نص الشريط
الحسين ثورة أم مشروع
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 10/1/1426 هـ
مرات العرض: 3245
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1298)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

ورد عن الإمام الحسين : ”إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“

صدق الله العلي العظيم، وصدق الإمام الحسين

حديثنا هذه الليلة حول حركة الحسين ، وذلك في محاور ثلاثة:

  • في إمكان تحليل حركة الحسين.
  • في النظريات المطروحات لتحليل حركة الحسين.
  • في تحليل ظاهرة البكاء يوم عاشوراء.
المحور الأول: هل يمكن لنا أن نحلّل حركة الحسين أم أنها لا تقبل التحليل؟

هناك اتجاهان في تقويم حركة الحسين: الاتجاه الغيبي، والاتجاه التحليلي.

الاتجاه الأول: الاتجاه الغيبي.

يقرّر هذا الاتجاه أن حركة الحسين لا تقبل التحليل؛ لأن الظواهر التي تحدث على نوعين: ظاهرة سماوية، وظاهرة إنسانية. الظاهرة الإنسانية هي الظاهرة التي تعتمد على عوامل طبيعية، سواء كانت عوامل ذاتية، كالثقافة والمزاج، أو كانت عوامل خارجية، كالظروف المحيطة. مثلاً: الثورة الجزائرية والثورة الإيرانية والثورة الفرنسية ظواهر إنسانية؛ لأنها تستند إلى عوامل طبيعية، سواء كانت عوامل داخلية أو كانت عوامل خارجية. بينما ظاهرة نزول الوحي على النبي ليست ظاهرة إنسانية، بل هي ظاهرة سماوية.

الظاهرة السماوية لا يمكن تحليلها؛ لأنها لا تستند إلى عوامل طبيعية حتى نحللها على ضوء المقاييس الطبيعية، وإنما الذي يمكن تحليله على ضوء المقاييس الطبيعية هو الظواهر الإنسانية التي تنبع من عوامل طبيعية داخلية أو خارجية.

حركة الحسين ليست ظاهرة إنسانية كي نقرأها من خلال المقاييس الطبيعية، بل إن حركة الحسين ظاهرة سماوية وليست ظاهرة إنسانية؛ لأن حركة الحسين فعل المعصوم، والإمام المعصوم لا يستند إلى عوامل ذاتية أو مؤثرات خارجية، بل إن الإمام المعصوم يستند في ظواهره وفي كلامه وفي فعله وتقريره للسماء، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. إذن فحركة الحسين فعل المعصوم، وفعل المعصوم يستند إلى السماء، وما يستند إلى السماء فهو لا يخضع للظروف ولا للمقاييس، بل إن ما يستند إلى السماء هو يصنع الظروف ويخلقها لا أنه يستند إليها ولا ينبع وينشأ منها.

ولذلك المعصوم قد يتصرف أحيانًا تصرفًا لا نراه منسجمًا مع ظروفه، فمثلاً: النبي تحرّك لغزوة بدر بثلاث مئة مقابل ألف، وهذه ليست ظاهرة طبيعية، بل هذا خلاف الظواهر الطبيعية. كذلك الإمام علي ، فإنه بمجرد أن وصل إلى الحكم عزل معاوية وولاة عثمان، وهذه ليست ظاهرة طبيعية. إذن ففعل المعصوم ظاهرة سماوية لا تستند إلى الظروف، بل هي تصنع الظروف، ولذلك فعل المعصوم لا يمكن تحليله على ضوء المقاييس الطبيعية، فلا معنى لتحليل حركة الحسين.

الاتجاه الثاني: الاتجاه التحليلي.

يقول هذا الاتجاه بأن حركة الحسين فعلٌ من أفعال المعصوم، ولكن فعل المعصوم قابلٌ للتحليل وليس أمرًا لا يقبل التحليل؛ لأن الأمر الذي يأتي إلى السماء تارة يختص بالمعصوم وتارة يكون تكليفًا عامًا للأمة بأسرها، فإذا كان تكليفًا خاصًا بالمعصوم فحينئذٍ لا يمكن تحليله. مثلاً: النبي كان مأمورًا بصلاة الليل، فهي في حقنا مستحبة، ولكنها في حق النبي واجبة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. التكليف الخاص بالمعصوم لا يمكن لنا تحليله لأنه لا يخضع للظروف ولا يرتبط بالعوامل الطبيعية.

أما إذا كان تكليفًا عامًا فيمكن تحليله. مثلاً: حرب علي لمعاوية تكليف عام، حيث كانت الأمة كلها مأمورة بأن تحارب مع علي وتنصره في حربه لمعاوية، فهذا تكليف عام، والتكليف العام أمرٌ يقبل التحليل؛ لأن هذا التكليف جاء في ظروف معينة، ولو لم يكن للظروف ارتباط به لما جاء في تلك الظروف. لماذا الإمام علي أمِر بالحرب مع معاوية في تلك السنة بالذات وفي تلك المرحلة بالذات وفي تلك الظروف بالذات؟! لو لم يكن هناك ارتباط بين التكليف وبين تلك الظروف لكان التكليف به في ذلك الوقت لغوًا لا معنى له.

كذلك حركة الحسين ، فإنه لم يتحرك مباشرةً، بل انتظر بعد موت أخيه الحسن عشر سنوات، ولم يتحرك ولا بكلمة طوال هذه السنين العشر، إلى أن مات معاوية واستلم الحكمَ يزيد بن معاوية، حيث بدأ الحركة حينئذ، فلماذا أُمِر في هذا الوقت بالذات وفي هذه المرحلة بالذات وفي هذه الظروف بالذات؟! هذا دليل على أن الحركة لها ارتباطٌ بالظروف الموضوعية في ذلك الوقت، ولذلك أُمِر بالحركة في ذلك الوقت، وإلا لكان الأمر بالحركة لغوًا لا يصح من قِبَل الله «تبارك وتعالى».

إذن حركة الحسين فعلٌ معصومٌ، وهذا لا إشكال فيه، لكن ليس فعل المعصوم أمرًا لا يقبل التحليل، بل إن فعل المعصوم إذا كان فعلاً عامًا لا خاصًا به فهو يرتبط بظروف معينة، فلا بد من دراسة الظروف التي تم فيها هذا الفعل من أجل اكتشاف حقيقة الفعل وتحليله.

ولو أننا فصلنا حركة المعصوم عن الظروف، وقلنا بأن فعل المعصوم خارج الزمان والمكان والظروف والعوامل الطبيعية، لفصلناه عن الاقتداء به، إذ لا يمكننا الاقتداء بفعل المعصوم إلا بعد دراسته ودراسة ظروفه، لمعرفة انطباق الظروف على ظروفنا أو عدم انطباقها. لو فصلنا فعل المعصوم عن الظروف المحيطة وعن العوامل التاريخية والطبيعية لفصلناه عن مرحلة التأسي والاقتداء به والسير عليه؛ لأنه لا يمكن للبشرية أن تقتدي به إلا بعد معرفة ظروفه والقياس عليها.

المحور الثاني: النظريات المطروحة لتحليل حركة الحسين.

لو أردنا أن نحلل حركة الحسين فهناك ثلاث نظريات في تحليلها: النظرية الأولى تقول بأن حركة الحسين عملية استشهادية، والنظرية الثانية تقول بأن حركة الحسين ثورة، والنظرية الثالثة تقول بأن حركة الحسين مشروع حضاري.

النظرية الأولى: حركة الحسين عملية استشهادية.

الحسين قرأ الواقع - واقع الأمة في زمان معاوية ويزيد - فرأى أن النظام الأموي ابتلع ثرواتِ الأمة الإسلامية، وجوّع الأمة الإسلامية، بحيث أصبح الفرد المسلم - كما يذكر تاريخ الطبري - مشغولاً بلقمة العيش عن القضايا الأساسية والمصيرية، وقد بثّ معاوية الرعبَ في نفوس الأمة الإسلامية بالقتل والتشريد والتهجير، بحيث خيّم على الناس شبح الرعب والخوف، فكانوا لا يمتلكون إرادة التغيير، ولا يمتلكون يقظة التغيير.

الحسين أدرك أن الأمة مغلّفة ملبّدة مخدّرة، لا ضمير فيها، ولا نبض فيها، ولا إرادة فيها، ولا حركة فيها، فرأى أن لا سبيل لإيقاظ الأمة أن يضحى بأثمن نفس، وبأغلى دم، وإذا لم يُضَحَّ بأثمن نفس وبأغلى دم فستبقى الأمة مخدرة، وسيبقى ضمير الأمة ضميرًا ميتًا، وإرادة الأمة إرادة ميتةً متراجعةً، ولا يوجد دمٌ أغلى من دمه، ولا نفسٌ أثمن من نفسه، فضحى، أي أنه أقدم على عملية استشهادية تضحوية بهدف تحريك إرادة الأمة وبعث يقظتها وضميرها.

وهذا ما أكّده الحسين في عدة خطابات، حيث قال: ”ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برمًا“، ”ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر“، ”خُطَّ الموتُ على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلى، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشًا جوفى، وأجربة سغبى، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تسر بهم نفسه، وتقر بهم عينه“، فالحسين يؤكد على أن القضية قضية استشهاد وتضحية.

النظرية الثانية: حركة الحسين ثورة.

المسألة لم تكن عملية استشهادية، بل إن المسألة أوسع وأكبر من ذلك، حيث كانت المسألة مسألة ثورة. كان الحسين يخطط لثورة وانقلاب، ولم يكن يخطط لعملية استشهادية، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: أن الثورة لها عناصر معروفة، وهي:

العنصر الأول: عنصر البيانات، فإن القائد بمجرد أن يبدأ الثورة يبدأ بإصدار بيانات تحريضية تحرّض المجتمع على أن ينتهج منهجه.

العنصر الثاني: بعث الوكلاء والسفراء إلى المناطق المختلفة؛ حتى يجمعوا له العدة والعتاد والأنصار.

العنصر الثالث: التحرش بالطرف الآخر، فإن الثائر لا ينتظر الطرف الآخر، بل إنه يبدأ بالتحرش بالطرف الآخر؛ حتى يشعل فتيل حركته وثورته.

وقد توفرت هذه العناصر - كما يقول صاحب هذه النظرية - في حركة الحسين ، فقد أصدر الحسين بياناتٍ منذ أول يوم ليحرض المجتمع على الحركة، حيث قال: ”لقد سمعنا ممن سمع عن رسول الله أنه قال: من رأى سلطانًا جائرًا مستحلاً لحُرَم الله ناكثًا لعهد الله فلم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعلٍ كان حقًا على الله أن يُدْخِلَه مدخلَه“، وقال: ”ألا فمن كان فينا باذلاً مهجته، موطنًا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحًا إن شاء الله“، وقال: ”يزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ للخمر، قاتلٌ للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“، وهذه كلها بيانات تحريضية، وهذا هو العنصر الأول.

وأما العنصر الثاني - وهو بعث الوكلاء - فقد بعث الحسين مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وبعث بعض أصحابه إلى البصرة لاستمالة بعض القبائل والعشائر، ويذكر بعض المؤرخين أنه بعث بعض أصحابه إلى اليمن أيضًا لجمع الأنصار. لو كانت حركة الحسين عملية استشهادية لما احتاج إلى كل هذه الأمور، ولخرج بجماعته وبأهل بيته إلى كربلاء ليستشهد وينتهي الأمر، فلماذا بعث الوكلاء والسفراء لجمع الرأي ولجمع العدة والعتاد؟! هذا عنصرٌ ثانٍ من عناصر الثورة.

وأما العنصر الثالث - وهو التحرش - فقد تمثل في تحرّش الحسين وبِدْئِه المعركة مع يزيد بن معاوية، حيث ذكر بعض المؤرخين - كالطبري وابن كثير - أن والي اليمن بعث إلى يزيد بن معاوية قافلة مملوءة بالحلل والأموال والأمور الثمينة، فمرت القافلة بالحجاز، ووصلت منطقة التنعيم في مكة، فأمر الحسين بالهجوم على القافلة ومصادرة ما فيها، وبالفعل هجم أنصاره على القافلة وصادروا ما فيها، فأخذ الحسين جميع الأشياء منها ووزعها على من يراه أهلاً لهذه الأشياء. ومن الواضح أن هذا تحرشٌ، مما يعني أن الحسين هو الذي أشعل الشرارة والمعركة من طرفه.

إذن فقد قام الحسين بعناصر الثورة كلها، وعلى ذلك فقد كان يخطّط لانقلاب، وإن كان يعلم بأنه سيُقْتَل، فإن قتله لا يعني نهاية الثورة، فإنه لم يكن يخطّط لثورة الشخص، بل كان يخطّط لثورة الأمة، وثورة الأمة لا تنتهي بانتهاء الشخص، ولا تنتهي بقتله، ولذلك هو يعلم بمقتله، لكنه خطّط للثورة من خلال هذه العناصر.

الوجه الثاني: عندما نلاحظ روايات أهل البيت نجد أنهم اهتموا بالحسين أكثر من أي إمام آخر، مع أن الإمام الحسن أفضل من الحسين، حيث كان إمامًا على الحسين، وكان أفضل منه، وكان الحسين - كما يقول المؤرخون - إذا جلس وأخوه الحسن جالس فإنه لا يتكلم ولا بحرف واحد؛ احترامًا وإقرارًا لأخيه الحسن ، وهو الذي قال يوم عاشوراء: ”ومات أخي وهو خيرٌ مني“، فمع أن الإمام الحسن أفضل من الحسين، لا نجد هذا الاهتمام في روايات أهل البيت بقضية الإمام الحسن، بل إن الاهتمام كله بالحسين.

بلغ اهتمام الروايات بالحسين أن صارت قضية الحسين محورًا أساسيًا في مذهب التشيع، وركيزةً من الركائز التي يستند عليها مذهب التشيع، فإن المذهب الشيعي له محاور أربعة:

المحور الأول: العقيدة، بمعنى الاعتقاد بأئمة اثني عشر معصومين منصوص عليهم بالإمامة.

المحور الثاني: الانتماء، وقد تحدثنا عنه في الليلة الثالثة من المحرم، عندما تحدثنا عن التوسل بأهل البيت واعتبارهم واسطة بين الله وبين مخلوقاته، وقلنا بأن ذلك محور أساسي في المذهب الشيعي.

المحور الثالث: التراث، فإننا عندما نقرأ كتب الحديث - كالكافي والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب - نجد أغلبها والكثير من الأحاديث كُتِب وجُمِع في زمن الأئمة ، أي أن الأئمة قاموا بحركة جمع الأحاديث، فجمعوا أحاديثهم في زمانهم، وسمّيت بالأصول الأربعمائة، وهي تجمع أربع مئة باب، وكل باب يحتوي على مجموعة من الأحاديث، وقد جُمِعَت هذه الأصول في حياة أهل البيت كمحور للتشيع، وهو تراث أهل البيت.

المحور الرابع: الشعيرة، فإن ما يميّز المذهب الشيعي على المذاهب الأخرى أن المذاهب الأخرى ليست عندهم شعائر، بينما المذهب الشيعي عنده شعيرة، أي أن من محاوره الشعيرة.

من لم يؤمن بالأئمة الاثني فليس بشيعي، ومن لم يؤمن بالتوسل بأهل البيت فليس بشيعي، ومن لم يؤمن بالتراث الحديثي لأهل البيت فليس بشيعي، ومن لم يؤمن بشعيرة الحسين فليس بشيعي. هذه محاور أربعة قام عليها التشيع. إذن أهل البيت اهتموا بقضية الحسين وجعلوها محورًا أساسًا بكاءً وزيارةً ومأتمًا.

مثلاً: على مستوى البكاء، ورد عن الإمام الصادق : ”من أنشد شعرًا في جدي الحسين فبكى وأبكى فله الجنة“، ”من ذُكِرْنا عنده فسال من عينه مقدار جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه“، وهذا اهتمام كبير بالبكاء. كذلك الزيارة: ”من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه“، ”من زار الحسين كان له بكل خطوة حجة“ أي: حجة مستحبة، وهذا اهتمام كبير بزيارة الحسين. كما ركّز الأئمة على مسألة المأتم أيضًا، حيث كان الإمام الصادق ينصب المآتم ويدعو الشعراء، كالسيد إسماعيل الحميري والكميت بن زياد الأسدي، وذلك من أجل تركيز ظاهرة المأتم. وكذلك نصب الإمام الرضا مأتمًا ودعا زعبل الخزاعي وغيره من الشعراء لإنشاد الشعر في الحسين، وورد عن الباقر : يا فضيل، أتجلسون وتتحدثون؟ قلتُ: بلى سيدي، قال: ”إني أحب تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلسًا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب“.

لو كانت المسألة مسألة عملية استشهادية لما كانت هناك حاجة لهذا الاهتمام كله، فإن هذا الاهتمام الكبير من أهل البيت بحركة الحسين معناه أن الحركة كانت أعظم وأكبر من عملية استشهادية، حيث كانت عملية ضخمة، وكانت ثورةً خُطِّط لها وأعد لها، وأراد أهل البيت استمرار جذوتها وبقاء شعلتها.

النظرية الثالثة: حركة الحسين مشروع.

حركة الحسين أكبر وأكبر من الثورة، فإنها مشروع، وإنما الثورة إحدى معالمه، فالثورة مجرد جزء من المشروع، ومعلم من معالمه، وصفحة من صفحاته، وإلا فالحسين مشروع حضاري كبير إلى قيام القائم «عجل الله فرجه الشريف» وليست مسألة الحسين مجرد ثورة، ويقرّر أصحاب هذه النظرية أن مشروع الحسين يستند إلى عدة جذور وله عدة معالم، ونكتفي في المقام بذكر أربعة معالم.

المعلم الأول: العطاء.

لا يوجد مشروع حضاري يمكن أن ينجح بدون عطاء، فإذا أراد شخص تأسيس جمعية خيرية أو مركز ثقافي مثلاً، ولم يكن لديه متطوعون يعطون بلا مقابل، فلن ينجح المشروع. أي مشروع حضاري لا ينجح بدون متطوعين يبذلون عطاء، سواء كان عطاء فكريًا أو عطاءً جسديًا أو عطاءً ماديًا أو عطاء وقتٍ وزمنٍ، إذ أن العطاء يختلف باختلاف المشاريع.

المعلم الأول من معالم مشروع الحسين هو العطاء، ولكن غاية ما في الباب أن الحسين أعطى دمه ونفسه، ولكن هذا لا يعني أن العطاء منحصرٌ بذلك، فإن الحسين يريد أن يقول لنا: المهم هو عنصر العطاء، سواء كان عطاء بالدم أو عطاء بالنفس أو عطاء بالفكر أو عطاء بالقلم أو عطاء بالصرخة أو عطاء بالجسد. المهم هو عنصر العطاء والبذل، كما قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.

المعلم الثاني: تراكم الطاقات.

إذا أراد شخص إنشاء مشروع فلا بد من جمع طاقات، فلو أراد تأسيس مركز ثقافي مثلاً فلا بد من أن يأتي بأخصائي علم نفس وبأخصائي علم اجتماعي وبأخصائي علم إدارة، كما لا بد من إحضار شخص متفقه يفهم الدين، فلا بد من جمع طاقات مختلفة لضمان البقاء والاستمرار للمشروع، وإلا لو جمد المشروع على طاقات معينة فإنه لن يستمر ولن يبقى.

الحسين جمع فئات وطاقات متعددة، فجمع الحرَّ: الحر بن يزيد الرياحي، والعبدَ: جون مولى أبي ذر، والرجلَ: أبا الفضل العباس، والمرأةَ: العقيلة زينب، والشيخَ: حبيب بن مظهر، والشابَ: علي الأكبر، والحجازي: أبا الفضل العباس، والعراقي: حبيب بن مظاهر، واليمني: زيد بن الرقاد الجهني... الحسين جمع شرائح مختلفة في مشروعه، حتى يعلمنا أن المعلم الأساس للمشروع هو تنوع الطاقات والمواهب والخبرات، كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

المعلم الثالث: محورية المرأة.

لا يوجد مشروع ينجح بدون المرأة. أي مشروع حضاري لا بد أن تكون المرأة محورًا فيه وعنصرًا مهمًا فيه؛ لأن كل مشروع فهو يكتسب المجتمع الرجالي والمجتمع النسوي، ولا يمكن اكتساب واجتذاب المجتمع النسوي إلا بواسطة المرأة، فالمرأة محور أساس في إنجاح المشروع، ولكن في الإطار الديني، وفي الإطار الشرعي، أي: مع محافظة المرأة على حجابها، وعدم اختلاطها بالحجاب، وعدم خلوتها بهم، فإنها يمكن أن تساهم في المشروع الحضاري.

الآن المرأة تساهم في إيران في بناء الحضارة وهي بحجابها ودينها، والمرأة في العراق تساهم في بناء المجتمع وهي بدينها وحجابها. الإمام الخميني «قدس سره» من أول الثورة دعا إلى أن تكون المرأة مع الرجل يساهمان في بناء الحضارة. السيد السيستاني «دام ظله» عندما أمر بالانتخابات قال: يجب على الرجل والمرأة أن يخرجا للمشاركة في الانتخابات، فأوجب ذلك حتى على المرأة؛ لأن لها محوريةً في المشروع الحضاري.

هناك كلمات غريبة، من قبيل: المرأة لا شغل لها إلا الجلوس في البيت، وليس لها أي دور اجتماعي! هؤلاء مراجع، فهل هم لا يفهمون الدين وأنت الذي تفهم الدين فقط؟! هؤلاء مراجع أوجبوا على المرأة أن يكون لها دور في بناء المشروع الحضاري. المرأة لها محورية في بناء المشروع الحضاري، ولكن المهم أن يكون بالإطار الشرعي.

هنا أنبه على نقطة: بعض الجماعة اتصل بي تلفونيًا - وأنا أحب النقد والملاحظة، ويعجبني أن المجتمع يتفاعل معي بالنقد لا بالتسليم، ولستُ أمام النقد أبدًا - وقال: نحن فهمنا من كلامك الليلة السابقة أنك تدعو للعلاقة مع المرأة الأجنبية، وتقول بأنه لا بأس بأن يكوّن الشاب علاقة مع المرأة الأجنبية، ولكن المهم أن تكون علاقة أخوية، فأنت تدعو لتأسيس العلاقة!

قلتُ له: لا، أنت مشتبه، وليس هذا مضمون كلامي ولا مقصوده. أنا قلت وتحدثت عن الرجل الذي من ضمن عمله وجود المرأة، كالطبيب الذي يعمل في المستشفى ومعه في مجال العمل نساء، أو الإنسان الذي يدرس في الخارج ومعه زميلات نساء. أنا تكلمتُ عن هذا الشخص الذي معه المرأة في مكان واحد وفي عمل واحد وفي دراسة واحدة. هذا الشخص بدل أن يتجه إلى العلاقات العاطفية، فليحصر علاقته بالمرأة التي تشاركه في العمل في العلاقة الأخوية، وفسّرت معنى العلاقة الأخوية، فقلت: أن يتحدث معها بالحديث المتعارف، أي: أن يتحدث معها بالحديث المتعارف في ضمن العمل وحدوده وسؤال عن الأحوال، لا أكثر من ذلك.

معنى العلاقة الأخوية هو الحديث المتبادل ضمن الدائرة المتعارفة، ولم أقل بأن الإنسان ينبغي أن يذهب ابتداء ويرفع التلفون ويكلّم بنت الجيران ويؤسّس معها علاقة ويسمّيها علاقة أخوية! هذا لم أقله، ولم يصدر مني، وليس هو مضمون كلامي، ولم أجوّز ابتداء وتأسيس علاقة مع امرأة أجنبية ولو بعنوان العلاقة العاطفية.

الحسين جعل معلمًا من معالم حركته: محورية المرأة، حيث قال: ”شاء الله أن يراني قتيلاً، وأن يرى النساء سبايا“. لماذا أتى بالمرأة؟! لماذا لم يترك النساء في المدينة؟! ما هو الهدف؟! هو يريد أن يقول: صوت زينب عنصرٌ ضروريٌ لإنجاح المشروع، ولسان زينب عنصرٌ ضروريٌ لإنجاح المشروع، ولولا لسان زينب لانطفأت حركة الحسين وشعلته . زينب في الشام وفي الكوفة وفي الطرقات وفي الأسواق أجّجت الأمة، وفضحت المخطط الأموي، وروّجت للمشروع الحسيني.

والي المدينة كتب إلى يزيد: إن زينب بنت علي امرأة منطيق سجّاعة تؤجّج الناس علينا. فأرسل إليه الحاكم الأموي: أنفوها وأخرجوها من المدينة قسرًا. وفعلاً أخرجوا زينب مع زوجها فقط قسرًا عليها، وقد ذهبت إلى مصر على بعض الروايات، وعلى بعض الروايات ذهبت - كما هو المشهور عند الشيعة - إلى الشام. لماذا أخرجوها؟! إذا كانت جالسة في بيتها، وليس عندها دور اجتماعي ولا سياسي، فلماذا أخرجوها؟! هذا دليل على أنه كان لها دورٌ. بنت أمير المؤمنين كان لها دور رسالي اجتماعي، حيث أجّجت الأمة ضد بني أمية، فلم يروا مجالاً لقتلها وهي امرأة، فذهبوا إلى وسيلة أخرى، وهي إخراجها ونفيها من المدينة قسرًا.

المعلم الرابع: مزج الفكر بالعاطفة.

الفكر على نوعين: فكر نخبوي، وفكر جماهيري. هناك فكر محصور في نخبة معينة وفي طبقة معينة من المجتمع، وهذا ما يعبّر عنه بالفكر النخبوي. وهناك فكر يمتد مع امتداد الجماهير ولا يقف عند نقطة معينة، وفرق بين الفكرين. الفكر إذا تجرّد من العاطفة انحصر في جماعة معينة، وإذا امتزج بالعاطفة صار فكرًا جماهيريًا. مثلاً: الفكر اليوناني - كفكر أرسطو وسقراط وأفلاطون - لا يعرفه إلا جماعة معينة؛ لأنه فكر مجرّد عن العاطفة، فلا يستوعبه إلا مجموعة معينة. وأما غاندي - محرر الهند - فلم يحرّر الهند بفكر نخبوي، بل حرّرها بفكر جماهيري، ولولا ذلك لما حرّر الهند. غاندي مزج فكره بالعاطفة، فصار له امتداد جماهيري، حيث قال: علمني الحسين أن أكون مظلومًا فأنتصر.

الحسين يوم عاشوراء مزج الفكر بالعاطفة، حيث خطب وشرح أهدافه، وهذه معركة فكرية، ثم خاض المعركة الجسدية بشتى فصولها، فمزج الفكر بالعاطفة، وهذا المزج عنصرٌ من عناصر ومعالم المشروع الحضاري، حتى يكون للفكر امتداد جماهيري.

المحور الثالث: تحليل ظاهرة البكاء يوم عاشوراء.

الحسين بكى عندما قُتِل ولده، وبكى عندما قُتِل أخوه، وبكى عندما قُتِل أنصارُه، فما هو سر بكائه؟ القائد للثورة لا يبكي، بل يبقى متصلبًا صابرًا صامدًا لا يبكي ولا ينفعل، فما هو سر بكاء الحسين يوم عاشوراء؟

هنا ثلاثة تفسيرات:

التفسير الأول: البكاء المسرحي.

الحسين كان يمثّل صورًا بكائية، وكان يمثّل دورًا مسرحيًا يوم كربلاء، من أجل تعليم الأجيال المقبلة مدى شناعة الجريمة الأموية، ومدى فظاعة المأساة، ومدى عظمة الفاجعة التي حلت على آل بيت النبي ، فالبكاء كان بكاء مسرحيًا.

التفسير الثاني: البكاء الوجداني.

الحسين لم يكن يمثل، بل كان يبكي بكاء حقيقيًا، وكان ينفعل انفعالاً وجدانيًا، ولذلك احتضر لما برز ولده الأكبر، فبكاؤه كان بكاء انفعال، والمسألة مسألة وجدانية، فكما أن الرسول الأعظم - وهو أفضل من الحسين - بكى لما مات ولده إبراهيم، وقال: ”تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرب“. الرسول بكى على ولده إبراهيم بكاءً وجدانيًا إنسانيًا، والحسين أيضًا إنسان، والإنسان إذا فقد ولدَه، وإذا رأى مشاهد مروّعة مبكية من الفواجع والمصائب فإنه يبكي إذا كان إنسانًا طبيعيًا، ولذلك البكاء الذي صدر من الحسين كان بكاءً طبيعيًا وجدانيًا إنسانيًا.

التفسير الثالث: البكاء الشهودي.

هذا هو التفسير الذي نختاره ونركّز عليه، وحتى يتضح هذا التفسير نطرح مطلبًا من مطالب علم العرفان، فنقول: الحسين انكشف له عالم الملكوت، كما انكشف للنبي إبراهيم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»، حيث قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. عالم الملكوت هو عالم ما وراء المادة، كأرواح الموتى، والملائكة، والجن، والأشباح، والعقول. النبي إبراهيم انكشف له عالم الملكوت ليكون من الموقنين، والإمام علي انكشف له عالم الملكوت، ولذلك كان يقول: ”لو كُشِف لي الغطاءُ - أي: لو متُّ وانتقلتُ من الدنيا - ما ازددتُ يقينًا“.

وكذلك انكشف للحسين عالم الملكوت، فلما انكشف له عالم الملكوت رأى أن الكون بأكمله تجاوب مع يوم عاشوراء، وتجاوب مع مأساة عاشوراء، وعندنا روايات عديدة نشرح بعضها، فمثلاً: نقرأ في زيارة الحسين: ”أشهد أن دمك سكن في الخلد“. دمه ذهب في التراب، فكيف سكن في الخلد؟! هذا ما تصوّره بعض الروايات فتقول بأن ملائكة السماء كانت تنزل وتلتقط قطرات من دم الحسين .

أنت تسمع من الخطباء رواياتٍ معتبرةً تقول بأن الحسين رمى بدمه فما رجعت منه قطرة، أي أن الملائكة كانت تلتقط هذه الدماء، وتُجْمَع هذه الدماء لتصبح وسامًا يتقلده الحسينُ يوم القيامة، وهو وسام سيد الشهداء وأبي الثوّار، ولذلك نقول في زيارته: ”أشهد أن دمك سكن في الخلد“.

ونقرأ في روايات أخرى في زيارات الحسين: ”أشهد لقد اقشعرت لدمائكم أظلة العرش مع أظلة الخلائق“. العرش مركز معلومات. كل دولة وكل مؤسسة لها مركز معلومات واستخبارات، والكون أيضًا له مركز معلومات، وهو ما يعبّر عنه بالعرش، ومنه تصدر الأوامر والنواهي، وهذا المركز - وهو العرش - محاطٌ منذ أن تكوّن بأنوار تتلقى الأوامر وترسلها إلى الطبقة الثانية، والطبقة الثانية ترسلها إلى الطبقة الثالثة، وكل طبقة ترسل الأوامر إلى طبقة أخرى، ومن هذه الطبقات: الكروبيون والروحانيون والمسبحون... إلخ. الأنوار المحيطة بالعرش تسمّى أظلة العرش، وهذه الأنوار اهتزت واقشعرت يوم عاشوراء.

وأما أظلة الخلائق: فهي الأظلة الموجودة في عالم المُثُل، حيث يوجد لكل شخص منا مثالٌ وظلٌ يحكيه في ذلك العالم. الإنسان إذا مات فإنه يفارق جسده المادي، ويذهب هذا الجسد إلى التراب، وتنطلق الروح، وتتلبس بالجسد المثالي، ويعيش هذا الجسد المثالي في عالم المُثُل. جميع الخلائق من إنسان وحيوان ونبات وكل شيء له ظل في عالم المُثُل، وقد اقشعر عالم المُثُل بأظلة الخلائق لمصيبة يوم عاشوراء.

إذن الحسين لما انكشف له عالم الملكوت، ورأى هذا الاهتزاز والاقشعرار في عالم العرش وفي عالم الملائكة وفي عالم الأظلة وفي عالم الأمثلة وفي عالم الأشباح، ذرفت دموعه على خديه، فالدموع - دموع الحسين - تحكي اهتزازًا واقشعرارًا في عالم الملكوت. ما كان بكاء الحسين مسرحيًا ولا كان بكاؤه إنسانيًا وجدانيًا عاديًا، بل كان بكاء الحسين تعبيرًا عن ضجةٍ واقشعرار واهتزاز في عالم الملكوت.

ابن حجر - وهو من علماء السنة - يذكر في الصواعق المحرقة أن السماء أمطرت دمًا عبيطًا، وما رُفِع حجرٌ ولا مدرٌ إلا ووُجِد تحته دمٌ عبيطٌ. دم الحسين صبغ الكون بأسره.

وعلى الأفقِ من دماء الشهيدين
فهما   في  أواخر  الليل  iiفجران
  علي       ونجله      iiشاهدانِ
وفي       أولياته       iiشفقانِ

الفقه الإمامي في تعامله مع النص
الشباب والنهم العاطفي