ملامح الحضارة المهدوية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ

صدق الله العلي العظيم

مازال حديثنا حول الإمام المنتظر «عجل الله فرجه الشريف»، وحديثنا هذه الليلة عن مميزات دولة الإمام المهدي ، فما هي المميزات التي تميّز دولة الإمام المنتظر الخاتمة الموعودة على باقي حضارات الدول التي سبقتها؟

إذا أردنا أن نعرف هذه المميزات فلنقف على هذا الحديث النبوي الشريف، الذي ذكره الرسول محمّد : ”لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلًا من ولدي - أو من أهل بيتي، أو منّي - يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلِئَت ظلمًا وجورًا“، ولنسجّل مميزات الدولة الخاتمة، دولة الإمام المنتظر ، نتأمل في هذا الحديث الذي قد يغفل الكثير منا عن مداليله، وذلك من خلال ثلاث مفردات:

  • المفردة الأولى: التعبير بالبعث، ”يبعث رجلًا من أهل بيتي“.
  • المفردة الثانية: هي التعبير بالامتلاء، ”يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا“.
  • المفردة الثالثة: التعبير بالقسط والعدل، كيف ينشر القسط والعدل؟
المفردة الأولى: معنى البعث.

البعث عندما يُستخدم في القرآن الكريم فهو يعني الشيء الجديد الذي لم يسبق له مثيل، فكل شيء جديد لم يسبق له مثيل يعبّر عنه بالبعث والمبعوث، مثلًا القرآن الكريم يتحدّث عن الرسول ويقول: ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ؛ لأن هذه الظاهرة ظاهرة جديدة، إذ أن وجود رسول في اُمّ القرى ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل، لذلك القرآن يعبّر عنها بالبعث: ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا.

وأيضًا في قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيي‏ هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ، وهذه حالة جديدة لم يسبق لها مثيل، ولذلك عبّر عنها القرآن الكريم بالبعث: ﴿فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.

والقرآن الكريم يتحدّث عن النبي محمّد ، فيقول: ﴿عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا، فإن المقام الذي يُعطى للنبي لم يعطَ لأحد من الخلق، وهو مقام الشفاعة العامة، فهذا مقام جديد لم يسبق له مثيل، إذن البعث هو الشيء الجديد الذي لم يسبق له مثيل، لذلك عبّر الرسول عن دولة الإمام المنتظر بالبعث، أي أن دولته دولة جديدة، وأن خطه خط جديد لم يسبق له مثيل، فما هو الجديد في الإمام المهدي ؟ سبقت دولة الإمام المهدي دول وحضارات، فما هو الجديد في حضارته؟ وما هو الجديد في دولته؟

الجديد في حضارته أن يومه وعهده هو عهد تزاوج العلوم، فما معنى تزاوج العلوم؟ إن كل علم من العلوم يمرُّ بمرحلتين، مرحلة التفصيل، ومرحلة التزاوج، مثلًا علم الطب قبل خمسمائة سنة كان علمًا واحدًا، وبعد ذلك دخل في مرحلة تفصيل، فصار طب القلب غير طب الأسنان وغير طب العيون، فعلم الطب دخل مجال المرحلة التفصيلية فتحوّل إلى علوم متعددة، والمرحلة الأخرى هي مرحلة لقاء العلوم وتزاوجها، كيف؟

إن أيّة ظاهرة تحدث في المجتمع يتوقّف علاجها على تزاوج العلوم ولقائها، مثلًا لو وجدنا صبيًا عمره عشر سنوات أو إحدى عشر سنة يتعاطى مخدرات، فهذه ظاهرة مرضيّة خطيرة، فكيف نعالجها؟ صبي تفتك بجسمه المخدرات، هنا تلتقي عدّة علوم لأجل معالجة هذه الظاهرة، فهناك عدّة علوم تتزاوج وتلتقي فيما بينها كي تعالج هذه الظاهرة، حيث يأتي علم الطب ويقول: إن جسمه صار جسمًا ملوّثًا يحتاج إلى عملية تنقية ويحتاج إلى عملية تطهير، فعلم الطب يتكفّل بذلك، ثمّ يأتي علم النفس ويدرس الدوافع النفسية التي دفعت بهذا الغلام حدث السن إلى أن يرتكب هذه الجريمة وهي جريمة تعاطي المخدرات، فيتكفل بذلك، ويأتي علم الاجتماع ويدرس الظروف الموضوعية التي عاشها هذا الغلام حتّى نتج عنها أنه ارتكب هذه الجريمة، وما هي بيئته؟ وما هو مجتمعه؟ وما هي العوامل الاجتماعية التي حرّكت فيه هذه الرغبة وهذا الحس إلى أن ارتكب هذه الجريمة؟ أما ما هي العقوبة المناسبة لهذا الطفل؟ فعلم القانون يتدخّل في ذلك ويحدّد لنا العقوبة المناسبة.

إذن، ظاهرة واحدة استدعت منّا عدّة علوم؛ لكي نعالجها، فكيف بحضارة كاملة؟! نحن إذا أردنا أن نعالج ظاهرة ما فنحتاج إلى تزاوج ولقاء بين العلوم، فكيف إذا أردنا أن نؤسس حضارة متكاملة؟ إن إقامة هذه الحضارة يحتاج إلى أن تشترك جميع العلوم وجميع المعارف وتتلاقح وتتزاوج فيما بينها كي تساعد على إقامة الحضارة، حتّى اختيار الألوان تلتقي فيه علوم مختلفة حيث يتدخّل علم الطب فيها، فهل اللون يؤثّر على بصرك؟ وهل اللون يؤثّر على رؤيتك للأشياء أم لا؟، وعلم النفس أيضًا يتدخّل فيه، فبعض الألوان تشيع حالة الانقباض، وبعض الألوان تشيع حالة الانفتاح والانشراح، حتّى لون ثوبك ولون سريرك ولون غرفتك يحتاج إلى عدّة علوم، فكيف بإقامة حضارة متكاملة؟!

إن الإمام المنتظر دوره دور إقامة الحضارة الكونية العامة، والتي تسيطر على هذا الفضاء اللاّمتناهي بجميع ذرّاته وجميع مجرّاته وجميع طاقاته وجميع كنوزه وجميع ذخائره الهائلة. إن القرآن الكريم يقول: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ، النفوذ من أقطار السماوات والأرض يعني إقامة الحضارة الكونية، حيث تصبح السماء والطاقات بل الكون بأسره بيدنا، ولا يمكن السيطرة على الكون كله وإقامة الحضارة الكونية إلاّ بسلطان، فمن هو السلطان؟ إن السلطان هو الشخص الذي يملك مفاتيح الكون، ويملك حقائق العلوم، علم الفيزياء، وعلم الفلك، وعلم الذرة، وعلم الطب... الخ، فحقائق العلوم كلها يملكها الشخص المُعدّ لذلك وهو الإمام المنتظر ، فهو السلطان، والإمام المنتظر هدفه إقامة الحضارة الكونية، وإقامة الحضارة الكونية يتوقف على تزاوج العلوم وتلاقحها.

إذن، الجديد في دولة الإمام المنتظر وفي حضارته وعهده هو أنه سيقيم حضارة كونية، وستتزاوج جميع العلوم والمعارف في عصره ، ولذلك عبّر عنه الرسول الأعظم محمّد ، بالبعث: ”لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلًا من ولدي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد ما مُلِئَت ظلمًا وجورًا“.

المفردة الثانية: مفردة الامتلاء.

كثير من الناس يتصوّر أن الامتلاء مجازي وليس حقيقيًا، فلا يتصوّر أن الأرض تُملأ ظلمًا، فليست الأرض كلها مسكونة، فنسبة قليلة من الأرض هي التي تعيش حالة سكن الإنسان ومجتمع الإنسان، فكيف تُملأ الأرض ظلمًا وجورًا؟ إن بعض الناس يتصوّر أن التعبير مجازي، فيقول: بما أن الأرض لا يسكنها الإنسان بتمام بقاعها، بل يسكن بعض مناطق الأرض دون بعض، إذن ليست جميع بقاع الأرض فيها ظلم، وإنما الظلم بخصوص بعض البقاع، وهي البقاع والمناطق التي يسكنها الإنسان، فليست الأرض كلها ظلمًا، إذن تعبير الرسول : ”كما ملئت ظلمًا“ تعبير مجازي، يعني بلحاظ أن الكثير من مناطق الأَرض مملوءة بالظلم، لذلك قال رسول : ”مُلِئت ظلمًا وجورًا“، فالامتلاء ليس حقيقيًا.

لكننا نقول: لا، الامتلاء تعبير حقيقي، سيأتي يوم تُملأ فيه الأرض ظلمًا وجورًا، ثمّ يملؤها الإمام قسطًا وعدلًا، كيف؟ لكي أشرح هذا المعنى لا بدَّ من بيان أمرين:

الأمر الأوّل: إن هناك فرقًا بين القسط العدل، وبين الظلم وبين الجور، قد يُتَصَّور أن هذه تعبيرات مترادفة، قسط يعني عدل، وظلم يعني جور ولا فرق بين هذه التعبيرات، لا بل هناك فرق، فالقرآن الكريم يقول: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ، يعني هناك عدل، وهناك قسط، فالعدل غير القسط، والظلم غير الجور، إن القسط يقابله الظلم، والعدل يقابله الجور، وبيان ذلك إن الحق - أي حق من الحقوق، حق المجتمع، حق الفرد - له مرحلتان: مرحلة نظرية، ومرحلة عملية.

المرحلة الأولى: المرحلة النظرية.

هي عبارة عن تحديد الحق، هذه هي المرحلة النظرية للحق، وهذه نسمّيها بالقسط، إذا حدّدنا الحق فنحن مقسطون، وإذا لم نحدّد الحق فنحن ظالمون، المرحلة النظرية للحق هي عبارة عن تحديده، فإذا حُدّد كان تحديده قسطًا، وإذا اُهمل كان عدم تحديده ظلمًا. مثلًا: الجنين في بطن اُمّه لا بدَّ أن نحدّد حقه أوّلًا بما ينسجم مع دوره في الحياة وبما ينسجم مع دوره في الوجود، فإذا حدّدنا حقه فهذا يُسمّى قسطًا، وإذا لم نحدّد حقه فهذا يسمى ظلمًا، فالمرحلة النظرية للحق هي عبارة عن الدوران بين القسط وبين الظلم، ولذلك ترى القرآن الكريم يربط الميزان دائمًا بالقسط، مثلًا يقول تبارك وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، والقسط هو الوزن، أي تحديد الحق، قال تعالى: ﴿وَأَقيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْميزانَ، إذن تحديد الحق نُسمّيه ميزانًا قسطًا، وعدم التحديد نسميه ظلمًا.

المرحلة الثانية: المرحلة العملية.

بعد أن عرفنا الحق وعرفنا أن الجنين من حقه الحياة، إذن إجهاض الجنين اعتداء على الجنين وسلب ذي الحق حقه، فمن حق الجنين الحياة، وعدم إعطاء الجنين حق الحياة يعدُّ اعتداءً على الجنين، فإذا أعطيناه حقه فهذا يُسمّى عدلًا، فالعدل عبارة عن إعطاء ذي الحق حقه، وإذا لم نعطِه حقه يُسمّى جورًا، فالجور هو عبارة عن عدم إعطاء ذي الحق حقه، فالمرحلة العملية للحق تدور بين العدل والجور، فإعطاء الحق عدل، وأخذ الحق جور، هذا الذي أردنا أن نشرحه، وهو الفرق بين القسط والعدل، وبين الظلم والجور.

الأمر الثاني: وهو أن الظلم والجور لا يختصُّ بحالة معينة، كيف؟ إن الظلم ليس هو الذنب فقط، فمن ارتكب ذنبًا فقد ظلم، أو من اعتدى على غيره فقد ظلم، فهل الظلم منحصر في ارتكاب الذنب أو منحصر في الاعتداء على الآخرين؟ لا، الظلم أوسع من ذلك وأعمق، كيف؟

كل إنسان له ثلاث علاقات: علاقة مع الله، وعلاقة مع أخيه الإنسان، وعلاقة مع الطبيعة التي يعيش فيها، وكل علاقة لها حقوق ووظائف، فعلاقتك مع الله لها حق، وحقها الشكر، فمن شكر الله فقد أدّى الحق الإلهي، ومن لم يشكر فقد جار على الحق الإلهي، ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي‏ لَشَديدٌ، هذه هي العلاقة مع الله عز وجل.

أما العلاقة مع الإنسان فهي قائمة على الإنسانية والمُثل والقيم، فالقرآن الكريم يمدح النبي المصطفى محمّدًا بعلاقاته الإنسانية التي يتعامل بها مع الآخرين بدافع الإنسانية: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظيمٍ. والإمام الصادق يقول: ”من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تُسَلّم على من تلقى، وأن تترك المراء وإن كنت محقًا، وأن لا تحبّ أن تُحمَد على التقوى“.

إذن، بالنتيجة علاقتك مع أخيك الإنسان يجب أن تبتني على الإنسانية، وإلاّ فهي جور ونأتي إلى علاقتك مع الطبيعة، ربما يقول الإنسان: ما ربطي مع الطبيعة؟ إن الطبيعة لها حقوق عليك، الأرض التي تعيش عليها والفضاء الذي تعيش فيه والهواء الذي تتنفسه والجسم الذي يحملك كل هذه طبيعة، والطبيعة لها حقوق عليك، فإذا أدّيت هذه الحقوق كنت عادلًا، وإذا لم تؤدَّ هذه الحقوق كنت جائرًا، فإذن الجور يشمل حتّى علاقتك مع الطبيعة.

إن حق الطبيعة هو الاستثمار المتوازن، أي أن تستثمرها استثمارًا متوازنًا، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، الذلول أي الناقة أو الفرس، فإذا صار طيعًا لراكبه يُسمّى ذلولًا، وهذه الأرض ذلول تطيعك، فتستطيع أن تزرعها كحديقة، وأن تستخرج منها النفط والمعادن والطاقات، وتستطيع أن تبني عليها حضارة شامخة، فالأرض تربة طيّعة بين يديك، ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا في‏ مَناكِبِها، أي لا تقعد في بيتك، اشتغل، تحرّك، اعمل، استثمر الأرض.

إذن مطلوب منك أن تستثمر الطبيعة استثمارًا متوازنًا، كيف؟ عندما تسمع في الأخبار أن فيضانات في السنغال مثلًا تكتسح البيوت وتقضي على مئات البشر، وتسمع في الأخبار نفسها أن هناك جفافًا في أفغانستان لمدّة ثلاثين سنة، أي أن هناك فيضانات في بعض البقاع وجفاف في بعض البقاع، فهل تتصور أن الإنسان عاجز عن استثمار نعمة الماء استثمارًا متوازنًا؟ الإنسان ليس بعاجز، إن الإنسان الذي استطاع أن يبني الدرع الصاروخي، واستطاع أن يتعملق على الفضاء، وأن يكون رقيبًا على الأرض يراقب دولها ومجتمعاتها وحضاراتها، وحتّى النفس أصبح الإنسان قادرًا على رقابته وعلى تحديده، إن هذا الإنسان القادر على هذه التقنية الهائلة أليس قادرًا على استثمار الماء بشكل متوازن؟ أليس قادرًا على حفظ الماء بحيث لا تصبح فيضانات في بعض البقاع وجفاف في بعض البقاع الأخرى؟

إن الإنسان قادر على ذلك، فهو يملك الوسائل العلمية التي من خلالها يمكنه أن يستثمر الماء استثمارًا متوازنًا، وهذا معنى حق الطبيعة، وهناك بعض الدول الغربية تصرُّ على استحداث آلاف المصانع التي تؤدّي إلى تصاعد ثاني اُوكسيد الكاربون إلى الطبقات العليا، وتصاعده يؤدّي إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، وهذه الظاهرة تقضي على كثير من الكائنات الحيّة وعلى نبع الحياة وبذرة الحياة على وجه الأرض.

ألا يمكن للإنسان أن يستثمر الطبيعة استثمارًا متوازنًا بحيث لا يكون استثمارها سببًا لتلوث البيئة أو سببًا لظاهرة الاحتباس الحراري، أليس قادرًا؟ هو قادر على ذلك، إذن الإنسان الذي لا يستثمر الطبيعة استثمارًا متوازنًا فقد جار على الطبيعة وظَلَمها، ومن هنا يأتي الحديث الشريف: ”بعدما مُلِئت ظلمًا وجورًا“، إذ ليس المقصود ظلم الإنسان للإنسان، بل ليس ظلم الإنسان لنفسه، وليس ظلم الإنسان لربه فقط، بل ظلم الإنسان للطبيعة وللأرض وللعوامل وللظروف التي يعيشها، إن ظلم الإنسان للطبيعة جور يعمُّ كل بقاع الأرض، وإذا جار الإنسان على الطبيعة وظلمها ولم يستثمرها استثمارًا متوازنًا فقد جار على الأرض كلها، ونشر الظلم في أرجاء الأرض كلها، وهذا الظلم يحتاج إلى تنقية، وهذا ما يؤكّد لنا بأن الهدف الذي يعيشه الإمام هو إقامة الحضارة العامة التي تحتاج إلى استثمار الطبيعة استثمارًا متوازنًا يكفل الحقوق للفرد وللمجتمع وللطبيعة وللأرض.

المفردة الثالثة: كيفية نشر القسط والعدل في أرجاء الأرض وبقاعها.

إنّ نشر القسط والعدل يعني إقامة العدالة بنوعيها: العدالة القانونية، والعدالة الشخصية، فما الفرق بين العدالة القانونية والعدالة الشخصية؟

العدالة القانونية تعني أن لا يظلم أحدٌ أحدًا، أي يوجد قانون يمنع اعتداء شخص على آخر، وكل دولة من الدول قادرة على تحقيق العدالة القانونية من خلال أجهزتها التنفيذية، جهاز القضاء، جهاز الأمن، جهاز الشرطة، وسائر الأجهزة تعمل في سبيل إقامة العدالة القانونية، لكن العدالة الشخصية لا يمكن السيطرة عليها من قِبَل الدول، لماذا؟

هل عدالة الإنسان مع جسمه يمكن السيطرة عليها من قبل الدولة؟ وهل عدالة الإنسان مع زوجته، وعدالة الإنسان مع صديقه، وعدالة الإنسان مع جاره يمكن السيطرة عليها؟ لا يمكن للدولة أن تقيم العدالة الشخصية؛ لأن العدالة الشخصية - أي عدالة الإنسان مع نفسه، ومع زوجته، ومع صديقه، ومع جاره - لا يمكن السيطرة عليها حتّى في دولة النبي ، فالقرآن يتحدّث في دولة النبي ويقول: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، يعني كان في دولة النبي أناس منحرفون، منافقون يبيتون المكيدة والخطط للإطاحة بالدولة المحمّدية.

إذن، فبالنتيجة العدالة القانونية حققها رسول الله ، ولكن العدالة الشخصية لا يمكن تحقيقها؛ لأنها ترتبط بكيان الفرد وبوضع الفرد، بينما في دولة الإمام المنتظر تتحقق العدالة بنوعيها القانونية والشخصية، وهذا ما يؤدّي إلى نشر القسط والعدل، كيف؟

إن القوانين الإسلاميّة على قسمين: قوانين رادعة، وقوانين وقائية، فالقوانين الرادعة تتمثل بالحدود، وتعزيرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه قوانين رادعة. وهناك قوانين وقائية، وهي التي تبني الفرد من الداخل، من وجدانه وداخله، والقوانين التي تبني الفرد من داخله ومن وجدانه تُسمّى قوانين وقائية؛ لأنها تقي هذا الفرد من الانجراف في هاوية الرذيلة، وهي تعتمد على علم الأخلاق وعلم التزكية والتربية.

فمثلًا إذا رأينا شخصًا يفعل منكرًا، كمن يقيم علاقة غير مشروعة مع فتاة، فما العمل؟ إنه شخص مريض، والإنسان المريض يحتاج إلى العلاج لا إلى القوة، فلا بدَّ أن تدرس حالته وتُعرف ما هي الدوافع النفسية التي دفعته للعلاقة غير المشروعة؟ وما هي الدوافع الأسرية والاجتماعية التي دفعته للعلاقة غير المشروعة؟ أي لا بدَّ لنا أن نتعامل مع المنكرات ومع المعاصي معاملة موضوعية مبنية على الدراسة والبحث والقراءة والأرقام والتأمل، فقراءة فعل المنكر والمعصية قراءة ناضجة مبنية على التأمل والدراسة تساعد في القضاء على المنكرات والمعاصي، أي تساعد في توفير وتفعيل القوانين الوقائية التي تبني الفرد من الداخل.

كثير منّا مع الأسف يقول لك: أنا لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر، فهو ليس واجبًا عليَّ. نقول: لماذا ليس واجبًا عليك؟ فيقول: لأن الفقهاء قالوا: إنه يُشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتمال التأثير، وأنا لا أحتمل التأثير، إذن لا يجب عليَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! نقول له: أنت مخطئ؛ لأنك أعطيت حكمًا من الخارج من دون تأمُّل، هذا شخص باطل عاطل، لا يجدي معه الكلام... الخ، فلو درست حالته لصار عندك احتمال التأثير، ولو درست دوافعه لأمكنك علاج هذا المرض.

إذن، هناك قوانين رادعة، وهناك قوانين وقائية تبني كيان الفرد المؤمن على الخُلُق، وعلى النظافة والطهارة من الداخل، والإمام المنتظر ستُركّز دولته على القوانين الرادعة والقوانين الوقائية من أجل تحقيق العدالة العامة: العدالة القانونية، والعدالة الشخصية، ولكن كيف يركز على القوانين الوقائية؟

إن القرآن الكريم يتحدّث عن النبي ويقول: ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، هناك ثلاثة عناصر:

العنصر الأوّل: العنصر الإعلامي، ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، فالذي ليس عنده إعلام لا يمكن أن ينجح مشروعه.

العنصر الثاني: العنصر التربوي، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ، فإذا لم تكن هناك أرضية مستعدّة لقبول هذا المشروع، فإن المشروع بدون التزكية سيصبح فاشلًا.

العنصر الثالث: العنصر الثقافي، ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، فالمشروع الذي لا يقوم على ثقافة مشروع فاشل.

إذن، هناك ثلاثة عناصر: عنصر إعلامي، وعنصر تربوي، وعنصر ثقافي. وهذا ما ينهض به الإمام المنتظر ، فهو يركّز على العناصر الثلاثة بشكل يقي الأشخاص من الانحراف في هاوية الرذيلة. مثلًا تصور بأنك في دولة الإمام المنتظر ، وهناك آلاف من القنوات الفضائية، وآلاف من وسائل الإعلام، هذه الآلاف كلها تسيطر عليها مؤسسة واحدة هي المؤسسة الإسلاميّة للإعلام، تنقي هذا الإعلام كله من الغزو الثقافي والشهوي والفكري، ومن أدران الشهوات والشوائب المادية، فهو وسيلة وقائية تبني الفرد بناءً خُلُقيًا متكاملًا.

إن العنصر التربوي في كل مجتمع يحتاج إلى المربي الروحي، لكن مع الأسف كثير من مجتمعاتنا ليس فيها مربي روحاني يُزكّي النفوس ويطهّرها ويزيل عنها درن المعاصي والانحراف، نعم، بعض المجتمعات فيها والحمد لله بعض المربّين، وبعض المجتمعات خالية من أي مربٍّ، لذلك الإمام المنتظر يركّز على هذه الناحية تركيزًا كبيرًا، فيبعث المربين الروحانيين في كل اُسرة، وفي كل مجتمع؛ من أجل أن يضمن هذا المربي تزكية النفوس وتطهيرها من الشوائب الشهوية والمادية. أما العنصر الثقافي، فيبثّ الإمام المنتظر العلوم والمعارف لكل فرد، فيصبح كل شخص إنسانًا متعلمًا وعالمًا في عهده؛ لأن الثقافة والعلم من الأساليب الوقائية التي تقي عن الانحراف والرذيلة.

إذن، متى ما حُقِّقت ومتى ما اُقيمت القوانين الرادعة والقوانين الوقائية تحققت العدالة التامّة، وتحقق قول الرسول : ”يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلِئت ظلمًا وجورًا“، فوظيفة الإمام المنتظر هي إقامة دولة حضارة مبنيّة على الإصلاح والعدالة التامة، مبنية على العنصر الإعلامي والتربوي والثقافي، وهي امتداد للدور النبوي المحمّدي: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي‏ ضَلالٍ مُبينٍ، وامتداد للدور العلوي، دور علي بن أبي طالب الذي كان يقول: ”والله لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل“، ودولته امتداد للدور الحسني، وللدور الحسيني: ”ما خرجت أشرًا، ولا بطرًا ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي“، فصوت الحسين هو صوت الإمام المنتظر، ونداء الحسين هو نداء الإمام المنتظر.