هدفية غيبة الإمام «عج»

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ

صدق الله العلي العظيم

تحدثنا ليلة الثامن من شهر محرم عن ضرورة ظهور الإمام ، وأن العقل البشري يفرض ظهور الإمام الحجة «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، وذلك من أجل تحقيق هدفين: أولهما إقامة الحضارة الكونية، وثانيهما تطبيق العدالة على أرجاء الكرة الأرضية. ونتحدث هذه الليلة عن ضرورة غيبة الإمام . لماذا اختلفت حياة الإمام الحجة عن حياة بقية أهل البيت ؟ ولماذا يظهره الله تعالى في آخر الزمان فيخرج ويقيم الحضارة الكونية أو العدالة الأرضية العامة؟ ولماذا الغيبة؟ وُلِد قبل ألف ومائتي سنة مثلًا ويعيش هذه الفترة الطويلة المسمّاة بالغيبة، ثمّ يظهر آخر الزمان ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا، كما ورد في الروايات، لماذا لم يظهره الله آخر الزمان؟ ما هي ضرورة الغيبة؟

هناك برهانان لضرورة الغيبة:

  • البرهان الأوّل: البرهان العام الذي لا يرتبط بالشيعة المؤمنين بخصائص الأئمّة .
  • البرهان الثاني: وهو البرهان الخاص الذي يرتبط بالشيعة المؤمنين بخصائص أهل البيت .
البرهان الأوّل: البرهان العام.

نتحدّث أوّلًا عن: البرهان العام، ما هو البرهان على ضرورة أن يعيش الإمام هذا العمر الطويل كي يتمكّن من تحقيق العدالة التامة؟ وهنا نطرح ثلاثة أسئلة:

السؤال الأوّل: ما معنى التكامل اليقيني؟

التكامل اليقيني يقسّمه الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.

مثلًا إذا رأيت الدخان فستستيقن بوجود النار، إذ لولا وجود النار لما وُجِد الدخان، فتستدلّ على المؤثر بأثره، فاليقين بوجود النار نتيجة رؤية الدخان هو أوّل درجة من درجات اليقين، وهذا يُسمّى بعلم اليقين، وإذا مشيت وراء الدخان إلى أن رأيت النار بعينيك، ألا يتأثر يقينك بوجود النار نتيجة رؤية الدخان؟ نعم، فدرجة اليقين اكتملت وازدادت وتحوّلت من علم اليقين إلى عين اليقين، فصارت عندك درجة أخرى من اليقين. ولو أن شخصًا قد أسقطك في النار وشعرت بالحرارة النارية بحيث صارت الحرارة عن طريق الانصهار، فدرجة اليقين تكاملت إلى أن وصلت إلى أعلى درجة، وهي ما نُسمّيها بحق اليقين، وهذا ما يذكره القرآن الكريم: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقين * لَتَرَوُنَّ الْجَحيمَ، هذه درجة من درجات رؤية النار، ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقينِ، أي درجة أخرى، فعندما يأتي يوم القيامة ويحسُّ الإنسان بحرارة النار سيستيقن بوجودها، فإذا رآها أمامه ازداد يقينه، فإذا اُلقي فيها ازداد يقينه إلى درجة حق اليقين: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقينِ، فالتكامل اليقيني يعني أن الإنسان ينطلق من درجة إلى درجة أخرى من درجات اليقين، وحتّى اُصور لك الموضوع بشكل أوضح، نأتي مثلًا إلى الرسول ، هل أن الرسول يتكامل يقينه؟

نحن نلاحظ بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتيلًا، هل كان الرسول يعيش حالة شكّ أو ارتياب؟ كلا، إذن فما معنى ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ؟

إن مقصود ذلك أن تصل إلى أعلى درجات اليقين، وهي درجة حق اليقين، مثلًا إذا فتحت كتابًا - أيَّ كتاب كان - يتحدّث عن الإمام المنتظر ، وقرأت المعلومات المتعلقة به فقد أخذت المعلومات عن طريق القراءة، ثمّ بعد ذلك جئت إلى المسجد وسمعت المحاضرة، وكانت المحاضرة عن نفس المعلومات التي قرأتها، فستزداد درجة يقينك بهذه المعلومات، ولو طُلب منك أيها الإنسان المثقف الذي سمع المعلومات وقرأها واستوعبها أن تشرحها للآخرين، فقمت بشرحها، فإن شرح المعلومات يزيد من يقينك بها.

إذن فالمعلومة الواحدة عندما تقرؤها سيصير عندك يقين، ثمّ تسمعها فيزداد يقينك بها، ثمّ تشرحها فيزداد يقينك بها أكثر، إذ التعامل مع المعلومة تعامل تكاملي يدخل في إطار التكامل اليقيني، وهل يتصور هذا التكامل بالنسبة للمعصوم مثلًا أم لا؟ فالرسول الأعظم منذ ولادته كان مطّلعًا وعالمًا بجميع معارف القرآن، ولديه علومه، ثمّ نزل عليه جبرائيل وأسمعه هذه المعارف والعلوم، فصار التعامل مع المعلومة بشكل ثانٍ وهو السماع، أي إنه كان يعرفها عن طريق الإلهام، ثمّ صار يعرفها عن طريق السماع، ثمّ اُمر بتبليغها وشرحها للآخرين، وقيامه بتبليغها وشرحها للآخرين أوجب وصوله إلى أعلى وأسمى درجات اليقين بهذه المعلومة، إذن التكامل اليقيني هو عبارة عن الانتقال من درجة إلى درجة أخرى من درجات اليقين ولتوضيح الأمر أكثر نأتي إلى السؤال الثاني:

هل أنّ الإمام خاضع للتكامل اليقيني؟

يعني هل الإمام فعلًا ينتقل من درجة من اليقين إلى درجة أخرى أم لا؟ الجواب: إن المعصوم مع أنه في كل آن يمرُّ عليه هو أكمل الناس وأعلمهم إلاّ أنه مع ذلك يزداد في مقامه الملكوتي القربي من الله عز وجل بما يفاض عليه من العلم اللدني، فإن منازل المقام الشهودي بدرجات اللطف الخفي ودرجات الانكشاف الملكوتي، ففي معتبرة أبي بصير عن الإمام الصادق قال: ”إنّا لنزاد في الليل والنهار، ولو لم نُزد لنفد ما عندنا“، قال أبو بصير: جُعِلت فداك، من يأتيكم به؟ قال: ”إن منّا من يعاين، وإن منّا لمن يُنقر في قلبه كيت وكيت، ومنّا من يسمع بأذنه وقعًا كوقع السلسلة في الطست“، فقلت له: من الذي يأتيكم بذلك؟ قال: ”خَلق لله أعظم من جبرئيل وميكائيل“.

الإمام يذكر في هذه الرواية أن هناك حالة صعود وحالة تكامل يمرُّ بها الإمام ، فيجب أن يكون أعلم من غيره، أي أعلم الخلق، وإلاّ لكان تقديمه على الناس من باب تقديم المفضول على الفاضل، وتقديم المفضول على الفاضل قبيح لا يصدر من الله عز وجل، إن الله تعالى عندما جعل الحسن إمامًا أو الحسين إمامًا فلأنه هو أعلم الناس، وإلاّ لِمَ يجعله إمامًا، فجعل الشخص إمامًا من دون أن يكون أعلم الناس هو تقديم للمفضول على الفاضل، وتقديم المفضول على الفاضل قبيح.

إذن فالإمام أعلم الناس من أوّل الأمر، والتكامل ليس معناه أن المعلومة كانت مشوّشة ثمّ صارت واضحة فتمام المعلومات منكشفة له تمام الانكشاف، وإنما معناه تكامل المقام القربي من الله عز وجل بواسطة هذه المعلومات.

دعني أوضّح لك الأمر بالمثال أكثر، أنت تقرأ قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا، إن الرسول كان يتعبّد في غار حراء، وكان على ملّة إبراهيم الخليل؟ فكيف يقول القرآن الكريم: ﴿ما كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإيمانُ، كيف يكون ذلك؟ ما هو الجواب عن هذه الآية؟ هل المراد بها أن الرسول كان جاهلًا وصار عالمًا؟ أم أنه لم يكن مؤمنًا وصار مؤمنًا؟! أم ماذا؟

نقول: لو كان المراد بها ذلك لكان مناقضًا للآيات القرآنية الأخرى، فعندنا آيات تُثبّت أن الرسول كان عالمًا بالقرآن قبل نزوله، ومطّلعًا على جميع معلومات القرآن تفصيلًا قبل نزول القرآن عليه، مثلًا قوله تعالى: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ، أي لا تخبر أحدًا بالقرآن، هذا معناه أنه كان عارفًا بالقرآن، ولو لم يكن عارفًا بالقرآن لما اُمر أن لا يبلّغ القرآن حتّى ينزل عليه الوحي من السماء. أيضًا قوله تعالى في آية أخرى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، معناها أن الرسول كان مطّلعًا على معلومات القرآن، ولكن تقسيم القرآن إلى سور وإلى آيات أمر نزل به جبرائيل عليه، وإلاّ فجميع معلومات القرآن كانت عند النبي ، لكن تحوّل هذه المعلومات إلى آيات وإلى سور هو الذي نزل به جبرائيل ، وهذا هو معنى: ﴿إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.

إذن، إذا كان الرسول عالمًا بالقرآن من قبل أن ينزل، فما معنى هذه الآية: ﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإيمانُ؟ معنى هذه الآية هو نفي درايته بالكتاب والإيمان على سبيل الاستقلال، فإن الدراية بالاستقلال من خواص البارئ عز وجل وإنما درايته بالاكتساب لا بالاستقلال، وهناك معنى آخر وهو أن النبي كان على درجة من المقام القربي من الله تعالى فازدادت تلك الدرجة بعد نزول الوحي، وهذا هو ما قلناه إنه كان على درجة من اليقين، ثمّ بالقرآن وبنزوله تكاملت درجة اليقين، وهذا ما يؤكّده الحديث الوارد عن النبي محمّد ، هو مما يرويه أهل السُنّة والجماعة أيضًا: ”كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين“ وفي رواية: ”بين الروح والجسد“.

ما هو الربط بين تكامل درجة اليقين وبين الغيبة؟

إذا كنّا نتكلم عن أهل البيت ، وكان المخاطب شيعيًا يؤمن من أوّل الأمر بأن الإمام من يوم ولادته عالم بجميع العلوم، وفي أعلى درجات اليقين، فلا نحتاج إلى برهنة ذلك له، أما إذا كنّا نخاطب شخصًا لا يعترف بذلك، أي إنه ليس من الشيعة، أو إنه ليس مسلمًا، ونريد أن نقيم له البرهان على أن الغيبة أمر ضروري للإمام ، فكيف نُثبت له ذلك وهو لا يعترف بخصائص أهل البيت ؟ ما هو الربط بين التكامل اليقيني وبين الغيبة في هذه المدّة الطويلة؟ إن حجم الدور يقتضي أعلى حجم من اليقين، فما هو الدور الذي اُنيط بالإمام القائم ؟

الدور الذي اُنيط بالإمام القائم هو إقامة العدالة التامة، وهي العدالة التي لا تخصُّ رقعة أرضية معيّنة، بل هي عدالة على جميع الأرض، فالدور الذي اُنيط بالإمام هو إقامة العدالة على جميع أرجاء الأرض، ولا يختصُّ برقعة معيّنة، فالقرآن الكريم يصرّح بذلك: ﴿هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، أي سيأتي حتمًا يوم من الأيام يُطبّق فيه الدين الإسلامي على الأرض كلها، ولا بدَّ أن يأتي هذا اليوم، وإلاّ كان خلاف ما ذكرته الآية الشريفة، وهذا ما تؤكّده الأحاديث الشريفة عند السُنّة والشيعة بلا فرق، منها قوله : ”لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج رجلًا من ولدي - أو من أهل بيتي، أو منّي - يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلِئَت ظلمًا وجورًا“، وتعبير الرسول : ”يملأ الأرض قسطًا وعدلًا“، أي يقيم العدالة على جميع الأرض من دون استثناء رقعة دون رقعة، تجده تعبيرًا دقيقًا لمفهوم العدالة.

إذن، هذا الدور دور خطير جدًّا لم يقم به أحد من الأنبياء أو من المرسلين، فالرسول ما استطاع أن يقوم بهذا الدور، إمّا لِقُصر عمره، وإمّا لعدم ملائمة الظروف لذلك، فهناك دور اُنيط بالإمام لم ينط بأيّ نبي وبأيّ رسول، وهو إقامة العدالة والدين على كل الأرض، وهذا الدور يقتضي حروبًا طاحنة ساخنة، وعملية تطهير تستغرق آلاف الطاقات وآلاف الإمكانيات وآلاف الاستعدادات، إن هذا الدور دور عظيم جدًّا لم يقم به بشر إلى الآن، ولم يستطع أن يطبّق الدين على وجه الأرض كلها؛ إذن حجم الدور يقتضي حجمًا من اليقين يتناسب معه، أي كلّما كبر الدور توقف على يقين أكبر ودرجة من الإرادة والصمود والشموخ تتناسب مع مستوى الدور وحجمه، لذلك نقول بأن الدور الذي اُنيط بالإمام يحتاج إلى تكامل يقيني، أي يحتاج إلى أن يكون الإمام في أعلى درجات اليقين والشموخ والإرادة؛ كي ينسجم مع هذا الدور العظيم.

لكن كيف يتم ذلك؟ أي كيف يتم التكامل اليقيني؟

إذا كنّا نتكلم مع الآخرين، فنقول لهم: إن الإمام لأجل أن يصل إلى أعلى درجات اليقين بحيث يكون مُعَدًّا للقيام بهذا الدور الخطير لا بدَّ أن يمرَّ بهذا العمر الطويل؛ لأنه ضروري من أجل الوصول إلى أعلى درجات اليقين، فالإنسان إذا كان يعيش في عصور مختلفة وفي عدّة مجتمعات، ويعيش حضارات مختلفة، فتسقط حضارة وتقوم حضارة بعدها، ويعيش في دول مختلفة، فتسقط دولة وتقوم دولة أخرى، ويعيش بين جماعات مختلفة، فإنه جرَّب كل الأنظمة، وجرَّب كل المجتمعات، لذلك تكاملت معلوماته في شتّى الحقول وازدادت درجة يقينه بدوره المنوط به كي تصل إلى أعلى وأسمى درجات اليقين.

إذن، الغيبة ضرورية لكي يعيش الإمام هذا العمر الطويل، وذلك من أجل تحقيق التكامل اليقيني، الذي يتوقف على معاصرة الحضارات المختلفة والعلوم المختلفة والجماعات المختلفة؛ كي يحصل لمن عاصرها أعلى درجات اليقين. وإعطاؤه هذه الدرجة من اليقين والسعة من المعلومات لا يعني أنه أفضل من جدّه النبي ، فإن ملاك الفضل باتصاله بعالم الملكوت، وتكليم الله له عن طريق الوحي، الذي لم يتحقق لغير الرسول ولذلك كان موسى أفضل من الخضر وهو إمامه مع أنه كان أعرف منه ببعض المعلومات، قال تعالى: ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.

البرهان الثاني: البرهان الخاص.

نتعرض له باختصار، وهو برهان خاص، برهان يصلح أن يستدلَّ به الشيعي نفسه على ضرورة بقاء الإمام هذا العمر الطويل، وهذا البرهان يتوقف على سؤالين نطرحهما ونجيب عليهما.

ما هو الهدف من الدين الإسلامي؟

إن الهدف من الدين هو تطبيقه على الأرض كلها؛ لأن الدين الإسلامي هو قانون العدالة، وهو الدين الحافظ للعدالة وتطبيقها على الأرض كلها، ﴿هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وإلاّ لكان تشريع الدين لغوًا، واللغو لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى، وهذا ما أكّدته الآيات القرآنية الأخرى: ﴿وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ، وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَني‏ لا يُشْرِكُونَ بي‏ شَيْئًا.

كيف نطبّق الدين على الأرض كلها؟ وما هي الأمور التي يتوقّف عليها تطبيق الدين على الأرض كلها؟

هناك أمران:

الأمر الأوّل: وجود الأرضية.

أي لا بدَّ من وجود أرضية بشرية لتطبيق الدين على الأرض كلها، ولتلك الأرضية عاملان:

العامل الأوّل: الانجذاب نحو الإسلام.

إن أهمّ شيء لدى البشرية هو الاقتصاد، ولا تقوم حضارة إلاّ على أساس اقتصادي، وقد جرَّبت البشرية مختلف الأنظمة الاقتصادية، جرَّبت النظام الشيوعي والنظام الاشتراكي، والنظام الرأسمالي، وستجرّب البشرية مختلف الأنظمة الاقتصادية، وكلّما طُبّقت تلك الأنظمة ازداد الفقر في العالم انتشارًا واتّساعًا، وسيقف العالم يومًا من الأيام على ألوان من الفقر لا حلَّ لها، وعلى ألوان من المجاعة لا حلَّ لها، وعلى ألوان من الفشل في تطبيق النظام الاقتصادي لا حلَّ لها، وإذا وقف العالم بعد التجربة الطويلة والمريرة على ذلك سيتحرك نحو الإسلام ويقول: طريقنا الإسلام، فقد جرّبنا النظام الشيوعي والرأسمالي والاشتراكي فما رأينا له أثرًا.

العامل الثاني: العولمة.

هل العولمة ضد المسلمين أم لصالحهم؟ إذا استغلَّ المسلمون تحوّل العالم إلى منطقة واحدة، لها إعلام واحد، ولها صوت واحد، وهم مُصرّون على دينهم وعلومهم ومعارفهم، وقاموا بنقل تاريخنا للبشرية كلها، وصار الإعلام ينقل قيم الإسلام، ويشرح النظام الاقتصادي للإسلام ستكون العولمة إعلامًا لصالحنا إلى أن يحصل للبشرية تهيئة واستعداد لاستقبال النظام الإسلامي.

الأمر الثاني: حفظ الدين.

قلنا إن الهدف من تشريع الدين هو تطبيقه على الأرض، وتطبيق الدين على الأرض يتوقّف على حفظ الدين من التحريف؛ لأن الدين إذا كان نظامًا مُحرّفًا فلا يمكن تطبيقه، إذن تطبيق الدين على الأرض يتوقف على أن يكون النظام الديني نظامًا نزيهًا غير مُحرّف. كيف يمكن صيانة الدين من التحريف ليكون نظامًا قابلًا للتطبيق؟

إن القرآن الكريم يؤكّد على حفظ الدين، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ، فالبعض يتصوّر أن الذكر هو القرآن، بل الذكر هو الدين، وإذا حفظ الله الدين فقد حفظ القرآن؛ لأن القرآن دستور الدين، فالمراد بالذكر هو الدين، كما في قوله تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالًا نُوحي‏ إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. لا يتمّ حفظ الدين إلاّ بالشخص الخبير بالدين، والعارف والعالم به علمًا واقعيًا، لا علمًا ظاهريًا، كيف؟

إن فقهاء المسلمين يعلمون بالدين علمًا ظاهريًا وليس علمًا واقعيًا، فهل كتاب منهاج الصالحين هو الدين؟ لا، فهذه فتاوى استنبطها هذا الفقيه، وتوصّل إليها عبر خبراته وثقافته ومؤهّلاته، فالدين الواقعي دين له وجود معيّن، وهذه الفتاوى مجرد فتاوى ظنّية توصّل إليها الفقيه عبر قيامه بعملية الاستنباط، إذن علم الفقيه مهما كان، حتّى لو كان أعلم أهل زمانه، علم ظاهري، والشخص الذي يعلم بالدين علمًا ظاهريًا لا يمكنه حفظ الدين عن التحريف، فحفظ الدين عن التحريف والتزوير يتوقّف على شخص عالم بالدين علمًا واقعيًا، فهو مطّلع على حقائق الدين وواقعه؛ لذلك ففي كل زمن ومنذ زمن نبينا إلى يومنا هذا لا يمرُّ زمن إلاّ ويوجد شخص عالم بالدين علمًا واقعيًا؛ لأنه هو المسؤول عن حفظ الدين، ولذلك ورد في الأحاديث الشريفة: ”لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت“، أي: لولا وجود الشخص العالم بالدين علمًا واقعيًا لانتهى الدين وتعرّض للتحريف والتزوير.

وورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهرًا مشهورًا، أو خائفًا مغمورًا، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته“، والمهمّ أن هناك حُجّة وظيفته حفظ الدين عن التحريف، وهذا هو معنى حديث الثقلين الذي لم يختصّ به الشيعة الإمامية فقط، وإنما رواه جمهور المسلمين، لذلك نرى أن محاولات تحريف القرآن ليست جديدة، فاليهود من قبل خمسمائة أو ستمائة سنة حاولوا تحريف القرآن، والآن على الإنترنت ترى محاولات من قِبَل بعض المسيحيين وبعض اليهود لإدخال آيات جديدة وتغيير بعض الآيات، لكنها لا تفوت على المسلمين أبدًا، وأيّ محاولة تنكشف سريعًا ويتنبّه المسلمون لها ويقفون أمامها بحزم.

إذن الهدف من وجود الدين هو تطبيقه على الأرض، وذلك يتوقّف على حفظه من التحريف، وهذا يتوقّف على وجود شخصٍ عالم بالدين علمًا واقعيًا، وهو المسؤول عن حفظه من التحريف، كما نصَّ عليه حديث الثقلين، والشخص الذي يحفظ الدين عن التحريف هذه المدّة الطويلة وهذا العمر الطويل هو المهدي المنتظر ، إذن الغيبة أمر ضروري لأجل حفظ الدين من التحريف، وهذا يتوقّف على وجود الإمام هذا العمر الطويل، وهذه أمور لا يدركها إلاّ الشخص القريب منه .