نص الشريط
السلم الإجتماعي لدى الإمام الحسن (ع)
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 4/1/1427 هـ
مرات العرض: 2865
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1400)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

من الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم الإمام الحسن الزكي، حديثنا حول الإمام الحسن الزكي في محورين:

  • في سمو النفس.
  • في ثقافة السلم الاجتماعي.

المحور الأول:

الإمام الحسن الزكي سلام الله عليه إذا قرأناه بلحاظ المحور الأول وجدناه شخصية تتمتع بسمو النفس، ما معنى سمو النفس؟

هناك مدرسة من مدارس علم النفس غير المدرسة التحليلية والمدرسة السلوكية ومدرسة علم النفس الإنساني، هناك مدرسة علم النفس الارتقائي، جان بياجيه هو الرائد لهذه المدرسة «علم النفس الارتقائي»، كيف ترتقي النفس بذاتها بحيث تشعر أن لها سموًا وأن لها معنىً ساميًا يتعالى ويتسامى على اعتداء الآخرين وعلى إيذاء الآخرين؟

من أجل أن أشرح لك هذا المعنى أذكر لك مصطلحًا فلسفيًا وهو أن الصفة الذاتية لا تتغير، الذي يتغير الصفة العرضية، الصفة الذاتية لا تتغير، مثلاً: عندما آخذ الماء وأضعه على النار، الماء يكتسب الحرارة من النار، حرارة الماء حرارة عرضية وليست ذاتية، يعني: الماء اكتسب الحرارة من النار، وإلا هو في حد ذاته ليس حارًا، بما أن الحرارة ليست ذاتية للماء لذلك هذه الحرارة يمكن أن تتغير، لو أخذنا هذا الماء وضعناه مثلاً في الثلاجة يفقد تلك الدرجة من الحرارة التي اكتسبها من النار لأنها كانت حرارة مكتسبة وليست حرارة ذاتية، لذلك تغيرت، أما النار نفسها حرارة النار ليست حرارة مكتسبة، حرارة النار حرارة ذاتية، لو أننا أخذنا النار وضعناها تحت الثلوج لا تتغير حرارتها، حرارة النار تبقى، الصفة الذاتية مثل حرارة النار لا تتغير، الصفة التي تتغير هي الصفة العرضية المكتسبة، مثل حرارة الماء، الذاتي لا يتغير.

هذا الأمر وهذا المبدأ ليس خاصًا بالأشياء الكونية فقط، حتى في الصفات الإنسانية، حتى في الأخلاق، مثلاً: الإنسان عندما تُجْرَح كرامته، عندما يعتدي إنسانٌ على كرامتك، هذه الكرامة هل تتأثر باعتداء الآخرين أو لا تتأثر؟ أنا عندما يعتدى على شخصيتي أو على كرامتي هل أن كرامتي تتأثر باعتداء الآخرين عليّ أم لا؟ نفس التقسيم يأتي، أنا من أين أخذتُ كرامتي؟

إذا كانت كرامتي مكتسبة سوف تتأثر، أما إذا كانت كرامتي ذاتية فإنها لن تتأثر، هناك إنسانٌ يكتسب كرامته ويكتسب شخصيته من الآخرين، هو إنسانٌ بحد ذاته فاشلٌ لكن المجتمع جعله شيخًا، شيخ عشيرة مثلاً، المجتمع جعله رئيسًا، المجتمع جعله وجهًا، هذا إنسانٌ اكتسب شخصيته وكرامته من الآخرين، كرامته مكتسبة، شخصيته مكتسبة، لذلك إذا اعتدى عليه أحدٌ من الناس يشعر بأنه سُلِبَت منه كرامته فيثأر لنفسه ويغضب لأنه يرى نقصت كرامته، فصُمِتَ كرامته.

أما الشخص الذي يكتسب كرامته من ذاته لا من الآخرين، كرامته ذاتية له، كرامته بفضائله، كرامته بمناقبه، كرامته بطاقاته، فكرامته ذاتية له، بما أن كرامته ذاتية ألف اعتداء لا يغير من كرامته شيئًا، ألف اعتداء، ألف جرح لا يغير من كرامته شيئًا لأن كرامته لا تنفصم ولا تنهزم بجرح الآخرين واعتداء الآخرين لأنها كرامة ذاتية، هذا معنى سمو النفس، إذا أحس الإنسان أن كرامته ذاتية ولا تتأثر باعتداء الآخرين ولا بجرح الآخرين هذا الإنسان يملك سمو النفس، لأنه يرى كرامته أعلى وأسمى من أن تتأثر بجرح الآخرين أو اعتداء الآخرين، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا لأنهم يشعرون أن كرامتهم ذاتية لا تتأثر بالجرح ولا بالإيذاء ولا بالاعتداء، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ارتقت ذواتهم بالفضائل والمناقب حتى أصبحت كرامتهم لا تتأثر باللغو والمهاترات.

الأئمة هكذا كانوا، هناك إنسانٌ رأى الإمام الباقر ، قال له: أنت البقرة؟! قال له الإمام: أنا الباقر، قال له: أنت ابن الطباخة؟! «كانت أم الإمام الباقر معروفة بجودة الطبخ» أنت ابن الطباخة؟! قال: وما فيه؟! ذاك حرفتها «يعني: هي عندها هذا الفن، ماذا فيه يعني؟!»، قال: أنت ابن السوداء البذيئة؟ قال: ”إن كانت كذلك غفر الله لها، وإن لم تكن كذلك غفر الله لك“، لم يتأثر، لم يغضب، لم يتغير، لأنه يعيش سمو النفس، نبل النفس.

الإمام الحسن الزكي كذلك، الإمام الحسن الزكي رآه رجلٌ شاميٌ - الشاميون معبؤون ضد أهل البيت، معبؤون بالإعلام الأموي - سأل: من هذا؟ قالوا: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فشتم الإمامَ وشتم أباه، الإمام الحسن سمع السبابَ والشتم ثم قال: ”يا هذا أظنك غريبًا، ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنتَ جائعًا أشبعناك، وإن كنتَ عاطشًا أرويناك، وإن كنتَ طريدًا آويناك، فهلا حوّلتَ رحلك إلينا، ونزلتَ ضيفًا علينا، فإن لنا منزلاً رحبًا، وجاهًا عريضًا، ومالاً وفيرًا“ وهو يبتسم، فما تمالك الرجلُ حتى انكب عليه يقبله: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة، وهو بهذا يعلمنا درسًا تربويًا أن يكون لنا سمو النفس، أن يكون لنا ارتقاء بذواتنا عن كل المهاترات وعن كل المنازعات، هذا هو المحور الأول من حديثنا.

المحور الثاني:

كلنا يعلم أن الحسن الزكي صالح معاوية بن أبي سفيان، سلم العرش لمعاوية بشروطٍ معينةٍ وقال: ”إنّي خشيتُ أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردتُ أن يكون للدين ناعٍ، إنّ الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية هو حقٌ لي تركته لإصلاح أمر الأمّة وحقن دمائها“ ما هي الحكمة من الصلح؟ ما هو السر في الصلح؟ الحكمة من الصلح أن يعلمنا الإمامُ ثقافة السلم الاجتماعي، ما هي ثقافة السلم الاجتماعي؟

نرجع إلى علماء الاجتماع، علماء الاجتماع يقسمون السلم الاجتماعي إلى قسمين: سلبي وإيجابي.

القسم السلبي: ما معناه؟

نحن عندما نطرح سؤالاً عليكم - وأنتم درستم علم الاجتماع - نقول لكم: كيف تكوّن المجتمع؟ المجتمع البشري الذي نعيش فيه كيف تكوّن؟ كيف تشكّل؟ يعني: ما هي البذرة التي منها تكون المجتمع البشري؟ ما هي؟ البذرة هي عقد الاستخدام، ما معنى عقد الاستخدام؟

عقد الاستخدام لا يعني أن تستأجر لك خادمة من إندونيسيا! عقد الاستخدام معناه أن الإنسان منذ أول يوم من أيام التاريخ أدرك الإنسان أنه لا يمكنه أن يوفر لنفسه الحاجات الأساسية إلا باستخدام الآخرين، الإنسان لا يستطيع لوحده أن يبني البيت ويهيئ الطعام ويهيئ اللباس ويهيئ جميع وسائل الراحة، الإنسان أدرك منذ أول يوم أنه لا يمكنه أن يقضي حاجاته إلا باستخدام الآخرين، فاضطر لاستخدام الآخرين، لكنه عندما استخدم الآخرين الآخرون أيضًا استخدموه، فأنا مثلاً أستخدم النجار لأنه ينجر لي الصناديق، وهو يستخدمني لأنني خبّازٌ قادرٌ على الخبازة، فكلٌ منا يستخدم الآخر، كل فردٍ من المجتمع مستخدِم ومستخدَم، هذا يسمى عقد الاستخدام، لولا عقد الاستخدام لما تكوّن المجتمع، فكل إنسانٍ بادر إلى عقد الاستخدام ثم تكوّن المجتمع، كلٌ مستخدِمٌ ومستخدَمٌ.

هنا تأتي نظرية السلم الاجتماعي السلبي، يعني أن أبناء المجتمع الإنساني اتفقوا من أجل أن يبقى المجتمع ومن أجل ألا يختل نظام المجتمع ومن أجل ألا ينقرض بناء المجتمع اتفق أبناء المجتمع الإنساني على ماذا؟ على السلم فيما بينهم، على أن يستخدم كل واحد الآخر بسلام وبأمان من أجل أن يحافظوا على بناء المجتمع وبقاء المجتمع، هذا يسمى سلمًا اجتماعيًا لكن سلم سلبي، لماذا سلبي؟ لأنه بدافع الاضطرار، يعني: لولا أنهم اضطروا لذلك لما اتفقوا على السلم، إنما اتفقوا على السلم بدافع الاضطرار، إذن هذا يسمى سلمًا سلبيًا، سلمًا اضطراريًا، هذا السلم يمكن أن يسقط في أي لحظة من اللحظات، يمكن أن ينهار لأي سبب من الأسباب، فهو سلمٌ سلبيٌ.

القسم الآخر: السلم الإيجابي.

السلم الإيجابي هو السلم الذي ينبع من ثقافة السلم لا من الاضطرار، نحن نتسالم لأننا نحب السلام لا لأننا مضطرون إلى السلام، أبناء المجتمع يتسالمون لأنهم يؤمنون بمبدأ السلام، لأنهم يرون أن السلام حقٌ لكل إنسان يعيش على الأرض، إذا كان السلام نابعًا من ثقافة السلام ومن مبادئ السلام فهو سلمٌ إيجابيٌ وليس سلمًا سلبيًا، كيف نحقق السلم الإيجابي؟

السلم الإيجابي إنما يتحقق بثقافة اللاعنف، نحن نحتاج أن نتثقف بثقافة اللاعنف حتى نعيش السلم الإيجابي، لأجل ذلك الآن نتحدث بشكل تفصيلي عن ظاهرة العنف، لكي نتعلم ثقافة اللاعنف، ما هو العنف؟ وما هي أسباب العنف؟ وما هو تاريخ العنف؟ وما هي طرق الوقاية والعلاج لظاهرة العنف؟ هذه الأسئلة لابد أن نجيب عليها كي نتعلم ثقافة اللاعنف.

ما هو العنف؟

الدكتور محمد المهدي استشاري في الطب النفسي، يقول: العنف هو السلوك الموجه لإيذاء شخص أو جماعة، أي سلوك يقصد به إيذاء شخص أو جماعة فهو عنفٌ، العنف قد يكون غريزيًا وقد يكون اكتسابيًا، قد يكون اكتسابيًا هذا واضح، الإنسان قد يكتسب العنف من أسرة العنف، لأن أسرته تعيش أجواء العنف، تعيش مشاكل بين الزوج والزوجة، بين الأب وأولاده، الولد يكتسب العنف من أسرة العنف، من أجواء العنف، لكن كيف يكون العنف غريزيًا؟

فرويد رائد المدرسة التحليلية في علم النفس يقول... قبل الحرب العالمية الأولى فرويد كان موجودًا، كان يقول: العنف كالحب، كلاهما ينطلق من غريزة حب الحياة، الإنسان لأنه يحب الحياة، أي إنسان يمتلك غريزة حب الحياة، الإنسان لأنه يمتلك غريزة حب الحياة يعنف، يصير عنده عنف، لأنني أحب الحياة أحب كل من يخدمني ويمتعني في هذه الحياة، أحب الزوجة، أحب الأولاد، أحب الأصدقاء، لأنهم يخدمون حياتي، ولأنني أحب الحياة أكون عنيفًا، عنيفًا مع أي شخص يعكر حياتي ويهدد حياتي، فالعنف والحب كلاهما متفرعان على غريزة حب الحياة، لكن فرويد عاش الحرب العالمية الأولى، تغير فيما بعد، بعد انتهاء الحرب غير النظرية، قال: لا، العنف له غريزة مستقلة عن غريزة الحب، الحب ينبع من غريزة الحياة، لكن العنف ينبع من غريزة أخرى هي غريزة الموت، كيف يعني غريزة الموت؟

تصور هذا الإتسان العنيف، الإنسان الذي يفجّر نفسه يحب الحياة؟! لا يحب الحياة، الإنسان الذي يفجّر نفسه، الإنسان الذي يدمّر مصنعًا، الإنسان الذي يدمّر محطة مياه، الإنسان الذي يدمّر المدنيين، هل هذا الإنسان يبادر للعنف لأنه يحب الحياة؟! لا، يبادر للعنف لأنه إنسان يحب الموت، فهو منطلقٌ من غريزة الموت لا من غريزة حب الحياة، منطلق من غريزة حب الدمار، حب الخراب، وهذا معناه العنف الغريزي، هذا تعريف العنف.

ما هي أسباب العنف؟ كيف يتولد العنف عند الإنسان؟

العنف له أسباب عديدة أمرّ عليها سريعًا:

السبب الأول: الأسرة.

من عاش في أسرة عنيفة فهو من الطبيعي أن يتولد إنسانًا عنيفًا لا يقبل الآخرين، حاد المزاج، سريع الغضب.

السبب الثاني: الإعلام.

الآن نحن نعيش في عصر الذرة وعصر الفضاء وعصر التكنولوجيا لكن مازال الجزء الكبير من الإعلام إعلامَ عنف، إعلامًا يشجع على العنف، الإعلام الذي نشاهده منذ طفولتنا إلى أن نكبر إعلامٌ يغذي فينا روح العنف، لاحظوا مثلاً الأفلام الكرتونية التي يشاهدها الأطفال، ألا تعلم أطفالنا العنفَ؟! غرانديزر ألا يعلم أطفالنا العنف؟! وغيره من الأفلام الكرتونية ألا تعلم أطفالنا العنف؟! حتى بعد أن كبرنا أنت الآن عندما تلاحظ الشاشة «الشاشة التلفزيونية» ترى بعض الشاشات، بعض القنوات متخصصة في العنف، لا تنقل إلا أخبار الإرهابيين، لا تنقل إلا قضايا الإرهاب، لا تنقل إلا صور الإرهاب، قنوات متخصصة في إذاعة الإرهاب، في ترويج ثقافة الإرهاب، بعض الإحصائيات تقول: 75% من الإعلام الذي نشاهده يروج ثقافة العنف وثقافة الإرهاب.

السبب الثالث هو: ردة الفعل.

طبيعي نتيجة لاعتداء بعض الدول الغربية على بعض الدول الإسلامية يتولد العنف عند بعض المسلمين وعند بعض فئات المسلمين، لكل فعل ردة فعل.

السبب الرابع هو: ثقافة العنف «محيط العنف».

هناك بعض البيئات هي بيئة عنف، هناك بعض المحيطات هو محيط عنف، يعني الإنسان عندما يعيش في بيئة أو محيط يربيه على أن قتل الآخرين جهادٌ، قتل المدنيين يدخله الجنة، عندما يعيش في محيط يربيه على أن الجهاد هو هذا، هو هذا العنف، وهو هذا الإرهاب، فمن الطبيعي أن يتخرج إنسانًا عنيفًا لغته العنف، لغته الإرهاب، هذا أمر طبيعي.

كيف بدأ العنف في المجتمع الإسلامي؟

لا نقصد المجتمع الإنساني، لا، نقصد المجتمع الإسلامي، طبعًا العنف قد يكون فرديًا، شخص يعتدي على شخص، ليس مجال بحثه الآن، وقد يكون العنف جماعيًا، يعني: فئة تعتدي على فئة أخرى، حديثنا الآن في العنف الجماعي، اعتداء فئة على فئة أخرى، لماذا؟

إما لأنهم يختلفون معنا في الدين فنعتدي عليهم، أو لأنهم يختلفون معنا في المذهب فنعتدي عليهم، أو لأنهم يختلفون معنا في اللغة فنعتدي عليهم، أو لأنهم يختلفون معنا في القومية فنعتدي عليهم، أو لأنهم يختلفون معنا في الطبقة الاجتماعية، هم أثرياء ونحن فقراء، أو هم متمكنون ونحن مسحوقون، أو هم عندهم فرص عمل ونحن نعيش بطالة، فنعتدي عليهم، إذن اعتداء فئة على فئة بدافع ديني، بدافع قومي، بدافع طبقي، بدافع اجتماعي، هذا هو العنف الجماعي.

مع الأسف انتشرت ظاهرة العنف بين أبناء المجتمع البشري، بل بين أبناء الدين الواحد، بل أحيانًا بين أبناء المذهب الواحد، لأنهم يختلفون في الخط أو يختلفون في التيار أو يختلفون في المسار، وهذا يبرر لهم العنف واعتداء بعضهم على البعض الآخر، العنف الجماعي له صورٌ، قد يكون على نحو الكراهية، يعني أنا أكرهك، لماذا؟ لأنك أنت من مذهب وأنا من مذهب، هذه الكراهية عنفٌ، قد يتطور الأمر، أتخذ صورة أخرى وهي التهميش، أهمشك كأنك لا وجود لك، كأنك لا دور لك، أهمشك ولا أجعل لك دورًا لأنك تختلف معي في الدين أو في المذهب أو في الخط أو في التيار، لا أرى لك قيمة لأنك تختلف معي، هذا أيضًا صورة من صور العنف.

مثلاً: أنا في الليلة السابقة طرحتُ موضوعًا حول حقوق الإنسان، عندما راجعتُ «مجلة عالم الفكر الكويتية، المجلد الأول، العدد الرابع» رأيتُ دكتورًا من عائلة بري، هذا الدكتور كاتب موضوعًا ثلاثين صفحة في المجلة: حقوق الإنسان في الإسلام، استشهد بالقرآن، استشهد بأقوال النبي، استشهد بكلمات الصحابة، استشهد بكلمات التابعين، استشهد بكلمات حتى الخلفاء الأمويين والعباسيين، ولم يستشهد بحرف واحد للإمام علي ، تصور أنت يعني هذا التاريخ كله أمامك، طيب هذا لا أقل من الخلفاء الراشدين، لا أقل يعني، لا تؤمن أنه إمام، لا أقل من الخلفاء الراشدين، وكل تاريخ الإمام علي ينادي بحقوق الإنسان، ومع ذلك، أنا ما أتصور دكتور يكتب موضوعًا بهذا الإسهاب ولا يطلع على تراث الإمام علي في مجال حقوق الإنسان، هذا تهميشٌ، وهذا التهميش نوعٌ من العنف، لون من العنف، أنا ما أستشهد بالإمام علي هذا لون من العنف.

وقد يتطور الأمر أكثر فيصل إلى حد الاعتداء باللسان، بالغمز، بالتعريض، أو الاعتداء باليد، ألغي الآخر، أبيد الآخر، أمنعه حق الحياة لأنه يختلف معي في الدين أو في المذهب أو في الخط أو في القومية، هذا العنف الجماعي كيف بدأ في المجتمع الإسلامي؟

أول تيار اتسم بمبدأ العنف الجماعي هم الخوارج، تيار الخوارج الذي ظهر في زمان الإمام علي ، الخوارج كفّروا كل من يخالفهم، كل من يخالفهم فهو كافر أو مشرك، والكافر أو المشرك يستحق القتل، فاستباحوا دماء المسلمين، لذلك كان الإنسان الذي يمسكه الخوارج يتمنى أن يكون مشركًا حتى لا يقتلوه لأنهم يتركون المشرك ويقتلون المسلم، واصل بن عطاء - أحد التابعين - يقول: خرجتُ مع أصحابي فبصر بنا الخوارجُ، حصّلونا، أحاطوا بنا، ما هذه الطامة هذه؟! كيف أتخلص منهم؟! أقبلوا عليّ، قالوا: من أنت؟ قلتُ: أنا مشركٌ ابن مشرك! وهؤلاء الذين معي كلهم مشركون! وأنتم في كتابكم - يعني: في القرآن الكريم - ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ قالوا: إذا مشرك إذن ما يخالف، يقول: لو قلتُ لا إله إلا الله لقتلوني، هؤلاء الخوارج بمبدأ التكفير وبمبدأ الإرهاب واجهوا الإمام عليًا ، لكن الإمام عليًا لم يواجهّم بلغتهم، اعتبرهم مسلمين، ولم يواجهّم بأية كلمة، كانوا يؤذونه.

ابن الكواء دخل المسجد يومًا من الأيام والإمام علي يصلي جماعة بالناس، فوقف، قال: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الإمام علي أصغى إليه ثم استرسل في القراءة، رجع قرأ الآية مرة أخرى، يريد أن يهين الإمام، الإمام أيضًا سكت، يصغي إلى قراءة القرآن ثم رجع يسترسل، رجع قرأ الآية مرة ثالثة، قال الإمام أمير المؤمنين: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ.

كانوا يؤذون الإمام عليًا، كانوا يقابلونه بثقافة العنف ويقابلهم بثقافة اللاعنف، لو لم يقتلوا المسلمين، لو لم يشهروا السلاح لما حاربهم الإمام أمير المؤمنين، لمّا تجاوزوا في معارضتهم حيز الكلمة ورفعوا السلاح حاربهم الإمام أمير المؤمنين حفظًا للمجتمع الإسلامي من الدمار ومن القتل ومن الخراب، حاربهم ومع ذلك لم يكفرهم، ولما وقف على أجسادهم قال: ”لا تقاتلوهم بعدي، ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه“، وامتدت ظاهرة الخوارج إلى عدة قرون.

 ما هو علاج ظاهرة العنف؟

هل علاج ظاهرة العنف بالعنف؟ مثلاً: في المجتمعات التي ليس فيها دولة مستقرة، ليس فيها نظام مستقر، في المجتمعات الأخرى هل يقابل العنف بالعنف أم لا؟ لا، العلاج لظاهرة العنف مقابلة العنف بلغة السلام، تقابل الفئة العنيفة بلغة السلم، بلغة اللاعنف، لماذا؟ لماذا نحن نكرس ثقافة اللاعنف «ثقافة السلام» في مقابلة ثقافة العنف؟

قد يقول لنا شخصٌ: إن إفساح المجال للغة العنف يقضي علينا، فلنقابلهم بالعنف أيضًا!

اعتقد يا أخي مقابلة العنف بالعنف تجر المجتمع الإسلامي إلى بحر من الدماء، تجعله جرحًا لا ينزف، لأن لكل فعل ردة فعل، لذلك لا علاج للعنف إلا المقابلة باللاعنف، إلا المقابلة بلغة السلام، صحيح لغة السلام تكلف، تكلف ضحايا، الذين يرغبون بلغة السلام تكلفهم هذه اللغة ضحايا، وقد تستمر الضحايا زمنًا طويلاً، ولكن ذهاب الضحايا أقل ضررًا من تحول المجتمع الإسلامي إلى بحر من الدماء، الضحايا لفترة مؤقتة أقل ضررًا من تحول المجتمع الإسلامي إلى دمار وإلى خراب، ثقافة اللاعنف هي الثقافة التي ستبقى، وهي الثقافة التي ستحافظ على حيوية المجتمع الإسلامي وعلى تجدده ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، اعتقد أن مقابلة العنف بثقافة السلام، بثقافة الحوار، مقابلة العنف بثقافة الحوار والسلام ليس استسلامًا وليس خنوعًا وليس جبنًا وليس ذلاً أبدًا، مقابلة ثقافة العنف بالحوار وبثقافة السلام هي الضمان الوحيد لبقاء المجتمع الإسلامي مجتمعًا حيًا متجددًا، أما مقابلة العنف بالعنف فإنها تجر إلى معترك خطير جدًا، نحن من أين نأخذ ثقافة الحوار؟

عندنا مصدران نأخذ منهما ثقافة الحوار، المصدر الأول: كتاب الله، والمصدر الثاني: سيرة محمد وآل محمد.

المصدر الأول: القرآن الكريم.

الثقافة الأولى التي طرحها القرآن الكريم هي ثقافة السلم، ثقافة اللاعنف، أقرأ لك عدة آيات وأنت تأمل فيها:

1. قوله تعالى: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

مع أنه سيدفع دمه، سيضحي بدمه، لكنه قدم ثقافة السلم على دمه، ضحى بدمه من أجل ثقافة السلم، ﴿مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ غريب بعض المفسرين يأتي للآية يعني يتعامل مع القرآن تعاملاً حرفيًا، حتى من كتب الشيعة، مثلاً الشيخ الطوسي في التبيان وغيره، يأتي للآية: من هو القاتل؟ فلان، من هو المقتول؟ فلان، في أي زمن؟ في أي مكان؟ ما الذي بالزمن والمكان؟! نحن لا نتعامل مع القرآن معاملة حرفية، القرآن رموز ودلالات، القرآن كتاب هداية ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فالقصص التي يذكرها القرآن كلها رموز، رموز إلى معانٍ تربوية، إلى معانٍ روحية، إلى معانٍ اجتماعية، وليست قصصًا تاريخية حتى يأتي المفسر ويقعد: من القاتل؟! ما هو اسمه؟! وفي أي مكان؟! وكيف؟! وعمره؟!... ما هو دخلنا في هذه القضايا؟! هذه القصص ساقها القرآن من أجل تحقيق دلالات رمزية، يعني كيف؟

يعني هذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ يعني فعلاً الله عرض الأمانة، قال: يا سماء خذِ أمانة، قالت: لا؟! هذا رمزٌ فقط، قصة رمزية للدلالة على أن أفضل المخلوقات في تحمل الأمانة - وهي أمانة التغيير «تغيير المجتمع» - هو الإنسان، هذه قصة رمزية.

مثلاً: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فعلاً هي قالت؟! هذه قصة رمزية ترمز إلى قدرة الباري تبارك وتعالى وتحكمه في جميع أرجاء الوجود من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة، هذه قصة رمزية.

كذلك هذه الآية، صحيح وقعت بين أبناء آدم، واحد قتل الثاني، لكن ساقها القرآن من أجل أن يرمز إلى معنى اجتماعي، إلى معنى تربوي، ما يصير أنت تتعامل مع القصة معاملة حرفية، بعض المفسرين يركز على النظرة الحرفية لآيات الكتاب.

أضرب لك مثالاً: عندما تأتي إلى قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ما هو معنى سائحات؟ عابدات مؤمنات مسلمات معلوم، سائحات ما هو معناه؟ يعني تسافر أوروبا وأمريكا؟! هذا معنى سائحات؟! ما هو معنى سائحات؟ هنا يتحير المفسر، سائحات! سائحات صائمات بعض التفاسير، صائمات! ما هي علاقة الصوم بالسياحة؟! يقول: لأن السائح لا زاد له فهو كالصائم لا زاد له، فسائحات يعني صائمات! لماذا تجمد على اللفظ؟! السياحة معناها الحركة، السياحة لا تنحصر في الحركة البدنية، الحركة الفكرية أيضًا سياحة، الحركة النفسية أيضًا سياحة، عندما يحلق الإنسان بفكره في مخلوقات الله، في ملكوت الله، في مظاهر قدرة الله، فهذا التحليق الفكري سياحة، ولذلك قال في آية أخرى في وصف المؤمنين: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ - ماذا؟ - السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ سياحة فكرية، أنت لا تجمد على اللفظ.

هذا مثل واحد كان يدرس تلميذًا كتابًا فقهيًا، موجود في الكتاب الفقهي في بحث الطهارة والنجاسة: «إذا وقعت الفأرة في الدهن وخرجت حية فالدهن طاهرٌ»، هذا يريد أن يشرح إلى التلميذ كيف وقعت الفأرة في الدهن وخرجت حية، قال له: وقعت الفأرة في الذهن وخرجت ثعبانًا! قال له: يا أستاذنا الجليل هي فأرة كيف دخلت الدهن ثم عندما طلعت طلعت ثعبانًا؟! قال له: يا فاسق هذه قدرة قادر! الله حولها من فأرة إلى ثعبان، ما بك أنت؟!

هذا التلميذ ما مشى على اللفظ، حلل، حلل ما معنى هذا الكلام، إذا وقعت الفأرة في الدهن خرجت حية يعني خرجت وهي على قيد الحياة، هذا معنى خرجت حية، لأنها لو ماتت في الدهن لتنجس الدهن بها، إذا وقعت في الدهن وخرجت حية فالدهن طاهر.

إذن نرجع إلى الآية - أنا ذكرتها لتلطيف الجو لأنكم تعبانون - نرجع إلى الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ هذه الآية ترمز، ترمز إلى ماذا؟ ترمز إلى أن البشر يعيش بين عقليتين: عقلية الحوار، وعقلية الجدار، عقلية الحوار هي العقلية التي تؤمن بأن التعامل مع الآخر يجب أن يكون في إطار الحوار، تؤمن بأن للآخر هامشًا من الصواب وهامشًا من الحقيقة، كما نقل عن الشافعي أنه قال: «رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، القرآن يقرر هذه الحقيقة وهذه العقلية، عقلية الحوار أنني أضع لغيري هامشًا، هامشًا من الواقع، هامشًا من الصواب، يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ما قال: نحن على هدى وأنتم في ضلال! قال: لا، نحن أو أنتم، ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ عقلية حوار، القرآن يعلمنا على عقلية الحوار، على أن نضع للآخر هامشًا من الصواب وهامشًا من الحقيقة وإن كنا لا نعتقد بصحة كلامه، هذه عقلية الحوار.

تقابلها عقلية الجدار، الذي يرى أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وأن غيره لم يصل إلى شيء، ولأنه يرى امتلاك الحقيقة المطلقة يصادر غيره، يصادر غيره إما بالتهميش، أو باللسان، أو باليد، أو بالقوة، يصادر غيره لأنه يرى نفسه يمتلك الحقيقة، فلا هامش للصواب بالنسبة إلى غيره، الفيلسوف الألماني ليسنغ يقول: الرغبة في البحث أهم من امتلاك الحقيقة، لماذا؟

لأن الذي يشعر أنه امتلك الحقيقة لا يتغير ولا يتجدد، الذي يقول: أنا الصائب، بعد أين يتغير؟! إذا يعتقد أن الصواب عنده هذا لا يتغير، لا يتجدد أبدًا، بينما الإنسان الذي يمتلك عقلية الحوار هذا إنسان متجدد، إنسان حيوي، إنسان قادر على النقد الذاتي، قادر على النقد النفسي، لأنه يعيش عقلية الحوار، فقابيل القاتل يعيش عقلية الجدار، قال: لأقتلنك، ما عندي كلام! هابيل المقتول يعيش عقلية الحوار، قال: دعنا نتحاور، لا تستعجل، ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هذه الآية الأولى.

2. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ - لتقاتلوا! صح؟! لتحاربوا! أليس صحيحًا؟! إذن ماذا؟! - لِتَعَارَفُوا، لماذا «لتعارفوا»؟

قد يظن الإنسان أن التعارف يعني: أسلم عليك وأقول لك كيف حالك؟ أنت مَنْ؟ مِنْ أين أنت؟ وإلى آخره، ولكن التعارف ليس هو هذا، التعارف هو تزاوج الأفكار المسمى بحوار الحضارات، بحوار الملل، بحوار الأديان، دعني أعمق لك هذا المعنى: أنت إذا تقرأ القرآن الكريم تجد أن القرآن الكريم يؤكد على ظاهرة الزوجية، الزوجية في كل شيء، في كل شيء يوجد زواج، القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ كل شيء فيه زواج، يعني: كل شيء فيه طرفان يتزاوجان، النبتة، الذرة، المجرة، الحيوان، الإنسان، كل مخلوق يعيش تزاوجًا بين طرفين، ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لماذا؟

لأن حركة الكون.. الكون يعيش حركة، حركة الكون لا تستمر إلا بالتزاوج بين الطرفين، ما لم يكن هناك طرفان يتزاوجان لا تستمر حركة الوجود، هذه ظاهرة الزوجية موجودة حتى في الأفكار لا فقط في المخلوقات الأخرى، لماذا؟ لأن الفكرة كائنٌ حيٌ، الفكرة تنمو، تتراكم، تتجدد، إذن الفكرة كائنٌ حيٌ، وبما أن الفكر كائنٌ حيٌ فهو خاضعٌ لقانون الزوجية كغيره من المخلوقات، حتى الأفكار تتزاوج، أنت عندك فكرة سلبيّة 30%، أنا عندي فكرة إيجابية 50% إذا تحاورنا تزاوجت الأفكار وتلاقحت التجارب وتلاقحت الخبرات وبالتالي نتيجة الحوار أننا نبني المجتمع الفاضل، فالتزاوج بين الأفكار ظاهرة كونية أرادها الله تبارك وتعالى من خلال هذه الآية: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ تزاوج الأفكار، حوار الحضارات.

3. قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.

طبعًا أنا إنما أذكر هذه الآية لأننا ذكرنا أن بعضهم يروج العنف بحجة أنه جهادٌ، يقول لك: العنف جهادٌ، والجهاد ركنٌ من أركان الدين، نحن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا أن الجهاد لم يشرع لاستئصال الآخرين ولم يشرع لإكراه الشعوب ولم يشرع لإخضاع الشعوب ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ الجهاد لم يشرع لكي نخضع الشعوب الأخرى بالقهر والغلبة لديننا، أبدًا، الجهاد إنما شرع لدفع الظلم، ولذلك إذا تلاحظ سيرة أهل البيت سيرة أهل البيت عندهم علامة استفهام على أغلب الفتوحات الإسلامية، لماذا؟ لماذا أهل البيت ما شاركوا في أغلب الفتوحات الإسلامية؟ الفتوحات التي صارت في عهد الأمويين وصارت في عهد العباسيين، ربما الفتوحات التي صارت في عهد الخلفاء أمضاها الإمامُ أمير المؤمنين سلام الله عليه لأنه كان في موضع المشورة والنصيحة، لكن الفتوحات التي صارت بعد ذلك ما كانت في مقام الإمضاء والقبول من قبل أهل البيت، لماذا؟

لأنها خرجت عن صورة الجهاد الذي نادى به القرآن الكريم، فكانت عليها علامة استفهام من قِبَلِ أهل البيت سلام الله عليهم، ليس الجهاد الذي نادى به القرآن هو استئصال الآخرين وإخضاع الآخرين بالقهر والغلبة للدين، ليس الجهاد كذلك، عندما نراجع آيات الجهاد نجد أن آيات الجهاد تقول: شرع الجهاد لدفع الظلم ولدفع الفتنة، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا يعني: لأنهم ظلموا أذن لهم في القتال، فالجهاد مبدأ دفاعيٌ وليس مبدأ هجوميًا أبدًا، لذلك تقرأ قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني: لأجل دفع الفتنة، شرع الجهاد لدفع الفتنة، لو وجدنا مجموعة من الظالمين مسيطرين على مجموعة من بني الإنسان نقاتل هؤلاء الظالمين لنخلص هؤلاء المحكومين المأسورين منهم، الجهاد شرع لدفع الظلم ولدفع الفتنة لا للاستئصال، لذلك لاحظ قوله تعالى، يقول: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا وقال تبارك وتعالى في آية أخرى يشير إلى هذا المبدأ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ إذا إنسان ما قاتلك لماذا تقاتله؟! ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إذن الجهاد دفاعٌ لرفع الظلم وليس استئصالاً ولا هجومًا، لذلك حتى لو كان الظالم فئة مسلمة تُجَاهَد، القرآن الكريم يقول: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ هذا المصدر الأول من مصادر ثقافة الحوار ألا وهو القرآن الكريم.

المصدر الثاني: سيرة أهل البيت «سيرة محمد وآل محمد».

سيرتهم سيرة الحوار، سيرة اللاعنف لا سيرة العنف، بذلوا التضحيات من أجل الحوار ومن أجل اللاعنف، دخل شابٌ مسجد رسول الله وكان هائجًا مستعرًا، فقالوا له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن يأذن لي رسول الله في الزنا، أريد أن أرتكب الزنا، وأريد أن يأذن لي النبي في ذلك! قالوا: ماذا تقول؟! أحضروه إلى النبي، قال: دعوه، أقبل إليه النبي بالبسمة، بالتواضع، لا بالعنف، لا بالشدة، بالتواضع ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ جلس معه النبي، قال: ماذا تريد؟ قال: ائذن لي في الزنا، قال: أترضى أن يكون لأمك؟ قال: لا، لأختك؟ قال: لا، لابنتك؟ قال: لا، لعمتك؟ لخالتك؟ لقريبتك؟ قال: لا، قال: لماذا؟ قال: لأنه شيء ذميم يا رسول الله، قال: فالذميم لا تقبله لقرابتك وتقبله لغيرك؟! اقتنع الشابُ بكلام النبي وتحول من إنسان هائج مستعر إلى إنسان هادئ مسالم.

الإمام الحسن الزكي تحمل آلامًا لم يتحملها إمامٌ آخر أبدًا، لماذا؟

لأن الإمام الحسن الزكي ابتلي بظاهرة ما ابتلي بها أي إمام، ابتلي بمعارضة داخلية، الأئمة الآخرون عارضتهم فئات من خارج المذهب، لكن الإمام الحسن عورض من فئة من الشيعة، من الداخل، عورض بمعارضة داخلية، لما صالح معاوية بن أبي سفيان دخل عليه مجموعة من الشيعة وبعضهم من الوجهاء، من علية الشيعة، حجر بن عدي الكندي البطل الشهيد، الخزاعي البطل الشهيد، دخلوا على الإمام الحسن بعد صلحه لمعاوية وقال بعضهم له: ليتك مت يا حسن ولم تبايع معاوية، وقال بعضهم الآخر: السلام عليك يا مذل المؤمنين، تصور إمامًا قائدًا يستمع من قاعدته الشعبية، قاعدته التي يستند إليها، يستمع منها هذا النقد اللاذع، «السلام عليك يا مذل المؤمنين.. ليتك مت يا حسن ولم تبايع معاوية...» هذه ما ابتلي بها أحدٌ من الأئمة أبدًا، لكن كيف تعامل الإمام الحسن مع هذه الظاهرة؟ هو هذا المهم، هل أن الإمام كفرهم؟! قال: اخرجوا كفار! هل أن الإمام طردهم؟! هل أن الإمام كفرهم؟! هل أن الإمام قسا عليهم؟! أبدًا، مع أنهم عارضوا إمامًا معصومًا، لكن الإمام الحسن بخلقه الرفيع استوعبهم، بخلقه الرفيع استوعبهم واحتضنهم وأزال منهم روح المعارضة، الإمام الحسن يعرف أنهم ما عارضوه عصيانًا وعمدًا، لكن لأنهم مظلومون، المظلوم عندما يقال له: اسكت عن الظالم، اهدأ، لا تثر، لا تتحرك... طبعًا يتأثر، لا يقبل، يرفض، لأجل ذلك - لأجل أنهم يعيشون روح المظلومية - لم يقبلوا مسألة الصلح.

لكن الإمام أجلسهم بين يديه، قال: ”يا حجر والله لو كان مثلك عشرة لجاهدتُ بالسيف قدمًا، يا حجر إن الحق الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية هو حقٌ لي تركته لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها، يا حجر والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي“ لا يغب عليك، أنت إنسانٌ ذكيٌ، ليست المسألة مسألة قتل، معاوية لا يريد أن يقتلني، لو كان معاوية يريد أن يقتلني لتشرفتُ بذلك، فأنا أتشرف بالشهادة، معاوية لا يريد قتلي، يريد أسري، يريد أن يؤتى بي أسيرًا بين يديه، المسألة ليست مسألة قتل وشهادة، المسألة مسألة أسر، ”والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلمًا، فلئن أسالمه وأنا عزيز أحب إلي من أن يقتلني وأنا أسير أو يمنّ علي بالعفو فتكون سبة على بني هاشم لازال يمن بها معاوية هو وعقبه على الحي منا والميت“.

لم تكن المسألة مسألة قتل، المسألة مسألة أسر وإذلال وإهانة لمنصب الإمامة ولموقع القيادة، لو خاض الحسنُ الحربَ لأخذوه أسيرًا ملببًا إلى معاوية ولعفى عنه معاوية وحينئذ يصبح الحسن طليقًا لمعاوية بعد أن كان معاوية طليقًا لرسول الله ، إذن الحسن فوّت الفرصة على معاوية كيلا يتعرض منصب الإمامة للإذلال ولهتك الحرمة وللوهن، لما شرح موقفه لحجر بن عدي سلّم بكلامه وآمن به وسار معه على الخطة التي يريدها، الإمام الحسن تحمل الآلام الفظيعة في سبيل ماذا؟! في سبيل الدين، في سبيل الأمة، في سبيل أن تبقى الأمة الإسلامية حية متجددة، الإمام الحسن لم يكن يهمه شخصه، دع الكرسي يذهب، دع العرش يذهب، المهم أن يبقى الدين، المهم أن يبقى الإسلام، المهم أن يبقى هذا الصوت عاليًا، ليس المهم شخصي، لذلك ترون في وصية الإمام الحسن يقول الحسين: ”أوصاني أخي ألا أريق في أمره ملئ محجمة دمًا“، يعني الحسن قال للحسين: حتى لو قطعوني قطعة قطعة لا تغضب لقتلي ولا تغضب لهذا الفعل ولا تثأر أبدًا، فشخصي وجسمي ليس هو المهم، المهم أن يبقى الدين ويبقى صوت الإسلام ويبقى كلمة «لا إله إلا الله، محمد رسول الله».

الدين عند هؤلاء هو المهم، العزة للدين هي المهم، وليس الشخص هو المهم، لذلك ترى ذلك الرجل الذي أدخلوه على عبيد الله بن زياد، أدخلوه وهو يشخب بدمائه، واحد يرفسه برجله، واحد يلطمه على وجهه، واحد يكزه بسيفه، واحد يضربه بسوطه، وهو مقيد مغلل، أوقفوه بين يدي عبيد الله والدماء تشخب منه من قرنه إلى قدمه، أوقفوه على عبيد الله بن زياد، قالوا: سلم على الأمير، قال: لا، أميري حسين... العزة للدين وليست العزة لشخصه، يقول: أنا شخصي ليس مهمًا، جسمي ليس مهمًا، المهم الحسين، أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤادي البشير النذير...

والحمد لله رب العالمين

المعاني الروحية والتربوية في دعاء الإمام زين العابدين
الإمام علي (ع) ودولة الإنسان