الدرس 63

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تبين مما ذكرناه سابقاً: ان المسلك المختار وفاقاً للسيد الشهيد وصاحب الكفاية ان العلم سواء كان تفصيليا او اجماليا منجز على سبيل الاقتضاء، لحرمة المخالفة القطعية فضلا عن وجوب الموافقة القطعية، وذلك لان ما افيد في ان العلم علة تامة لحرمة المخالفة القطعية مدفوع فقد استند لوجوه ثلاثة:

الوجه الاول: ما في كلمات سيدنا من ان الترخيص في الحكم المقطوع به ترخيص في المعصية وهو قبيح، فلا يعقل ورود الترخيص على نفس الحكم المقطوع به. ويجاب عن ذلك: ان هناك فرقاً بين طريقية القطع وحجيته؛ فالذي يعبر عنه بانه ذاتي هو الطريقية، لا الحجية فالطريقية: عبارة عن انكشاف متعلق الحكم بالقطع بنظر القاطع وهذا ذاتي للقطع، واما الحجية: فهي عبارة عن حكم العقل بلزوم الجري وراء القطع اذا تعلق القطع بحكم الزاميّ، وهذا ليس من ذاتيات القطع، لان حكم العقل بلزوم الجري وراء الحكم المقطوع به اذا كان الزاميا يرجع لا محالة اما لملاك دفع الضرر او لملاك حق الطاعة، لا ان هذا الحكم العقل من لوازم القطع بما هو قطع بل لان حكم المولى الذي له حق الطاعة وصل للمكلف فيحكم العقل بلزوم الجري على وفقه رعاية لحق الطاعة او لان منشأ احتمال الضرر اصبح عقلائيا، فمقتضى حكم العقل او الفطرة بدفع الضرر المحتمل وفق المقطوع به وحيث ان حكم العقل بلزوم الجري وراء المقطوع به لا لموضوعية في القطع بل لان عدم الجري ظلم للمولى وخروج عن العبودية اذا لا محالة يكون حكم العقل معلقا على عدم ورود الترخيص من قبل صاحب الحق فلو ان المولى اصدر ترخيصا لم يكن الجري على وفق المقطوع به ظلما.

الوجه الثاني: ان يقال ان الترخيص فيما قطع به تفصيلا او اجمالا نقض للغرض وهو قبيح، وذلك لان الغرض من جعل الحكم باعثيته على فرض الوصول فمتى وصل كان باعثاً فاذا رخص المولى في ترك العمل به لم يجتمع ذلك مع باعثيته على فرض الوصول فالترخيص في ترك المقطوع به نقض لغرض الحكم وهو باعثيته على فرض الوصول.

والجواب عن ذلك: ان غرض الجعل تابع لغرض المجعول فهناك غرضان غرض في المجعول وهو عبارة عن الملاك الموجود في متعلقه وغرض في الجعل وهو ما يعبر عنه بالباعثية على فرض الوصول وحدود الباعثية على فرض الوصول بحدود الملاك الكامن في متعلق المجعول. فلأجل ذلك اذا قطع المكلف بحكم، كما لو قطع بوجوب الجمعة، او قطع بموضوع كما لو قطع بنجاسة هذا المائع وحينئذٍ اذا ورد الترخيص من قبل الشارع فقال له لا تعمل بقطعك فانّ الترخيص يكشف لا محالة عن احد وجهين: ان الغرض من الجعل الباعثية على فرض وصول خاص لا على فرض مطلق الوصول وحيث ان هذا الحكم وصل للمكلف مثلاً عن طريق العلم الاجمالي فالترخيص يكشف عن ان الغرض الباعثية على فرض الوصول التفصيلي ولا يكفي الاجمالي. ولو فرضنا ان المكلف قطع تفصيلا بذلك وورد الترخيص عليه وفرضنا ان قطع المكلف جاء عن طريق سبب يرى المكلف كثرة خطأه كما لو قطع المكلف بالحكم عن طريق الرؤيا مما لو رجع المكلف لارتكازه لرأى ان هذه اسباب كثيرة الخطأ وان كان قطع بالحكم استنادا لها فاذا ورد الترخيص وقيل له لا تعمل بما قطعت به عن طريق الوسوسة فان هذا يكشف عن ان الغرض من الجعل الباعثية على فرض الوصول عن السبب المتعارف عند العقلاء لا عن أي سبب ولو لم يكن متعارفا، فلم يحصل بين الترخيص وبين حجية القطع نقض للغرض.

الوجه الثالث: ما اشار اليه المحقق الاصفهاني بانه الترخيص في ترك العمل المقطوع بحكمه خلف الفرض لان الترخيص في ترك العمل المقطوع بحكمه لا يتمّ الا اذا رجع الى قيد في المجعول بمعنى اما ان يكون المجعول من اول الامر هو حرمة شرب النجس ان وصلت عن علم تفصيلي فاخذ العلم التفصيلي في موضوع فعلية الحرمة، فلا فعلية لها ما لم تصل بعلم تفصيلي كما في الجهر والاخفات، حيث ذهب اغلب الاعلام الى ان فعلية وجوب الجهر والاخفات منوطة بالعلم التفصيلي اذا رجع الترخيص لتصرف في المجعول نفسه بتقييده بان ينكشف بعلم تفصيلي. او اذا فرضنا ان المكلف يقطع تفصيلا ومع ذلك ورد الترخيص فان هذا يرجع الى تقييد في المجعول وهو ان حرمة شرب العصير العنبي لا تكون فعليةً الا اذا انكشفت بعلم تفصيلي عن طريق متعارف.

فالترخيص في مورد العلم لابد ان يرجع الى تصرف في المجعول بتقييد فعليته بقيد معين وهذا خلف الفرض لان المفروض ان المكلف في قطعه بالحكم تفصيليا او اجماليا مورد قطعه القطع بحكم فعليّ أي القطع بحكم فعلي في رتبة سابقة من دون ان تناط فعليته بالقطع التفصيلي او بالقطع عن سبب خاص، فاذا كان مورد القطع هو الحكم الفعلي في رتبة سابقة فلا يعقل الترخيص في مورده لان الترخيص في مورده يعني التصرف في المجعول وحينئذٍ هذا خلف ان ما قطع به هو الحكم الفعلي في رتبة سابقة مع غمض النظر عن قطعه. ولكن حصر المحقق البحث في هذا المورد غير تام والسر في ذلك ان المكلف على نحوين:

النحو الاول: ان يقطع بحكم فعلي بمعنى ان يقطع ان هذا الحكم الذي قطع به متعلق لإرادة لزومية، كما لو قطع بوجوب الجمعة وقطع بانّ وجوب الجمعة متعلق لإرادة لزومية للمولى، ففي مثل هذا الفرض قد يقال بتمامية كلام الاصفهاني من الترخيص خلف الفرض اذ المفروض انه قطع بحكم الزامي مورد لإرادة لزومية في حقه بالفعل.

النحو الثاني: اذا قطع المكلف بالحكم فقطع بان صلاة الجمعة واجبة ولكنه يحتمل التفكيك بين القطع بالحكم الجعلي وبين عدم تعلق الإرادة اللزومية في مرحلة الفعلية، كما في باب الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، فان المكلف اذا شك مثلاً في فعلية وجوب الجمعة وقد قامت البراءة عن وجوبها فان المكلف يقطع بانه لو كان الحكم في الواقع هو الوجوب مع ذلك الوجوب ليس فعليا في حقه حتّى لو كان الحكم المجعول واقعا فانه ليس فعليا في حقي اذا التفكيك بين المجعول وبين عدم تعلق الإرادة اللزومية به امر محتمل فاذا احتمل المكلف وقال لعل المولى يرى انه اذا قطعت بالحكم عن طريق غير متعارف فانه لا تتعلق بالمقطوع إرادة لزومية فانا قاطع بالحكم ولكن احتمل ان ما قطعت به لا تتعلق به إرادة لزومية لكونه انكشف عن طريق غير متعارف فاذا قام الاحتمال من قبل المكلف صح الترخيص من قبل الشارع وكشف الترخيص عن ان الغرض من الجعل الناشئ عن حدود الملاك الباعثية على فرض وصول خاص لا على فرض مطلق الوصول، فاذا استبان ذلك علمنا ان منجزية العلم تفصيليا او اجماليا على حدّ سواء وهي ان منجزيته لحرمة المخالفة القطعية على سبيل الاقتضاء فضلا عن منجزيته لوجوب الموافقة القطعية.

وان لم يتم ما ذكرنا مع ذلك نقول: ان المنجزية على سبيل الاقتضاء، لان المنجزية كما عرفنا مرجعها لحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل او لزوم حق الطاعة والمفروض ان حكم العقل في مرتبة معلولات الاحكام تعليقي لا محالة، فاذا كان تعليقيا فتارة يكون القطع بالحكم تفصيليا او اجماليا مقترنا بالشك في جهة اخرى، كالشك في الامتثال مثلاً كما لو قطع بوجوب الظهر الى القبلة وشك في القبلة بين اربع جهات، او كان القطع بالحكم مشوبا بالشك في السبب كما لو قطع بوجوب الجمعة عن طريق الوسوسة فحينئذٍ يقال بما ان القطع مشوب بالشك فالشك موضوع لجعل حكم ظاهري او فقل موضوع لجعل حكم طريقي بداعي تقييد فاعلية الحكم.

اما اذا افترضنا ان القطع لا يشوبه شكّ من كل جهة فهو قاطع بوجوب صلاة الظهر الى القبلة وعارف بها وقاطع بانه لم يمتثل بعد ففي مثل هذا الفرض يقال، صحيح ان الترخيص في محل الكلام ممتنع ولكن امتناعه لا لان حكم العقل بلزوم الجري تنجيزي بل يبقى حكم العقل تعليقي بل لان موضوع الترخيص منتف لان الترخيص الظاهري فرض الشك ولا شك فامتناع الترخيص لانتفاء موضوعه وهو الشك لا لان حكم العقل بلزوم الجري تنجيزي فهذا لا يخرج المسالة عن كونها اقتضائية فان الميزان في العلية التامة ان يكون حكم العقل تنجيزيا مع غمض النظر عن جهة اخرى.

وبعبارة اخرى: ان يرى العقل ان العلم بنفسه مانع من الترخيص واما اذا لم يرى العقل ذلك ولكن لم يرخص المولى لان موضوع الترخيص الطريقي هو الشك وهو منتف او لان تزاحم الحفظي بين الغرضين موضوعه الشك وهو منتف فلذلك لم يرخص..

نعم لو اردنا بالعلية «كما في تعبيرات الشيخ الاستاذ» امتناع الترخيص بالجملة ولو كان امتناع الترخيص لأجل انتفاء الموضوع لا لأجل مانعية العلم صحّ ان يقال في المورد الذي يكون القطع غير مشوب بالشك من جهة فحينئذٍ يكون القطع علة تامة لحرمة المخالفة القطعية كما عبرنا بذلك سابقاً.

والحمدُ لله ربِّ العالمين