الدرس 60

حقيقة العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

الأمر الثالث: هناك فرق بين الاعتبارات المتأصلة والاعتبارات التنزيلية المعبر عنها بالاعتبارات الادبية.

الاعتبارات المتأصلة هي: الاعتبار الذي يتطابق فيه المراد الجدي مع الاستعمالي، كما في اعتبار البيع، فإن اعتبار المبادلة بين المالين المسماة بالبيع اعتبار متأصل، لتطابق مقام الانشاء مع مقام الفعلية.

واما الاعتبار التنزيلي أو الاعتبار الادبي فهو: ما لم يتطابق فيه المراد الاستعمالي مع الجدي، كما لو قال: «الطواف في البيت صلاة». أو: «لا ربا بين الوالد وولده»، فإن الطواف يختلف حقيقة عن الصلاة، لذلك فهذا الخطاب مجرد تنزيل ومجرد اعتبار مصداق للصلاة وهو الطواف، وإلّا فالمراد الجدي من هذا الخطاب وهو قوله: «الطواف في البيت صلاة» ليس هو بيان أن الطواف مصداق حقيقي للصلاة، وإنما المراد الجدي مجرد ترتيب أثر من آثار الصلاة على الطواف، ولأجل الفرق بين الاعتبارات العقلائية حيث إنّ بعضها متأصلة وبعضها تنزيلية قد تترتب آثار عقلائية على الاعتبارات المتأصلة دون التنزيلية.

بيان ذلك: ذكر الأعلام في بحث الربا: أنّه قد يتخلص من محذور الربا بتغيير المعاملة، فبدل أن تكون المعاملة اقرضك «100 ب 110» فتكون قرضاً ربوياً، تبدّل المعاملة إلى أبيعك «100 نقداً ب110» نسّية لمدة شهر، أو بدلاً أن يقول: اقرضتك مليوناً بشرط أن تؤجرني دارك، يقول صاحب الدار: أجرتك الدار بشرط أن تقرضني مليوناً. فبدل أن يكون قرضاً بشرط الإجارة فيكون شرطاً جر نفعا، يبدله إلى إجارة بشرط القرض واعترض مثل السيد الإمام بنفس النكتة التي جرى عليها السيد الصدر في الأصول وهي أنّه لا فرق في المحذور بين صياغة وصياغة فهذا مجرد تغيير في الصياغة وهو لا يرفع ورود المحذور. والسر في ذلك:

إذا كان اقراض «100 ب110» ظلماً، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، حيث إنّ ظاهر الآية أن المحذور الوارد في الربا انه ظلم فإذا كان المحذور هو الظلم فأي فرق في الظلم بين ان يقول اقرضتك «100 ب110» أو بعتك «100 نقداً ب110» نسية.

بالنتيجة: ملك الزيادة دون مقابل، فإذا كان امتلاك الزيادة دون مقابل ظلماً، ولأجل ذلك: حرم القرض الربوي. فهذا المحذور وارد في البيع أو في تبديل القرض بإجارة بشرط القرض. فالنكتة التي انطلق منها السيد الصدر في الأصول من أنّ اختلاف الصياغات بين قاعدة الفراغ، وأصالة البراءة، لا يرفع أصل المحذور وهو: أن العلم يقتضي الموافقة القطعية. كذلك انطلق منها السيد الإمام من أنّ اختلاف الصياغات لا يرفع ورود المحذور وهو محذور الظلم.

ولكن ذكرنا في محله في فقه المعاملات:

أولاً: هناك فرق بين الاعتبارات المتأصلة أو لاعتبارات الأدبية، فالاعتبارات المتأصلة متغايرة تغايراً جوهرياً لا أن المغايرة بينها صياغية وعلى مستوى عالم الإنشاء والإثبات فالمبادلة بين المالين التي هي حقيقية البيع تختلف عن التمليك على نحو الضمان الذي هو القرض، فالتمليك على نحو الضمان ليس هو مبادلة، وإنّما هو عبارة عن إدخال مال في ذمة المكلّف بحيث تشتغل به، كما لو استأجر شخص شخصاً فادخل العمل في ذمته فصار مديناً القرض كذلك، لا أنّ هناك مبادلة بين المالين مضافاً إلى أنّ المشهور يعتبر في البيع المالية بحيث لا يكون بيعاً لا أنّه لا يصح - أي لا يكون بيعا ما لم يكن بين مالين - بخلاف القرض فإنّه لا يعتبر فيه اشغال الذمة بالمال فالمغايرة بين الاعتبارين اعتبار المبادلة بين المالين المسمى بالبيع وتمليك الشيء على نحو الضمان الذي هو اشغال الذمة بالمال فرق جوهري بينهما، ولذلك بينهما آثار مختلفة.

لأجل ذلك: لا معنى للإشكال على تبديل القرض بالبيع أو بالعكس إنه تبديل صياغة، وإنّما هو معاملة أخرى حلت محل المعاملة الأولى.

ثانيا: إذا كان المحذور هو الظلم، فلابّد من تحليل موقع الظلم هل الظلم في الإلزام بالزيادة أو أنّ الظلم في اشتراط الزيادة؟، ما يراه الشارع ظلماً هو اشتراط الزيادة أو ما يراه ظلماً هو الإلزام بالزيادة إذا كان الظلم في اشتراط الزيادة فهذا ليس موجوداً في البيع لأنّ الزيادة جزء من الثمن لا شرطاً نعم لو كان الظلم عبارة عن الإلزام بما يزيد عن القيمة السوقي سواء كان هذا الإلزام بالشرط أو بالبيع، نعم هذا الظلم موجود هنا وهنا، إلّا أنّ السيد «قده» التزم بصحة بيع العينة مع أنّه مشتملة على تبديل صياغة بصياغة وطريقة بطريقة أخرى.

فعلى أي حال، منظور السيد الشهيد عندما يقول: إنّ اختلاف الصياغة لا أثر له في رفع المحذور منظوره الاعتبارات الأدبية التنزيلية لا الاعتبارات العقلائية المتغايرة تغايراً جوهرياً بنظر المرتكز العقلائي.

الامر الرابع: إنّ السيد لا يتحدث عن أنّ اخلاف الصياغة الأدبية لا أثر له وإنّما ينفي تأثيره في حكم العقل العملي الكائن في رتبة معلولات الأحكام لا أنّه يدعي ان الصياغات الاعتبارية لا أثر لها اطلاقا بل لها آثار شرعية إمّا أن يكون اختلاف الصياغة ذا أثر في رفع حكم العقل العلمي فلا.

بيان ذلك: إذا قلنا بأن خبر الثقة علمٌ، كما ذهب اليه الميرزا النائيني، حيث ذهب إلى أنّ معنى الحجية في الأمارات هو عبارة عن جعل العلمية والبيانية، وليس مجرد جعل المنجزية والمعذرية كما ذهب إليه صاحب الكفاية، فهل لهذه الصياغة أثر شرعي أم لا؟.

نقول: نعم، لها أثر شرعي، وهي: قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ في لسان الأدلة مثلاً، إذا قال الشارع: وقاض قضى بالحق وهو يعلم إنّه الحق فهو في الجنة، فقد أخذ في نفوذ قضائه علمه بأن هذا الطريق حق، فالشارع أخذ العلم في الموضوع فبما أنّ العلم هنا موضوعي شرعاً فإذا اعتبار الشارع البينة علماً أو اعتبار اليمين علماً أو اعتبار الإقرار علماً فإنّه يقوم مقام القطع الموضوعي لا أن هذا الاعتبار الادبي لا أثر له، والا لكان وجوده لغوا. كما أن السيد الشهيد نفسه رتّب بعض الآثار على الاعتبارات الأدبية، مثلاً: إذا شك المكلّف في الصلاة الرباعية أنّه أتى بركعة أو اثنان، فتارة يكون شكه قبل الدخول في التشهد، كما لو شك في السجدة الثانية أنّه أتى بركعة أو الثانية، فهنا صلاته باطلة باعتبار ما ورد في الصحيح من شك في الاوليين اعاد.

أما لو شك في ذلك بعد دخوله في التشهد: فقد أفاد في تعليقته على المنهاج: أنه تجري في حق هذا المكلّف قاعدة التجاوز. والسر في ذلك: أنّه خرج من المحل الشرعي للركعتين إلى التشهد، حيث إنّ التشهد محل ما بعد الركعتين من الصلاة الرباعية، فهو قد تجاوز المحل الشرعي وبما أنّه تجاوز المحل الشرعي، فيمكنه البناء على الإتيان بركعتين بقاعدة التجاوز. والسر في ذلك: إنّ لسان قاعدة التجاوز لسان التعبد بالوجود لأنّه قال: فيها بلى قد ركعت... فإنّ ظاهر هذا اللسان التعبد بالوجود - أي وجود المشكوك - فمقتضى ذلك: إثبات الإتيان بركعتين بدخوله في التشهد وتجاوزه محل الركعتين. إذاً: فالسيّد الصدر رتّب على اللسان والصياغة الاعتبارية أثراً شرعياً لا أنّه لا يرى لها أي أثر.

إنّما مدّعاه في المقام: أنّ هناك حكماً للعقل العملي في مرتبة معلولات الأحكام وهو أنّ العلم الاجمالي سبب للموافقة القطعية كالتفصيلي، فإذا حكم العقل العملي بأنّ العلم الإجمالي سبب الموافقة القطعية فهذا الحكم العقلي تابع لملاك، وهو: أنّ حق الطاعة للمولى أنّ المكلّف متى علم بالحكم فالاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فإذا جاء الشارع وقال يكفي الموافقة الاحتمالية كان هذا مصادماً لحكم العقلي العلمي سواء عبّر الشارع عن هذا الحكم بالبراءة بأن قال تجري البراءة في أحد الطرفين أو قال الشارع بجعل البدل فلو أن المكلف بعد الصلاة شك في صحتها، هل أنّه أتى بالركوع أم لا؟، فلو قال الشارع: اجرِ البراءة، أو قال: «هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك»، هذا اختلاف في اللسان والصياغة، والنتيجة واحدة، وهي: أنّ الشارع اكتفى بالموافقة الاحتمالية في مورد حكم فيه العقلي العلمي بلزوم الموافقة القطعية. فالذي يقوله «قده»: إمّا أن تقولوا أنّ العلم تفصيلياً أو إجمالي ليس سوى مقتضٍ للموافقة القطعية ما لم يتدخل الشارع فيكتفي بالموافقة الاحتمالية، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون الاكتفاء بإجراء البراءة أو تنزيل الموجود منزلة الامتثال اليقيني، أو تقولوا: أنّ العلم علة تامّة للزوم الموافقة القطعية من دون فرق بين التفصيلي والاجمالي. فإذاً: لا محالة اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية مصادم لما يحكم به العقل العملي، سواء كان الاكتفاء بصيغة البراءة أو قاعدة الفراغ أو التجاوز فهذا لب مرامه.

ولكن يظهر من بعض كلمات السيد الاستاذ: أنّه يرى أنّ لاختلاف الصياغة الاعتبارية أثراً حتّى في تضييق أو توسعة حكم العقل العملي. وبيان مطلبه «دام ظله» بذكر أمور ثلاثة:

الأمر الأول: أنّه لا يعتبر في ملاكات الأحكام الشرعية أن تكون من سنخ الأمور الواقعية النفس أمرية كالمصالح والمفاسد الخارجية بل يمكن ان يكون ملاك الحكم الشرعي أمراً اعتبارياً فالشارع لما يحرم نقض قضاء الفقيه «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منها فإنّما بحكمنا استخف وعلينا رد»، فتحريم الشارع نقض حكم الفقيه لملاك اعتباري، وهو: التحفظ على هيبة هذا الموقع في نفوس المسلمين، لكي يكون له تأثيره لا لمصلحة خارجية أو مفسدة كذلك فملاك الحكم الشرعي لا ينحصر بأن يكون مفسدة خارجياً. أو مصلحة بل قد يكون أمراً اعتبارياً.

وعليه: الاعتبارات الأدبية التنزيلية قد تكون دخيلة في ملاك الحكم الشرعي، وقد بنى «دام ظله» أنّ التأثير الإحساسي الذي يذكره علماء النفس لا يبعد دخله في ملاكات الأحكام الشرعية، مثلاً: عندما يبني الشارع على حجية الاستصحاب وإماريته، فلعلّه لأنّ للاستصحاب جهة كشف إحساسي، بلحاظ أنّ من عاش حالة أو استقر عليها يشعر بأنّه ما زال باقياً فيها حتّى لو مضت الحالة. فقول الشارع: ابق ما كان على ما كان ليس محض تعبد بمرجعية اليقين السابق، وإنّما بلحاظ أنّ لليقين بالحالة السابقة كشفاً شعورياً واحساسياً بأنّ الانسان ما زال باقياً على ما كان عليه، كما إنّه في قاعدة الفراغ والتجاوز ليس معناه أنّ الشارع اكتفى بالموافقة الاحتمالية، وإنّما لأنّ هناك تأثيراً احساسياً لمزاولة العمل فمن يزاول عملا عن التفات ارتكازي فهو اضبط في القيام بعمله مما لو شكّ فيه، وهذا ما عبرت عنه صحيحة بن مسلم هو «حين يتوضأ اذكر منه حين يشك»، فإن فيها كشفاً احساسياً لمزاولة العمل، فلعلّ الشارع لأجل هذه الحيثية في مزاولة العمل عن التفات ارتكازي ضابطي للعمل وتحفظاً عليه لعلّ لهذه الحيثية اعتبر الشارع قاعدة الفراغ والتجاوز لا لأنه مجرد تعبد شرعي بالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية.

وعليه: فدعوى انحصار ملاكات الأحكام في القضايا نفس أمرية أو خارجية بلا مبرر فقد يكون الدخيل في ملاك الجعل وجود تأثير احساسي لاعتبار من الاعتبارات، فإذا كان لهذا الاعتبار تأثير احساسي لهذا المكلف فيقوم الشارع بجعل ما يوافق هذا الاعتبار لدخله في ملاك الحكم الشرعي لا أنّه تفنن في الصياغة من قبل الشارع وتعبيرات أدبية. والحمدُ لله ربِّ العالمين