن مبدأ الشفافية قبل 1400 سنة، حيث قال مخاطبًا أمتَه: ”ألا وإن لكم عليَّ ألا أحتجز دونكم سرًا إلا في حرب، وألا أطوي دونكم على أمر إلا في حكم، وألا أؤخر لكم حقًا عن محله، وألا أقف به دون مقطعه، وأنكم عندي في الحق سواء، وأن لي عليكم الطاعة وإخلاص النية“.

الصفة الرابعة: محاسبة الولاة.

أنت عندك مؤسسة أو شركة، ألا تحاسب موظفيك ووكلاءك؟! لا بد من المحاسبة على التعامل مع الثروة. الإمام أمير المؤمنين كتب لواليه على البصرة: يا بن حنيف، لقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننتُ أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو - أي أن الفقير مُبْعَد والغني مقدّم - فانظر إلى ما تقضمي من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما تيقنتَ بطيب وجهه فنل منه ”. وكتب إلى أحد ولاته:“ لقد بلغني أنك تجرد الأرض - أي أنك لم تكتف بالثروة التي فوق الأرض وطمعت فيما تحت الأرض - فتأخذ ما تحت قدميك، وتأكل ما تحت يديك، فإذا وصلك كتابك هذا فارفع إليَّ حسابك - أعطني تقريرًا عن الصادر والوارد - واعلم أن حساب الله يوم القيامة أعظم من محاسبة الناس".

الصفة الخامسة: القرار الجمعي.

القائد ليس ديكتاتورًا مستبدًا، بل عنده مجموعةٌ من ذوي الاختصاص، يأخذ رأيهم ومشورتهم. الإمام أمير المؤمنين يقول لمالك الأشتر: ”إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرًا، ومن شركهم في الإثم، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام عليه الناس قبلك“. ولذلك قال أمير المؤمنين : ”أعقل الناس من جمع عقول الناس إليه“ أي: من استفاد من تجارب الآخرين.

الدعامة الثانية: الاقتصاد.

الدولة بدون اقتصاد دولة فاشلة، فماذا يقول علي بن أبي طالب عن الاقتصاد؟

نذكر هنا أمرين يعرفهما أصحاب الاختصاص في مجال الاقتصاد:

الأمر الأول: هناك خلاف وفرق بين النظام الإسلامي والنظام الرأسمالي في نقطة معينة، وهي مسألة الثروة، إذ أن هناك سؤالاً يطرح نفسه، وهو: لماذا ننتج؟ لماذا ننمي ثرواتنا؟ لماذا نؤسس مصانع وندخل صناديق الاستثمار ونحرّك الأسهم والسوق؟! لماذا ننمي ثرواتنا؟! النظام الرأسمالي يقول بأن تنمية الإنتاج في حد ذاتها هدفٌ، إذ أن كون المجتمع ذا إنتاج ضخم وذا ثروة ضخمة هدفٌ حضاريٌ في حد ذاته.

أما النظام الإسلامي فيقول بأن الإنتاج وتنمية الثروة مجرد وسيلة وليس هدفًا، إذ أنه وسيلة لتوزيع الثروة توزيعًا عادلاً. الإمام علي يقول: ”ما جاع فقير إلا بما متِّع به غني“، فالإنتاج وتنمية الثروة مجرد وسيلة لتوزيع الثروة على أبناء المجتمع توزيعًا عادلاً. معنى هذا الكلام أن الإنتاج يجب أن يكون في إطار التوزيع، فلا بد أن تكون هناك موازنة بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع.

مثال واضح: نحن عندنا مسألة فقهية، وهي موجودة حتى في الأنظمة الرأسمالية، وهي ما نعبّر عنه بما ورد عن النبي المصطفى ، حيث قال: ”من أحيى أرضًا مواتًا فهي له“. أنت لو خرجت إلى الصحراء ورأيت أرضًا لا يملكها أحد فأحييتها ببناء أو زراعة فإنك حينئذ تملكها. لو ذهب شخص إلى الصحراء وأحيى عشرة ملايين متر فهل يملكها كلها؟!

لا يملكها؛ لأنه لو ملك عشرة ملايين متر بإحيائها طغى جانب الإنتاج على جانب التوزيع، حيث تصبح الثروة مكتنزة في طبقة أكثر من طبقة أخرى، والقرآن الكريم يقول: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، فهناك توازن بين الإنتاج والتوزيع، ولذلك نحن ننتج وننمي ثرواتنا ولكن في إطار التوزيع العادل للثروة، بحيث لا يكون الإنتاج على حساب توزيع الثروة، وهنا يتدخل ولي الأمر - الحاكم الشرعي - ويقول: هذا لا يملك من الأرض إلا ألف متر، والغرض من هذا التدخل هو تحقيق الموازنة بين جانب الإنتاج وجانب التوزيع.

الإمام أمير المؤمنين ينص على هذا العنصر حيث يقول: ”هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين واليَه مالك بن حارث الأشتر حين ولّاه مصرًا: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها“. عمارة البلاد إنتاج، وجباية الخراج توزيع، واستصلاح الأهل تحريك لليد العاملة، حتى يصبح المواطن هو المنتج وهو المستثمر وهو المستفيد. ثروة المواطن هو الذي يؤسسها وهو الذي يستفيد منها، فلا بد من موازنة بين جانب الإنتاج وجانب التوزيع.

الأمر الثاني: ما هو الفرق بين الإنتاج والتداول؟

بعض علماء الاقتصاد يقولون بأن الإنتاج يختلف عن التداول، فإن الإنتاج هو تطوير السلعة بشكل يلبي حاجة المستهلك، وأما التداول فهو نقل البضاعة من مكان إلى مكان آخر، سواء كان نقلاً عموديًا، بمعنى نقل المعدن مثلاً من باطن الأرض إلى خارجها، أو كان نقلاً أفقيًا، كالتاجر الذي ينقل البضاعة من المصنع إلى المستهلك. ما يقوم به التجار من التداول ليس - كما يقول بعض علماء الاقتصاد - إنتاجًا، بينما في الاقتصاد الإسلامي وفي النظرية العلوية للإمام أمير المؤمنين: التجارة نوعٌ من الإنتاج. التاجر الذي يتحمل المؤونة في إيصال السلعة إلى المستهلك وإنزالها إلى السوق دوره دور إنتاجي، وليس دورًا تداوليًا محضًا.

الإمام أمير المؤمنين يخاطب مالك بن حارث الأشتر فيقول: ”واستوصِ بالتجّار وذوي الصناعات“ أي أن التاجر منتج كما أن الصانع منتج، فهما في عرض واحد، ولذلك قال: ”واستوصِ بالتجّار وذوي الصناعات خيرًا وأوصِ بهم؛ فإنهم موادّ المنافع - أي أنهم مصدر الإنتاج - وأسباب المرافق وجلّابها من المباعد والمطارح“.

الدعامة الثالثة: المواطنة.

التعريف القانوني للمواطنة: هي عضوية تنشأ عن علاقة بين الدولة وبين الفرد، وبحسب التعريف الرسمي: المواطنة هي الجنسية، فمن امتلك الجنسية فعليه واجبات: الإخلاص لوطنه، والدفاع عن وطنه بنفسه وأمواله، وله حقوق، كحق التعليم وحق الصحة، ونحو ذلك. وأما المنظور الإسلامي: المواطن في الدولة الإسلامية من آمن بالله، فكل من آمن بالله فهو مواطنٌ، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، فكل من آمن بالله حتى لو كان يهوديًا أو نصرانيًا فهو مواطنٌ في الدولة الإسلامية، ولا يشترط في المواطن في الدولة الإسلامية أن يكون مسلمًا، وإنما المهم أن يؤمن بالله.

الإمام أمير المؤمنين وضع لنا نصوصًا وقواعدَ تعلّمنا معنى المواطنة في دولته، حيث قال بأن الإنسان بما هو إنسان له حق الكرامة، ولذلك قال لمالك الأشتر: ”وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والرفق بهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم؛ فإن الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الدين“، أي أنه إنسان مثلك وإن لم يكن مسلمًا، وبما أنه إنسان فهو مواطنٌ، فله حق الكرامة، وله سائر الحقوق. وهذه الكلمة تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لأنه وجدها كلمةً تعبّر عن عمق كرامة الإنسان.

الإنسان عند أمير المؤمنين هو مبدأ الكرامة وهو موضوعها. ولذلك الإمام أمير المؤمنين عندما رأى نصرانيًا يتسوّل قال: ما هذا؟! قالوا: هذا نصراني كبر وعجز عن العمل فصار يتسول، قال: ”ويحكم! استخدمتموه فلما كبر تركتموه يتكفف الناس؟! أعطوه من بيت المال“، وأعطي ذلك النصراني راتبًا من الدولة، مع أنه نصراني عاجز عن العمل، ولكن له حقًا في الضمان الاجتماعي لأنه إنسان؛ لأن الإنسان بنظر أمير المؤمنين هو موضوع الحقوق وهو موضوع الكرامة.

الناس عند علي متساوون في العطاء وإن اختلفت ألوانهم وأديانهم ومذاهبهم وطبقاتهم الاجتماعية، ولذلك أقبلت إليه امرأة من قريش وعندها جارية أعتقتها حرة لوجه الله، فأتت مع الخادمة إلى الإمام علي تطلب منه العطاء، فأعطاها الإمام راتبًا وأعطى خادمتها راتبًا مساويًا، فاعترضت وقالت: يا أبا الحسن، هذه جاريتي، وهي أعجمية، وأنا قرشية! فقال لها الإمام أمير المؤمنين: ”ما وجدتُ في كتاب الله فضلاً لبني إسماعيل على بني إسحاق“. أنا لم أجد فضلاً للعنصر العربي على العنصر الآخر! ولم أجد فضلاً لعنصر هذا المذهب وهذه الطائفة على العنصر الآخر!

أخوه عقيل أقرب الناس إليه، كان أخا الخليفة، وأخو الخليفة لا بد من أن يعيش في قصر، ولا بد من أن تكون عنده عشر سيارات على الأقل!! ولكن الإمام أمير المؤمنين يقول: ”لقد أقبل إليَّ أخي عقيل، ومعه أبناؤه شعث الوجوه غبر الألوان من الفقر، كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم، وقد استماحني صاعًا من بُرِّكم، فأحميتُ له حديدةً، وأدنيتها منها، ففزع منها، فقلتُ: يا عقيل، ثكلتك الثواكل! أتئن من نار أوقدها إنسانُها للعبه، وتجرني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه؟!“.

الإمام أمير المؤمنين يوزّع العطاء توزيعًا عادلاً، ويرى أن الإنسان هو مناط الكرامة، ولذلك عندما دخل ضرار على معاوية قال له: يا ضرار، صف لي عليًا، قال: اعفني، قال: أقسمتُ عليك إلا أن تصف لي عليًا، قال: إن أبيتَ أن أصفه فأنا أصفه. كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلاً، ويحكم فصلاً. كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلّب كفيه على ما مضى. كان يأنس بالليل ووحشته، ويتوحش الدنيا وزهرتها، تتفجر الحكمة من جوانبه، وينطق العلم من نواحيه. كان والله يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، يعظّم أهل الدين، ويتحبّب إلى المساكين، لا يطمع القوي في ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله. كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا منه إذا أتيناه، وكان مع قربه منا وحنوه علينا لا نكلمه هيبةً له، فإذا تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم. وقد رأيتُه ليلة من لياليه وقد مَثُل في محرابه، قابضًا على شيبته، وهو يقول: ”إليكِ يا دنيا، غري غيري! إليَّ تشوفتي؟! أم إليَّ تطلعتي؟! لقد بِنْتُكِ ثلاثًا لا رجعة لي بعدها، فعيشكِ حقير، وعمركِ قصير، وخطركِ كبير، آهٍ من قلة الزاد وبُعْد السفر ووحشة الطريق“.

أبو الحسن علي يكفينا في عظمته وسموه أنه أنتج الحسين، فإن الحسين مفخرةٌ من مفاخر علي، ومظهرٌ من مظاهر عظمة علي، والحسين صورة أخرى عن علي. علي يقف يوم صفين والحرب قائمة فيصلي، يقال: كيف تصلي يا أبا الحسن والوقت وقت قتال؟ قال: علام نقاتلهم؟! إنما نقاتلهم لأجل الصلاة. والحسين يوم عاشوراء في وسط المعركة يقول: ذكرتُم الصلاة جعلكم الله من المصلين، قولوا لهؤلاء القوم يكفوا عنا بعض الوقت حتى نصلي لربنا.

علي يقول: ”والله لو أعطيت أقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، والحسين يقول: ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد“.