الدرس 61

حقيقة العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

الأمر الثاني: أنّ المحقق الاصفهاني ذكر: أنّه لا يكفي في التوفيق بين الحكمين التلائم من حيث الملاك والمبدأ، بل لابد من رفع التنافي بينهما من حيث المنتهى وعالم المحركية والامتثال. فمثلاً:

لو أنّ المولى قال في خطاب: يحرم إهانة المؤمن ولو كان فاسقاً، وقال في خطاب آخر: يجب إهانة فاعل المنكر ولو كان مؤمناً. فإنّ الخطابين وإن لم يتنافيا بلحاظ الملاك، ولكن قد يقع بينهما التنافي بلحاظ مرحلة المنتهى، أي: إمكان امتثال كلا الحكمين في المؤمن الفاعل للمنكر. ولكن لو أنّ المولى غيّر الصياغة الاعتبارية للخطاب الثاني بما يتلائم مع الأول، فقال: يحرم إهانة المؤمن ولو كان فاسقا، ً وفاعل المنكر ليس بمؤمن، فإنّ تغيير الصياغة لا إشكال في أنّه يدفع التنافي والتدافع بين الحكمين في مرحلة المحركية مما يعني أنّ الصياغات الاعتبارية التي لها دخل في مقام المحركية أو مقام التأثر الشعوري والاحساسي للمكلف مما لا بد من مراعاتها في مقام الجعل والتقنين، لا أنّ هذه الصياغات فاقدة للأثر والموضوعية كما أفيد.

الامر الثالث: في مسألة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري. كما لو فرضنا أنّ الواقعي وجوب صلاة الجمعة، ولكنَّ المكلّف لم يعلم بذلك وقام لديه خبر ثقة على عدم وجوب صلاة الجمعة، فتارة يكون الحكم الظاهري: بصياغة لا يجب عليك الجمعة. أو: يجوز لك ترك الجمعة. فيقال حينئذٍ: بوقوع التنافي بين الحكم الواقعي وهو وجوب الجمعة والحكم الظاهري، وهو عدم وجوب الجمعة، أو الترخيص في ترك الجمعة، أمّا لو كان الحكم الظاهري بصياغة أخرى، كما لو قال المولى: خبر الثقة علم بالواقع ولم يقل لا يجب الجمعة، مع أنّ مدلول خبر الثقة هو عدم وجوب الجمعة، ولكن ما جعله المولى في مرحلة الظاهر ليس هو عدم وجوب الجمعة ليتنافى مع وجوب الجمعة واقعاً، وإنّما ما جعله هو أنّ خبر الثقة علم، وخبر الثقة بيان، فيقال حينئذٍ: يرتفع التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري؛ وذلك: لأنّ الحكم الظاهري لم يجعل بصياغة تتصادم مع الحكم الواقعي، وإنّما جعل بصياغة تزول فيها المقابلة والمواجهة بين الحكمين، وكأنّ الحكم الظاهري من متممات وتوابع الواقعي مما يؤكد أنّ الصياغة الاعتبارية مؤثرة حتّى في مقام رفع التنافي بين الواقع والظاهر لا أنّ الصياغة الاعتبارية لا أثر لها.

فتلّخص من الموارد الثالث: أنّ دعوى السيد الشهيد «قده»: من أنّ الصياغة الاعتبارية لا أثر لها غير تامّة بلحاظ أنّ المؤثرات الشعورية والاحساسية التي تعبر عنها هذه الصياغة الاعتبارية قد يكون لها أثر في عالم الملاك، وقد يكون لها أثر في دفع التنافي بين الحكمين الواصلين وقد يكون لها أثر في الجمع بين الواقع والظاهر. هذا ما أفيد.

ولكن مما سبق بيانه وتوضيحه لمسلك السيد الشهيد «قده» يتضح الجواب عن هذه الموارد: فإنّ كلام السيد الشهيد أجنبي عما ذكر، لأنّ السيد الشهيد لا يدّعي أنّ المؤثرات النفسية والشعورية لا أثر لها في عالم الملاك أو عالم الجمع العرفي بين الخطابين الواصلين، وإنّما محل كلامه ومرامه في أنّ اختلاف الصياغة الاعتبارية هل له أثر على حكم العقل العملي في مرحلة الإطاعة والمعصية أم لا؟!، فكل كلامه مرتكز في هذا الجانب. فالسيّد الصدر يقول: بما أنّ حكم العقل العملي ذو ملاك فإمّا ملاكه قائم أو لا؟. فإنّ كان ملاكه قائماً فتغيير الصياغات الاعتبارية لا أثر له وإن لم يكن ملاكه قائماً ارتفع بارتفاع ملاكه لا لاختلاف الصياغات الاعتبارية.

وبيان ذلك: في المقام إذا عَلِمَ المكلف إجمالاً بحكم إلزامي مثلاً، أو علم تفصيلاً بذلك الحكم الإلزامي، فالعقل يحكم بأنّ العلم بالحكم موجب للموافقة القطعية، فإنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني. والكلام في أنّه هل العلم بالحكم سبب تام للموافقة القطعية الوجدانية أم لا؟.

فإن كان العلم بالحكم بنظر العقل سببا تاماً للموافقة القطعية الوجدانية، فلا يعقل الترخيص سواء كان بصياغة الترخيص المحض أم جعل البدل والتعبد في مقام الامتثال؟، فإنّ اختلاف الصياغة الإعتبارية لا يرفع موضوع حكم العقل وهو أنّ العلم الاجمالي أو التفصيلي بالحكم سبب تامّ للموافقة وإن لم يكن العلم سبباً تامّاً، فحينئذٍ: لا مانع من الترخيص سواء كان بصياغة التعبد بالامتثال أم كان بصياغة الترخيص المحض؟، فلا فرق في الصياغة في هذه المسالة العقلية.

وبعبارة أخرى: أنّ المحقق العراقي والنائيني يقولان: بأنّ العلم الإجمالي، أو التفصيلي سبب تامّ للموافقة القطعية، ولكن الأعم من الموافقة الوجدانية أو التعبديّة في مقابل من يقول العلم الاجمالي سبب للموافقة القطعية، ما لم يتدخل الشارع فسببيته للموافقة القطعية معلقة على عدم تدخل الشارع، فإذا تدخل الشارع انتفت سببيته للموافقة القطعية.

السيد الشهيد في مقابل هذا يقول: هذا اختلاف في الصياغة، فلا فرق بين أن تقول: العلم الاجمالي سبب للموافقة القطعية إلا إذا تدخل الشارع، فسببيته معلقة على عدم تدخل الشارع هذه صياغة؛ وبين أن تقول: أنّ العلم الإجمالي أو التفصيلي سبب تام للموافقة القطعية الاعم من الوجدانية أو التعبدية. فهذا مجرد اختلاف في الصياغة لا أنّ هناك فرقاً جوهرياً بين المطلبين كي يقال الصياغة الثانية: تعني علّية العلم الاجمالي. وفي الصياغة الأولى: أنّ العلم الاجمالي مقتض.

فجوهر المطلب هو: هل العلم بالحكم يمنع من الترخيص أم لا؟، فإنّ قلتم العلم بالحكم يمنع من الترخص فهذا هو العلّية التامّة ولا يعقل الترخيص بأي صياغة، وإن قلتم بأن العلم الاجمالي لا يمنع من الترخيص إذا صح الترخيص بأي صياغة.

أمّا أن نقول في مقام من يقول: أن العلم الاجمالي سبب في الموافقة ما لم يتدخل الشارع، فنقول في مقابله: بالموافقة الأعم من الوجدانية والتعبدية، فهذا مجرد تغيير في الصياغة الاعتبارية ولا أثر له في حكم العقل بمانعية العلم من التدخل أم لا؟. فلأجل ذلك: إشكال السيد الشهيد متين.

والمتخلص مما ذكرناه:

أولاً: أنّ العلم بالحكم تفصيلياً أو إجمالياً، مجرد مقتض للموافقة القطعية، فلا مانعية فيه من تدخل الشارع. والوجه في ذلك: ما ذكرناه سابقاً من أنّ حكم العقل بالمنجزية ولزوم الجري تعليقي، لأنّ ملاكه أما دفع الضرر المحتمل، أو حق الطاعة، وعلى كلا الملاكين فإنّ موضوعه يرتفع بتدخل الشارع، إذ متى تدخل الشارع ورخّص انتفى احتمال الضرر، أو متى تدخل الشارع ورخص انتفى حقه في الطاعة، فإنّ صاحب الحق نفسه قد رفع يده عن حقه، فبلحاظ أنّ حكم العقل بالعلمي بالمنجزية ولزوم الجري تعليقي نقول بالاقتضاء.

ثانياً: لو أغمضنا النظر عن هذا المدّعى، فإنّ التفنن في الترخيص: تارة بصياغة الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وجريان البراءة، وتارة بالتعبد بالامتثال وجعل البدل من باب قاعدة الفراغ أو التجاوز. فإنّ هذا الاختلاف في الصياغة الاعتبارية لا أثر له في حكم العقل بمانعية العلم من الترخيص أو عدم مانعيته.

ثالثاً: لو سلّمنا بأنّ هذه الصياغات الاعتبارية لها أثر، وأنّ العلم الاجمالي والتفصيلي علّة لوجوب الموافقة القطعية بمعنى عدم الترخيص المحض على خلافه، وليس علّة للموافقة القطعية بمعنى جواز الترخص بنحو جعل البدل لو سلمنا بذلك، فإنّ التفريق بين مقام المنجزية والامتثال بدعوى أنّ العلم بالحكم تفصيليا كان أو إجماليا بلحاظ مقام المنجزية علّة تامّة، وبلحاظ مقام الامتثال مجرد مقتضي، فإنّ هذا التفريق لا وجه له، حيث إنّ مقام المنجزية بنظر العقل مجرد استطراق لمقام الامتثال ولا يرى العقل له موضوعية مقابل مقام الامتثال، ولذلك لا معنى لمنجزية العلم بالحكم إلّا لابدية الامتثال والموافقة القطعية، فلا وجه للتفريق بين مقام المنجزية والامتثال.

هذا تمام الكلام في الاشكال الاول من قبل القائلين بالاقتضاء على القائلين بالعلية وهو كما ترى اشكال محكم.

الإشكال الثاني على التفريق بين الترخيص المحض وبين التعبد بالامتثال: ومحصله: أنّ التفريق بين مقام المنجزية ومقام الامتثال بدعوى أن الترخيص في مقام المنجزية غير معقول، وأمّا الترخيص في مقام الامتثال، أي: بالتصرف في عالم الامتثال بجعل الامتثال الناقص قائماً مقام الكامل هذا غير معقول. وهناك عبارة مشهورة في بعض الكلمات: لا يعقل التصرف في مقام الامتثال؛ فما هو المقصود بهذه العبارة التي كررها السيد الاستاذ «دام ظله» في بحث الاجزاء أو في بحث قاعدة لا تنقض السنة الفريضة؟ من إنه لا يعقل التصرف في مقام الامتثال؟.

بيان ذلك: لا يعقل التصرف في مقام الامتثال لا بلحاظ عالم الملاك ولا بلحاظ عالم الفعلية ولا بلحاظ عالم التنجز.

أمّا بلحاظ عالم الملاك: فإذا افترضنا أنّ المولى أمر بالصلاة التامة الجامعة للشرائط والأجزاء، ولكنَّ المكلّف أتى بصلاة خالية عن القراءة والاطمئنان سهواً، أو عن جهل قصوري، فيقال: مقتضى «لا تعاد» صحّة صلاته واقعاً لا ظاهراً - أي أنّ صلاته مجزية واقعاً - وهذا من التصرف في عالم الامتثال، حيث اكتفى المشرّع بالامتثال الناقص بدلاً من الكامل، فيقال: إنّ الصلاة الناقصة إمّا وافية بتمام الملاك، أو: محققة لغرض ملزم للمولى لا يقل أهمية عن ملاك الصلاة، أو إنّها مانعة من استيفاء الملاك بعد حصولها، أو إنّها لا أثر لها.

فإن قلتم: بأنّ الصلاة الناقصة وافية بالملاك الملزم. فمقتضى ذلك: أن يكون المأمور به الجامع بين الصلاة التامّة والناقصة من أول الأمر لا أن يأمر بالتامة ثم يكتفي بالناقصة إذ ما دامت وافية بالملاك الملزم فمقتضى تبعية الجعل بالملاك: أن يكون المأمور به من أول الأمر الجامع بين التامة والناقصة حال العذر.

وأن كانت الصلاة الناقصة ليست محققة للملاك الملزم، ولكن من جهة أخرى محققة لغرض من اغراض المولى: كما لو فرضنا أنّ المولى له غرض التسهيل، فهو يريد أن يسهّل على عبيده بحيث من أتى منهم بامتثال ناقص وإن لم يكن وافياً بالملاك الملزم لكن لأجل التسهيل عليهم يكتفي منهم بهذا الامتثال، فلا محالة الامتثال الناقص محقق لغرض للمولى وهو التسهيل، فما دام محققاً له فمقتضى ذلك: أن يكون المأمور به هو الجامع وأنّ المكلف مخير بين الصلاة التامّة في حالة الاختيار والالتفات، أو الناقصة في حالة العذر كالسهو أو الجهل القصوري أو الاضطرار.

وأمّا أن لا تكون الصلاة الناقصة لا وافية للملاك الملزم ولا محققة لغرض المولى؛ ولكن كما قال في الكفاية: متى أتى بالناقصة امتنع عليه استيفاء الملاك الملزم في الصلاة التامّة، فالصلاة الناقصة مانع من الاستيفاء، لا محقق لملاك وغرض، ومقتضى ذلك: أن تكون الصلاة الناقصة حدّاً من حدود الجعل، بأن يقول المولى: أنت مأمور بالتامّة إن لم تأت بالناقصة. مقتضى تبعية الجعل للملاك: أن يكون الإتيان بالناقصة حدّاً للجعل نفسه، فتجب الصلاة التامّة إن لم تأت بالناقصة.

فلا محالة على جميع الوجوه: لا يعقل التصرف في عالم الامتثال، بل لابّد من التصرف في عالم الجعل، بأن يكون المجعول إمّا الجامع، أو أن يكون المجعول الصلاة التامّة إن لم تأت بالناقصة، لا أنّ المولى يطلب الصلاة التامّة من دون أي تغير في مقام الجعل، ومع ذلك يكتفي بالصلاة الناقصة مع أثرها في عالم الملاك. هذا بلحاظ عالم الملاك.

وأمّا بلحاظ عالم الفعلية: فيقال: بعد أن أصدر المولى أمراً بالصلاة التامّة وصار هذا الأمر فعلياً لفعلية موضوعه وهو وجود البالغ العاقل الملتفت للأمر بتمام خصوصياته أتى المكلف بصلاة ناقصة، حيث سهى فلم يأت بالسورة إلى أن ركع، فيقال: تصرف المولى بالاجتزاء بهذه الصلاة الناقصة، أمّا مع التحفظ على المأمور به أو مع رفع يده عن المأمور به، فإن كان المولى لم يرفع يده عن المأمور به - أي أنّ المأمور به ما زال هو الصلاة التامة - إذاً فما وقع منه ليس امتثالا أصلاً، فالتصرف في عالم الامتثال تهافت، لأنّه من جهة لم يرفع يده عن المأمور به وهو الصلاة التامّة، ومن جهة أخرى يقول: ما أتى به المكلف فهو امتثال، فإنّ الامتثال مطابقة المأتي به للمأمور به، وأمّا أنّ المولى يرفع يده عن المأمور به، فيقول المأمور به في حق المعذور غير المأمور به في حق المختار، فالمامور به في حق المعذور الصلاة لا بشرط من حيث السورة، إذا لم يصبح تصرفاً في عالم الامتثال، بل في عالم الجعل، فلا يعقل الجمع بين التحفظ على أنّ المأمور به الفعلي في حق المكلف هو الصلاة التامّة، وبين التصرف في عالم الامتثال، لذلك قال الاعلام: عالم الامتثال بيد العقل لا بيد الشرع، لأنّ الامتثال: مطابقة المأتي به للمأمور به.

والحمدُ لله ربِّ العالمين