تساؤلات حول الخطاب الحسيني يوم عاشوراء

تحرير المحاضرات

الخطاب التاريخي الذي ألقاه الحسين يوم عاشوراء أمام معسكر عمر بن سعد يستدعي طرح مجموعة من الاستفهامات والتأملات في مضامينه.

الاستفهام الأول: حول فلسفة الاعتذار.

نلاحظ أن الحسين بدأ خطابه بالاعتذار، حيث قال: "أيها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا، حتى أعظكم بما هو حقٌ لكم عليَّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن صدّقتم قولي وقبلتم عذري وأعطيتموني النَّصَف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، وإن لم تقبلوا عذري ولم تعطوني النَّصَف من أنفسكم ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ. إذا كان الحسين مصممًا على حركته، وعازمًا على نهضته، فما هو وجه الاعتذار من هذا القوم؟ إذا كان الحسين لا يريد أن يلين ولا أن يتراجع ولا أن يتقهقر عن موقفه، بل يقف على موقفه ثابتًا صامدًا صمودًا لا رجعة فيه، فما هو وجه الاعتذار من القوم؟

الجواب عن هذا السؤال: لا بد من أن نفرّق بين أمرين: أصل الحركة، ومنطقة الحركة وموقعها. الحسين انطلق في حركته بدافع إلهي: ”أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“، فهو من هذه الناحية لا رجعة عنده، بل هو لا يريد التراجع ولا الاعتذار عن حركته، فإن حركة الإصلاح - وهي حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - التي خطها لا رجعة فيها، ولكن ما هي منطقة الحركة؟ لا بد من اختيار موقع للحركة، ولا بد للسياسي المحنّك عندما يتحرك حركة أن يختار المنطقة المناسبة والمنسجمة مع حركته، فهل المنطقة المناسبة هي المدينة؟ أم المنطقة المناسبة هي مكة؟ أم المنطقة المناسبة هي العراق؟ أم المنطقة المناسبة هي اليمن؟ أم المنطقة المناسبة غيرها من المناطق؟

الحسين اعتبر أن المدينة ومكة منطقتان غير مناسبتين للحركة؛ باعتبار أنهما حرمان آمنان، فما أراد الحسين أن تراق في الحرمين الآمنين دماء ذرية رسول الله ، ولذلك أبعد الحرمين عن منطقة الحركة، بقي أمامه خياران: إما العراق، وإما اليمن، حيث لا شيعة آنذاك إلا في هذين الموطنين، فإما أن يختار منطقة الحركة في اليمن أو في العراق، وحيث أن أغلب أنصاره - كما ذكرنا في الليلة السابقة - من العراق، إذن المنطقة المناسبة للحركة هي العراق لا اليمن.

من هنا الإمام الحسين اعتبر الموقع هو العراق، فأقبل لينطلق من هذا الموقع في حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فوقف الجيش الأموي - شيعة آل أبي سفيان - أمامه وقالوا له: نحن لا نسمح لك ولا نعطيك الفرصة لتستفيد من هذا المكان موقعًا ومنطقةً لحركتك، وهنا جاء كلام الحسين ، حيث قال بكل صراحة: إذا لم تفتحوا لي المجال أن أتخذ العراق منطقةً لحركتي فدعوني أنصرف إلى منطقة أخرى، كاليمن، وكالبصرة، وغير ذلك من المناطق، وأعتبرها منطقة موقعًا لحركتي.

إذن هذه الكلمة ”حتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم“ ليس المقصود بها أنه يرجع عن الحركة، فإنه ماض في الحركة على كل حال، ولو لم تحدث في الكوفة لحدثت في اليمن أو في البصرة أو في أي مكان آخر، فحركته لا رجعة فيها ولا تنازل، وإنما الكلام في موقع الحركة، فهو يريد أن يقول: إذا لم أعط الفرصة لكي تكون الكوفة موقعًا لحركتي فدعوني أنصرف إلى مكان آخر لأتخذه موقعًا للتحرك ومنطلقًا للحركة، فالاعتذار إنما هو مرتبط بموقع الحركة، وليس مرتبطًا بأصل الحركة.

الحسين كان عازمًا على أصل الحركة على كل حال، ولو كان يريد التراجع والتنازل عن موقعه لكان له ذلك، حيث أعطاه القوم خيارًا واعتبروا القضية سهلة، فقال له قيس بن الأشعث: «يا أبا عبد الله، انزل على حكم بني عمك»، أي: قل كلمة واحدة: بايعتُ يزيد بن معاوية، وهكذا تنتهي القضية، فإننا لسنا مصمّمين على قتالك على كل حال، وإنما هي كلمة واحدة قلها وتنتهي المشكلة، ولذلك قيل له: «انزل على حكم بني عمك؛ فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه» فماذا أجاب؟ هذه فرصة للتراجع لو أراد التراجع والتنازل عن حركته، ولكنه قال: ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد، ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنفوس حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“.

إذن لم يكن الاعتذار عن أصل الحركة، وإنما كان عن موقع الحركة، فإذا لم تكن الكوفة موقعًا صالحًا لحركتي فهناك مناطق أخرى دعوني أنطلق إليها لأنبعث منها في مجال حركتي، ألا وهو خط الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الاستفهام الثاني: حول فلسفة التركيز على النسب.

الحسين ركّز على نسبه، حيث قال: ”أيها الناس، انسبوني من أنا، ثم ارجعوا لأنفسكم فعاتبوها: هل يحل لكم قتلي أو انتهاك حرمتي؟! ألستُ ابن بنت نبيك، وابن وصيه، وأول المؤمنين بالله، والمصدّق برسوله بما جاء به من عند ربه؟! أو ليس حمزة سيد الشهداء عمي؟! أو ليس جعفر الطيار عمي؟! أو ليس... إلخ“. هنا يُطْرح السؤال: لماذا التركيز على النسب؟

نحن نعرف أن من المبادئ الإسلامية الواضحة أن الميزان في الفضيلة هو التقوى وليس النسب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وورد عن الرسول محمد : ”إن الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدًا قرشيًا“، وعنه مخاطبًا بني هاشم: ”أتأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم، وتأتونني بأنسابكم؟!“. المسألة مسألة عمل، والمسألة مسألة تقوى، ولذلك يقول القرآن الكريم متحدثًا عن النبي نوح «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، بما أنه إنسان غير صالح فلا قيمة له وإن كان ولدًا لك.

إذن لماذا ركّز الإمام الحسين وقال: أنا كذا وأنا كذا؟! وكذلك ركّز الإمام زين العابدين في مجلس يزيد بن معاوية: ”أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من طاف وسعى، أنا ابن من عرج به إلى السماء، أنا أنا... إلخ“، فلماذا التركيز على النسب؟!

الجواب عن هذا السؤال بلحاظ أمرين:

الأمر الأول: رمزية النسب.

النسب لم يؤخذ في كلمات الحسين وآل الحسين على نحو الموضوعية، وإنما أخذ على نحو الطريقية والرمزية، أي أن النسب رمزٌ لمفاهيم قرآنية متعددة. إذا كنتُ ابنَ علي فاطمة فأنا إذن من آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. وإذا كنتَ أنا ابن علي وفاطمة فأنا إذن من آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وما أخرج رسول الله غير حسن حسين وعلي وفاطمة. إذا كنتَ ابنًا لعلي وفاطمة فأنا المقصود بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. إذا كنتُ أنا ابنًا لعلي وفاطمة فأنا المقصود إذن في سورة الدهر: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا. إذا كنتُ ابن علي وفاطمة فأنا المقصود بقوله: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فمسألة النسب ترتبط بآيات قرآنية كثيرة، والخلاصة: أن النسب أخذ رمزًا لهذه الآيات القرآنية.

الحسين أراد أن يقول: أنتم عندما تقاتلونني فإنكم لا تقاتلون جسمًا مكونًا من لحم ودم، ولا تقاتلون شخصًا ولد في سنة كذا، وتزوج كذا، وولد كذا، بل أنتم تقاتلون مفاهيم القرآن، وتقاتلون آيات القرآن، وتقاتلون هذه المضامين القرآنية، فهذه الحرب ليست على شخص اسمه الحسين بن علي، وإنما حربٌ للآيات القرآنية الكثيرة الواردة في ذرية علي وفاطمة «صلوات الله عليهم أجمعين». إذن الحسين لم يطرح النسب لأجل أن يفتخر به، وإنما طرح النسب لأجل أن يفهم القوم أن هذا النسب الطاهر المعيّن رمزٌ لمفاهيم قرآنية، ورمزٌ لمضامين قرآنية، ورمزٌ لآيات قرآنية كثيرة، فقتال الحسين قتالٌ للقرآن، وحرب الحسين حربٌ للقرآن الكريم.

الأمر الثاني: قيمة النسب في جانب البر والصلة.

ليس النسب دائمًا لا قيمة له، فقد لا تكون له قيمة في مجال الفخر، إذ لا يصح للإنسان أن يفخر بنسبه.

أنا   ابن  ديني  وكنيتي  iiأدبي
إن  الفتى من يقول: ها أنا iiذا
  من  عجم  كنتُ أم من iiالعربِ
ليس الفتى من يقول: كان أبي

في مقام الفخر قد لا يكون للنسب قيمة، ولكن في مجال البر يكون للنسب أكبر القيمة. لاحظوا ما ورد عن الرسول محمد : ”يُحْفَظ المرء في ولده“. إذا توفي صديقك مثلاً وأردت المحافظة على صداقتك معه فحافظ على صلتك بأولاده، فإن صلتك بأولاده من بعد برٌ به واستمرارٌ لصداقتك معه. أنت إذا أردت أن تحترم إنسانًا من الناس، وقد توفي، فإن احترامك لولدك ولذريته احترامٌ له وبرٌ به. إذن في مقام البر والصلة وفي مقام الاحترام يكون للنسب قيمة وموضوعية، وأي بر وصلة واحترام أفضل من بر رسول الله ؟! ألا يرغب المسلم في صلة رسول الله؟! ألا يرغب المسلم في بر رسول الله؟! ألا يرغب المسلم في احترام رسول الله؟! رسول الله يقول: ”يحفظ المرء في ولده“، فإذا أردتم صلتي وبري واحترامي فعليكم بصلة أولادي من بعدي وبرهم واحترامهم؛ فإن ذلك صلةٌ يي وبرٌ بي واحترامٌ لي.

ولذلك ركّز الحسين على هذا المنطق: أنتم عندما تقتلونني فأنتم تطعنون في بر رسول الله . ليست المسألة مسألتي أنا، وليست القيمة قيمتي أنا، وإنما القيمة لرسول الله، فمن باب الصلة برسول الله، ومن باب البر برسول الله، ومن باب الحرمة لرسول الله، والمرء يحفظ في ولده، فأنا ولده، ولذلك الحسين ركّز على هذا المفهوم: ”إن كنتم في شكٍ من ذلك أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟! والله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي وانتهاك حرمتي“.

أليس مقتضى البر برسول الله أن تراعوا ذلك؟! أليس مقتضى احترام رسول الله ألا تعتدوا على ذريته وعترته من بعده؟! إذن أين حديث الثقلين: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، فانظروا كيف تخلفونني فيهما“؟! هذا مخطط أموي: إبعاد الذرية عن واقع الأمة الإسلامية. هؤلاء الذين حاربوا أهل البيت حربًا عسكريًا وحربًا ماديًا وحربًا آليًا لم يظلموهم كما ظلمهم من حاربهم حربًا فكرية، ومن حاربهم حربًا قلمية، ومن حاربهم حربًا تاريخية.

مثلاً: ابن خلدون - الذي يُعَدُّ مؤسس علم الاجتماع كما يقولون - يذكر في المقدمة: «وشذَّ أهلُ البيت بمذاهب ابتدعوها»! هذا مؤسس علم الاجتماع! هل هذا يعد قلمًا موضوعيًا؟! مذاهب الآخرين ليست شاذة، ولكن مذهب أهل البيت شاذ!! أليسوا رواة عن رسول الله؟! إذا كان الآخرون مقبولين كرواة عن رسول الله، فهل صار أبو هريرة أو أنس بن مالك أو أبو سعيد الخدري أفضل من علي والحسن والحسين؟! حتى قبلنا حديث أبي هريرة وحديث غيره ولم نعتبرهم أصحاب مذاهب شاذة، وأما أهل البيت فإنهم شذوا بمذاهب ابتدعوها! المسألة ليست حربًا جسدية فقط، بل هي مسألة حرب فكرية أيضًا. لم يحارَب أهل البيت حربًا جسدية، ولم يصفّوا تصفيةً جسديةً فقط من قبل السلطة الأموية والعباسية آنذاك، بل كان خط الحرب الفكرية خطًا واضحًا مؤصّلاً في زمان بني أمية وبني العباس.

وإلا لو افترضنا أن أهل البيت ليسوا أئمة، فليكونوا رواة على الأقل! لو افترضنا أن الباقر والصادق ليسا إمامين، لكنهما على الأقل راويان! كما تعتبرون مالك وقتادة راويين عن النبي، فاعتبروا جعفر بن محمد راويًا! مع أنكم لا تقبلون منه حتى الرواية!! فأين هي الموضوعية؟! إذن أين ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي“؟! ثم يقولون: نحن نحب أهل البيت! ما معنى هذا الحب؟! تحب أهل البيت ولكن لا تقبل عنهم رواية ولا رأيًا ولا تقبل لهم كتابًا؟! هل حب أهل البيت مجرد كلام يقال على اللسان؟!

الاستفهام الثالث: حول فلسفة عدم الاحتجاج بالنص.

لماذا لم يحتج الحسين على القوم بالنص؟ أليس إمامًا منصوصًا عليه بالإمامة؟! ألم يقل رسول الله : ”ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا“. إذا كان الحسين إمامًا منصوصًا عليه بالإمامة من قبل المصطفى فلماذا لم يحتج على القوم بالنص؟! لماذا التجأ إلى حديث آخر وقال: ”أو لم يبلغكم قول رسول الله فيَّ وفي أخي الحسن: هذان سيدا شباب أهل الجنة“؟! لماذا احتج بهذا الحديث وترك مسألة الإمامة؟! بعض الأقلام الإسلامية إلى الآن تركز على هذا الموضوع، وتقول: لو كانت الإمامة بالنص لاحتج أهل البيت بالنص، فلماذا لم يحتجوا؟! الإمام علي لماذا لم يحتج على القوم بأن إمام منصوص عليه؟! الحسين لماذا لم يحتج على محاربيه بأنه إمام منصوص عليه؟! هذا دليل على أن الإمامة ليست نصًا، وإلا لاحتج أهل البيت بالنص.

الجواب: منذ زمان النبي بدأ تيار التشكيك في الجانب الشخصي للنبي . نحن نعتقد - كما هو مقتضى الآيات القرآنية - أن النبي ليس له جانبان: جانب إلهي وجانب شخصي، بل هو كله إلهي، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، فنحن نعتقد بأن النبي إلهي بجميع جوانبه ومعصوم بتمام أطرافه، وهذا هو مقتضى إطلاق الآيات القرآنية.

في زمان النبي ابتدأ خط وتيار يفصل بين الجانبين، فقال بأن النبي له جانب إلهي، وهو الجانب الذي يخبر به عن السماء، وهو معصوم فيه، وله جانب شخصي، وهو تصرفاته وسلوكه الشخصي، وليس معصومًا فيه. هذا الخط كان خطًا سياسيًا، وأثمر هذا الفصل بين الجانبين ثمارًا سياسيةً في المستقبل. ولذلك نلاحظ أن الطبري في تاريخه يذكر أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب عن النبي كل ما يقول، فاحتجوا عليه: كيف تكتب كل ما يقول؟! إن محمدًا بشر يقول في الرضا والغضب! أي أنه إذا رضي قال كلامًا جيدًا، وإن غضب قال كلامًا غير صحيح. فجاء إلى رسول الله وقال له: اعترض عليَّ بعض أصحابك وقال بأن محمدًا بشر يتكلم في الرضا والغضب، فقال: ”يا عبد الله، اكتب عني كلَّ ما أقول، فوالله ما خرج من فيَّ إلا الحق“.

إذن التيار الآخر يقول: هناك شيء شخصي وهناك شيء إلهي، وقد وصل هذا إلى يوم مرض وفاة النبي، حيث قال: ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا، فقال بعض من حضر: اجلس، إن محمدًا ليهجر! أي أن هذا الشخص لا يؤخذ بكلامه لأنه مريض الآن! فهناك فصلٌ بين الجانب الشخصي والجانب الإلهي، وامتد هذا التيار، فمُنِعَ تدوين حديث النبي بإجماع المؤرخين، إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز، فإن من حسناته أنه لما وصل إلى الحكم رفع سب علي من المنابر، وأرجع فدك إلى آل البيت، وأمر بتدوين سنة النبي ، وأول من كتب فيها الزهري من قِبَل عمر بن عبد العزيز، وقبلها كان تدوين الحديث ممنوعًا، بدعوى «حسبنا كتاب الله»! أي أن حديث النبي حديث بشري قابل للخطأ والصواب.

إذن تيار التشكيك والفصل بين الجانب الشخصي للنبي والجانب الإلهي خلق أرضية واسعة في نفوس المسلمين، بحيث دخلت النصوص التي وردت عن النبي في حق أهل البيت - ”علي مني بمنزلة هارون من موسى“، ”علي أقضاكم، علي أعلمكم“، ”من كنت مولاه فهذا علي مولاه“، ”الحسن والحسين إمامان“ - في الجانب الشخصي، وبعبارة أخرى: هؤلاء أهله فماذا سيقول عنهم بما هو بشر؟! هذه النصوص كلها صوّرت وأطّرت بهذا الإطار: أنها صدرت من النبي بدافع المحبة وبدافع الشفقة على أهل بيته، وإلا فليس أهل البيت أولى الناس ولا أفضلهم ولا أحقهم، فهذه النصوص مؤطرة بالإطار الشخصي لا بالإطار الإلهي.

هذا التيار التشكيكي سدَّ الباب أمام أي إمام للاحتاج بالنص، ولو أن الإمام عليًا احتج بالنص لقالوا له: ماذا ينفعك هذا النص؟! هذا النص صدر من النبي لأنك ابن عمك وزوج ابنته، فأراد أن يكون لك مقام بين الناس، ولذلك قال لك هذا النص! الاحتجاج بالنص من قِبَل علي أو الحسن أو الحسين كان أمامه تيار تشكيك وخط فصل بين الجانب الشخصي والجانب الإلهي، فالاحتجاج بالنص ما كان مجديًا في تلك الفترة، ومن هنا الإمام الحسين اتجه للاحتجاج بأمر آخر.

معنى الاحتجاج بسيادة أهل الجنة:

الحسين قال بأنه سيد شباب أهل الجنة، وهذه كلمة كبيرة وعظيمة جدًا. أهل الجنة يشمل - كما يقول علماؤنا - من كان أهلاً لها بالأصالة، وهم الملائكة، ومن كان أهلاً لها بالعرض، وهم البشر الذين دخلوها، وأهل الجنة بالعرض يشمل أهل الجنة بالاستحقاق وأهل الجنة بالتفضل، وأهل الجنة بالاستحقاق يشمل الأنبياء والمرسلين والمقرّبين والمؤمنين والأولياء والصالحين، فعندما يقال: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فهما سيدان على الملائكة، وعلى الرسل، وعلى الأنبياء، وعلى الأولياء، وعلى الصالحين؛ لأن كل هؤلاء يدخلون تحت أهل الجنة. ولكن ما معنى السيادة؟

القرآن الكريم يقول في حق يحيى بن زكريا: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا، أي أن يحيى كان سيدًا، وهنا أتى المفسرون وتحدثوا عن كلمة السيد، فقالوا بأن السيد هو من كان له مقام السيادة على سواد الناس وعلى عوامهم، أي: من له مقام الإمرة والريادة وتولي أمور سواد الناس وعوامهم يقال له سيد. إذن إذا كان السيد هو من له مقام الولاية فإذا قيل بأن الحسين سيد شباب أهل الجنة، فهذا يعني أن الحسين له الولاية على الجنة، فيدخل فيها من يشاء ويبعد عنها من يشاء، وذلك لأن السيادة والولاية في الجنة للحسن والحسين، فيشفعون لمن ارتضى الله دينه، ويبعدون من لم يرتض الله دينه.

إذن هذا التعبير ”سيد شباب أهل الجنة“ إشارة إلى مقام الشفاعة، فكما أن الله أعطى النبي مقام الشفاعة ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، وقال : ”ادخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي“، كذلك أعطى الشفاعة لأهل بيته، فالحسن والحسين لهما الشفاعة والسيادة والولاية، فيدخلون إلى الجنة من ارتضوا دينه، ويبعدون عنها من لم يرتضوا دينه، فالحسين يقول لهؤلاء: أيها الأعداء المقاتلون، الجنة بيدي أنا، فإنني سيدها، ولي الولاية فيها، وأنا الشافع المشفّع فيها، فكيف تقاتلون شخصًا لا تدخلون الجنة بدون إذنه وشفاعته ورضاه؟!

وهناك استفهامات كثيرة موجودة في الخطبة، ولكن الوقت لا يسع، ولذلك أتعرض إليها في ليلة أخرى إن شاء الله. وقد أكّد الحسين على موقفه، حيث قال: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة“ أي: بين القتال والبيعة، ”وهيهات منا الذلة“ أي: هيهات منا البيعة! البيعة ليست إذلالاً للحسين، بل هي إذلالٌ للدين. إذا كان إمام الأمة وقائدها وواجهتها - وهو الحسين بن علي - يبايع رجلاً فاسقًا شارب الخمر قاتل النفس المحترمة متجاهرًا بالمعاصي والفسوق فهذا إذلالٌ للأمة، وليس إذلالاً لشخص الحسين، وهو إذلال للدين وليس إذلالاً لشخص الحسين فقط، ولذلك عقّب الحسين فقال: ”يأبى الله“ أي أن هذا أمر مرفوض شرعًا، ”يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“.