الدرس 59

حقيقة العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

الأمر الثالث: هل يُعتبر في فعلية الحكم الطريقي أو إجراء التزاحم الحفظي أن يكون هناك شكّ تفصيلي في مورد الحكم أم لا؟.

فالمشهور من الأصوليين: أنّ جعل الحكم الطريقي أو إجراء التزاحم الحفظي - بحسب تعبير الصدر - فرع الشّك في المورد، كما إذا شكّ في التكليف أو في إمارية خبر الثقة أو ما أشبه ذلك.

ولكنَّ الصحيح: عدم اعتبار ذلك؛ بل يكفي في الحكم الطريقي الشّكّ النوعي، بمعنى: أنّ المكلّف إذا التفت إلى أنّ الرؤيا طريق كثير الخطأ، أو أنّ القياس كذلك، فهذا الشّك النوعي كافٍ في جعل حكم طريقي في حقه وإن لم يلتفت لخطأه حين القطع. فلو فرضنا أنّ المكلف مع التفاته إلى أنّ الرؤيا كثيرة الخطأ في الأحكام الشرعية مع ذلك قطع بحكم شرعي عن طريقها وإن كان ملتفتا ارتكازاً إلى أنّ الطريق كثير الخطأ، ولكنّه تفصيلاً قطع بحكم عن طريق الرؤيا، فهذا الشك النوعي كافٍ في جعل ترخيص طريقي في حقه، فيقال له: ما قطعت به من الحكم عن طريق الرؤيا لا يجب عليك اتباعه، ويرخص لك في ترك امتثاله. كما أنّ الوسواسي أيضاً الذي يتلفت ارتكازاً إلى أنّ الوسوسة طريق كثير الخطأ ولكنه اتفاقاً قطع ببطلان صلاته أو بحرمة قطع صلاته عن طريق الوسوسة، فيقال له: الحرمة التي قطعت بها عن طريق الوسوسة لا يجب عليك تنفيذها. ففي هذه الموارد بما أنّ المناط في الحكم الطريقي هو تقديم مصلحة الجعل على المفسدة في متعلق المجعول، أو بحسب تعبير الصدر: تقديم أهم الملاكين المتزاحمين تزاحماً حفظياً، فبما أنّ هذا هو المصحح للحكم الطريقي فيكفي فيه وجود شك نوعي، أي: التفات ارتكازي إلى أنّ هذا الطريق كثير الخطأ وإن لم يكن الجعل محل شك بل كان مقطوعاً به.

والخلاصة: لا مانع من الترخيص في ترك العمل بالحكم المقطوع به على نحو الترخيص الطريقي الذي يتبع أهميّة ملاك الجعل من ملاك في متعلق المجعول. والسر في جعل هذا الترخيص الطريقي: هو أنّ الحكم لم ينكشف إمّا لأنّه لم ينكشف عقلاً كما في موارد جعل البراءة عند الشك في التكليف فالحكم الواقعي وإن كان موجوداً ولكنّه حيث لم ينكشف عقلاً جعل الشارع البراءة منه، أو لم ينكشف عقلاءً كما لو انكشف الحكم عن طريق الرؤيا فإنّه حيث لم ينكشف بطريق عقلائي. لأجل ذلك: كان هذا مسوّغاً لجعل حكم ترخيصي طريقي في مورده وبناءً على هذا ليس القطع التفصيلي فضلاً عن الإجمالي علّة تامّة للموافقة القطعية فضلاً عن العلم الإجمالي.

الجهة الثانية:

لو اغمضنا النظر عما ذكرناه في بحث القطع من إمكان الترخيص الطريقي فيما قطع به، مع ذلك نقول: ليس القطع التفصيلي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية. والوجه في ذلك: أنّ القطع على نوعين:

1 - تارة لا يقترن به شك لا في المقطوع به ولا في امتثاله أصلاً؛ كما لو قطع بالصلاة وبتمام أجزائها وشرائطها، ففي مثل هذا النوع من القطع نقول بأنّه منجز للموافقة القطعية الوجدانية.

2 - أو أنّ القطع مشوب بالشك في مرحلة الامتثال؛ كما لو قطع بوجوب الصلاة إلى القبلة وترددت بين الجهات الأربعة، فهو من حيث الحكم المقطوع به لا شك لديه، ولكن من حيث امتثاله مشكوك لتردد الكعبة بين الجهات الأربعة. ففي مثل هذا المورد لا يكون القطع سبباً للموافقة القطعية وإنّما تكون سببيته معلّقة على عدم تدخل الشارع، فلو تدخل الشارع عبر صحيحة زرارة وقال: «يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة»، وكان التحرّي طريقاً ظاهرياً وليس مأخوذاً في الموضوع كما ذهب إليه جمع من الاعلام، أي: أنّ التحرّي - وهو طلب الظن - مجرد طريق يخطئ ويصيب، فلو تحرّى الكعبة في جهة من الجهات وصلّى ثم انكشف استدباره أو كونه في أقصى اليمين أو اليسار.. أعاد. فالشارع جعل التحرّي طريقاً ظاهرياً في مقام الامتثال، ومقتضاه: عدم لزوم الموافقة الوجدانية وكفاية التعبديّة، أي: بالعمل بالظن مثلاً.

فلأجل ذلك نقول: لا فرق بين القطع التفصيلي والإجمالي من هذه الناحية وهي أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية للحكم المقطوع به هذا الحكم العقلي معلّق على عدم ترخيص الشارع، وهذا ما يُعبّرُ عنه ب «الاقتضاء»، غاية ما في الباب إنّ عدم ترخيص الشارع - أي المعلق عليه - تارة يكون متحققا بالوجدان: كما إذا افترضنا أنّ القطع بالحكم لا يشوبه شك لا في الحكم ولا في امتثاله ففي مثل هذا الفرض إذا كان القطع بالحكم ليس مشوباً بالشّكّ لا في الحكم ولا في طريقه ولا في امتثاله، فعدم ترخيص الشارع متحقق بالوجدان، فلأجل أنّ المعلق عليه عدم ترخيص الشارع متحقق بالوجدان كانت سببية القطع للموافقة القطعية الوجدانية تنجيزية، لأنّ المعلّق عليه فعلي.

وأمّا إذا افترضنا: أنّ القطع مشوب بالشك. أمّا الشك في الحكم وهو المعبر عنه ب «العلم الإجمالي»، أو الشك في الطريق كما اسلفنا في الجهة الأولى، أو الشك في مقام الامتثال كما مثلّنا. فمتى ما كان مشوباً في الشك، إذاً ترخيص الشارع محتملٌ، فيحتمل أن يتدخل لوجود الشك فيرخص أو لا يتدخل، فما دام ترخيص الشارع محتملاً إذاً سببية القطع للموافقة القطعيّة الوجدانية اقتضائية معلّقة.

فالصحيح أن يقال: أنّ القطع التفصيلي فضلاً عن الإجمالي مجرد مقتضي للموافقة القطعية الأعم من الوجدانية أو التعبّديّة فضلاً عن العلم الاجمالي.

الجهة الثالثة:

فرّق النائيني والعراقي - وهذا الكلام له جذور في الرسائل - بين نوعين من الترخيص: 1 - فإن كان الترخيص بمعنى الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية: فلا يجري في أطراف العلم الإجمالي ولا التفصيلي.

2 - وإن كان الترخيص بمعنى التعبد بالامتثال: كما في فرض جريان قاعدة الفراغ والتجاوز، فيصح في التفصيلي فضلاُ عن الاجمالي.

ولكنَّ السيّد الشهيد لم يقبل هذا الكلام، فقال: بأنّ هذا التحليل بالتفصيل بين نوعين من الترخيص غير واضح.

وحيث إنّ عبارات تقريره ليست وافية ببيان المطلب نقوم بتقريب المطلب بنحو تندفع به الإشكالات، وبيان مطلبه «قده» بذكر أمور:

الأمر الاول: إنّ مدرك العقل تارة يكون: نظرياً، وأخرى: عملياً.

والنظري: 1 - قد يكون تنجيزيا. 2 - وقد يكون تعليقياً. فمثلا: مدرك العقل النظري فيما يتعلق بوحدانية الله ونبوة النبي تنجيزي، ولكن مدركه من حيث تفاصيل صفاته وعالم القبر والبرزخ، تعليقي.

والمدرك العملي أيضاً على قسمين: 1 - إذ تارة يكون حكم العقل العملي في سلسلة علل الأحكام. 2 - وتارة في سلسلة معلولاتها.

فإن كان في سلسلة علل الأحكام - أي في رتبة سابقة على الحكمK فأيضاً قد يكون تنجيزياً، كحكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم. وقد يكون تعليقيا: كما في مصاديق الظلم والعدل. حيث يكون معلّقاً أحياناً على بيان من الشارع أو العقلاء.

وأمّا إذا كان حكم العقل العملي في سلسلة معلولات الاحكام - أي في رتبة لاحقة على وجود شرع وبيانه -: فهنا لا محالة يكون تعليقاً. والسر في ذلك:

إنّ حكم العقل بالمنجزية أو بحق الطّاعة أو دفع الضرر المحتمل، أو بقبح العقاب بلا بيان في رتبة معلولات الأحكام، كل هذه الأحكام مما ينتفي موضوعها بتدخل الشارع؛ إذ ما دامت في مرتبة معلولات الأحكام فلا محالة ينتفي موضوعها بتدخل من الشارع، لأجل ذلك: حكم العقل بمنجزية العلم التفصيلي فضلاً عن الإجمالي تعليقي، معلّقٌ على عدم تدخل الشارع.

الامر الثاني: إنّ الحكم العقلي تابع لملاكٍ. فمدام ملاكه قائماً، فالحكم العقلي قائمٌ. وإن انتفى ملاكه انتفى موضوعه وتبعية الحكم العقلي لملاكه لا تتغير بالصياغات الاعتبارية الصادرة من الشارع. بيان ذلك:

إذا قال العقل: يقبح العقاب بلا بيان. فإن هذا الحكم العقلي له ملاك وهو عدم ابراز الشارع اهتمامه في الواقع، ولو بطريق في معرض الوصول، فالشارع إذا لم يبرز اهتمامه بالواقع المجهول ولو بطريق في معرض الوصول إذا يقبح منه العقاب على ذلك الواقع المجهول لأنَّ العقاب عليه ظلمٌ.

فإذاً اصدر الشارع شيئا، وقال لنا: خذ بخبر الثقة فنقول هذا الخطاب هل هو ابراز لاهتمام الشارع بالواقع أم لا؟.. فإن كان إبرازاً لاهتمام الشارع بالواقع ارتفع قبح العقاب بلا بيان، سواء كان هذا الإبراز بصيغة الأمر «خذ بخبر الثقة»، أم كان بجعل العلمية بأن يقول «خبر الثقة علم»، فاختلاف الصياغات لا أثر له، المهم أنّ ملاك الحكم العقلي لا زال موجوداً أم ارتفع، فإن كان قول الشارع «خذ بخبر الثقة» إبرازاً لاهتمام الشارع بالواقع الذي قام عليه خبر الثقة ارتفع موضوع قبح العقاب بارتفاع ملاكه سواء كان «خذ» أمراً مولوياً أم حكماً وضعياً بجعل العلمية والبيانية لخبر الثقة. وإن لم يكن إبرازاً لاهتمام الشارع فحتى لو قال الشارع جعلت خبر الثقة علماً ما لم يكن إبرازاً لاهتمامه فالحكم العقلي وهو قبح العقاب بلا بيان ما زال قائماً.

إذاً: دعوى المحقق النائيني: أنّ قبح العقاب بلا بيان يرتفع إذا جعل الشارع خبر الثقة بياناً، هذا لا اثر له ما دام الملاك وهو عدم إبراز الشارع اهتمامه بالواقع ولو بطريق في معرض الوصول موجوداً. إذاً: الحكم العقلي موجود.

والحمدُ لله ربِّ العالمين