نص الشريط
جهاد النفس جـ1
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 8/7/1427 هـ
مرات العرض: 3718
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1751)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من هذه الآية المباركة نتحدث حول محاور ثلاثة:

  • في بيان الفرق عالم الملك وعالم الملكوت.
  • وفي بيان معنى هداية السبل.
  • وفي بيان معنى الجهاد.
المحور الأول: الفرق بين عالم الملك وعالم الملكوت.

القرآن الكريم ذكر عالمين: عالم الملك، في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وعالم الملكوت، وهو قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، الفرق بين عالم الملك وعالم الملكوت: عالم الملك هو عالم المادة، الإنسان في عالم الملك يشغل حيزًا من الفراغ، له طول، له عرض، له عمق، هناك زمن، هناك مكان، وأما عالم الملكوت فهو عالم ما وراء المادة، العالم ما وراء هذا الوجود المادي الذي نحن نعيش فيه.

عالم الملك عالم الحجب، الإنسان ما دام يعيش في إطار المادة فهو مأسور، مأسورٌ للزمان، ومأسورٌ للمكان، ومأسورٌ لهذه الحدود التي يعيشها، لا يمكن للإنسان أن يكتشف ما وراء الساعة التي هو فيها، فإن الزمن يأسره، ولا يمكن للإنسان أن يكتشف ما وراء المكان الذي هو فيه؛ لأن المكان يأسره، فالزمان والمكان قيدان آسران للإنسان، فالإنسان رهين ما بين الزمن والمكان، رهين عالم الملك.

أما عالم الملكوت فهو عالم التحرر، عالم انكشاف الأنوار الإلهية، قوله «تبارك وتعالى»: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، هذا النور لا يمكن أن يكتشفه الإنسان بحسب المقاييس الطبيعية إلا إذا انطلق إلى عالم الملكوت، ما دام الإنسان أسيرًا لعالم الملك، ما دام الإنسان أسيرًا للمادة، للزمان والمكان، فلا يمكنه اكتشاف نور الله، ولكنه إذا انتقل إلى عالم الملكوت، إذا انفتح على عالم الملكوت، استطاع أن يكتشف الأنوار الإلهية في عالم الملكوت، عالم الملكوت يضم عالم الأرواح والأشباح والملائكة، وجميع أقسام العقول التي يسمع بها الإنسان، ولكنه لا يراها.

الآية المباركة توضّح أن المقياس الطبيعي لانكشاف عالم الملكوت هو أن يموت الإنسان، إذا مات الإنسان تحرر من عالم المادة، تحرر من أسر الزمان والمكان، وانطلقت روحه إلى عالم آخر، وهو عالم الملكوت، حينئذ يمكن أن يكتشف الإنسان هذا العالم الغريب. الآية القرآنية تقول: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، ما هو الغطاء؟ الغطاء هو هذا الجسم، هذه المادة، عالم المادة عالم غطاء، الزمان غطاء، المكان غطاء، المادة غطاء، تحجب الإنسان عن أن يبصر عالم الملكوت، عن أن ينفتح على عالم الملكوت، ولكن إذا حان الموت، وتحررت النفس من هذا الجسم، وانطلقت إلى عالم البرزخ - عالم المثال - حينئذ تحررت من الغطاء، ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ لأنك تبصر عالمًا لم تبصره قبل ذلك، عالمًا مليئًا بأنوار الله تبارك وتعالى.

إذن، عالم الملك عالم الحجب، عالم الملكوت عالم الأنوار، عالم اكتشاف أنوار الله تبارك وتعالى، وهنا يأتي السؤال: هل يمكن للإنسان أن يكتشف عالم الملكوت وهو ما زال في الدنيا؟ ما زال يعيش تحت إطار المادة، وتحت أسر المادة، ومع ذلك يمكنه أن يكتشف عالم الملكوت، كما تحدث القرآن عن إبراهيم الخليل «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، إبراهيم اكتشف عالم الملكوت وهو ما زال في الدنيا، هل يمكن للإنسان الطبيعي أن يكتشف عالم الملكوت وهو ما زال في عالم الملك؟ هذا هو المحور الثاني من حديثنا.

المحور الثاني: معنى هداية السبل.

نعم، يمكن للإنسان أن ينطلق وأن يكتشف عالم الملكوت - عالم الأنوار الإلهية - وهو ما زال في عالم الملك، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، كيف يصل الإنسان إلى هذه السبل؟ هنا سؤال يطرحه الإنسان: الله تبارك وتعالى لماذا عبّر بالسبل؟ الله هل له سبل أم له سبيل واحد؟ القرآن الكريم يقول في آية أخرى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، أي أن سبيله واحد، وأما السبل فهي سبل الشيطان، سبل أعداء الله، الله ليس له سبيل واحد، بينما هنا يقول في الآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ولم يقل: سبيلنا، فهناك سبل، والآية الأخرى تقول: هناك سبيل، فكيف نجمع بين الآيتين؟

السبيل سبيل الله، طريق الله، السلوك إلى الله تبارك وتعالى طريق واحد، طريق أهل بيت العصمة ، ولكن هذا الطريق له مراحل، وله منازل، وله درجات، فبلحاظ تعدد مراحله، وبلحاظ تعدد منازله، سمي سبلًا، لأن الإنسان لا يمكن أن يهتدي إلى هذا الطريق دفعة واحدة، إنما يهتدي إليه في مراحل وفي منازل ينتقل من مرحلة إلى أخرى، ولذلك عبّرت الآية المباركة: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، والمراحل المهمة هي مراحل ثلاث: المرحلة الأولى: مرحلة العروج إلى الله تبارك وتعالى، والمرحلة الثانية: مرحلة الهداية، والمرحلة الثالث: مرحلة اكتشاف عالم الملكوت.

السبيل الأول: مرحلة العروج.

القرآن الكريم يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، ما معنى الخشوع؟ الخشوع يختلف عن الخضوع، القرآن الكريم لم يقل: خاضعون، قال: خاشعون، الخضوع مقدمة للخشوع، الخضوع هو استكانة البدن، إظهار البدن بمظهر المستكين الذليل بين يدي الله تبارك وتعالى حال العبادة، الإمام أمير المؤمنين نظر إلى رجل يصلي وهو يعبث بلحيته ويديه، قال: ”لو خشع قلبه لخضعت جوارحه“، الخضوع صفة للجوارح، والخشوع صفة للقلب، الخضوع مقدمة للخشوع، الخشوع هو أول مرحلة من مراحل السبل إلى الله تبارك وتعالى، الاتصال بالله.

عندما يقف الإنسان بين يدي ربه، في الظلام، في صلاة الليل، في صلاة الفريضة، ما عليه إلا أن يستحضر الله في قلبه، يستشعر وجود الله في نفسه، يستشعر ارتباطه بالله عز وجل، يستشعر أنه مخلوق ضعيف بين يدي جبار الجبابرة وملك الملوك، استشعار الله، تحسيس النفس بوجود الله تبارك وتعالى، تحسيس النفس بضعفها وحاجتها إلى الارتباط بالمدد المطلق مدد الله وفيض الله تبارك وتعالى، هذه هي المرحلة الأولى والسبيل الأول، ألا وهي مرحلة العروج.

ولذلك ورد عن النبي محمد : ”الصلاة معراج المؤمن“، ”الصلاة قربان كل تقي“، الروح تعرج من عالم الخلق إلى عالم الحق، تحلق في عالم الحق، في عالم الارتباط بالله تبارك وتعالى، هذه المرحلة مرحلة الخشوع، مرحلة الارتباط بالله، مرحلة استشعار وجود الله، كان الإمام الحسن المجتبى إذا وقف على باب المسجد وقف مستكينًا خاشعًا قائلًا لربه: يا محسن قد أتاك المسيء، أنت المحسن وأنا المسيء، يا محسن تجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم. وكان يبكي ويصفر لونه، فيقال: لم يا أبا محمد؟ قال: إنني أقف بين يدي جبار الجبابرة وملك الملوك.

السبيل الثاني: مرحلة الهداية.

مرحلة الهداية هي التي يعبر عنها علماء العرفان بالدلالة الآيوية، الإنسان كيف ينظر إلى الأشياء؟ قبل أن يتعلق قلبه بالله ينظر إلى الأشياء نظرة نفسية، يرى الشمس بما هي شمس، طاقة حرارية، يرى القمر بما هو قمر مرآة لنور الشمس، يرى جسمه بما هو جسم، ولكن إذا تعلق بالله يرى الأشياء مرآة لوجود الله، يرى الأشياء ظلًا لله، يرى كل شيء لا من خلال النظرة النفسية، بل من خلال النظرة الطريقية والظلية لله عز وجل، فهو يرى الأشياء بما تعبر عن قدرة الله وحكمة الله وإتقان الصنع من قبل الله، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً.

إذن، عندما يرى الأشياء تدله على الله فهذا يسمى بالدلالة الآيوية، وهذه المرحلة الثانية ألا وهي مرحلة الهداية التي عبّر عنها الحديث القدسي: ”ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها“، مرحلة الهداية هي مرحلة الدلالة الآيوية.

السبيل الثالث: مرحلة اكتشاف عالم الملكوت.

الإنسان يتصاعد ويتطور ثم لا يرى إلا الله، كان يرى الأشياء ظلًا لله، الآن انتقل وصار لا يرى إلا الله تبارك وتعالى، أنت تقرأ في دعاء البهاء في شهر رمضان المبارك: ”اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله، وكل جمالك جميل، اللهم إني أسألك بجمالك كله“، الفقرة الأولى تعبّر عن مرحلة العروج، والفقرة الثانية تعبّر عن مرحلة الهداية، والفقرة الثالثة تعبّر عن مرحلة اكتشاف عالم الملكوت، ”أسألك بجمالك كله“ أنا لا أرى إلا جمالك، ولا أراك إلا أنت، وهذا ما عبّر الإمام أمير المؤمنين حينما قال: ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“.

إذن، يمكن للإنسان أن يكتشف عالم الملكوت وهو في عالم الملك، أن يكتشف عالم أنوار الله وهو في عالم الحجب، يمكن للإنسان إذا سلك هذا المسلك، من مرحلة العروج إلى مرحلة الهداية، إلى مرحلة اكتشاف عالم الملكوت.

المحور الثالث: معنى الجهاد.

الآية المباركة عبّرت بالجهاد، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، يسلكون سبيلًا بعد سبيل، ولكن ما هو الجهاد؟ الجهاد جهاد النفس، الرسول الأعظم بعث سرية إلى بعض الغزوات، فلما رجعت منتصرة قالوا: يا رسول الله، فرغنا من الجهاد. قالوا: انتهيتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر، قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: جهاد أنفسكم، أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه.

جهاد النفس، تهذيب النفس، محاربة النفس، هذا هو الجهاد الذي يجعلك أرضية صالحة لأن تكتشف عالم الملكوت، لأن تسلك السبل إلى الله تبارك وتعالى، لماذا جهاد الأعداء جهاد أصغر وجهاد النفس جهاد أكبر؟ قد يتساءل الإنسان، يقول: الإنسان في المعركة يضحي بنفسه، بينما الإنسان إذا حارب نفسه فهو يضحي بالشهوات، ويضحي بالملذات، والتضحية بالنفس أعظم من التضحية بالملذات والشهوات، فلماذا سمّي جهاد النفس أصغر وسمّي جهاد الأعداء أكبر؟ جهاد النفس أكبر من الجهاد في المعركة لأمرين:

الأمر الأول: الجهاد في المعركة يستغرق وقتًا قصيرًا، ساعة، أو نهارًا، أو شهرًا، ولكن جهاد النفس يستمر منذ بلوغ الإنسان إلى حين موته، وهو يصارع النفس الأمارة بالسوء، جهاد مستمر مرير.

الأمر الثاني: جهاد الأعداء يرفع لواء الإسلام، ولكن جهاد النفس يرفع لواء الإيمان، جهاد الأعداء ينصر الدين الظاهري، ولكن جهاد النفس ينصر الدين الواقعي، ترسيخ الدين الواقعي يتوقف على جهاد النفس، وترسيخ الدين الظاهري يتوقف على جهاد الأعداء، ولذلك كان جهاد النفس أكبر من جهاد الأعداء.

جهاد النفس جـ2
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جـ2