نص الشريط
وفاة الإمام الحسن العسكري (ع)
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: حسينية الخنيزي
التاريخ: 8/3/1421 هـ
مرات العرض: 17342
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2377)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ

صدق الله العلي العظيم

القرآن الكريم يصف في هذه الآية الأمة المتكاملة الرشيدة. المجتمع الشيعي - منذ أزمنة أهل البيت وإلى يومنا هذا - مثال واضح ومصداق جلي للأمة المتكاملة، المجتمع الشيعي مثالٌ للآية المباركة. نتحدث هذه الليلة عن أبرز المعالم التي يتميز بها المجتمع الشيعي. أبرز معالم المجتمع الشيعي أربعة معالم:

  • قداسة القادة.
  • والتميز الثقافي.
  • والروح الاجتماعية.
  • والانتظار.
المعلم الأول: قداسة القادة.

قادة المجتمع الشيعي تميزوا بالقداسة، وتميزوا بالعظمة، أئمة المجتمع الشيعي وقادة المجتمع الشيعي عُرِفُوا بأنهم لا يجرون وراء الدنيا، لا يجرون وراء المظاهر، ولا يتسابقون وراء الثروات والأموال، ولا يسخّرون طاقاتهم وجهودهم في البحث عن المراكز والمناصب، قادة المجتمع الشيعي عُرِفُوا منذ أن بدأ التاريخ الشيعي إلى يومنا هذا بالزهد، وعرفوا بالبعد عن المناصب الدنيوية، وعن المظاهر الدنيوية.

لذلك، لأن قادة المجتمع الشيعي عرفوا منذ التاريخ الشيعي وإلى يومنا هذا، عرفوا بالزهد، وعرفوا بالقداسة، وعرفوا بالبعد عن المناصب والمراكز والأموال والثروات، لذلك احتفظوا بالشعبية الراسخة، تجد أن قادة المجتمع الشيعي يتميزون بأن لهم حضورًا في نفوس الناس، حضورًا في نفوس الجماهير، لهم شعبية وقداسة وإعظام وإكبار في النفوس.

هشام بن عبد الملك يأتي مع جلاوزته بغرض أن يستلم الحجر الأسود، فلا يستطيع من زحام الناس، وبينما هشام بن عبد الملك جالس مع جلاوزته ومع خاصته، وإذا برجل نحيل البدن أبيض البشرة بهي الطلعة قد برز على الناس، فانفرجوا من بين يديه يمينًا وشمالًا، حتى وصل الحجر الأسود، وقبّله وتبرّك به، ثم رجع والناس يتبركون به ويلتمسون منه الدعاء ويتوسلون إلى الله تعالى به. جلاوزة هشام سألوا: من هذا الرجل؟ قال: أنا لا أعرفه. الفرزدق كان حاضرًا، قال: أنا الذي أعرّفكم به.

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
هذا  ابن  خير  عباد الله iiكلهم
  والبيت   يعرفه  والحل  iiوالحرمُ
هذا  التقي  النقي الطاهر العلمُ

أحمد بن عبيد الله بن خاقان، أبوه عبيد الله بن خاقان كان وزيرًا في الدولة العباسية، وكانت بيده مقاليد الأمور أيام المعتز العباسي، ابنه أحمد هو الذي يصف لنا القصة، يقول: كنتُ جالسًا مع أبي، فأقبل الخادم وقال إليه: ابن الرضا أبو محمد يستأذنك بالباب، تعجّبت، كيف يكنّون شخصًا أمام أبي، قال: أدخله، وقام، فلما دخل دخل رجلٌ حسن الطلعة جميل الوجه جيّد القامة جيّد الاستقامة، لما رآه والدي قام إليه، وقبّل ما بين عينيه، وأجلسه في مجلسه، وظل يحادثه ويستمع إليه، تعجبت من ذلك، من هذا الرجل؟ وأنا ساكت، إلى أن انتهت المحادثة بينه وبين أبي، ثم أراد أن يخرج، فقام أبي يشيّعه إلى الباب، مجلًا مكبرًا معظّمًا، فلما خرج قلتُ: رأيتُك فعلت بهذا الرجل ما لم تفعله إلا مع الخليفة، فمن هذا الرجل؟ قال: هذا الحسن العسكري بن علي بن محمد بن الرضا، لو زالت الخلافة عن بني العباس لكان أولى الناس بها هذا، لزهده وعفافه ونبله وعلمه وتقواه وورعه، هذا إمام الرافضة.

الحسن العسكري وعلي بن الحسين كيف استطاعا أن يكونا لهما هذه الشخصية الراسخة، وكيف صارت لهما هذه الأرضية الجماهيرية الممتدة المتمادية الأطراف؟ نتيجة أن سيرة قادة الشيعة، وسيرة أئمة الشيعة هي سيرة البعد عن الدنيا، والبعد عن مظاهر الدنيا، لا يلهثون ولا يجرون ولا يركضون وراء الدنيا ومناصبها ومراكزها، لذلك تمتّع قادة الشيعة وأئمة الشيعة إلى يومنا هذا بالقداسة في النفوس، وبالمنزلة الشعبية الجماهيرية العريضة الأطراف.

المعلم الثاني: التميز الثقافي.

المجتمع الشيعي تميّز منذ أن بدأ تاريخه، ومنذ أول زمان بدأ فيه التشيع، تميز بالثقافة، المجتمع الشيعي متميزٌ ثقافيًا، إذا قرأت تاريخ الأمة الشيعية وجدت أن الأمة الشيعية تتميز بثقافتها، وتتميز بفكرها، وتتفوق على الآخرين في مجال الفكر وفي مجال الثقافة وفي مجال الأدب، وهذه نتيجة تربية أهل البيت . أهل البيت لم يرضوا بأن يكون المجتمع الشيعي مجتمعًا جاهلًا، أو يكون المجتمع الشيعي مجتمعًا مغفلًا، أو أن يكون المجتمع الشيعي مجتمعًا بعيدًا عن أجواء الثقافة والفكر والأدب، أهل البيت أصروا على أن ينهضوا بالمستوى الثقافي للمجتمع الشيعي كي يبقى هذا المجتمع متميزًا على سائر المجتمعات بثقافته وبفكره وبأدبه.

اقرأ تاريخ المجتمع الشيعي، أول من وضع علم النحو شيعي، وهو أبو الأسود الدؤلي. أول من وضع علم العروض وكتب في اللغة شيعي، وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي. أول من برز في علم الكيمياء كعالم متميز شيعيٌ، وهو جابر بن حيان. أول من نبغ وبرز في علم الكلام شيعي، وهو هشام بن الحكم. من برز في مجال الأدب والشعر حتى عُدَّ شاعر العرب لا يدانى شيعيٌ، وهو أبو الطيب المتنبي، الذي كان يقول:

وتركت    مدحي   للوصي   iiتعمّدًا
وإذا  استطال  الشيء  قام  iiبنفسه
  إذ   كان   نورًا   مستطيلًا  iiشاملًا
وصفات ضوء الشمس تذهب باطلًا

وممن برز في هذا المجال: أبو العلاء المعري، وهو شيعي، الذي كان يقول:

وعلى الأفق من دماء الشهيدين
فهما   في  أواخر  الليل  iiفجران
  علي       ونجله      iiشاهدانِ
وفي       أولياته       iiشفقانِ

وما زال شعراء الشيعة إلى يومنا هذا أبرز الشعراء، وفي طليعة شعراء الأمة العربية، منهم محمد مهدي الجواهري الذي قال في الحسين :

فداء لمثواك من مضجعِ   تنوّر    بالأبلج   الأروعِ

كما قرأنا بعض أبياته في ليلة العاشر من المحرم. الذي برز في مجال الطب والحكمة شيعي، ألا وهو ابن سينا. الذي برز في مجال الفلسفة، وتحدى الفلاسفة في نظرياته العميقة الدقيقة شيعي، وهو صدر المتأهلين الشيرازي، الذي من أدق نظرياته نظرية الحركة الجوهرية، وقد تعرضنا لبعض معالمها في الليلة الأولى أو الليلة الثانية من ليالي عشرة محرم في هذه السنة. ممن برز من الشيعة على المستوى العلوم المختلفة، على مستوى الفقه، على مستوى التفسير، على مستوى علم الكلام، آلاف وآلاف.

في طهران، قبل ثلاث سنوات، عُقِد مؤتمرٌ إسلاميٌ حول التفسير، أربعون مفكرًا إسلاميًا من سوريا ومن لبنان ومن مصر ومن دول الخليج ومن باكستان ومن الهند، أربعون مفكرًا إسلاميًا أجمعوا على أن أفضل تفسير للقرآن الكريم في العصر الحاضر تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطباطبائي فيلسوف هذا القرن «قدس سره». إذن، الشيعة نبغوا في المجال الثقافي، الشيعة تميزوا على المجتمعات الأخرى بنبوغهم وتفوقهم في مجال الأدب، في مجال الفلسفة، في مجال علم الكلام، في مجال الطب، في مجالات العلوم الأخرى.

بل تميز المجتمع الشيعي ليس فقط بالثقافة، وإنما تميّز بالدقة الثقافة، الفكر الشيعي فكرٌ دقيقٌ، فكرٌ لا يعرف العزال، ولا يعرف السطحية، ولا يعرف أن يأخذ الأمور بظواهرها، فكر يضع النقاط على الحروف، فكر دقيق في اكتشاف الأشياء، وفي معرفة محتوياتها وجوهرها. لاحظوا حركة الكتابة وحركة التأليف في أزمنة أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم»، السنة النبوية - أحاديث الرسول - مُنِعَت من التدوين منذ زمان الخليفة الثاني وحتى زمان الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي أمر الزهري بكتابة أحاديث النبي ، لكن الشيعة سبقوا ذلك بزمن طويل.

الشيعة منذ زمان الإمام زين العابدين كانوا يكتبون الأحاديث، ويؤلفون الرسائل المتعددة في الأحاديث تنويعها وأقسامها وحل المتعارض بينها وترجيح بعضها على البعض الآخر، كتب الشيعة في علم الحديث قبل أن يكتب غيرهم، فكتب هشام بن سالم، وكتب محمد بن مسلم، وكتب غيرهما من الرسائل في علم الحديث ما سبقوا به غيرهم.

الشيعة الإمامية جمعوا في عصر أهل البيت أربع مئة كتاب، سمّيت بالأصول الأربعمائة، هذه الكتب تضمنت مختلف المعارف الإسلامية، في مجال العقائد وفي مجال الفروع، في مجال الأخلاق وفي مجال التربية، في مجال الاجتماع وفي المجالات الأخرى. ومع ذلك، فإن دقة الفكر الشيعي لم تكتفِ بكتابة هذه الكتب، بل واصلت متابعتها والتدقيق فيها.

راجع ما يذكره علماؤنا: يونس بن عبد الرحمن - أحد فقهاء الشيعة - عرض هذه الكتب على الإمام الرضا ، يقول يونس: عرضتُ أحاديث أبي جعفر وأبي عبد الله - أي: الإمام الباقر والإمام الصادق - على مولاي أبي الحسن الرضا فهذّبها وأنكر منها بعضها.

إذن، حركة التهذيب وحركة التدقيق كانت حركة واضحة في العالم الشيعي آنذاك. لاحظوا أن هذه الكتب في زمان الإمام العسكري خضعت لحركة جادة، وهذا ما يكشف عن عمق تخطيط الإمام العسكري ، الإمام العسكري كان يدرك أن عهده هو آخر عهود أهل البيت، وأنه بموته سينتهي حضور الإمام بين أظهر الناس، لذلك لما أدرك الإمام العسكري أنه هو خاتمة أهل البيت من الأئمة الذين يحضرون بين أظهر الناس، وأدرك أن عهده سوف ينتهي به التقاء الناس مع الإمام، خطّط لمستقبل التشيع، وخطّط لمستقبل الفكر الشيعي، فأمر بحركة تهذيبية لكتب الحديث عند الشيعة، خضعت كتب الحديث في زمانه إلى التهذيب والغربلة والمراجعة والمتابعة الدقيقة؛ حفظًا للتراث الشيعي، وحفظًا للفكر الشيعي.

نلاحظ مثلًا محمد بن مسعود العياشي، الذي كان معاصرًا للإمام الهادي والعسكري، ينفق كل ثروة أبيه - وكان أبوه ثريًا - على أحاديث أهل البيت، ويجعل داره محطةً للتدقيق في أحاديث أهل البيت، بين قارئ، وبين ناسخ، وبين متتبع، وبين مقابل، جماعة وُظِّفوا وبُذِلَت الأموال الطائلة عليهم في سبيل تهذيب الأحاديث، وجمعها، وتبويبها، مما يدل على أن المجتمع الشيعي ببركة جهود أهل البيت مجتمعٌ رشيدٌ، مجتمعٌ مثقفٌ، مجتمعٌ يفكر في مستقبله، مجتمعٌ يدقّق في معلوماته، مجتمعٌ يدقّق فيما يصل إليه.

فعلينا - أيها الإخوة - أن نتأسى بأجدادنا، وأن نتأسى بأسلافنا. أسلافنا كانوا مثقفين، وكانوا دقيقين في أفكارهم. كانوا يقبلون على الثقافة والمعرفة بدقة وبتأمل وبإمعان، فعلينا أن نكون على سيرة أسلافنا؛ ليبقى المجتمع الشيعي مثبتًا تفوقه، ومثبتًا تميزه في المجال الثقافي، نتيجة الإقبال على الثقافة، والتدقيق فيما يُسْمَع، والتدقيق فيما يُقْرَأ.

وهذه الإجازة الصيفية قد أقبلت على كثير من الطلاب، وهي فرصةٌ ذهبيةٌ لكي تُغْتَنَم في سبيل الثقافة، وفي سبيل التدقيق في المعلومات. هذه الإجازة الصيفية فيها برامج للأطفال في بعض المساجد، برامج للنساء في بعض الحسينيات والبيوت، برامج للتعليم. هذه الإجازة الصيفية اغتنمها - أيها الشاب المثقف - في قراءة الكتب، اغتنمها في حضور مجالس العلماء، اغتنمها في السؤال والاستفهام، اغتنمها في المناقشة، اغتنمها في النقد، اغتنمها في التزود من المعارف، لتكن في هذه الإجازة إنسانًا مقبلًا على الثقافة، ومقبلًا على تحري المعلومات، والتدقيق فيها.

هذه المحاضرات التي ألقيناها نحن ما ألقيناها لكي نُقْنِع الناس بها، نحن لا نفرض أفكارنا على الآخرين، نحن لا نؤمن بأن أفكارنا هي الأفكار التي نزلت من السماء لا تردّ ولا تبدّل ولا تقبل النقد ولا تقبل المناقشة! غرضنا من المحاضرات التي ألقيناها إثارة التفكير، غرضنا من المحاضرات التي ألقيناها إثارة الفكر والتأمل عند الإنسان، فكّروا، اسمعوا وانتقدوا، اسمعوا وتأملوا، اسمعوا وتابعوا المعلومات بدقة وبتأمل وبروية وبنقد مبني على العلم والبرهان والمنطق الصحيح. الغرض من هذه المحاضرات كلها تحريك العقل، وتحريك الطاقات الفكرية في مجتمعنا. فلنكن كأسلافنا متميزين بالثقافة، متميزين بالدقة، متميزين بالرصانة والمتانة في أفكارنا، وفي معلوماتنا. هذا معلمٌ بارزٌ من معالم التشيع.

المعلم الثالث: الروح الاجتماعية.

الشيعة ليسوا منعزلين عن الآخرين، الشيعة لا يعيشون همومهم وحدهم، الشيعة لا ينامون على الوسائد الناعمة وينسون الآخرين، الشيعة أول الناس إحساسًا بالناس، الشيعة أول من يسابق إلى مساعدة الناس والتخفيف من آلامهم والتخفيف من حاجياتهم الملحة المأساوية، الشيعة ينهجون منهج أئمتهم .

الإمام علي الذي كان يحمل جراب الطعام على ظهره، ويسير على فقراء المدينة، لا ينام الليل وفي المدينة جائع، لا يهجع علي وفي الكوفة فقير أبدًا، وزين العابدين وغيرهما من الأئمة الذين حذوا حذوه أعطونا - نحن الشيعة - جذوةً اجتماعيةً، أعطونا نحن الشيعة حسًا وضميرًا اجتماعيًا، نشعر بآلام الآخرين، ونتسابق إلى مساعدة الآخرين، وإسعاد الفقراء الذين يرمقون إلى لقمة العيش التي يسدون بها جوعتهم.

الإمام الصادق يقول لنا: ”إن الرجل منكم إذا صدق في حديثه، وورع في دينه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، وقيل: هذا أدب جعفر، فيسرني ذلك. وإن الرجل منكم إذا كان على غير هذا، قيل: هذا جعفري، وقيل: هذا أدب جعفر، فيدخل عليَّ بلاؤه وعاره“، أبدًا، الشيعة دائمًا صادقون، دائمًا مخلصون، دائمًا أمناء، المجتمع الشيعي مجتمع معروف بالإخلاص والأمانة. انظر إلى الشيعة، في أعمالهم، في وظائفهم، هم الأمناء، الشيعة في أعمالهم ووظائفهم ومراكزهم أمناء مخلصون، صادقون في معاملاتهم، مخلصون لعملهم، مخلصون للمسؤوليات التي تلقى على عواتقهم، معروفون بالأمانة، والإخلاص، والصدق في التعامل، والصدق في الحديث.

الإمام العسكري الذي نحتفل بذكرى وفاته هذه الليلة كان يركّز على الروح الاجتماعية، ليكن الشيعة متميّزين على غيرهم في النبل، وفي الأمانة، وفي الصدق. الإمام العسكري يوصينا: ”إن الرجل منكم ليكون في القبيلة، فيكون زينها، أدّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم في الحديث، وأورعهم في الدين، صلوا في عشائركم، وعودوا مرضاكم، واشهدوا جنائزكم، وأدّوا للناس حقوقهم، كونوا لنا زينًا، ولا تكونوا علينا شينًا، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فما قيل فينا من خير فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فنحن براء منه“.

لاحظوا توصية الإمام، يربّينا على الروح الاجتماعية، يربينا أننا إذا تعاملنا مع الآخرين نتعامل بالخلق، بالتواضع. ورد عن الرسول محمد : ”إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم“، الخلق الرفيع، البسمة، الكلمة الطيبة، التواضع، الإخلاص، الأمانة، الصدق في الحديث، خصالٌ معروفةٌ عن كل شيعي، بالنتيجة تحتضن الآخرين، تستقبل الآخرين، تكون أنت - أيها الشيعي - بحسن معاملاتك صورةً حسنةً عن أئمتك، تكون أنت بحسن خلقك وبحسن سيرتك إعلامًا ظاهرًا واضحًا لمذهب أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

المعلم الرابع: الانتظار.

انتظار الإمام معلمٌ واضحٌ من معالم المجتمع الشيعي، ركّز عليه الأئمة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». ورد عن الإمام العسكري أنه قال في وصيته لابن بابويه: ”يا بن بابويه، عليك بالصبر وانتظار الفرج؛ فقد قال جدي رسول الله : أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، فعليك بالصبر، ومُر شيعتنا بالصبر، ولا يزال شيعتنا بحزن ومكروه حتى يظهر ولدي، فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا، ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ“.

الإمام العسكري يوصينا بانتظار الفرج، وينقل عن جده رسول الله أن أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج. كثير منا يتصور الانتظار بالمعنى السلبي، يظن أن الانتظار هو عبارة عن الحولقة، عبارة عن قول: لا حول ولا قوة إلا بالله! أو عبارة عن قراءة دعاء الندبة، أو قراءة دعاء العهد، أو قراءة دعاء ”اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن“، هذا هو الانتظار، انتظار لساني، انتظار كلماتي، انتظار ظاهري، يظن بعضهم أن انتظار الإمام هو هذا.

هذا خطأ، ليس هذا هو الانتظار، هذه مظاهر للانتظار، وإلا فالانتظار أمر أعمق وأدق من هذا، نفس الحديث قرينةٌ على ما نقول، ”أفضل أعمال أمتي“ هل تتصورون أن كلمة ”اللهم كن لوليك الحجة“ أفضل الأعمال؟! هل يتصور عاقل أن يكون دعاء الندبة أفضل من الصلاة التي هي عمود الدين، أو أن قراءة دعاء العهد أفضل من الصيام، وأفضل من الصدقة، وأفضل من بر الوالدين، وأفضل من صلة الرحم؟! كيف يكون ذلك؟! الرسول يقول: الانتظار أفضل الأعمال، يعني أفضل من الصلاة، أفضل من الصيام، أفضل من الصدقة، أفضل من بر الوالدين، أفضل من صلة الرحم، فما هو هذا الانتظار الذي يكون أفضل الأعمال كلها؟ لا بد أن يكون الانتظار معنى عظيمًا، وإلا لم يكن أفضل الأعمال، لا بد أن يكون الانتظار معنى كبيرًا، وإلا لم يكن أفضل الأعمال، فما هو الانتظار الذي اعتبره النبي محمد أفضل الأعمال؟

الانتظار هو الإعداد للمنتظَر، أنت عندما تنتظر الضيف كيف تنتظره؟ إذا اتصل بك ضيف وقال: سآتيك بعد ساعة، كيف تنتظر الضيف؟ هل تجلس وتقول: اللهم أوصله سالمًا؟! بعد ساعة يأتي ويدخل البيت، هذا هو الانتظار؟! انتظار الضيف هو عبارة عن أن تهيئ المكان، وتعد الوليمة المناسبة لاستقباله، وتعد روحك نفسيًا وذهنيًا لاستقبال هذا الضيف، تستقبله بالحفاوة والترحاب، انتظار الضيف هو عبارة عن الإعداد له، انتظار الإمام هو عبارة عن الإعداد للإمام، وليس انتظار الإمام مجرد كلمات وأدعية نقولها على ألسنتنا ولا تتذوقها قلوبنا. الانتظار إعدادٌ للمنتظَر، الإعداد للمنتظَر يتم بثلاث خصال:

الخصلة الأولى: الثقافة.

الإمام لا يريد جهّالًا ومغفلين لا يعرفون كيف يحددون وظائفهم، لا بد أن تكون إنسانًا مثقفًا، ثقافة عقائدية متينة، ثقافة خلقية، ثقافة دينية، ثقافة فقهية، لا بد أن تمتلك الثقافة، كي تكون إنسانًا قادرًا على تحديد وظيفتك، على تحديد مسارك، إلى أين تتجه، من أي طريق ومن أي زاوية. إذن، الثقافة خصلة أولى وضرورية في الإعداد لانتظار الإمام .

وكما ذكرنا وكرّرنا ونكرّر: اغتنم الوقت، اجعل لك يومًا للثقافة، ولو ساعتين في الأسبوع، اقرأ تاريخ أهل البيت، اقرأ عقائد أهل البيت، اقرأ كتب العلماء، كتب السيد الصدر، كتب الشيخ المطهري، كتب علمائنا العلماء الأبرار، اقرأ وثقّف نفسك، اقرأ وتأمّل ولو ساعتين في الأسبوع؛ كي تكون ممّن أعدّ نفسه لانتظار الإمام .

الخصلة الثانية: الخُلُق.

الإمام يريد كوادر اجتماعية، يريد كوادر تنتظر بين أبناء المجتمع بخلقها، وبحسن تعاملها، وبتواضعها، إذا أقبلت أحبها الناس، وإذا بعدت اشتاق إليها الناس، كن صاحب خلق، صاحب روح اجتماعية، صاحب حسن الظن بالآخرين. ورد عن الإمام العسكري أنه قال: ”ليس منا من يطري أخاه حاضرًا ويذمه غائبًا“، وورد عنه أنه قال: ”ليس منا من وعظ أخاه علانية، عظ أخاك سرًا ولا تعظه علانية“، لنكن أصحاب خلق رفيع، ليكن تعاملنا مع الآخرين تعامل حسن الظن، تعامل التواضع، تعامل البسمة، تعامل الطيب، كما ورد عن الرسول محمد : ”الدين المعاملة“، الدين ليس الصلاة والصيام فقط، الدين المعاملة وحسن الخلق.

الخصلة الثالثة: روح العطاء.

لا تكن إنسانًا أنانيًا، كن إنسانًا غيريًا، قدّم شيئًا من جهودك للآخرين، قدّم شيئًا من عطائك للآخرين، اخرج عن دائرة الأنانية إلى دائرة الغيرية، تحرّر من الأنا وانطلق إلى الغير، كن إنسانًا يحمل بذرة العطاء وجهود العطاء إلى الآخرين. من الغريب جدًا أن ترى إنسانًا يجلس عشرين سنة في المسجد يصلي جماعة لا ينفع المجتمع بشيء، إنسان يصلي جماعة عشرين سنة وراء العلماء، يصلي، لكنه لا يقدم للأمة شيئًا، يجلس عشرين سنة يستمع في الحسينيات وإلى الخطباء لكنه لا يقدم أي جهد للمجتمع.

ينبغي أن يكون شباب المساجد وشباب الحسينيات هم أصحاب العطاء، وهم أصحاب البذل، وهم أصحاب روح تقديم الجهود وتقديم العطاء للآخرين، المسجد والحسينية والمنبر روافد تعلّمنا على العطاء، تعلّمنا على أن نكون شبابًا عاملًا، لا شبابًا متقاعسًا. الإيمان والمسجد والحسينية ليست مجرد لحية ولا سبحة ولا دفتر خمس ولا أشياء من ذلك، هذه كلها مظاهر، المهم ماذا قدمت لمجتمعك؟ وماذا أعطيت لمجتمعك؟ ”خير الناس من نفع الناس“.

هذه الأدوار الموجودة في المجتمع، هل لك دورٌ فيها؟ إذا كنت فعلًا منتظرًا للإمام فالإمام يريد أشخاصًا عندهم عطاء، الإمام إذا قام يريد إقامة الدولة الإسلامية العامة، ألا يريد أشخاصًا يحملون روح العطاء، مستعدين للبذل، مستعدين للعطاء، مستعدين للتضحية، بشيء من الوقت، بشيء من الذهن، بشيء من الطاقة، بشيء من الجهد؟! أنت إذا لم تملك روح العطاء، ولم تتعلم على روح العطاء، ولم تتعلم على روح العمل، فمتى تعطي ومتى تقدّم؟! هل لك دور ثقافي في المجتمع؟! كثير من البرامج الثقافية المقامة في المجتمع هل لك دورٌ فيها؟! إذا لم يكن لك دورٌ فيها فهل لك دورٌ في الأعمال الاجتماعية؟!

هناك جمعية خيرية، هناك لجنة كافل يتيم، هناك اللجنة الأهلية التي لا تقل مشاريعها عن مشاريع الجمعية الخيرية، هل لك نصيب في هذه الأمور؟ هل أنت مشترك في صندوق خيري؟ هل أنت مشترك في عمل مسجدي؟ هل أنت مشترك في عمل مأتمي؟ هل أنت مشترك في عمل شبابي؟ المهم أن يكون لك عمل وجهد، ليس التدين والالتزام هو عبارة عن أن أصلي جماعة وأستمع الخطيب وانتهى، بل التدين والالتزام وانتظار الإمام هو أن أحمل روح العطاء، وأن أحمل روح البذل، وأن أحمل روح تقديم الجهود إلى الآخرين، وأن أخرج من دائرة الأنانية إلى دائرة الغيرية.

أهل البيت صاروا أبطال التاريخ لأنهم جلسوا في بيوتهم؟! أم لأنهم بذلوا قدرتهم وطاقتهم وجهودهم في سبيل إنشاء المجتمع الإسلامي الصالح؟ من أولهم، وإلى آخرهم، ذاقوا طعم الشهادة؛ لأنهم بذلوا أنفسهم في سبيل المجتمع الصالح، هؤلاء قادتك، وهؤلاء أئمتك.

واليتُ       آلَ      محمدٍ
أنا  لم  أجد  منهم  iiإمامًا
حتى الذي قد ناهز الستين
حتى     الحرائر     iiمنهمُ


 
وأخذتُ   منهم  كل  iiعادةْ
مات  وهو  على  الوسادةْ
لم       يترك      iiجهادهْ
قارعن من غصبوا iiالسيادةْ

هؤلاء أئمتك، أهل العطاء، وأهل البذل، وأهل تقديم الجهود والتضحيات المتواصلة. وهذا هو الانتظار، الرجل المثقف الخلوق المؤمن المتدين الذي يبذل طاقته وجهده في خدمة الآخرين هو المنتظِر للإمام، وانتظاره أفضل أعمال الأمة.

دور التربية في العقلية التطويرية
كلمة | ختام دورة الإمام علي (ع) الثقافية بالقطيف