الحوار أصوله وأهدافه

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث حول مبدأ الحوار في ثلاث نقاط:

  • إنسانية الحوار.
  • نسبية الحوار.
  • أصول الحوار.
النقطة الأولى: إنسانية الحوار.

نحن عندما نرجع إلى القرآن الكريم نقف أمام هذه الآية المباركة: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، وهذه الآية المباركة عندما نتأملها نجد أنها تدل على أن حالة الحوار والجدال ظاهرةٌ متأصلةٌ في الإنسان، فالإنسان يعيش في أعماقه روح الحوار وروح الجدل وروح المناقشة، فالجدال والمناقشة ظاهرةٌ إنسانيةٌ متأصلةٌ في طبع الإنسان وفي ميوله، والسر وراء ذلك: أن هناك نزعتين أصيلتين عند الإنسان، إذا التفتنا إليهما عرفنا كيف أن الحوار ظاهرةٌ إنسانيةٌ متأصلةٌ.

النزعة الأولى: غريزة دفع الألم.

أقوى الغرائز التي تسيطر على الإنسان وعلى مسيرته هي غريزة جلب اللذة ودفع الألم، فالإنسان دائمًا يسير بين هذين الطرفين: طرف جلب اللذة، وطرف دفع الألم، فغريزة دفع الألم تبعث الإنسان على الغضب إذا أغْضِب، وتبعثه على الثأر لشخصيته إذا جُرِحَت، وتبعثه على خوض الحروب الطاحنة مع الآخرين في سبيل مبدأ أو عقيدة أو مفردة معينة، كما أن غريزة دفع الألم هي التي تدفع الإنسان أيضًا إلى الجدل، وهي التي تبعثه إلى الحوار.

بيان ذلك: أن الإنسان إذا آمن بفكرة معينة، وإذا آمن بمبدأ معين، وأحسَّ أن الطرف الآخر يحاول أن يسلبه مبدأه الذي يقر به ويعتقده، فإن الإنسان انطلاقًا من غريزة دفع الألم يمارس الحوار والجدل مع الآخر؛ لأنه لا يريد أن يسقط معتقده، ولا يريد أن يتهاوى ما يقره وما يعتنقه، ولا يريد أن يعيش ألم سقوط المعتقد وسقوط المقالة التي يذعن بها، فالإنسان يجري وراء الحوار والنقاش انطلاقًا من غريزة دفع الألم؛ دفاعًا عن معتقده وعن المقالة الراسخة في ذهنه، ولذلك كان الحوار والجدال نزعةً متأصلةً في الإنسان، إذ أنها تنبع عن غريزة ذاتية للإنسان، وهي غريزة دفع الألم كما بيّنّا.

النزعة الأخرى: غريزة المحاكاة.

طُبِع الإنسان على محاكاة الآخرين وتقليدهم، فالطفل مثلاً يحاكي أباه من حيث يشعر أو لا يشعر، والتلميذ يحاكي أستاذه من حيث يشعر أو لا يشعر، والحضارة المتخلفة تحاكي الحضارة الشامخة من حيث تشعر أو لا تشعر، فنزعة المحاكاة نزعةٌ ذاتيةٌ عند الإنسان. ومن أجل ذلك، إذا وُلِد الإنسان، فإنه منذ نعومة أظفاره ينفتح على الحياة، والحياة هي ميدان الصراع والتنافس والتسابق، فهي ميدان التنافس الاقتصادي، والصراع الاجتماعي، والتسابق والتغالب الديني، فإذا انفتح الإنسان على الحياة ورأى أنها مخاضٌ عسيرٌ بالصراع بين الأضداد، وبالصراع بين الأطراف المختلفة، بدأ يحاكي الواقع الذي يعيش فيه، وبدأ يحاكي البيئة التي يتنفسها، فإذا كانت البيئة بيئةً تعيش حال الصراع - سواء كان صراعًا دينيًا أو صراعًا اقتصاديًا أو صراع اجتماعيًا - فإنه يكبر ومعه ظاهرة الجدل والحوار والنقاش.

إذن إذا قرأنا الآية المباركة: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا لا نستغرب أن ظاهرة الجدل ظاهرة إنسانية؛ لأنها ظاهرة تنبع من أصول ذاتية عند الإنسان، حيث تنبع من غريزة دفع الألم من ناحية، ومن غريزة المحاكاة من ناحية أخرى.

النقطة الثانية: نسبية الحوار.

هنا أمامان نظريتان: إحداهما تقول بأن الحوار يستند إلى التعددية ونسبية الحقيقة، وهي التي يطرحها بعض علماء الاجتماع في علم الاجتماع المعرفي، بينما النظرية الأخرى تقول بأن الحوار الديني يستند إلى الوحدوية والحقيقة المطلقة لا إلى النسبية والتعددية. وحتى يتضح هذا المعنى نقول: هناك مفردتان شائعتان: المفردة الأولى هي «حوار الحضارات»، والمفردة الأخرى هي «حوار الأديان»، ولا يجوز لنا الخلط بين هاتين المفردتين؛ فإنهما مختلفتان اختلافًا جوهريًا.

النوع الأول: الحوار الحضاري.

حوار الحضارات حوارٌ يختزن التعددية، ويبتني على التعددية في الحقيقة، فمثلاً: في عصرنا الحاضر عندنا حضارتان شامختان: الحضارة المادية، وهي الحضارة الرأسمالية الغربية، والحضارة الإسلامية. الحضارة المادية حضارةٌ برعت وتفوقت في المجال التكنولوجي، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، حيث سيطرت على الفضاء، ووقفت على مراكز الكون، ووقفت على كنوز الطاقة، فهي حضارةٌ وقفت على مفاتيح الحركة المادية، ومفاتيح العجلة المادية، فالحضارة المادية من هذه الجهة حضارة متفوقة، ويمكن لنا أن نقول بأن الحضارة الغربية نالت نصيبًا من الحقيقة في المجال التكنولوجي؛ لأنها برعت وتفوقت ووقفت على الكنوز والمراكز.

ومن جهة: الحضارة الإسلامية، وأقصد بها الحضارة الإسلامية في الوضع الحاضر وفي الزمن المعاصر، وقد أخفقت هذه الحضارة في المجال التكنولوجي، ولا زالت تابعةً ومقلدةً في هذا المجال، وليست مبدعةً، ولكن الحضارة الإسلامية على عللها المادية ما زالت الحضارة الوحيدة التي تصنع المبادئ والقيم، فمثلاً: من أنفس القيم وأغلى المبادئ: قوة الإرادة. من منا لا يهوى قوة الإرادة؟! من منا لا يحب أن تكون له إرادة حديدية صلبة يتحدى بها العواصف والأعاصير؟! قوة الإرادة من أثمن القيم ومن أغلى المبادئ. قوة الإرادة تصنعها الحضارة الإسلامية، ولا تصنعها الحضارة الغربية. الحضارة الإسلامية هي التي تخرّج الأبطال الاستشهاديين في فلسطين وفي لبنان، وهي التي تربّي هذا الفرد على إرادة تتحدى الدنيا بإغراءاتها، وتتحدى الدنيا بزخارفها، فتجعله إنسانًا يسحق الدنيا والإغراءات والمطامع، ويبادر للشهادة من أجل قيمه ومبادئه، وهذه هي قوة الإرادة، وهي من المبادئ النبيلة العظيمة التي تصنعها الحضارة الإسلامية. أجواء الإسلام هي التي تصنع قوة الإرادة.

إذن بإمكاننا أن نقول - أقول: بإمكاننا - أن الحضارة الغربية نالت نصيبًا من الحقيقة؛ لأنها تفوقت في المجال التكنولوجي، والحضارة الإسلامية نالت جزءًا من الحقيقة؛ لأنها تفوقت في المجال الروحي، وبما أن الحضارتين كل منهما تمتلك نصيبًا من الحقيقة، إذن مقتضى ذلك أن ينشأ بينهما حوار الحضارات، فنظرية حوار الحضارات انطلقت من هذا المنطلق، فإنها تؤمن بأن هناك تعددية، وأن هناك حضارتين كل واحدة منهما امتلكت نصيبًا من الحقيقة، ولو في مجال مهارتها وبراعتها، فهناك طرفان متفاعلان متحاوران بينهما حوار التفاعل لا حوار التغالب، وحوار التواصل لا حوار التقاطع، وهذه هي نظرية حوار الحضارات.

النوع الثاني: الحوار الديني.

هل حوار الأديان - كالحوار الإسلامي المسيحي، أو الحوار الإسلامي اليهودي، أو حوار المذاهب، كالحوار السني الشيعي - كالحوار الحضاري؟ هل الحوار الديني حوارٌ ينبثق عن التعددية كما كان الحوار الحضاري؟ هل الحوار الديني ينبثق عن نسبية الحقيقة كما كان الحوار بين الحضارات، أم أن الحوار الديني يختلف جوهرًا ومضمونًا عن الحوار الحضاري؟ هذا هو مركز بحثنا ومحوره: الفرق بين الحوار الديني والحوار الحضاري.

النظرية الأولى: الحوار الديني حوار تعددي.

ذكرنا أن بعض علماء الاجتماع يرى أنه لا فرق بين الحوار الديني والحوار الحضاري، بل إن الحوار بصفة عامة وبشكل عام - سواء كان دينيًا أو حضاريًا - يختزن التعددية، ويبتني على نسبية الحقيقة. أصحاب هذه النظرية يقرّرون أن النظام - نظام الوجود الكوني والاجتماعي - نظامٌ يرتكز على قانون التغير والحركة، فهذا الوجود بأكمله ليس فيه سكون ولا ثبات، بل إن نظام الوجود نظامٌ حركيٌ متغيرٌ، فهو نظام المفاجآت والتغيرات، وبما أن نظام الوجود نظام التغير والحركة، فليس عندنا ثبات، وليس عندنا حقيقة مطلقة. ليس في الوجود حقيقة مطلقة، وليس في العقول مطلقة، ولا يوجد مذهب أو دين يحتكر الحقيقة المطلقة لنفسه ويقول: أنا صاحب الحقيقة، وغيري ليس على شيء منها! الحقيقة خاضعةٌ لنظام التغير، وخاضعةٌ لنظام الحركة، وهذا النظام الذي يفرض نفسه على الوجود يقرّر أنه ليس هنالك حقيقة مطلقة، بل كل دين حاز جزءًا من الحقيقة، وكل مذهب حاز نصيبًا من الحقيقة، وليس كل الحقيقة، فالحقيقة المطلقة ليست لأحد، بل الحقيقة نسبية، وانطلاقًا من هذا المبدأ - مبدأ الحقيقة النسبية - يحصل الحوار. إذن حوار الأديان والمذاهب كحوار الحضارات، فهو حوار التفاعل والتواصل، والهدف منه أن أكتسب منك وأن تكتسب مني، وآخذ منك وأعطيك، فهو حوار الأخذ والعطاء.

النظرية الثانية: الحوار الديني حوار وحدوي.

النظرية الإسلامية التي نقرّرها أن هناك فرقًا بين الحوار الديني والحوار الحضاري، فإن الحوار الديني لا يستبطن التعددية، بل هو حوارٌ أحاديٌ وحدويٌ لا يستبطن تعدديةً، فهو حوارٌ يرتكز على الحقيقة المطلقة لا على الحقيقة النسبية، وحتى يتضح الأمر جيدًا لا بد من الالتفات إلى مطلبين:

المطلب الأول: الفرق بين عالم الملك وعالم الملكوت.

ذكرنا مرارًا وفي عدة بحوث أن هناك فرقًا بين عالم الملك وعالم الملكوت، إذ أن عالم الملك هو عالم المادة التي نتعامل معها بالحواس الخمس، وهو ما عبّر عنه الآية المباركة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وهناك عالمٌ وراء الصور والأشكال، وهو عالم الملكوت، وهو الذي عبّرت عنه الآية المباركة: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، والمقصود بعالم الملكوت: عالم ما وراء المادة، وما وراء الصور، وبتعبيرهم: عالم ميتافيزيقي، فهو عالم الحقيقة والواقع الذي هو وراء المادة ووراء قانون الحركة والتغير.

إذا كان عندنا عالمان: عالم الملك وعالم الملكوت، عالم المادة وعالم الروح والحقيقة، فإننا عندما نفتتح حوارًا حضاريًا فحوارنا سيكون حول عالم الملك، إذ أن حوار الحضارات حوارٌ يرتبط بالحقائق المادية، وهي حقائق عالم الملك، فلأن حوار الحضارات حوار يرتبط بعالم المادة، ويرتبط بالحقائق المادية، والمادة تعني التركيب والتجزئة والتغير والتبدّل، حيث تلتف فيه العناصر وتتفاعل ثم تفترق وتتباين. بما أن عالم المادة عالم التركيب والتجزئة يمكن لنا أن نقول - وإن كنا نحن لا نسلّم - بأن الحقائق المادية بعضها حقائق نسبية، فأنت تنال جزءًا من الحقيقة، وأنا أنال جزءًا آخر من الحقيقة.

مثلاً: عندما نبحث: هل فيتامين سي ضروري للحياة، بحيث من لم يعطَ هذا الفيتامين يموت، أم ليس ضروريًا؟ هذه حقيقة مادية ترتبط بعالم الملك، ولا ربط لها بعالم الملكوت، فعندما نبحث عن هذه الحقيقة يمكن أن نقول: فيتامين سي ضروري وليس بضروري، فهو ضروري في بعض الظروف ولبعض البشر، وليس ضروريًا في بعض الظروف ولا ضروريًا لبعض البشر، فيمكن لنا أن نختلف حول حقيقة مادية، ومع ذلك أنت تصيب جزءًا وأنا أصيب جزءًا آخر. يمكن لنا أن نختلف حول حقيقة مادية، وتكون الحقيقة المادية حقيقة مرنة، تقبل أن يصاب جزءٌ منها لطرف، وينال جزءٌ منها لطرف آخر، فالحقيقة المادية يتصوّر فيها المرونة وأن تكون حقيقة نسبية.

مثال آخر: نحن عندما نختلف في كون مرض السل الرئوي قاتلاً أو غير قاتل، فيمكن أن يكون قاتلاً وليس بقاتل في نفس الوقت، فهو قاتل في بعض الظروف وبالنسبة لبعض الأشخاص، وليس بقاتل في بعض الظروف وبالنسبة لبعض الأشخاص، فبما أن الحقيقة حقيقة مادية، وعالم المادة عالم التجزئة والتركيب وعالم التفاعل والتغير، يمكن للحقيقة المادية أن تكون حقيقة نسبيةً مرنةً، وبما أن حوار الحضارات يدور حول مفردات الحضارة المادية، يمكن أن يكون حوار التفاعل، ويمكن أن يقال بأن حوار الحضارات يختزن التعددية ونسبية الحقيقة.

وأما الحقائق الملكوتية - أي: حقائق ما وراء المادة - فهي لا تخضع للتغير والتفاعل. الله واحد أم ليس بواحد؟ هذه حقيقة بسيطة، وليست حقيقة مادية كي تكون مرنة وقابلة للتفاعل والتغير. محمد نبي أم ليس بنبي؟ هذه ليست مسألة مادية حتى نقول بأنها حقيقة مرنة، فمن قال بأنه نبي مصيب، ومن قال بأنه ليس بنبي مصيب أيضًا، ويتفاعلان! علي إمام أم ليس بإمام؟ المهدي المنتظر هل هو فلان أم ليس بفلان؟ هذه ليست حقائق مادية، وبما أنها ليست حقائق مادية فهي مفاهيم بسيطة دائرة بين طرفين: إما نعم وإما لا، فلا تقبل أن يصيبها طرفان مختلفان.

إذن هذه الحقائق لا تقبل التعددية ولا النسبية، بل هي حقائق بسيطة، فلا يمكن أن يقال بأن الله واحد وليس بواحد في نفس الوقت، فإن هذا جمعٌ بين النقيضين، والجمع بين النقيضين مستحيلٌ عقلاً، وهذا من قبيل أن يقال: أنت إنسان ولست إنسانًا، وأنت تلميذ ولست بتلميذ، وأنت موجود ولست بموجود، وأنا كلامي صحيح وغير صحيح، وأنا أتكلم معك ولا أتكلم معك، والجميع مصيب! الجمع بين النقيضين مستحيل عقلاً، فالحقائق الملكوتية التي تكمن وراء المادة حقائق بسيطة لا تخضع لقانون التغير والتفاعل، ولذلك فهي حقائق لا تقبل التعددية، ولا تقبل النسبية، والحوار الديني - سواء كان حوارًا بين الأديان أو كان حوارًا بين المذاهب - حوارٌ حول الحقائق الملكوتية، وليس حوارًا حول الحقائق المادية، كي يقال بأن الحوار الديني حوار يعني التعددية أو نسبية الحقيقة.

المطلب الثاني: مناقشة فنية جدلية.

أنت عندما تقول: الحقيقة نسبية، فهذه مقالة من المقالات، وهذه المقالة مفهومٌ من المفاهيم، فهل هذا المفهوم نسبي أم ليس بنسبي؟ نسبية الحقيقة حقيقة من الحقائق، فهل هي نسبية أم ليست بنسبية؟ إن قلتَ بأنها نسبية أيضًا، فكل شيء نسبي حتى نسبية الحقيقة، فحينئذٍ إذا كانت نسبية الحقيقة أمرًا نسبيًا فليست قانونًا يمكن التعويل عليه، ولا يمكن أن نقيس عليه معلوماتنا وحواراتنا وأحكامنا.

وأما إذا قلتَ بأن نسبية الحقيقة حقيقة مطلقة وليست نسبية، فقد أقررت وأذعنت بأن هناك حقيقة مطلقة، فإذا كانت هناك حقيقة مطلقة فعلى أساس هذه الحقيقة المطلقة يتولد الحوار الديني، فالحوار الديني لا ينبعث عن التعددية ولا عن نسبية الحقيقة، بل الحوار الديني حوار أحادي يستند إلى الحقيقة المطلقة، فأنا أحاورك لأنني أعتقد بأن الحقيقة المطلقة عندي، ولذلك أحاورك لأقنعك بمعتقدي، وأما لو كنتُ أعتقد بأن هناك حقيقة موزّعة بيننا بحيث أنا آخذ منك وأعطيك، فهذا ليس حوارًا دينيًا، بل هو حوار حضاري، وفرق بينهما.

لعل إنسانًا يسألنا: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؟ هذه الآية ظاهرها أن الحقيقة يمكن أن تتوزع، فمن الجائز أن توزّع بيننا الحقيقة، فأنا أنال منها جزءًا، وأنت تنال منها جزءًا آخر، فلماذا لا تقولون بالتعددية والنسبية، مع أن الآية ظاهرها إمكانية توزيع وتحصيصها إلى حصتين لكل طرف حصة منها؟

الحواب: الآية المباركة تفترض وتقرّر النسبية الفرضية، إذ أنني لا أستطيع أن أخوض معك حوارًا إلا إذا افترضت جدلاً أن الحقيقة مردّدة ما بيننا: فإما أنت على الحقيقة أو أنا، وهذا مجرد افتراض جدلي لأجل بدء الحوار، ولا يعني أن الحقيقة يمكن تحصيصها وتوزيعها. من الأساليب التكتيكية للحوار أن أقول: محتمل أن تكون صوابًا، وإن كنتُ أنا لا أحتمل، فإني على يقين بنسبة بليون بالمئة بأن عليًا إمامٌ بعد رسول الله ، ولا يوجد عندي احتمال للأمر المعاكس، ولكنني جدلاً ومن أجل أن أبدأ معك الحوار أمارس أسلوبًا تكتيكيًا فأقول: لعل كلامك صحيح ولعل كلامي صحيح، فلنبدأ الحوار إذن، ونستقرئ الأدلة والبراهين؛ لنصل إلى شيء من الطرفين، ولنصل إلى أحد القولين. إذن هذا مجرد افتراض جدلي كأسلوب تكتيكي لممارسة الحوار، ولا يعني أن الحوار أمر نسبي يقبل التحصيص.

النقطة الثالثة: أصول الحوار الديني.

تحدثتُ في الجمعة الماضية في البحث المسجدي عن الحوار المذهبي بشيء من التفصيل، وهنا أختصر الكلام وبصياغة أخرى حول الحوار المذهبي. أنتم تعرفون أن قناة المستقلة وغيرها من المواقع في الإنترنت أفرزت لنا حالةً وظاهرةً من الحوارات المسعورة المحمومة التي انعكست شجارًا وسجالاً طائفيًا، بدل أن تكون حوارًا هادفًا مسؤولاً. نحن لسنا ضد الحوار، بل إن عصرنا هذا هو عصر الانفجار المعلوماتي، وهو عصر الانفتاح على ميادين العلم وآفاق المعرفة، ولا يمكننا أن نقف أمام عجلة العصر وأن نوقف الحوار، فنحن لسنا ضد الحوار؛ لأننا لسنا ضد حركة العصر وعجلة الحضارة، ولكننا مع الحوار المسؤول الهادف، ولسنا مع الشجار ولا مع السجال الطائفي، فنحن مع المفردة الأخرى التي تركز على الحوار المسؤول والهادف، فكيف يكون الحوار هادفًا؟

عندما نلاحظ بعض الحوارات في قناة المستقلة نلاحظ مدرستين مختلفتين تمامًا: مدرسة الإمامية، ومدرسة السلفية. مدرسة الإمامية مدرسة عقلانية، تعتمد على الأحكام العقلية بصورة رئيسية، فهي مدرسة تعتمد على المبادئ العقلانية في كثير من أصولها وعقائدها، ولا تعتمد على الظواهر الحرفية للآيات والروايات، ولا تعتمد على العلاقة الحرفية والاستنطاق الحرفي للآيات والروايات، بل تعتمد على الظهور التحليلي دائمًا. نحن دائمًا نقرأ القرآن أو نصوص النبي أو نصوص الصحابة أو نصوص أهل البيت بالظهور التحليلي، ولا نقرؤه بالظهور اللغوي الحرفي، وهذا هو منهجنا.

في مقابل المدرسة الإمامية التي تعتمد على ركيزتين - المبادئ العقلية من جهة، والظهور التحليلي من جهة أخرى - توجد مدرسة أخرى، وهي مدرسة السلفية، وهي مدرسة نقلية تعتمد أولاً وآخرًا على النقل، وأما العقل فلا مجال له في هذه الأمور، ومن جهة أخرى: منهجها منهج الاستنطاق الحرفي للآيات والروايات، من دون أن تكون هناك عملية تحليلية يقوم بها الذهن وراء هذا الظهور، ووراء القرائن والمناسبات والظروف الموضوعية التي تكتنف النص وتكتنف الآية أو الرواية.

هاتان مدرستان مختلفتان، فكيف تجمع بينهما في حوار؟! منهجان متباينان، فكيف يجتمعان في حوار؟! لا يمكن لي كمدرسة ولك كمدرسة أن نسير في حوار من دون أصول ومن دون منهج، بل سيتحول الحوار حتمًا إلى ظاهرة الشجار، وإلى السجال الطائفي؛ لأننا متغايران، وننحدر عن مدرستين متباينتين، فكيف نجتمع في حوار ودي أخوي حميم يجسّد الأخوة الإسلامية والعلاقة الحميمية؟!

إذن من أجل أن يكون الحوار هادفًا مثمرًا لا بد أن تكون له أصول، ولا بد من أن نقرّر الأصول أولاً ثم ندخل في الحوار. مثلاً: أنا لا أصعد المنبر وأقول لك كل شيء هكذا فجأة، بل لا بد من التقديم بمقدمة، فأقول لك: موضوعي هذه الليلة حول النقطة الفلانية، وهو يرتكز على نقاط ومقدمات معينة.. لا بد من إعطاء مدخل للبحث قبل الشروع فيه، كما هو مقتضى الأصول العلمية في مقام البحث. لا يمكن لي أن أخوض حوارًا بين مدرستين من دون أن أؤصّل أصولاً.

قبل الشروع في الحوار لا بد من تأسيس أصول للحوار، وعلى أساس هذه الأصول ندخل في الحوار ونبدأ مسيرته ونمشي فيها، فما هي أصول الحوار؟ ما هي الأصول المنهجية لخوض الحوار كي يكون الحوار مثمرًا ومنتجًا؟ أنا لا أريد أن أطيل، ولذلك أقول باختصار: لكي يكون الحوار منهجيًا وموضوعيًا فلا بد من تقرير أصول، ومن أهم هذه الأصول: فهم مصطلحات الآخر.

أنا لا يمكن أن أخوض معك حوارًا حتى أفهم مصطلحاتك، فإن لك مصطلحاتٍ في كتبكَ وعلى ألسنة علمائك ومشائخك، فلا بد من فهم هذه المصطلحات، ثم ندخل في الحوار. إذن لا بد من أن نعقد حلقةً حول المصطلحات: مصطلحات المدرسة السلفية، ومصطلحات المدرسة الإمامية، وبعد أن نحدّد المصطلحات نخوض على أساسها الحوارَ، وأما إذا كنتُ أقصد شيئًا بينما أنت تقصد شيئًا آخر، فأنت في واد وأنا في واد، فكيف يكون الحوار حوارًا هادفًا؟!

مثال: الكفر والإسلام.

قد يقول قائلٌ: بعض كتب الشيعة الإمامية تتضمّن تكفيرًا لمن لا يعتقد بإمامة علي بن أبي طالب ، ”من حاربكم مشرك“، ”من رد عليكم فهو في أسفل درك من الجحيم“، ”من جحدكم كافر“. بعض كتب الإمامية تقرّر أن من لا يعتقد بإمامة علي وأهل بيته فهو كافر، إذن الشيعة الإمامية يكفّرون سائر المسلمين، ويحملون راية التكفير أمام المسلمين جميعًا.

لا يا أخي! افهم مصطلحاتنا ثم ناقشنا. نحن عندما نرجع إلى كتب علمائنا - ومنهم سيدنا الخوئي «قدس سره» في كتابه «التنقيح في شرح العروة الوثقى» عندما يتحدث عن الغلاة والمجسّمة في باب النجاسات، حيث يتعرّض هناك لبحث الإسلام والكفر - نجدهم يفرّقون بين الإسلام الاعتباري والإسلام الواقعي. الإسلام الاعتباري ليس فيه درجات ومراتب، بل كل من قال: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» فهو مسلم، وليس عندنا تفصيل ولا درجات ولا مراتب. كل من تشهّد الشهادتين فهو مسلم، أي أن دمه حرام، وعرضه حرام، وأمواله حرام، فهو مسلم مصون ومعصوم بعصمة الإسلام وصيانته، فهو محترم ولا يجوز الاعتداء عليه، ولا يجوز سبابه ولا التعريض بعرضه، وأما من لم يقل الشهادتين فهو كافر كفرًا اعتباريًا، فيُحْكَم بنجاسته، ولا حرمة له.. إلى آخر الأحكام المذكورة، فهناك إسلام اعتباري وكفر اعتباري.

ومن ناحية أخرى: يوجد إسلام واقعي وكفر واقعي. الإنسان بينه وبين الله علاقة روحية معينة، وهذه العلاقة إما هي علاقة إسلام وإما هي علاقة كفر، وهذا ما نعبّر عنه بالإسلام والكفر الواقعيين. العلاقة الروحية القلبية بين العبد وربه هي الإسلام الواقعي، وهذا الإسلام الواقعي له درجات ومراتب، وكل من البشر يحمل مرتبة من الإسلام وقد يحمل مرتبة من الكفر في هذه العلاقة الروحية.

مثلاً: أنا إنسان أتشهد الشهادتين، وأصلي الفرائض اليومية، وأفعل الواجبات، وأترك بعض المحرمات، ولكنني إنسان يمارس الإسراف والتبذير، وأتلاعب بالنعمة، فأنا حصلتُ على مرتبة من الإسلام الواقعي، كما حصلت على مرتبة من الكفر الواقعي، وهي مرتبة الكفر بالنعمة. أنا في علاقتي مع ربي مسلم وكافر، حيث حصلت على درجة من درجات الإسلام لأنني أقوم بالفرائض اليومية، ولكنني حصلت على مرتبة من الكفر أيضًا؛ لأنني كفرتُ بالنعمة والثروة التي وهبها الله لي، فأنا في آن واحد لي مرتبة من الإسلام ولي مرتبة من الكفر.

إذن فالإسلام والكفر الواقعيان لهما درجات ومراتب، وأما الإسلام الاعتباري فليس له درجات ولا مراتب، فمن قال الشهادتين فهو مسلم، سواء اعترف بأن الإمام عليًا إمام أو لم يعترف، فهو مسلم بالإسلام الاعتباري، وصاحب حرمة، ومعصوم بعصمة الإسلام، ولكنه إذا آمن بإمامة علي وأهل بيته فقد حصل على مرتبة من مراتب الإسلام الواقعي، وإذا لم يؤمن بإمامتهم لم يخرج عن الإسلام الاعتباري، ولكنه حصل على مرتبة من مراتب الكفر الواقعي؛ إذ أن أهل البيت نعمةٌ من النعم التي أفاضها الله على العباد، فإن الله «تبارك وتعالى» كما أنعم على البشرية بمحمد ، فقد أنعم على البشرية بأهل بيته الهداة المهديين، وبالتالي عدم الإيمان بهم نوعٌ من الكفران بالنعمة، وهو مرتبة من مراتب الكفر الواقعي.

إذن بعض علمائنا الذين يقولون بأن من لا يعتقد بالإمامة فهو كافر يقصدون مرتبة من مراتب الكفر الواقعي التي لا تتنافى مع الإسلام الاعتباري، وهذا ما صرّح به سيدنا الخوئي «قدس سره» وغيره من العلماء، فكيف لي أن أخوض معك الحوار وأنت لا تفهم مصطلحاتي ولا تدرسها؟! أنت تحاسبني على مصطلحاتك ولا تحاسبني على ضوء مصطلحاتي! من الأصول المنهجية للحوار أن تُدْرَس مصطلحات كل مدرسة قبل خوض الحوار.

الحوار في سيرة أهل البيت:

الحوار المسؤول والحوار الهادف هو الحوار الذي يكون سيرًا وجريًا على خط أهل البيت. الإمام الحسن الزكي كان شخصيةً حواريةً. جاءه أحد أصحابه وشيعته وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين! ليتك متَّ يا حسن ولم تبايع معاوية بن أبي سفيان! الإمام الحسن ليس شخصية انفعالية حتى يهيج ويغضب ويصرخ في وجه هذا الإنسان أبدًا، بل هو شخصية حوارية منفتحة متعقلة مسيطرة على أعصابها وانفعالاتها ومشاعرها وعواطفها. الإمام الحسن الزكي بابتسامته وتواضعه وحنانه احتضن هذا الطرف، وقال: اجلس، فجلس، وقال له: ”لو كان مثلك عشرة لجاهدت معاوية بالسيف قدمًا. إن الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا معاوية هو حقٌ لي تركتُه لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها“.

انظر إلى العقلية الواعية. هذه هي عقلية الحوار المسؤول، وهذه هي عقلية الحوار الذي يبتني على مراعاة المصالح الإسلامية العامة. الإمام الحسن الزكي ينطلق من المصالح الإسلامية العامة ليحاور أصحابه بالعقلية المنفتحة.

ربما يقول قائل: هذا الحسن، وأما الحسين فلا! الحسين شخص حدي لا يعرف الأسود ولا الأبيض، بل هو لا يعرفه إلا مقالة واحدة، ولا يعرف إلا قرارًا واحدًا، فالحسين شخصية حدّية وليست شخصية حوارية!

نقول: لا، الحسين شخصية حوارية. الحسين هو ثروة وغليان دون المبادئ ودون القيم، وفي نفس الوقت هو عقلية منفتحة على الحوار. الحسين إلى آخر سويعات حياته وهو يحاور القوم، بل يخاطبهم بأسمائهم ويناقشهم، فيقول: ”ألستُ ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه؟! يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا شبث بن ربعي، ألم تكتبوا لي أن أقبل إلينا، فلقد اخضر الجناب وأينعت الثمار، وإنما تقبل على جند لك مجندة؟!“. يحاورهم بعقلية منفتحة، وهو في موجة الحرب.

الحسين نفسه ليلة العاشر من المحرم أفرد خيمة واستدعى عمر بن سعد، وهو عدوه الذي قاد الجيوش لحربه، ومع ذلك الحسين نفسه جلس مع عمر بن سعد على طاولة الحوار، كما كان على الطاولة ولده علي الأكبر وأخوه أبو الفضل والشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي، وكان الحسين يدير حوارًا معهم، ويقف معهم على التفاصيل، ويشرح لهم الأسباب والنتائج؛ لعلهم يقولون بمقالة الحق. إذن فالحسين حواري، وهو في عين الحوار دمٌ يغلي دون المبادئ والقيم.