نص الشريط
المفردات الإنسانية في سيرة أهل البيت
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/1/1427 هـ
مرات العرض: 3281
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2212)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في عدة محاور:

من هم أهل البيت؟ وما سر تفضيلهم على غيرهم؟ وكيف نقرأ أهل البيت قراءةً تنعكس على سلوكنا وحياتنا؟

المحور الأول: من هم أهل البيت الذين عصمهم الله تبارك وتعالى من الرجس وطهرهم تطهيرًا؟

هنا أمامنا نصان واردان عن النبي يوضحان لنا مفهوم أهل البيت:

النص الأول: ما ذكره صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة قالت: خرج عليَّ رسول الله وعليه مرط مرحل من شعر أسود وقال: أين علي وأين فاطمة وأين حسن وأين حسين؟ فلما اجتمعوا أسدل عليهم الكساء وقال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي“.

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا أم المؤمنين عائشة تشهد أن مفهوم أهل البيت لا يتناول نساء النبي ولا يتناول أعمام النبي ولا يتناول أبناء أعمامه وإنما يختص بشهادة أم المؤمنين بهؤلاء الصفوة: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، النبي لم يُدْخِل غيرهم معهم.

النص الآخر: ما رواه الحاكم في مستدركه ومسلم في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده عن النبي المصطفى : ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفونني فيهما“.

هذا النص يوضح لنا أن أهل البيت عِدْلٌ للقرآن وثقلٌ آخر معادل لثقل القرآن، وطبعًا هذا الوصف لا ينطبق على كل قريب من النبي سواء كان عمًا أو ابن عمٍ أو امرأة أو زوجة، لا يمكن أن ينطبق على شخص أنه عدل القرآن وأنه ثقلٌ معادلٌ لثقل القرآن إلا إذا كان هذا الشخص معروفًا بالعلم ومعروفًا بالتقوى، حينئذ يمكن أن يصدق عليه أنه عدل القرآن وثقلٌ آخر كثقل القرآن، النبي حدد أهل البيت، أهل بيتي هم ثقل القرآن، هم الذين ينطبق عليهم أنهم عدل القرآن لا كل أقربائي وعشيرتي.

نحن عندما نريد أن نطبق هذا الوصف تاريخيًا: على مَنْ ينطبق أنه عدل القرآن؟

نقرأ كتب التاريخ، لنغض النظر عن كتب الإمامية، لنغض النظر عن كتب تاريخ الإمامية، ولنقرأ كتب التاريخ لأقلام غير إمامية: ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري، كشف الغمة للأربلي، تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي، الكامل لابن الأثير، وفيات الأعيان لابن خلدكان، تاريخ بغداد للبغدادي... هذه الكتب كتبتها أقلام غير إمامية، جميع هذه الكتب لم تذكر لنا من أقرباء النبي ومن عشيرة النبي ومن أعمامه وأبناء أعمامه أحدًا إلا عليًا والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين، فهذه الكتب لم تترجم ولم تذكر أن هناك شخصًا من بني هاشم اتصف وجمع العلم والتقوى غير هؤلاء: علي والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين ، وهذه شهادة أخرى، شهادة من قِبَل التاريخ، ومن قِبَل أقلام المؤرخين، أن أهل البيت هم هؤلاء الأئمة الاثنا عشر لا غيرهم، هذا هو المحور الأول.

المحور الثاني: ما هو سر تفضيل وتكريم أهل البيت؟

ربما يطرح الإنسان تساؤلاً، وهو: نحن لماذا نعظم أهل البيت على غيرهم؟ هذا المجتمع البشري عاش عمالق وعظماء، إديسون، نيوتن، غاليلو، آينشتاين... هؤلاء العظماء اخترعوا انجازات حضارية كبيرة جدًا أهل البيت لم يقدموا مثلها، أهل البيت لم يقدموا لنا إنجازات مثل ما قدم لنا إديسون ونيوتن وآينشتاين، هؤلاء العمالقة قدموا لنا إنجازات ضخمة رفعت ونقلت المجتمع الإنساني من حضيض التخلف إلى قمة الحضارة، فهؤلاء العمالقة أولى بالثناء وأولى بالتمجيد وأولى بالتكريم من أهل البيت، لأن أهل البيت لم يقدموا ما قدم هؤلاء، فما هو السر في تكريم وتفضيل أهل البيت على هؤلاء العمالقة المتنوعين المتعددين؟

سر تكريم أهل البيت يكمن في وجهين:

الوجه الأول هو: مسألة الروح الإنتاجية.

نحن لماذا نعظم إديسون؟ لأنه اخترع كهرباء؟! لا، الكهرباء مجرد مظهر، نحن لا نعظم إديسون لأنه اخترع الكهرباء، نحن نعظم إديسون لأنه يحمل روح إنتاجية، هذه الروح الإنتاجية أبدعت الكهرباء وأبدعت غير الكهرباء، ليس الثناء والتمجيد للكهرباء، الثناء والتمجيد لما وراء الكهرباء، وهي روح الإنتاج، روح العطاء، إديسون يحمل روح إنتاجية، يحمل روح عطاءٍ، نحن نعظم تلك الروح التي من خلالها وبواسطتها اخترع إديسون الكهرباء واخترع إديسون غير الكهرباء، نحن نتكلم عن الروح الإنتاجية التي وراء هذا المُخْترَع.

إذن المسألة هي مسألة روح الإنتاج، روح العطاء، وليست مسألة المُخْترَع، وإلا لو كان ثناؤنا وتمجيدنا وتكريمنا لطاقة الكهرباء التي بُثت لكان هناك عوامل طبيعية أولى بالتمجيد والتكريم من إديسون، مثلاً الشمس، أيهما أهم لحياتنا: الشمس أم إديسون؟! الشمس، لا يمكن للمجتمع البشري أن يبقى لحظة على الأرض من دون الشمس، نحن نستمد حياتنا ودفأنا ونمونا وحياتنا على الأرض من الشمس، فالشمس أهم بكثير من اختراع الكهرباء أو اكتشاف الجاذبية أو اكتشاف أي أمر آخر، لو كنا نثني على إديسون لأنه اخترع الكهرباء لكانت الشمس أولى بالثناء وأولى بالتمجيد وأولى بالتكريم من أي مُخترِع آخر لأنها أكثر ضرورة لحياتنا من غيرها.

إذن نحن لا نمجد الكهرباء، نحن نمجد الروح الإنتاجية، إديسون كان يمتلك روحًا إنتاجية، نيوتن كان يمتلك روحًا إنتاجية، نحن نمجد تلك الروح، الإنسان عندما يمتلك روحًا إنتاجية... الروح الإنتاجية ماذا تعني؟

تعني أن يرى الإنسان نفسه وسيلة لخدمة المجتمع، طاقتي وعقلي وقدرتي ما هي إلا وسيلة لخدمة المجتمع، الإنسان عندما يسخر طاقته ويسخر عقله ويسخر جهده لخدمة المجتمع فهو إنسان يمتلك روحًا إنتاجية، يمتلك روحَ العطاء، وهذه الروح هي التي تستحق الثناء وهي التي تستحق التمجيد.

إديسون وغيره من أين استمدوا روح العطاء؟ من أين استلهموا روح الإنتاج؟ من أين استلهموا روح البذل؟ استلهموها من رجال السماء، من الأنبياء والمرسلين والأولياء ومنهم أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأن هؤلاء كلهم «رسل السماء، أنبياء السماء» وظيفتهم بث روح الإنتاج في البشرية، بث روح العطاء في البشرية، بث روح البذل في البشرية، كما ورد في الحديث: ”أحبب لغيرك ما تحب لنفسك“، وورد عن أمير المؤمنين : ”خير الناس من نفع الناس“، وورد عن أمير المؤمنين : ”أعقل الناس من جمع عقول الناس إليه“.

إذن أهل البيت والأنبياء والرسل هم المصدر، لولاهم لما تعلمت البشرية روح الإنتاج وروح العطاء، فالأولى بالثناء والأولى بالتمجيد ليس هو إديسون، ليس هو نيوتن، هؤلاء متعلمون، الأولى بالثناء من عَلمَهُم روح العطاء ومن عَلمَهُم روح العطاء ومن غرس فيهم هذه القيمة الاجتماعية، ألا وهم الأنبياء والرسل والأولياء والأئمة الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الوجه الثاني:

هذه الإنجازات المادية «اختراع وسائل النقل، اختراع وسائل الاتصال، اختراع مظاهر التكلنوجيا المتطورة...» ما هو الهدف منها؟ لماذا نخترع هذه الوسائل؟ هل الهدف منها أن نوفر للإنسان وسائل العيش الرغيد بحيث يصبح الإنسان آلة تكلنوجية ينام على الوسادة النعامة، يأكل أفضل المآكل، يركب أفخم سيارة... وأمثال ذلك؟! هل الهدف من هذه الإنجازات المادية ترفيه الإنسان وإعطاء الإنسان وسائل العيش الرغيد؟ طبعًا لا، ليس هذا هو الهدف، لو سألت إديسون وغيره: ما هو الهدف من الإنجازات المادية كلها؟

الهدف منها تحديد السعادة الإنسانية على الأرض، الإنسان يحتاج إلى السعادة، تحقيق السعادة الإنسانية على الأرض استدعى أن توفر للإنسان الإنجازات المادية كي يحصل على طعم السعادة وعلى ذوق السعادة، يعني أن الإنجازات المادية مجرد وسيلة وليست غاية، الغاية من هذه الإنجازات كلها سعادة الإنسان، طيب كيف يحصل الإنسان على السعادة؟ هل يحصل الإنسان على السعادة بهذه الإنجازات المادية؟

لا، حتى لو تراكمت هذه الإنجازات، أصبح الإنسان يعيش في رغد من قرنه إلى قدميه، لا يمكن أن يحصل الإنسان على السعادة إلا إذا انتشرت قيمة العدالة وانمحت صورة الظلم، السعادة بالعدالة، السعادة بانتشار قيم العدالة وانطفاء صور الظلم، هذا هو المقياس في السعادة بالنسبة للمجتمع الإنساني، وإلا مجتمع تكنولوجي متطور ولكنه مجتمع يظلم بعضه بعضًا ويحارب بعضه بعضًا، مجتمع تنتشر فيه الحروب وتنتشر فيه المظالم وتنتشر فيه الأوبئة وتنتشر فيه الأمراض الخطيرة، أين السعادة؟! السعادة ليست بالإنجازات المادية، السعادة الإنسانية يكتسبها المجتمع البشري بنقطة واحدة، بانتشار قيمة العدالة، لماذا؟

لأن العدالة هي التي تحكم المخترع مثل إديسون، وتحكم المستهلك مثلي أنا، وتحكم الحاكم وتحكم المحكوم، لولا العدالة لما وفر لنا إديسون إنجازًا ماديًا، ولتحول إديسون إلى إنسان شيطان يخترع الأسلحة المدمرة، لولا العدالة لما استهلك الإنسان الكهرباء فيما ينفعه، بل لاستخدم الكهرباء فيما يدمر المجتمع البشري، لولا العدالة لجار الحاكم، لولا العدالة لتمرد المحكوم، إذن ثبات العدالة على الأرض، تحقيق العدالة على الأرض منوط بانتشار العدالة لا بالإنجازات المادية، الإنجازات المادية مجرد عامل مساعد لا أكثر، المهم هو العدالة.

إذن الأولى بالثناء والأولى بالتمجيد والأولى بالتكريم هو رواد العدالة لا رواد الإنجازات المادية، من قاموا بالإنجازات المادية مشكورون، ولكن الأولى بالتمجيد والتكريم حملة العدالة، الذين حملوا العدالة قولاً وفعلاً وتضحيةً وجهدًا وتطبيقًا، حماة العدالة وحملة العدالة هم حملة السعادة للمجتمع الإنساني، فهم الأولى بالتكريم والثناء، هم الذين قال عنهم القرآن: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ عدالة، القسط هو العدالة، هم الذين قال عنهم أمير المؤمنين: ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والله لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم“ العدالة التي قال عنها الحسين بن علي: ”ما الإمام إلا العامل بالكتاب القائم بالقسط الحابس نفسه على ذات الله“، إذن المهم تمجيد حملة العدالة، هذا هو السر في تفضيل أهل البيت وتكريم أهل البيت.

المحور الثالث: كيف نقرأ تاريخ أهل البيت؟

هنا قراءتان:

1 - قراءة تجزيئية.

2 - وقراءة شمولية.

ما هو الفرق بين القراءتين؟

أهل البيت صورة أخرى عن القرآن الكريم، الرسول الأعظم قال: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي“ أهل البيت قرآنٌ آخر، قرآنٌ يتحرك على الأرض.

إني   بمدح  بني  النبي  iiلناطقُ

ساووا    كتابَ   الله   إلا   iiأنه

 
والنظم  يشهد  لي بأني iiصادقُ

هو صامتٌ وهم الكتابُ الناطقُ

القرآن نقرؤه بقراءتين وأهل البيت نقرؤهم بقراءتين، القرآن له قراءتان:

1 - قراءة تجزيئية.

2 - وقراءة شمولية.

1 - القراءة التجزيئية: أن نقرأ كل آية منفصلة عن الآية الأخرى، بحيث نعتبر كل آية تحمل تشريعًا وتقنينًا مستقلاً عما تحمله الآية الأخرى، هذا يسمى بالقراءة التجزيئية للقرآن الكريم.

2 - أما القراءة الموضوعية: القراءة الشمولية لا نقرأ كل آية آية، بل نأخذ الآيات المتعلقة بموضوع معين، مثلاً: بداية الكون في القرآن الكريم، ما هي الآيات التي تتحدث عن بداية الكون في القرآن، هذه نسميها قراءة موضوعية، نجمع جميع الآيات التي تتحدث عن بداية الكون، نجمع جميع الآيات التي تتحدث عن الإمامة، نجمع جميع الآيات التي تتحدث عن التوحيد، ونشكل منها منظومة معرفية متكاملة والقرآن يفسر بعضه بعضًا، هذه تسمى قراءة موضوعية للقرآن الكريم، قراءة شمولية.

نحن نحتاج إلى كلا القراءتين، لماذا؟

لو لم نقرأ القرآن قراءة تجزيئية آيةً آية لما وصلنا إلى القراءة الشمولية، القراءة الشمولية تتوقف على القراءة التجزيئية، القراءة التجزيئية تمهيد للقراءة الشمولية، نحن نحتاج إلى القراءة الشمولية، لماذا؟

لو لم نقرأ القرآن ككتلة واحدة وكمنظومة واحدة لما فهمنا القواعد العامة في القرآن الكريم، القرآن كتاب له قواعد عامة، مثل الطب له قواعد عامة، هذا القرآن أيضًا له قواعد عامة تحكمه، القرآن نفسه يقول: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ الأم يعني المصدر، أنت عندما تقرأ كتاب تقول: أين مصادره؟ يقال لك: مصادره الكتب الفلانية، أم القرآن مصادره فيه، ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ مصادر القرآن ضمن القرآن الكريم، ولذلك يقول في آية أخرى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ يعني جعِلت مصادر ثم فرِّعَ على هذه المصادر، ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ فهناك قواعد عامة وهناك تفريعات، لا يمكننا أن نفهم القواعد العامة والمضامين العامة في القرآن إلا بالقراءة الشمولية، القراءة التجزيئية لا توصلنا لذلك.

بل لو أغمضنا النظر عن القراءة الشمولية لرأينا الآيات القرآنية متعارضة، مثلاً قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ هذه معناها أن لله يدًا، قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني الله يُرَى، يُنظر إليه، هذه تتناقض تمامًا مع قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وهذا التعارض لا ينحل إلا إذا قرءنا القرآن قراءة شمولية بحيث يفسر بعضه بعضًا، هذا بالنسبة إلى القرآن.

نفس الأمر بالنسبة لأهل بيت النبي محمدٍ ، أهل البيت لهم قراءتان:

1 - قراءة تجزيئية: أن نقرأ كل إمام مستقلاً عن الإمام الآخر، مثلاً نتحدث عن الإمام علي، ولادته، شهادته، علمه، زهده، شجاعته، فكره، عطائه، ثم نتحدث عن الإمام الحسن «ولادته وعلمه وحلمه...»، هذه تسمى قراءة تجزيئية، كأن كل إمام جزيرة مستقلة عن الجزيرة الأخرى، عن الإمام الآخر.

2 - وهناك قراءة شمولية لأهل البيت: أن نقرأ أهل البيت من خلال عناوين معينة، مثلاً: حقوق الإنسان عند أهل البيت، نجمع الشواهد التي تتعلق بحقوق الإنسان، هذه قراءة شمولية، مثلاً: قيمة العدالة عند أهل البيت، قيمة الزهد عند أهل البيت، هذه تسمى قراءات شمولية.

نحن نحتاج إلى كلا القراءتين، نحتاج إلى القراءة التجزيئية كمقدمة وتمهيد إلى القراءة الشمولية، ونحتاج إلى القراءة الشمولية، لو لم نقرأ أهل البيت كأسرة واحدة، كلسان واحد، كمنطق واحد لما عرفنا الأهداف العامة التي يركز عليها جميع أهل البيت، الأهداف العامة: هدف الهداية، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، الأهداف العامة لا يمكن أن نكتشفها من دون القراءة الشمولية.

بل لو لم نقرأ أهل البيت قراءة شمولية لرأينا مواقفهم متباينة، مثلاً: الإمام الكاظم سلام الله عليه يقول لصفوان الجمال... صفوان الجمال أحد أصحاب الإمام الكاظم، وكان عنده جمال، صفوان يُؤَجِّر جماله على هارون الرشيد، هارون الرشيد يستأجر الجمال لكي يذهب إلى الحج، الإمام يرى صفوان: ”يا صفوان، كل شيء منك حسن ما خلا شيئًا واحدًا، قال: ما هو سيدي؟ قال: إكراءك جمالك لهذا الرجل «أنت تتعامل مع الظالم»، قال: سيدي إنني لا أباشر العمل بنفسي وإنما يباشره الغلمان «أنا عندي موظفون يباشرون الأمر، أنا لا أباشره» وإنني أكريه لهذا البيت «يعني ليس لمعصية، لحج بيت الله»، قال: يا صفوان، أيخرج كراؤك منهم؟ «أنت من أين تأخذ أجرك؟ أليس منهم؟»، قال: بلى، قال: أتحب بقاءهم إلى أن يخرج كراؤك؟ «طبعًا يريد حتى تخرج الأجرة»، قال: نعم، قال: يا صفوان من أحب بقاءهم فهو منهم ومن كان منهم أكبه الله على وجهه في النار، يا صفوان، لَئِن أسقط من أعلى شاهق فأتقطع قطعةً قطعة أحب إليَّ من أن أطأ لهم بساطًا أو أتولى لهم عملاً“.

هذا الموقف يظهر لنا أن المبدأ هو مبدأ المقاطعة ومبدأ المواجهة، ولكننا نرى الإمام الرضا يقبل ولاية العهد، ويصبح ولي عهد المأمون، كيف نجمع بين الموقفين: بين من يأمر بالمقاطعة وبين من يتولى ولاية العهد؟

هذه المواقف لو لم نقرأ سيرة أهل البيت قراءة شمولية لما استطعنا أن نجمع بين هذه المواقف، لرأينا أن هذه المواقف مواقف متعارضة، ولكن إذا جعلناها منظومة معرفية واحدة أصبح بعضها يفسر الآخر، بل بعضها يمهد للآخر، كيف؟

لولا صلح الإمام الحسن لمعاوية لما استطاع الإمام الحسين أن يثور على يزيد، الحسين استفاد من صلح الحسن، لأنه بصلح الحسن معاوية خان الصلح ولما خان معاوية الصلح صار حجة للحسين أن يخرج على يزيد، الحسن صالح ومعاوية نقض الصلح وصار نقض الصلح حجة ومستمسكًا بيد الحسين تمسك به من أجل الثورة على يزيد بن معاوية، صلح الحسن عَبَّدَ الطريق لثورة الحسين ، ولولا ثورة الحسين لما نشر زين العابدين صحيفته السجادية، لماذا؟

لأن المجتمع الإسلامي قبل شهادة الحسين كان مجتمعًا ميتًا، كان مجتمعًا ميتًا متخلفًا بمعنى الكلمة، لما استشهد الحسين صار المجتمع يغلي، صار المجتمع يعيش حرارة، يعيش غليان، صار المجتمع يستقبل من أهل البيت ما لم يكن يستقبله قبل قتل الحسين ، فصار المجتمع مهيأ للقيم الروحية والقيم العرفانية التي بثها زين العابدين، ولولا دم الحسين وغليان المجتمع لما استقبل المجتمع الأجواء الروحية التي بثها الإمام زين العابدين .

ولولا الجو الروحي التي بثه زين العابدين ما استطاع الإمام الباقر أن يقيم الجامعة العلمية في المدينة المنورة، لِمَ؟

لأن الأمة لما عاشت أجواء زين العابدين ونبل زين العابدين أصبحت متعاطفة مع أهل البيت، مقبلة عليهم، متمسكة بهم، أصبحت الأرض مهيأة لإقامة جامعة علمية في المدينة المنورة، فكل إمام يُمَهِّد للإمام الذي بعده، هذه الأدوار التي نراها متناقضة هي أدوار تحت إطار واحد، تحت هدف واحد، سلسلة متتابعة يمهد بعضها للبعض الآخر.

إذا أردنا أن نقرأ أهل البيت فهنا قراءتان:

1 - قراءة تجريدية.

2 - وقراءة واقعية.

ما هو الفرق بين القراءتين؟

تارة نقرأ أهل البيت قراءة تجردهم من المجتمع البشري، نجعلهم نجوم تشعشع في السماء من دون أن يصل إليها المجتمع، مثلاً: نحن عندما نقرأ الإمام عليًا كيف نقرؤه؟ إذا قلنا: الإمام علي وليد الكعبة، الإمام علي داحي باب خيبر، الإمام علي باب مدينة العلم، الإمام علي ردت له الشمسُ، الإمام علي طويت له الأرضُ، الإمام علي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة... هذه نسميها قراءة تجريدية، لماذا؟

لأن الإمام علي بهذه القراءة أصبح شيئًا والمجتمع البشري شيئًا آخر؛ لأن المجتمع البشري لا يمكن أن يكون كذلك، لا يمكن أن يكون وليد الكعبة ولا داحي باب خيبر ولا ردت له الشمس ولا تطوى له الأرض ولا باب مدينة العلم، فنحن عندما نقرأ الإمام علي بهذه القراءة جردناه عن المجتمع البشري، صار شيئًا والمجتمع البشري شيئًا آخر، صار الإمام علي كالنجم الذي يشعشع في السماء والمجتمع البشري لا يستطيع أن يصل إلى النجم، إنما ينظر إليه بإكبار وإجلال ويستفيد من ضوئه، لا أكثر من ذلك، هذه تسمى قراءة تجريدية.

عندنا قراءة أخرى: قراءة واقعية، كيف يعني قراءة واقعية؟

يعني ننطلق من الواقع إلى الإمام، واقعنا يحتاج إلى العدالة فكيف كانت العدالة عند علي بن أبي طالب؟ واقعنا يحتاج إلى الأخوة الصادقة فكيف جَسَّدَ عليٌ الأخوة الصادقة؟ واقعنا يحتاج إلى أن نتعامل مع الدنيا معاملة الوسيلة لا معاملة الغاية فكيف جَسَّدَ عليٌ التعامل مع الدنيا؟ الانطلاق من الواقع إلى الإمام علي قراءة واقعية تجعل المجتمعَ متصلاً بعلي وعليًا متصلاً بالمجتمع.

إذن عندنا قراءة تجريدية وقراءة اتصالية واقعية، نحن نحتاج إلى كلا القراءتين، لماذا؟

الإمام له جنبتان:

1. جنبة ملكوتية.

2. وجنبة ملكية.

الملكوت يعني عالم الغيب، القرآن الكريم يقول: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، «ملكوت كل شيء» يعني الجهة الغيبية لكل شيء، وعندنا عالم الملك، عالم الملك هو العالم الإنساني، عالم المادة، عالم الحس، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، فهناك ملك وهناك ملكوت، «ملكوت» عالم الغيب، «ملك» عالم الشهادة، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.

الإمام له جنبتان:

1. جنبة ملكوتية متصلة بالغيب.

2. وجنبة ملكية متصلة بكونه إنسانًا، الرسول الأعظم محمدٌ يشرح لنا القرآن الكريم أن له جنبتين: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ هذه الجنبة الملكية، ﴿يُوحَى إِلَيَّ هذه الجنبة الملكوتية، فأنا عندي جهتان: جهة غيبية وجهة إنسانية، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أنا أمتلك جنبتين.

أيضًا الإمام يمتلك جنبتين، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”ألا وإن لكل مأموم إمامًا يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه «يعني بثوبيه» ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك“ هذه جنبة ملكوتية تختص بي أنا، ”ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك“ لكن هناك جنبة ملكية ”ولكن أعونا بورع واجتهاد وعفة وسداد“، الإمام له جنبتان.

1. نحن نقرؤه من الجنبة الملكوتية لنستكشف أبعاد عظمته وكيف أن يد الغيب اهتمت بهذا الإنسان وجعلته بهذه العظمة بتمام أبعادها وجهاتها.

2. ونحن نقرؤه من خلال الجنبة الملكية، هو إنسان، هو بشر، عليٌ كان إنسانًا يمرض ويتألم ويفرح ويحزن، ولكن عليًا الإنسان كان عادلاً، ولكن عليًا الإنسان كان عابدًا، ولكن عليًا الإنسان كان ورعًا، ولكن عليًا الإنسان كان إنسانًا اجتماعيًا وصولاً، إذن نقرأ عليًا من حيث هو إنسان، وهذه نسميها بالقراءة الواقعية وبالقراءة المبدئية.

نحن عندما نقرأ عليًا كإنسان نستلهم منه ما يغير مجتمعنا، ما ينقلنا من حضيض التخلف إلى ذروة الكمال الروحي، وسأحاول في الأيام القادمة إلى آخر ليلة أن أتناول أهل البيت سلام الله عليهم بقراءة موضوعية واقعية، أحاول أن أركز على المفردات الإنسانية والاجتماعية والتربوية التي نقتنصها ونستفيدها من سيرة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لتكون قراءتنا لتاريخهم قراءة تفاعلية وقراءة تطبيقية.

الحسين بن علي له جنبتان:

1. جنبة ملكوتية: الحسين سيد شباب أهل الجنة، الحسين ولد لستة أشهر، الحسين كان جبرئيل يهز مهده، الحسين كلمته السماء، الحسين بن علي تمتع بجنبة ملكوتية لا حد لها.

2. ولكن الحسين أيضًا له جنبة ملكية، له جنبة إنسانية، الحسين إنسانٌ بكى يوم عاشوراء وتألم يوم عاشوراء وغضب يوم عاشوراء وفرح يوم عاشوراء، الحسين الإنسان كان مصلحًا، ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح“، ولنستلهم من الحسين دروس الإصلاح، كيف نصلح أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا، الحسين الإنسان كان مصلحًا، الحسين الإنسان كان أبيَّ الضيم، يأبى الذلة، يأبى إذلال الدين، الدين إذا تعرض للإذلال أباه الحسين بما هو إنسانٌ، الحسين يعلمنا كيف نأبى الإذلال...

شخصٌ في الدنمارك يستهزئ بشخص النبي من خلال كركتير، هذا إذلال، الاستهزاء بشخص النبي إذلالٌ للدين، إذلالٌ للمبادئ، إذلالٌ للقيم، المسلم تعلم من الحسين ألا يقبل الذل، لا يقبل إذلال الدين، لذلك المسلم يقف من ذلك موقف المعارض وموقف المحارب، المجتمع الإسلامي كله يقاطع البضائع الدنماركية ويتخلص منها في الأسواق وفي المحلات وفي البيوت وفي المنازل، يقاطع البضائع الدنماركية ليعلم الغرب أن ديننا ونبينا أثمن عندنا من بطوننا ومن أموالنا ومن وسائل الترفيه والعيش الرغيد، كل ذلك عندنا أثمن وأهم.

النبي رمزٌ، الاستهزاء بالرمز الديني استهزاءٌ بالدين، هذا لا يختص بالنبي، النبي، الأئمة، مراجعنا، قادتنا، أي تعريض وأي استهزاء بأي رمزٍ ديني هو إذلالٌ للدين، وإذلالٌ للمبادئ، والإذلال يستحق من الأمة الإسلامية أن تقف منه موقف الإباء كما وقف الحسينُ بن علي صلوات الله وسلامه عليه: ”ألا وإنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذورٌ طابت وحجورٌ طهرت“.

الحسين يعلمنا عشق الله والارتباط بالله وأن نضحي في سبيل مبادئنا:

إلهي تركتُ الخلقَ طرًا في هواكَ

وأيتمتُ     العيالَ    لكي    iiأراكَ

 
فلو   قطعتني   في   الحبّ   iiإربًا

لما    مال   الفؤادُ   إلى   iiسواكَ

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين

أسرة العطاء والتضحية في بيت فاطمة الزهراء