معالم الشخصية الهادفة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن معالم الشخصية الهادفة، وحديثنا سوف سيكون من زاويتين: الزاوية القرآنية، والزاوية التربوية الإدارية.

الزاوية الأولى: كيف يتحدث القرآن عن الشخصية الرسالية الهادفة؟

القرآن الكريم يطرح للشخصية الهادفة ركائز وعناصر.

الجهة الأولى: ركائز الشخصية الهادفة.

نلاحظ أن القرآن الكريم يعبر عن الشخصية الهادفة بتعبيرات مختلفة، فتارة يعبّر بالرشد: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، وتارة يعبّر بالبصيرة: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وتارة يعبّر بالهداية: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. إذن عندنا عناوين ثلاثة: رشد وبصيرة وهداية، وهذه العناوين الثلاثة تعبّر عن مراحل ثلاث، أي أن الشخصية الهادفة تمر بمراحل ثلاث: مرحلة الرشد، ثم مرحلة البصيرة، ثم مرحلة الهداية.

المرحلة الأولى: مرحلة الرشد.

الرشد هو يقظة الفطرة، فإذا كانت الفطرة البشرية فطرةً مستيقظةً فهذا الإنسان رشيدٌ؛ لأن الإنسان إذا كانت فطرته مستيقظةً أصبح يميّز ما ينسجم مع فطرته وما لا ينسجم معها، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. فُطِر الإنسان على كراهية الظلم، وفُطِر على حب العدل، وفُطِر على حب الصدق، وفُطِر على حب الأمانة، وفُطِر على كراهية الخيانة. إذن هناك مجموعة من القيم فُطِر عليها الإنسان، فإذا استيقظ الإنسان لما ينسجم مع فطرته فهو رشيدٌ.

إبراهيم أول مرحلة مر بها هي الرشد، حيث كان يميّز ما ينسجم مع فطرته، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ فرأى أن عبادة التماثيل لا تنسجم مع فطرته، ولذلك رفضها، ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.

المرحلة الثانية: مرحلة البصيرة.

البصيرة هي وضوح الهدف، ووضوح الهدف يرتكز على معرفة المبدأ والمنتهى والطريق بينهما. القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وفي آية أخرى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وفي آية ثالثة: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وفي آية رابعة: ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. الرسول الأعظم يحدّد لنا البصيرة فيقول: ”رحم الله عبدًا عرف من أين وإلى أين وفي أين“. المسيرة تحتاج إلى ركائز ثلاث: مبدأ ومنتهى وطريق بين المبدأ والمنتهى، وهذه هي البصيرة.

البصيرة أن يعرف أن مبدأه الله «تبارك وتعالى»، أفاض الوجود عليَّ فوجدت، والمنتهى هو نفس الله، فمنه المبدأ وإليه المنتهى ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ربما يتصور الإنسان أنه يمشي نحو غاية غير معلومة، بينما القرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ. أنت لا تكدح لعيالك ولا لأسرتك، بل تكدح نحو الله «عز وجل»، وكل ما تصنع هو كدحٌ نحو الله علمت أم لم تعلم، وحتى الكافر الملحد الذي لا يعترف بالله هو يكدح نحو الله وهو لا يدري. أنت تمشي بسرعة وأنت لا تشعر، وكل يوم يمر هو خطوة من مسيرتك. أنت تمشي بسرعة بسرعة بسرعة وبكدح وبجهد إلى أن تصل إلى ربك، ولكن كيف تلاقيه؟ الله له وجهان: يلتقي مع بعض عباده بوجه، ويلتقي مع بعض عباده بوجه آخر، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ. بيان ذلك أن وجه الله صفته، فبعض العباد يلقاهم بوجه الرحمة والعطف، وبعض العباد يلقاهم بوجه شدة العقاب والحساب، فأنت ستلتقيه يومًا، فهيّأ نفسك كيف تلتقيه، وبأي وجه ستلتقيه «تبارك وتعالى».

إذن فالبصيرة أن تعرف المبدأ وتعرف المنتهى وتعرف الطريق الذي يؤهلك إلى أن تلتقيه بوجه الرحمة والحنان، وكلما زاد علم الإنسان بالله، وزاد علمه بالمعاد، وزاد علمه بالطريق، ازداد بصيرةً. الإمام زين العابدين يقول: ”رحم الله عمي العباس، كان صلب الإيمان، نافذ البصيرة“ أي أن معترفه بالله وبالمنتهى وبالطريق معرفة معمقة مركّزة. إذن من تبصّر وعرف المبدأ والمنتهى والطريق عرف الهدف، ومعرفة الهدف هي البصرة.

الله خلقني وإليه أرجع، فما هو الهدف من وجودي؟ الهدف من وجودي على الأرض خلافة الله في الأرض، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فالإنسان خليفة الله في الأرض، فهناك مستخلِف، وهو المبدأ، وهناك منتهى إلى هذا المستخلِف، وهناك خليفة، وهو الإنسان الذي يعيش طريق الخلافة، فليحسن كيف يكون خليفة، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.

المرحلة الثالثة: مرحلة الهداية.

إذا وصل الإنسان إلى مرحلة التطبيق، احتاج إلى معرفة جديدة، واحتاج إلى مدد جديد، وهو الهداية. مثلاً: أنت تريد أن تفتح مؤسسة تجارية، وقبل أن تفتح المؤسسة لا بد من رسم نظام لهذه المؤسسة، كيف تبدأ؟ كيف تربح؟ كيف تنتج؟ كيف توظف؟ كيف تستقبل؟ عندك نظام للمؤسسة، وهذا النظام قبل فتح المؤسسة نعبّر عنه بمرحلة البصيرة، ولكن بعد فتح المؤسسة والدخول إلى عالم العمل والتطبيق، فحينئذٍ ستجد السوق عالمًا معقدًا، وستجد الظروف الاقتصادية ظروفًا مضطربةً متأرجحةً بين النجاح والفشل، وهكذا تصطدم في مرحلة التطبيق بعوائق وبعقبات وبأشواك، فكيف تتغلب على هذه العقبات والأشواك والعوائق؟ تتغلب عليها بالإلهام، أن تلهم في كل خطوة كيف تصارع العقبات وتتغلب عليها حتى تمشي المسيرة. هذا الإلهام اليومي اللحظي الآني يسمّى بالهداية، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.

مثال آخر: ابني يعيش معي في الأسرة، فأربيه تربية صالحة، وأثقفه ثقافة دينية، وأعلمه خلقه ودينه وأدبه، وعندما يصبح عمره 16 أو 17 سنة أبعثه إلى الخارج ليدرس في بريطانيا أو أمريكا أو أستراليا مثلاً، وهكذا يتجاوز ابني مرحلة البصيرة ويدخل مرحلة التطبيق، حيث ذهب إلى المجتمع الغربي، فوجد مجتمعًا مفتوحًا، أمامه طريق الفساد، وأمامه طريق الصلاح، حيث لا رقيب يرصده، فباستطاعته وباختياره أن يسلك أي الطريقين، فهو باختياره وبإرادته ومن دون رقابة ولا رصد يختار ما يريد.

هنا عندما يبدأ ولدي مرحلة التطبيق تعترضه المغريات والإثارات والأشواك والأشياء التي تجذبه إلى طريق الفساد، وهو يصر على طريق الصلاح، فيعيش الصراع المرير بين العقل والعاطفة، بين الشهوة والعقل. هنا يحتاج ابني إلى مرحلة الهداية، أي أنه يحتاج إلى إلهام ومدد في كل خطوة وفي كل يوم وفي كل لحظة، لينتصر بهذا المدد على النفس، وعلى الإغراء، وعلى العوامل الداخلية والخارجية، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.

الجهة الثانية: عناصر الشخصية الهادفة.

عناصر الشخصية الهادفة أربعة بحسب التصور القرآني: العنصر الغيبي ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ أي: امتلأت قلوبهم إيمانًا بالله «عز وجل».

العنصر الثاني: العنصر السلوكي.

وهو الذي أشارت إليه الآية بقولها: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وفرق بين الصلاة وبين إقامة الصلاة، فليس كل من صلى فقد أقام الصلاة، بل قد يصلي الإنسان ولكنه لا يقيم الصلاة، إذ أن للصلاة أهدافًا، فإذا حقق الإنسان أهدافها كان ممن أقام الصلاة، وأما إذا لم يحقق أهداف الصلاة فهو من المصلين ولكنه ليس ممن أقام الصلاة، وهدف الصلاة هو النهي عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. إذا انتهيتُ عن المعاصي والمنكرات ونهيتُ عنها - فأنا منتهٍ وناهٍ - فقد أقمت الصلاة، وإلا فقد صليت ولكن لم أقم الصلاة، ولذلك نقرأ في زيارة الحسين: ”أشهد أنك قد أقمت الصلاة“ ولم تقل الزيارة: أشهد أنك صليت، فالحسين أقام الصلاة لأنه حقّق أهداف الصلاة. إذن هذا هو العنصر الثاني من عناصر الشخصية الهادفة: العنصر السلوكي.

العنصر الثالث: عنصر التخطيط.

الشخصية الهادفة ليست شخصية كسولة جالسة في البيت وتنتظر أن يحدث شيء! بل هي شخصية مبادرة مقدامة تبادر إلى التخطيط، فتقول: هذا مجتمع فيه تجارب وفيه مشاريع، فهل أنا استفدت من تجارب غيري؟ هل استفدت من مشاريع غيري؟ هل صار بيني وبين غيري تلاقح في المشاريع وفي التجارب؟ هذا ما يسمى بعنصر التخطيط، حيث قالت الآية: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، أي أن عندهم تخطيطًا لبناء مجتمعهم من خلال تلاقح التجارب والخبرات، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، وليس المقصود بالتعارف أنا أخبرك باسمي وتخبرني باسمي! بل المقصود بالتعارف تلاقح الخبرات والطاقات والتجارب، فكل أمة وكل حضارة تستفيد من تجارب الحضارة الأخرى.

العنصر الرابع: عنصر العطاء.

المؤمن ليس أنانيًا. الشخصية الهادفة ليست شخصية أنانية محتكرة، بل هي شخصية معطاءة، تقدّم الخدمات للآخرين، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، إذا رزقوا العلم أنفقوه على الناس، وإذا رزقوا المال أنفقوا من أموالهم على الناس، وإذا رزقوا المنصب خدموا الناس من خلال منصبهم.

الزاوية الثانية: معالم الشخصية الهادفة من خلال ما يطرحه علماء التربية والإدارة.

علم التربية وعلم الإدارة ماذا يقول عن الشخصية الهادفة؟ ماذا يقول عن الشخصية الطموح التي يطمح كل إنسان منا أن يكون نموذجًا لها؟ هنا سؤالان: ما هي الخطوات التي ينبغي السير عليها حتى يصبح الإنسان شخصية هادفة؟ وما هي عناصر الشخصية الهادفة بحسب المنظور الإداري والتربوي؟

السؤال الأول: كيف يصبح الإنسان شخصية هادفة؟

الخطوة الأولى: تحديد الحاجات.

علماء الإدارة يقولون: الحاجات التي يحتاجها الإنسان أربع: حاجة مادية، وحاجة اجتماعية، وحاجة عقلية، وحاجة روحية.

الحاجة الأولى: الحاجة المادية.

هي حاجة الجسم، فإن الجسم بدون غذاء سليم، وبدون رياضية، وبدون لياقة، لا يمكن أن يقوم بوظائف الحياة، فهناك حاجة جسمية مادية لا بد من إشباعها.

الحاجة الثانية: الحاجة الاجتماعية.

أنا محتاج إلى أن آلف المجتمع وأن يألفني المجتمع، فهل أنا عندي هذا العنصر؟ فلأجرب حظي: أدخل في عمل اجتماعي، في جمعية خيرية مثلاً، أو أدخل في إدارة مأتم مثلاً، أو أدخل في إدارة مشروع ثقافي مثلاً. إذا وجدت أنني أنسجم مع الآخرين، وأعمل معهم بمرونة وبشفافية في إطار هدف مشترك، فأنا إنسان اجتماعي، وأما إذا وجدت نفسي إذا دخلت العمل الجماعي أصاب بمشاكل وحزازات، وأصاب بقضايا مختلفة، فأنا لا زلت أعيش نقصًا من هذه الناحية، والخلل ليس في الناس، وإنما هو في أنا، حيث لم أنسجم مع الناس الذين يعملون، فأنا محتاج لتعبئة هذا النقص، ولتعبئة الحاجة الاجتماعية. ورد عن الرسول محمد : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا، الموطّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون“. المؤمن يألف ويؤلف.

الحاجة الثالثة: الحاجة العقلية.

هي الحاجة إلى نمو المعرفة، والحاجة إلى نمو المعلومات. هل أنت واقف أم تزداد معلوماتك؟ اسأل نفسك: هل تزداد معلوماتي كل يوم أم أن معلومات واقفة لا تتغير؟ إذا كنت لا أقرأ كتابًا، ولا أشاهد برامج علمية، ولا أتصفح مواقع علمية على الإنترنت، وإنما أكتفي بالمعلومات التي آخذها من المدرسة أو الجامعة أو الخطيب، وإلا فأنا لا أفتح كتابًا وأثقف نفسي ولا أغير من ثقافتي! أنا إنسان أحتاج إلى نمو المعلومات، فقد ورد عنهم : ”من تساوى يوماه فهو مغبون“ أي أنه خاسر فاشل. إذا كانت ثقافتي اليوم كثفافتي أمس، وثقافي غدًا كثقافتي اليوم، فأنا إنسان فاشل.

الحاجة الرابعة: الحاجة الروحية.

الحاجة الروحية هي تحديد الهدف. ما هو هدفك في الحياة؟ إن كنت طبيبًا أو معلمًا أو فقيهًا أو خطيبًا.. فلا بد من أن تهدّد هدفك في الحياة؛ كي تسير في إطار الهدف، وهذه حاجة روحية لا بد من إشباعها.

الخطوة الثانية: بعد أن عرفنا الحاجات، كيف نشبعها؟

يقول علماء الإدارة: المطلوب الموازنة في إشباع الحاجات. مثلاً: أنت تلاحظ في مجتمعنا أن بعض الناس يغرقون في الحاجة الاجتماعية على حساب الحاجة الفردية، كمن يعمل في الجمعية الخيرية، فيقضي جل وقته في خدمة المجتمع على حساب زوجته وأبنائه وأطفاله، فهو إنسان يصهر نفسه في سبيل خدمة الآخرين ولكن الضائع زوجته وأبناؤه الذين يحتاجون إلى الوقت الكافي للتربية ويحتاجون إلى الإشراف والرقابة على السلوك، ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.

وفي المقابل، قد يكون الإنسان متوقعًا دائمًا مع المرأة والأولاد، فبمجرد رجوعه من عمله يجلس معهم، ثم يخرج معهم عصرًا بالسيارة، ويقضي إجازاته معهم أيضًا! يا أخي، هناك مجتمع يحتاج إلى عطاء وخدمات، ويحتاج أن تقدّم جهودًا للنهوض به. كيف تنهض بمجتمعك إذا لم تكن مشتركًا في جمعية خيرية ولا في لجنة كافل يتيم ولا في إدارة مسجد ولا مأتم ولا في إدارة مشروع ثقافي ولا خيري...؟! المجتمع يحتاج إلى بذل طاقات من أبنائه، فإن ”خير الناس من نفع الناس“ كما ورد عن الرسول محمد . ويقول القرآن الكريم: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، فهؤلاء لم يجلسوا في بيوتهم، بل تواصوا. إذن المجتمع يحتاج إلى عطاء، والموازنة لا تكون بإشباع حاجة على حساب حاجة أخرى.

هنا استيفن - وهو من علماء الإدارة - يقول: الموازنة على نوعين: موازنة انفصالية، وموازنة اتصالية. مثلاً: يأتيك شخص ويقول لك: أنا عندي أربع حاجات: حاجة لجسمي، وحاجة لعقلي، وهي الثقافة، وحاجة لروحي، وهي تحديد الهدف، فأنا أقسّم أوقاتي، فأجعل ساعتين من اليوم للرياضة، فألعب كرة القدم مثلاً، أو أجري على الكرنيش، وأقضي ساعتين من اليوم للثقافة، وأقضي ست ساعات في العمل، فأنا أقسّم وقتي، إذن أنا متوازن في إشباع حاجتي. يقول لك: هذه ليست موازنة فعلاً، بل هي موازنة انفصالية وليست موازنة اتصالية.

الموازنة الاتصالية هي أن تنطلق من الحاجة الأخيرة - وهي الحاجة الروحية - وتجعل جميع الحاجات في إطارها، فأولاً تحدد الهدف، وبعد أن تحدد الهدف تشبع جميع الحاجات في إطار هذا الهدف. مثلاً: أنا هدفي في الحياة أن أصبح معلمًا للأجيال، وبعد أن حددتُ الهدف صرتُ أشبع الحاجات كلها في إطار هذا الهدف، فحتى أشبع حاجتي الجسمية أقوم بترويض جسمي، أي أنني أقوم بعمل رياضي بما ينسجم مع هدفي كمعلم، فلا يمكن لي أن أبقى في إطار رسالة التعليم إلا إذا امتلكت جسمًا قادرًا على القيام بوظائف التعليم، فأنا أقوم بالرياضة في إطار نفس العمل.

كذلك الحال الاجتماعية، فإن التعليم يحتاج أن تكون لي علاقات واسعة: علاقة مع الطالب، وعلاقة مع زملائي الأساتذة، وعلاقة مع أسرة الطالب، وعلاقة مع المجتمع، فأنا كمدرس عندي علاقات واسعة، إذن لا بد أن تكون إدارتي لهذه العلاقات في إطار هدفي أيضًا، وهو كوني معلمًا. كذلك حاجتي العقلية: المعلومات والمعارف التي أكتسبها لا بد أن تساهم في تطوري كمعلم.

مع الأسف، بعض شبابنا بمجرد أن يصبح مدرس تاريخ مثلاً، فإنه لا يعرف سوى كتاب التاريخ الذي يُدَرَّس منذ خمس عشرة سنة! كل سنة يكرّر نفس الكلام! أنت معلم، فلا بد أن تنمي معلوماتك التاريخية، ولا بد أن يشعر الطالب في كل سنة بأن ثقافتك ومعارفك ومعلوماتك قد نمت، فحاجتك العقلية لا بد أن تكون في إطار هدفك أيضًا، وهذا هو معنى الموازنة الاتصالية: جميع الحاجات تشبعها في إطار الحاجة الروحية، وفي إطار تحديد الهدف.

الخطوة الثالثة: ما هو محور الموازنة؟

أنا عندما أوازن بين الحاجات فلا بد من أن أمشي على أساسٍ في الموازنة، وهنا نذكر نظرية ماسلو في علم الإدارة. ماسلو يقول: الحاجة إما عضوية، كحاجة الجسم إلى الطعام، وإما اجتماعية، كحاجة الإنسان لبناء الأسرة، وإما نفسية، والحاجات النفسية منها حاجة الإنسان إلى الأمن، بمعنى الاستقرار النفسي، وحاجة الإنسان إلى الانتماء الاجتماعي، وحاجة الإنسان إلى تحقيق الذات، ورأس الهرم هو حاجة الإنسان إلى تحقيق الذات.

أنت عندك طاقات، كطاقة الفن، وطاقة الخطابة، وطاقة التعليم، فكيف تحقق طاقتك؟! كيف تجسد طاقتك؟! تحقيق الذات حاجةٌ تدعوك إلى أن تكون شخصية هادفة، فالشخصية الهادفة محورها ومركزها هو تحقيق الذات، فتحقيق الذات هو الذي على أساسه توازن بين الحاجات، وعلى أساسه تبني الشخصية الهادفة.

ولكن ماسلو تراجع في آخر عمره عن نظريته، حيث اكتشف أن هناك حاجة أهم من تحقيق الذات، وهي الحاجة إلى تجاوز الذات، فليس المهم أن أحقق ذاتي، بل المهم أن أتجاوز ذاتي، بمعنى أن تكون ذاتي وسيلة وجسرًا لخدمة المجتمع، فالحاجة إلى تجاوز الذات هي المحور. وهذا ما يركز عليه الإسلام: المحور في الموازنة بين الحاجات، والمحور في بناء الشخصية الهادفة، هو تجاوز الذات.

هنا قصة يذكرها بعض علماء الإدارة، حيث يقول: جاءني رجلٌ يرأس شركةً، وراتبه في الشهر عشرة آلاف دولار مثلاً، ويملك سيارات فخمة وفللاً فاخرة، ويملك زوجة جميلة، ويملك أسرة مهذبة ونبيلة، ووضعه الاجتماعي وضع مستقر تمامًا. جاء إليَّ ودخل عليَّ فوجدتُه كئيبًا حزينًا، فقلتُ له: لم أنت كئيب مع أنك تملك كل شيء؟ قال: مشكلتي أنني لا أرى إلا الجميل! حيثما وجهتُ وجهي رأيتُ شيئًا جميلاً: ثروة وأموالاً ومنصبًا وزوجة وأولادًا.. وهذا ما خلق عندي مشكلة الكآبة، فأنا أريد أن أرى وجهًا آخر، وأريد أن أرى عالمًا آخر، حتى أشعر بأنني خدمتُ العالم الآخر أم لا. أنا لا أرى إلا الحسن والجمال والرفاهية والثروة والنعيم، ولكنني أريد أن أرى شيئًا آخر، فأنا في كآبة لأنني أعيش في نعيم.

يقول: نصحتُه بالدخول في جمعية خيرية، فدخل في جمعية وصار يموّن الأيتام والمتقعين والفقراء، فشعر بالسعادة والبهجة والاستقرار، أي أنه وصل إلى حاجة تحقيق الذات، لكنه أصيب بالكآبة، فما ارتفعت الكآبة إلا حينما وصل إلى حاجة تجاوز الذات، فلما تجاوز ذاته وأدرك غيره شعر بالسعادة؛ لأنه أشبع الحاجة المحورية الأساسية، وهي الحاجة إلى نكران الذات، والحاجة إلى تجاوز الذات، بحيث لا تكون أنانيًا، بل تكون غيريًا معطاء.

الحسن والحسين كانا طفلين صغيرين في الثالثة أو الرابعة من عمرهما، ولكنهما صاما ثلاثة أيام، فإذا أقبل اليتيم تصدقا بأقراصهما عليه، وكذلك إذا أقبل المسكين والأسير، وباتا ثلاثة أيام لا يذوقون إلا الماء، فارتعش جسمهما كالفراخ. رآهما الرسول ، فقال: ماذا أرى بولدي؟ فنزل قوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا. إذن الحسن والحسين تعلّما الحاجة إلى تجاوز الذات، والحاجة إلى الغيرية. فالخطوة الثالثة من خطوات الشخصية الهادفة هي الموازنة بين الحاجات على أساس تجاوز الذات.

السؤال الثاني: ما هي عناصر الشخصية الهادفة في المنظور الإداري التربوي؟

الملخّص من كلمات علماء الإدارة وعلماء التربية: أن عناصر الشخصية الهادفة أربعة عناصر أتعرض إليها سريعًا.

العنصر الأول: الاستقلال في التفكير.

إذا كنت شخصية هادفة فلا بد من أن تكون مستقلاً في التفكير. مثلاً: أنت تستمع للسيد منير، ولكن لا تصدّق كل كلامه! ليس كلام المنبر وحيًا، وليس كلام المسجد وحيًا، وليس كلام التلفاز وحيًا، وليس كلام الكتاب وحيًا، بل أي كلام تسمعه من أكبر عالم إلى أقل كلام بشر، فيمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب، فلا بد أن تحرّك عقلك، ولا بد أن تكون مستقلاً في تفكيرك. لا تكن إمعة، ولا تتبع فكري ولا فكر غيري. كن مستقلاً في تفكيرك. أي أفكار تسمعها اعرضها على الموازين الفكرية، وعلى الموازين الشرعية. كن مستقلاً في تفكيرك.

الإمام أمير المؤمنين يقول: ”الناس ثلاثة: عالم رباني“ شخصية هادفة، ”ومتعلم على سبيل النجاة“ فهو ليس مقلدًا، بل يوازنها ليحاول أن ينجو، ”وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق“ ليس عندهم استقلالية في التفكير. لذلك مشكلة مجتمعنا هي أن هؤلاء جماعة فلان وتلك جماعة فلان، وهؤلاء خط وذاك خط. لو كانت هناك استقلالية في التفكير ما حدثت هذه الجماعات، ولا هذه الخطوط، ولا هذه المشاكل؛ لأن المستقل في التفكير يأخذ من كل خط ما هو صالح له، وما هو صالح لآخرته، وما هو صالح لدنياه. إذن الاستقلالية في التفكير عنصر ضروري لبناء الشخصية الهادفة.

العنصر الثاني: أن يكون لك عقلٌ فوق عقلك.

هناك كتاب في علم الإدارة: إدارة العقل ممكنة أم مستحيلة؟ بمعنى: هل يمكن لك أن تدير عقلك أم لا؟ هذا سؤال وجيه: هل يمكن أن تبرمج عقلك؟ هل تستطيع توظيفه؟ هل لك سلطنة وسيطرة على عقلك بحيث تبرمجه وتوظفه؟ هل لك عقل فوق عقلك؟ إذا أردت أن تكون شخصية هادفة فلا بد أن يكون لك عقل فوق عقلك، أي: عقل يحاسب أفكارك: من أين أتيتَ بها؟ يحاسب مشاعرك؟ لماذا أنت تحب فلانًا وتكره فلانًا؟ لماذا ترحب بفلان وتشمئز من فلان؟ عقل يحاسب مشاعرك وأفكارك وسلوكك، فإذا كان هناك عقلٌ فوق عقلك فأنت إنسان تنقد ذاتك، ونقد الذات من أهم صفات الشخصية الهادفة. نقد الذات هو الطريق إلى التقدم والتطور ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

مثلاً: هل تريد أن تعرف أن عندك عقلاً فوق عقلك أم لا؟ استمع لنقد الآخرين، دع الآخرين ينتقدونك حتى تعرف: هل أنت تتقبل النقد أم لا؟ إن لم تقبل النقد فليس لك عقل فوق عقلك، وأما إذا قبلت العقل وقلتَ: لعل كلامهم صحيح.. السيد منير يطيل في المحاضرة، السيد منير يأتي بأفكار مشتتة وتفاصيل كثيرة تجعل الإنسان لا يستطيع التركيز على الموضوع. انتقد واجعلني أستمع نقدك وأعرض نقدك على نفسي، لأرى: هل هذا النقد صحيح؟ هل هذا النقد وارد؟ هل هذا النقد مصيب أم لا؟ إذا رأيتُ النقد مصيبًا وقبلتُه فلي عقلٌ فوق عقلي، وإلا فلا. إذن العلامة هي قبول النقد.

العنصر الثالث: الخيال المبدع.

الشخصية الهادفة لا تقف، بل هي دائمًا في حالة تخطيط. بعض الجماعة قد يزعل مني ولكنني سأقولها بصراحة: كيف يكون لنا تخطيط في المستقبل؟ أنا خطيب مثلاً، وقد صعدتُ المنبر منذ 28 سنة، فهل جلستُ يومًا خلال هذه السنين بيني وبين نفسي وقرأتُ تجربتي الخطابية: ماذا قدمت؟ ماذا أعطيت للمجتمع؟ هل أنشأت أجيالاً؟ هل أنشأت شبابًا صالحًا؟ هل أنشأت شبابًا متعلمًا؟ هل أنتجت أمة مثقفة؟ أم أن المجتمع على ما هو عليه، وربما زاد سوءًا؟! أنا طوال 28 سنة أتكلم على رأس المجتمع، ولكن ما هي النتيجة؟! ماذا حدث؟! ماذا حصل؟! هل قرأتُ تجربتي الخطابية؟! هل قرأت سلبياتها وإيجابيتها حتى أخطط لمستقبلها وأتجاوز بها من مرحلة الفشل إلى مرحلة النمو والعطاء؟!

مثال آخر: أنا عالم دين وإمام مسجد، أصلي وألقن الناس المسائل الفقهية والمعارف العقائدية والآداب والأخلاق... إلخ. أنا كإمام مسجد بعد خمس سنوات أليس من المفروض أن أسأل نفسي: ماذا أنتجت خلال خمس سنوات؟! التاجر عندما يدخل مشروعًا تجاريًا ألا يسأل نفسه: ماذا ربحت وماذا خسرت؟! ماذا صرفت وماذا ورد عليَّ؟! كما يسأل التاجر نفسه - لأنه إنسان يخطّط للمستقبل - فأنا أيضًا كعالم دين فلأسأل نفسي: ما هي خطتي؟! هل أنا جالس بدون خطة؟!

أنا كخطيب ما هي خطتي؟! أنا الآن لا بد أن يكون لي عقل مبدع، وخيال مبدع. عقل يخطط للمستقبل، والتخطيط للمستقبل لا يتم إلا بقراءة التجربة. إذا قرأت تجربتي الماضية وقارنتها مع تجارب الآخرين.. أنا مثلاً خطيب، فأقرأ تجربتي وأقرأ تجربة عميد المنبر الحسيني الشيخ الوائلي «رحمه الله».. بالمناسبة له حقٌ علينا، فاقرؤوا لروحه الفاتحة. لا بد أن أقرأ تجربتي وأقارنها بتجربة الآخرين لأكتشف ثغراتها وأخطائها، ثم أخطط للمستقبل، فأخطط للسنوات الخمس أو العشر القادمة.

أنا فتحتُ جمعية خيرية، فلا بد من قراءة تجربة هذه الجمعية، ولا بد من قراءتها بتجربة الجمعيات الخيرية في مناطق متقدمة ومتفوقة؛ لأكتشف السلبيات والثغرات، وعلى أساسها أخطط للمستقبل، فالعقل المبدع الذي يخطط للمستقبل عنصر أساس من عناصر الشخصية الهادفة.

العنصر الأخير: قوة الإرادة.

قوة الإرادة وصلابتها عنصر أساس للشخصية الهادفة. أن تكون عنده قوة إرادة. مهما تعرض للأعاصير وللعواصف ومهما تعرض للنقد والمعارضة فهو شخصية ثابتة، وهو شخصية صامدة، فإن قوة الإرادة عنصر ضروري لبناء الشخصية الهادفة. إذا أردت أن تكتشف هل عندك إرادة أم لا فإنني أطرح عليك سؤالاً واحدًا: هل تجلس لصلاة الفجر؟ لا تقل: النوم سلطان! لا تقل: النوم يطغى عليَّ ويغلبني، فلا أستطيع مقاومته، خصوصًا في أيام الشتاء! أنا أعرف أن صلاة الفجر واجبة، وأعرف أن الاستمرار في النوم كل يوم - لا يومًا ولا يومين - استخفافٌ بالصلاة، وقد ورد عن الصادق : ”لا ينال شفاعتنا مستخفٌ بالصلاة“، فإذا كنت أعرف هذا كله، ومع ذلك أنام، فأنا لا أملك إرادة. لو كنت أملك إرادة لوقفت عند عهدي. أنا عاهدت الله على أن أطيعه، فلا بد أن أقف عند عهدي، وأنا أحافظ على صلواتي، وخصوصًا صلاة الفجر.

إذن الشخصية الهادفة تحتاج إلى عنصر البطولة في قوة الإرادة، ومن ألمع الشخصيات الهادفة: أنصار الحسين ، ومن أبرزهم: حبيب بن مظاهر الأسدي.