نص الشريط
المشروع الثقافي في سيرة الإمام الصادق
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 7/1/1427 هـ
مرات العرض: 2884
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1312)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

من أئمة الطاهرين الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه، وحديثنا عن الإمام الصادق حديثٌ عن المشروع الثقافي الذي أسّسه وأقامه صلوات الله عليه، والحديث عن المشروع الثقافي يقتضي أن نتحدث في محاور ثلاثة:

  • ما هو تعريف الثقافة؟
  • عناصر المشروع الثقافي؟
  • معالم المشروع الثقافي للإمام الصادق ؟

المحور الأول: ما هو تعريف الثقافة؟

إذا راجعنا مجلة عالم المعرفة «عدد 223» حول نظرية الثقافة علماء الاجتماع يفرقون بين الثقافة والمعلومة، ليس كل معلومة ثقافة، الحيوان يمكن أن يكتسب المعلومة من أجل أن يدرب على سلوك معين، ولكن الثقافة خاصة بالإنسان، الحيوان لا يمكنه أن يتحمل الثقافة، لأن هناك ملازمة بين الثقافة وبين المجتمع، لا يوجد مجتمع بلا ثقافة، ولا توجد ثقافة بلا مجتمع، الثقافة نتاجٌ اجتماعيٌ، لأجل ذلك لا يتصور في الحيوان الذي لا يعيش بناءً اجتماعيًا أن يكون مثقفًا، علماء الاجتماع يقولون: عناصر المجتمع ثلاثة:

  1. الأيدلوجيات الفكرية.
  2. العلاقات الاجتماعية.
  3. نمط الحياة.
العنصر الأول: الأيدلوجيات الفكرية.

مثلاً: إذا قرأنا المجتمع ووجدنا المجتمع مقتنعًا بأن الزواج عقدًا وطلاقًا بيد الرجل وليس بيد المرأة، أن مسؤولية الأسرة بيد الرجل وليست بيد المرأة، هذه أيدلوجية فكرية تشكّل العنصرَ الأولَ من عناصر المجتمع.

وإذا قرأنا المجتمع من حيث السلوك والعلاقات الاجتماعية بين المرأة، بين الرجل، نجد أن المرأة تصهر طاقتها وتصهر وجودها في خدمة الرجل، وفي خدمة الأسرة، هذا هو العنصر الثاني: العلاقات الاجتماعية.

من هذين العنصرين نكون ثقافة، العنصر الأول يقول أن الزواج بيد الرجل والطلاق بيد الرجل، العنصر الثاني يقول: المرأة تصهر خدمتها وطاقتها لأجل الرجل، من هذين العنصرين يتكون عنصرٌ ثالثٌ وهو النمط الثقافي للمجتمع، النمط الثقافي للمجتمع أن القيادة للرجل لا للمرأة، أن الرجل بنظر المجتمع أكفأ من المرأة.

إذن الثقافة هي النمط الذي يتكون من عنصرين: عنصر الأيدلوجيات الفكرية، وعنصر العلاقات الاجتماعية، ما يتكون من هذين العنصرين من النمط الحياتي يسمّى ثقافة، فالثقافة نتاجٌ اجتماعيٌ، لذلك تختص الثقافة بالإنسان.

المحور الثاني: ما هو الفرق بين الثقافة والمشروع الثقافي؟

هناك ثقافة، هناك مشروعٌ ثقافيٌ، الثقافة تحولٌ في النمط نتيجة لتغير الظروف، أما المشروع الثقافي فهو إعدادٌ نخبويٌ لتغيير المجتمع نحو أهداف معينة، مثلاً: قبل أربعين سنة كان القرار في الأسرة للزوج، للرجل، لماذا؟ لأن المسؤولية الاقتصادية كانت على عاتق الرجل وحده، فكانت المرأة تابعة للرجل في مجال الإنفاق على الأسرة، المرأة لم يكن لها استقلالٌ اقتصاديٌ عن الرجل، فكان القرار - قرار إدارة شؤون المنزل وإدارة أمور الأسرة - بيد الرجل، الآن أصبحت المرأة تشارك الرجل في مجال العمل، تشارك الرجل في مجال الوظيفة، فاستقلت اقتصاديًا عن الرجل، صارت تملك نفقتها، تملك لوازمها بنفسها، لما استقلت المرأة اقتصاديًا صارت شريكة مع الرجل في القرار، ما يقدر الآن الرجل يصدر قرارًا للأسرة إلا بشراكة المرأة، لأن استقلالها الاقتصادي فرض أن يكون لها جزءٌ من القرار في إدارة الأسرة، هذا التحول - التحول النمطي نتيجة تغير الظروف الاجتماعية - يسمّى ثقافة.

لكن المشروع الثقافي ليس هو تحول أتوماتيكي، المشروع الثقافي عملٌ، عملٌ نخبويٌ، أن تقوم مجموعة بنشر مشروع معيّن من أجل النهوض بالمجتمع إلى أهداف معينة، إلى مستوى معين، هذا يسمى مشروعًا ثقافيًا، مثلاً: نحن نرى أن مجتمعنا يعيش اللامبالاة من جهة المعاقين، المعاقون في مجتمعنا ليست لهم فرص عملية اجتماعية واضحة كفرص الأسوياء، نحن عندما نريد أن نعبّئ المجتمع بأن يحمل روحًا تجاه المعاقين نحتاج إلى مشروع ثقافي، المشروع الثقافي يعتمد على عناصر أربعة:

  1. تعدد الفعاليات.
  2. المساهمة العامة.
  3. التنوع المعرفي.
  4. المتابعة.

عندنا عناصر أربعة من خلالها بالكاد يتحقق المشروع الثقافي:

العنصر الأول: تعدد الفعاليات.

أنا عندما أريد أن أعبّئ المجتمع أن يهتم بالمعاقين لابد أن أقوم بفعاليات متعددة، أستخدم المنبر في الإعلام، أستخدم المجلة، أستخدم الجريدة، أستخدم التصوير المسرحي حتى أعبّر عن حاجة المعاق وعن معاناة المعاق، أستخدم كل الفعاليات الممكنة في سبيل أن أعبّئ المجتمع بروح العناية والاهتمام بالمعاق، تعدد الفعاليات هذا العنصر الأول.

العنصر الثاني: التنوع المعرفي.

يعني أنا عندما أريد أن أتحدث عن المعاق لا آتي وأتحدث من شكل ديني «أذكر الأحاديث التي تأمر بالاهتمام بالمعاق»، لابد أن يكون عندي تنوعٌ معرفيٌ حتى يرسخ المشروع الثقافي، يعني: أتكلم عن المعاق من جهة دينية، أتكلم عن المعاق من جهة علم النفس، أتكلم عن المعاق من جهة علم الاجتماع، أتكلم عن إدارة مركز المعاقين من جهة علم الإدارة، أتناول الموضوع من عدة حقول حتى يتكوّن مشروعٌ ثقافيٌ ويتفاعل مع المشروع جميعُ الاختصاصات وجميعُ الكفاءات.

العنصر الثالث: المساهمة العامة.

حتى تتحول الثقافة إلى مشروع نحتاج إلى مشاركة عامة، الرجل، المرأة، الطفل، المعلم، الطبيب، جميع أبناء المجتمع تساهم في تفعيل هذه الثقافة حتى تتحول إلى مشروع.

العنصر الرابع: عنصر المتابعة.

بمعنى قراءة مراحل المشروع، نقرأ المشروع في كل مرحلة، سلبيات تطبيقه وإيجابيتها لنتلافى الأخطاء في المرحلة التالية، عنصر المتابعة ضروريٌ لتحول الثقافة إلى مشروع.

إذن المشروع الثقافي يعتمد على عناصر أربعة، ويختلف عن الثقافة.

المحور الثالث: الإمام الصادق والمشروع الثقافي.

لا يخفى عليكم أن التشيع مر بمراحل ثلاث:

  1. التشيع العقائدي.
  2. التشيع السياسي.
  3. التشيع المدرسي.

التشيع العقائدي: بدأ منذ زمان النبي محمّدٍ ، وُجِدَت مجموعة تؤمن بأن الوصي والخليفة هو الإمام علي ، أبو ذر، سلمان، المقداد، ابن مسعود، ابن عباس، عمار... نتيجة لحديث الدار، حديث المنزلة، حديث الغدير... وتبلور يوم وفاة النبي الأعظم ، هذه المرحلة الأولى: التشيع العقائدي، الإيمان بأن الإمام بالنص وأن الإمام منصوصٌ عليه.

التشيع السياسي: بدأ يوم مقتل الحسين ، تحول التشيع لا إلى عقيدة فقط بل إلى حركة معارضة، وتطور من الحسين، زيد بن علي، الحسين بن علي صاحب معركة فخ، توالت الحركات المختلفة، تحول التشيع من عقيدة إلى حركة معارضة، إلى حركة فاعلة في الجسم الإسلامي.

التشيع المدرسي: تحول التشيع إلى مدرسة، تحول التشيع إلى مدرسة ذات أصول فكرية وجذور ثقافية في عهد الإمامين الباقر والصادق صلوات الله وسلامه عليهما، كيف تحول إلى مدرسة؟

الظرف الذي عاش فيه الإمام الحسين يختلف عن الظرف الذي عاش فيه الإمام الصادق، الظرف الذي عاشه الإمام الحسين كانت الأمة الإسلامية مازالت على فطرتها، لم تتلوث بعد، الأمة الإسلامية في عصر الحسين ما كانت تعيش مشكلة في المفاهيم، كانت مفاهيمها مفاهيم إسلامية أصيلة متصلة بالإسلام، لذلك كانت المشكلة في عصر الإمام الحسين هي في القيادة وليست في المفاهيم، المفاهيم كانت مفاهيم أصيلة، المشكلة كانت في القيادة، القيادة كانت قيادة فاسدة، لذلك الإمام قاد حركة معارضة لإصلاح القيادة لأن القيادة فاسدة، فصار هَمّ الحسين إصلاح القيادة، ”ما خرجتُ أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح“، المهم عندي إصلاح القيادة، ليس المهم أن أصل إلى الحكم، ما كان الحسين يخطط لأن يصل إلى الحكم، وصل أو لم يصل المهم إصلاح القيادة، ”ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب الدائم بالقسط الحابس نفسه على ذات الله“.

لكن لما جاء عصر الإمام الصادق صارت المشكلة أكبر، لم تكن المشكلة في القيادة فقط، كانت المشكلة في المفاهيم، الأمة الإسلامية في عصر الإمام الصادق تداخلت مع الأمم الأخرى، انفتحت على الحضارة الفارسية، انفتحت على الحضارة اليونانية، انفتحت على الحضارة الرومانية، ونتيجة الانفتاح الحضاري تداخلت الثقافات، وتشابكت المفاهيم، أصبحت الأمة الإسلامية تعجّ بحركة ثقافية تغييرية رهيبة جدًا، خط الملاحدة، خط الصوفية، خط القدرية، خط المرجئة، خط القياس، خط الحديث... مدارس مختلفة انتشرت في الأمة الإسلامية آنذاك، أصبحت المفاهيم مربكة، أصبحت المفاهيم مضطربة نتيجة تنوع المدارس، تنوع الأفكار، تنوع الثقافات، تداخل الحضارات، إذن صارت المشكلة أكبر من مشكلة القيادة، لذلك رأى الإمام الصادق أن يقود حركة كما قاد جده الحسين لكن حركة ثقافية، حركة علمية لا حركة عسكرية، كلاهما قاد حركة معارضة، لكن المعارضة من قِبَلِ الحسين كانت معارضة عسكرية ضد القيادة، والمعارضة من قِبَلِ الإمام الصادق كانت معارضة للمفاهيم، للأسس، للجذور الثقافية، من هنا لو كان الحسين في زمن الصادق لكان مدرسة ثقافية، ولو كان الصادق في زمن الحسين لكان قائدًا وشهيدًا في المعركة، الظرف اختلف، التحول صار بشكل آخر.

أسّس الإمامُ الصادقُ المشروعَ الثقافيَ حتى يؤصّل الجذورَ الفكرية للحضارة الإسلامية، نريد أن نتحدث عن المشروع الثقافي للإمام الصادق، المشروع الثقافي للإمام الصادق اعتمد على عدة معالم:

  1. معلم الأصالة.
  2. معلم الشمولية.
  3. معلم الصيانة والحصانة.
  4. معلم القيادة.

معالمُ متعددة للمشروع الثقافي، أي مشروع ثقافي حتى ينجح لابد أن يأخذ هذه المعالم من مشروع الإمام الصادق سلام الله عليه.

المعلم الأول: الأصالة.

المشروع الثقافي حتى يكون مشروعًا ثقافيًا متينًا لابد أن يكون أصيلاً، يعني: ليس مستوردًا من شرق أو من غرب، فكرٌ، ثقافة تنبع من الجذور العقلية للإنسان، من الثوابت الفطرية للإنسان، حتى يكون مشروعًا أصيلاً ”حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث رسول الله “، ”لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، إنما هي أصول علم نتوارثها كابرًا عن كابر عن محمّدٍ رسول الله “، كيف أسّس الإمام الصادق للأصالة وجعل التشيع فكرًا أصيلاً وجعل معلم الأصالة راسخًا؟

أسّس أربعة مناهج أتعرّض إليها سريعًا:

المنهج الأول: المنهج الكلامي.

اعتمد الإمام الصادق في مجال علم الكلام على ركيزة العقل، العقل هو الحاكم في علم الكلام، سواء كان عقلاً نظريًا أو عقلاً عمليًا، أنت عندما تقرأ كتب علم الكلام الآن تجد أنهم يقسّمون الأدلة العقلية إلى دليل فلسفي وإلى دليل رياضي، الدليل الفلسفي هو الدليل المردد بين النفي والإثبات القائم على مبدأ استحالة التناقض، الدليل الرياضي هو المسمى في علم الرياضيات بدليل حساب الاحتمالات، فهناك دليلان عقليان في علم الكلام، هذان الدليلان مستفادان من الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه.

تعال إلى الدليل الفلسفي: دخل عليه أبو شاكر الديصاني وكان قائد الحركة - حركة الإلحاد - كان ملحدًا لا يعترف بوجود الله، دخل على الإمام الصادق.. حتى تعرف أن الإمام الصادق كان إنسانًا حواريًا، كان منفتحًا حتى على الملاحدة، كان يحاورهم، يفتح لهم المجال أن يناقشوه فيجيب على مناقشاتهم، كان إنسانًا حواريًا منفتحًا، دخل عليه أبو شاكر الديصاني، قال: يا أبا عبد الله كيف تثبت لي أن لك صانعًا «أن هناك خالقًا، أثبت لي»؟ قال: ”لأنني وجدتُ نفسي إما أنا صنعتها أو أن لي صانعًا، فإن كنتُ صنعتها فإما صنعتها وهي موجودة أو صنعتها وهي معدومة، فإن صنعتها وهي موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتي «إذا هي موجودة كيف أصنعها؟! تحصيل حاصل»، وإن كانت معدومة فإن المعدوم لا يحدث شيئًا «فاقد الشيء لا يعطيه»، فإذا لم أكن صنعتُ نفسي إذن فلي صانعٌ“، هذا برهانٌ عقليٌ دائرٌ بين النفي والإثبات، مبنيٌ على مبدأ استحالة التناقض، هذا برهانٌ فلسفيٌ.

دخل عليه أبو شاكر الديصاني أيضًا أو ابن أبي العوجاء على اختلاف النقل، قال له: دلني على المعبود، أين المعبود؟! أين الإله؟! أنتم تعرفون دليل حساب الاحتمالات في علم الرياضيات، دليل حساب الاحتمالات هو عبارة عن أن تقرأ ظواهر متعددة ونتيجة قراءة الظواهر المتعددة يحصل تراكم في درجة الاحتمال إلى أن يصل إلى درجة اليقين، يعني الآن مثلاً بالنسبة إلى وجود الله نحن نحتمل أن الله موجود بنسبة 5% مثلاً ونحتمل أن الله ليس بموجود - من باب المثال - نقوم بقراءة الظواهر الكونية، كلما قرأنا ظاهرة كونية تصاعد احتمال وجود الله، إذا قرأنا ظاهرة الجسم الإنساني وجدنا أنه مزود بأجهزة دقيقة وبملايين الخلايا التي تسبح فيه بشكل دقيق، يتصاعد احتمال وجود خالق من 5% إلى 20 إلى 30%، نقرأ مثلاً عالم النبات، عالم الحيوان، نجد هذه القوانين الصارمة التي تتحكم في مسيرة البذرة منذ وضعها إلى أن تصبح شجرة يانعة مثمرة، يتصاعد الاحتمال، يصل 50%، إذا قرأنا ظاهرة الفلك - هذا النظام الفلكي العجيب - ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ تتراكم درجة الاحتمال إلى أن تصل إلى درجة اليقين بوجود خالق، هذا يسمى دليل حساب الاحتمالات، هذا دليل حساب الاحتمالات أسّسه الإمام الصادق.

ارجع: قال ابن أبي العوجاء: دلني على معبود، أخذ بيضة، قال: هل رأيت البيضة؟ قال: بلى قال: ما تقول؟ قال: ماذا؟ قال: ”هذا حصنٌ مكنونٌ، تحته جلدٌ غليظ، تحت الجلد الغليظ جلدٌ رقيقٌ، تحت الجلد الرقيق فضة ذائبة، تحت الفضة الذائبة ذهبة مائعة، لا تختلط الفضة الذائبة بالذهبة المائعة، ولا يدرى ألذكر ذلك أم لأنثى، أما ترى أن لذلك خالقًا مدبرًا؟!“ مثالٌ بسيط لكن الإمام يريد أن يعلمه على دليل حساب الاحتمالات، قراءة الظواهر، ”أما ترى أن لذلك خالقًا مدبرًا؟!“، إذن الإمام أصّل على مستوى علم الكلام أن المركز هو العقل سواء كان عقلاً فلسفيًا أو كان عقلاً رياضيًا.

المنهج الثاني: ماذا أسسه الإمام على مستوى علم الفقه؟

تعرفون أن استنباط الحكم الشرعي له أربعة مصادر: الكتاب، السنة، الإجماع «يعني: اتفاق الفقهاء الكاشف عن رأي المعصوم»، العقل، لكن ما هو المراد بالعقل؟ هنا اختلف منهج الإمام الصادق عن منهج أبي حنيفة، عن منهج غيره، الإمام الصادق يرى أن العقل الذي يُعْتَمَدُ عليه هو العقل القطعي، يعني: العقل الذي تتفق جميعُ العقلاء عليه، هذا الذي نعتبره مصدرًا من مصادر الحكم، مثل ماذا؟ مثل الآن يقول الفقهاء: مقدمة الواجب واجبة، من الذي يقول هذا الكلام؟ يقوله العقل، العقل القطعي، الحج واجبٌ، ما هي مقدمته؟ السفر، إذن السفر واجبٌ لأن مقدمة الواجب واجبة، العقل القطعي يقول بذلك، إذا قال العقل القطعي الذي تتفق عليه كل العقلاء فهذا العقل مصدرٌ من مصادر الحكم الشرعي، أما إذا كان العقل ظنيًا لا قطعيًا، عقلٌ يختلف فيه العقلاء، يختلف في مدركه العقلاءُ فلا يصلح أن يكون مصدرًا للحكم الشرعي وهو العقل المسمى بالعقل القياسي، مبدأ القياس، ما هو مبدأ القياس؟

مبدأ القياس أن تقيس حكم شيء على حكم شيء آخر لعلةٍ ظنيةٍ، دعني أضرب لك مثالاً ترتاح منه: أن يقول إنسانٌ: ما رأيك في حلق شعر الرأس؟ لو واحد استفتى العالمَ: ما رأيك في حلق شعر الرأس حرامٌ أم حلالٌ؟ حلال، إذا كان حلق شعر الرأس حلالاً إذن حلق اللحية حلالٌ! صح لو لا؟! هذا شعرٌ وهذا شعرٌ! غير هذا فوق وهذا في الذقن وإلا كلاهما شعرٌ، وهذه نظافة وهذه أيضًا نظافة! هذا يسمّى قياسًا، يعني: قسنا حكم شيء على حكم شيء آخر لا لعقل قطعي بل لعقل ظني، يعني: ظننا أن العلة في جواز حلق شعر الرأس أنه شعرٌ وهذه العلة موجودة في شعر اللحية فيجوز حلقه، لكننا مع ذلك نحتمل وجود فرق بينهما، إذن ليس العقل قطعيًا بل هو عقلٌ ظنيٌ، العقل الظني الذي أعْتُمِدَ عليه في القياس، في الاستحسان، في سد الذرائع، في المصالح المرسلة، ليس مصدرًا من مصادر الحكم الشرعي لأنه ظنيٌ، وقد ورد عنه سلام الله عليه: ”إنّ دين الله لا يصاب بالعقول“ يعني: العقول الظنية، لأننا نحتمل أن هناك ملاكاتٍ وعللاً غير العلل التي اكتشفتها عقولنا على نحو الظن.

أذكر لك الآن القصة: دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق ، قال: يا أبا حنيفة بِمَ تفتي أهل العراق؟ قال: أفتيهم بكتاب الله، قال: أنت تعرف كتاب الله ناسخه، منسوخه، محكمه، متشابهه؟! تعرف أنت؟! قال: بلى، قال: إذن أسألك ما معنى قوله تعالى: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ أين هذه المنطقة؟ قال: هذه بين مكة والمدينة، قال: أنشدكم الله هل من يسير بين مكة والمدينة يأمن على أمواله أو على دمائه؟ فقال الناس: لا، قال: إذن كيف الآية قالت: ﴿آمِنِينَ؟! معناه هناك منطقة أخرى لا يقع فيها إلا الأمن، قال: أنا صاحب قياس، سلني في القياس وأنا أجيبك، قال: أسألك: أيهما أعظم القتل أم الزنا؟ قال: القتل يا ابن رسول الله، قال: فلماذا الشرع الحنيف يكتفي في القتل بشاهدين ولا يكتفي في الزنا إلا بأربعة شهود؟! إذا القتل أعظم المفروض القتل يصير فيه أربعة شهود، أيهما أعظم الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة يا ابن رسول الله عمود الدين، قال: فعلى قياسك على الحائض أن تقضي صلاتها لا أن تقضي صومها بينما الثابت في الشريعة أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، كيف الصلاة أعظم؟! أيهما أقذر: البول أم المني؟ قال: البول يا ابن رسول الله، قال: فلِمَ يُغْتَسَلُ من المني ولا يُغْتَسَلُ من البول؟ يعني الغسل، التطهير واجبٌ في الجميع لكن الغسل لا يجب في حال البول، قال: يا أبا حنيفة لا تقس الدين برأيك إن أول من قاس إبليس، قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قال: أنا صاحب رأي، قال: أسألك: ما تقول في رجل حر وعنده عبده تزوج الحرُ والعبدُ في ليلة واحدة ودخلا بزوجتيهما ثم سافرا عنهما فأنجبت الحرة ولدًا وأنجبت الأمة ولدًا آخر، لنفترض أن اللولين متشابهان: لون ابن الحرة ولون ابن الأمة، فسقط السقف عليهما فقتل المرأتين وأبقى الغلامين، من منهما الحر ومن منهما العبد ومن منهما الوارث ومن منهما الموروث؟ كيف نحن نميز الآن؟! نسوي قرعة يعني؟! طلعت في حظ المسكين هذا الحر!

إذن الإمام الصادق سلام الله عليه أسّس منهجًا على مستوى علم الفقه وهو الاعتماد على العقل القطعي لا على العقل الظني.

المنهج الثالث هو: التعامل مع القرآن.

جميع المذاهب الإسلامية تقول: كتابنا القرآن، دستورنا القرآن، نحن علينا أن نأخذ الأحكام من خلال تفسير القرآن... الإمام الصادق وضع منهجًا في مجال تفسير القرآن، تفسير القرآن بأدوات ثلاثة:

  1. تفسير القرآن بالقرآن.
  2. تفسير القرآن باللغة.
  3. تفسير القرآن بالقرينة العقلية.

أذكر لك أمثلة:

تفسير القرآن بالقرآن:

جاء إليه أحد أصحابه، قال: يا أبا عبد الله ما تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من هم الراسخون في العلم؟ وقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من هم الذين أوتوا العلم؟ قال: نحن أهل البيت، قال: دلني على ذلك من القرآن، أحضر لي آية من القرآن تثبت أنكم أنتم الراسخون في العلم، أنتم حملة القرآن، أريد من نفس القرآن، قال له الإمام الصادق: قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا يمسه يعني ماذا؟ ليس معناه لا يلمسه، لا يمسه يعني لا يناله، لا يفهمه، المس بمعنى النيل، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ مسني يعني نالني، المس هو النيل، لا يمسه إلا المطهرون يعني لا يفهمه إلا جماعة هم المطهرون، فعرفنا أن الراسخين في العلم هم المطهرون، وما هم المطهرون؟ جاءت آية ثالثة وقالت: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا فعلمنا أن المطهرين هم أهل البيت، إذن الراسخون في العلم هم أهل بيت النبوة، تفسير القرآن بالقرآن.

تفسير القرآن باللغة:

قال له رجلٌ من الفرق الإسلامية الأخرى: يا أبا عبد الله ما هو الوضوء «كيفية الوضوء»؟ غسل الإمامُ وجهه من قصاص الشعر إلى الذقن، ثم غسل يديه من المرفقين إلى أطراف الأصابع، ثم مسح مقدم رأسه، مقدم الشعر، ثم مسح رجله، قال له: أريد هذه، الغسل طبعًا نعرفه، غسل الوجه واليدين، من أين علمتَ أن المسح على بعض الرأس؟ لماذا لا تمسح رأسك كله وتخلل أذنيك؟! من أين علمت أن المسح على بعض الرأس؟ من أين؟! وأريد من القرآن لا من هنا وهناك، قال: لمكان الباء، من الباء عرفت، قال له: ما هي الباء؟! قال: قال تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا أن الوجه يغسل كله، ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ لو لم يقل إلى المرافق لغسلنا اليد كلها، لكن قال: إلى المرافق، يعني: هناك حد، المرافق، ولما جاء إلى المسح قال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فلو كان المسح على كل الرأس لقال: «وامسحوا رؤوسكم» كما قال: «اغسلوا وجوهكم»، لكنه قال: امسحوا برؤوسكم، والباء بمعنى التبعيض فعلمنا أن المسح على بعض الرأس لا على جميع الرأس.

تفسير القرآن بالقرينة العقلية:

سأله أحد أصحابه، قال: ما معنى قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف الله يعني جلس على العرش؟! قعد؟! ما هو معنى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى؟ قال: إنه ليس مادة يكون لها جلوسٌ أو قيامٌ، استوى يعني استوت نسبة الأشياء إليه فليس شيءٌ أقرب إليه من شيء، لم يقرب منه قريبٌ ولم يبعد منه بعيدٌ، استواء النسبة، العرش هو المركز - مركز الكون - لما خلق المركز صار الأشياء في الكون متساوية في النسبة، نسبتها إلى العرش نسبة متساوية، هذا معنى استوى على العرش، يعني: جعل الأشياء متساوية النسبة بخلق العرش وبإيجاد العرش، وليس معنى استوى يعني جلس، فالإمام فسّر الآية من خلال القرينة العقلية التي تقرّر أن الله ليس بجسم حتى يتصور له قيامٌ أو قعودٌ، هذا منهجه في مجال التعامل مع القرآن.

المنهج الرابع: منهجه في الإمامة.

تعرفون أهم بحث منذ وفاة النبي إلى اليوم، المسلمون إلى الآن يبحثون، يبحثون عن الإمامة، الإمامة مازالت محلاً للبحث، هل الإمامة بالنص أو الإمامة بالشورى؟ هل الإمام ينتخب أو أن الإمام ينص عليه من النبي أو من إمام قبله؟ الإمام الصادق أسّس من خلال القرآن ومن خلال الأحاديث النبوية أن الإمامة بالنص لا بالشورى، قال في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ الإمام الصادق في تفسير الآية ماذا قال؟ ”إنّ الله اختار إبراهيم عبدًا قبل أن يتخذه نبيًا، وإن الله اتخذه نبيًا قبل أن يتخذه رسولاً، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، ثم ابتلاه، إذ قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ «ابتلاه بماذا؟ ابتلاه بذبح ولده إسماعيل ونجح في الابتلاء» فلما فاز في الابتلاء اتخذه إمامًا، ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا“.

إذن الإمامة درجة أعلى من درجة النبوة وأعلى من درجة الرسالة لأن الإمامة لم تعط لإبراهيم إلا آخر عمره، إبراهيم صار عبدًا - عبدًا لله - ثم صار نبيًا ثم صار رسولاً ثم صار خليلاً ولم يحصل على الإمامة إلا آخر عمره عندما ابتلي بذبح ولده إسماعيل، معناه أن الإمامة أرقى درجة، وإلا لماذا يحصل عليها آخر عمره وبعد الامتحانات الشديدة؟! إذن الإمامة أعلى درجة من النبوة والرسالة، وهذا لا يعني أننا نحن نقول: أئمتنا أفضل من النبي، لا، لأن الأنبياء أيضًا كانوا أئمة، نوح كان نبيًا وكان إمامًا، إبراهيم كان نبيًا وكان إمامًا، موسى كان نبيًا وكان إمامًا، عيسى كان نبيًا وكان إمامًا، النبي محمّدٌ أيضًا كان نبيًا وكان إمامًا، لكن الإمامة أرقى درجة لأن الإمامة هي عبارة عن الولاية على النفوس، أن يكون الإمام أولى بك من نفسك، ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الولاية على النفوس هي الإمامة، فهي أعلى درجة من النبوة ومن الرسالة ومن الخلة، لذلك ما حصل عليها إبراهيم إلا آخر عمره، لذلك الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أفضل من الأنبياء ما عدا النبي محمد لأنهم أئمة منذ خلقهم الله تبارك وتعالى، أعطاهم الولاية على النفوس، ”ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟“ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ”فمن كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله“.

دخل عليه عمرو بن عبيد رائد المعتزلة يناقشه، قال له الإمام: النقاش واضح، لا تروح ولا تجي، لماذا؟ قال: لو أن الأمة طلبت منك - أنت يا عمرو بن عبيد - أن تولي أحدًا عليها من تولي؟ قال: لا أولي أحدًا، قال: إذن كيف؟ قال: أجعلها شورى لأن الله تعالى يقول: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، قال: يا ابن عبيد أتتولى أبا بكر وعمر؟ تعتبرهم أئمة لك أم لا؟ قال: بلى، قال: إذن خالفت أبا بكر وعمر فإن أبا بكر عهد بها لعمر ولم يجعلها شورى وعمر عهد بها لستة فقط ولم يجعلها شورى بين جميع المسلمين فاختر أي الطرفين، فإن جعلتها شورى خالفت أبا بكر وعمر، وإن وليت بدون شورى خالفت القرآن لأنك تزعم أن القرآن يقول: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ فأنت متحيرٌ الآن ماذا تفعل؟! تقول: شورى، خالفت أبا بكر وعمر، تقول: لا، ليست شورى، أنت تقول القرآن أمر بالشورى ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ إذن كيف تجمع بين الأمرين؟!

إذن الإمام الصادق ركّز على معلم الأصالة، ومعلم الأصالة هو عبارة عن تأصيل مناهج أربعة عددناها وذكرناها.

المعلم الثاني: معلم الحصانة.

كل من يؤسّس مشروعًا ثقافيًا لابد أن يعطي لمشروعه حصانة ضد الثقافات الدخيلة، أي أن المشروع الثقافي يحتاج إلى متابعة وقراءة في كل تجربة وفي كل مرحلة من مراحله كي تُتَفَادَى الأفكارُ الدخيلة والأفكارُ المسمومة، والإمام الصادق وضع حصانة لمشروعه الثقافي عندما حارب الغلاة وحارب الكذابين.

الإمام حارب الغلاة، كانت هناك فرقة اسمها فرقة الخطابية، فرق الخطابية أبو الخطاب كان يقودها، كانوا يعتقدون أن الأئمة آلهة، دخل سدير على الإمام الصادق، قال: يزعمون أنكم آلهة ويستدلون بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ يعني أنت الإله في الأرض، ذاك الله إلهٌ في السماء وأنت الصادق إلهٌ في الأرض! قال: ”يا سدير، إن شعري وبشري ولحمي ودمي وعظمي منهم براء، اللهم العن أبا الخطاب فقد أخافني في قيامي وقعودي وفي يقظتي وعند نومي، اللهم أذقه حر النار، اللهم أذقه حر الحديد، إن الغلاة كفارٌ فسقة أبلغهم ذلك، والله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا وبرأنا، وإنا لموقوفون، وإنا لمسؤولون“، هذا نوعٌ من الحصانة الفكرية لمشروعه الثقافي، ألا تتلاعب به أقلامُ الغلاة، ولا تتلاعب به أحاديثُ الغلاة.

وحارب الكذابين أيضًا، يونس بن عبد الرحمن كان من الرواة المجتهدين، يعني ما كان فقط راوٍ، كان أيضًا فقيهًا مجتهدًا، قال له أحدُ أصحابه: ما أشدك يا أبا محمد وأكثر إنكارك للحديث! كثيرٌ من الأحاديث التي نقولها تقول: ليست صحيحة، لماذا تنكر الأحاديث؟! قال: إنّي سمعتُ من هشام بن الحكم عن أبي عبد الله «الصادق» يقول: ”إن المغيرة بن سعيد - هذا كان أحد الكذابين - دسّ في كتب أصحاب أبي «الباقر» أحاديثَ لم يقلها، فاتقوا الله فينا ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا، لا تقبلوا علينا إلا ما وافق الكتابَ وسنة النبي أو وجدتم له شاهدًا من أحاديثنا المتقدمة، فإنا إذا قلنا قلنا: قال الله وقال رسول الله «محمّدٌ »“.

المعلم الثالث: الشمولية.

الإمام الصادق لم يكن عالمًا بالفقه أو بالقرآن أو بالحديث فقط، بل كان معلمًا حتى في الطب، وكان معلمًا حتى في الكيمياء، وكان معلمًا حتى في مجالات أخرى، المشروع الثقافي للإمام الصادق كان مشروعًا شموليًا متعدد الحقول متنوع المعارف، تحدث الإمام في الفقه والحديث والقرآن وتحدث حتى في الطب، إذا تراجع الرسالة الطبية للإمام الصادق المروية عن المفضل بن عمر ترى الإمام يتكلم بأصول الطب، الأصول الموجودة الآن يتحدث عنها الإمام الصادق قبل ألف وثلاث مئة سنة.

”يا مفضل، أتدري ما الملوحة في العينين والمرارة في الأذنين والرطوبة في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟! جعل الله الملوحة في العينين لتلتقط ما يقع عليهما من أذى، وجعل المرارة في الأذنين حاجبًا ألا تنفذ الدواب إلى الدماغ، وجعل الرطوبة في المنخرين حتى يستنشق الإنسانُ من دون أن ينتن منخره بالرائحة النتنة، وجعل العذوبة في الشفتين كي يستلذ الإنسانُ بما يأكله من طعام، يا مفضل، أتدري إذا دخل الطعامُ بدنَ ابن آدم إنه يفد على المعدة فتقوم بطبخه، ثم تقوم ببثه في عروق رقاق واشجة حتى يصل إلى الكبد، فتحوله دمًا يسري في البدن، وما بقي منه من الخبث يعود إلى مغايض عدة، فما كان من جنس الصفراء ذهب إلى المرارة، وما كان من جنس السوداء ذهب إلى الطحال، وما كان من جنس الرطوبة ذهب إلى المثانة“.

نفس القواعد العامة التي يقرّرها الطب تحدث عنها الإمام الصادق قبل ألف وثلاث مئة سنة.

الإمام الصادق تحدث في مجال الكيمياء، يذكر ابن النديم في فهرسته أن جابر بن حيان أول معلم للكيمياء في العرب، وقد كتب خمس مئة رسالة في علم الكيمياء، وبدأ رسالته بقوله: حدثني سيدي ومولاي جعفر بن محمد، لست أنا الذي أقول، البرفسور محجوب الحسين نائب مدير جامعة إفريقيا العالمية عنده كتاب في العلم التجريبي، يقول في هذا الكتاب «راجعه»: أول من فتح المجال في العلم التجريبي جابر بن حيان ملهم الكيمياء تلميذ جعفر بن محمد، تحدث في التجربة قبل فرانسيس بيكون الذي هو رائد التجربة بثمان مئة سنة، تحدث قبله جابر بن حيان في مجال العلم التجريبي.

ثم يقول قائلٌ بأن الشيعة ليس لهم بصمات في الحضارة! كما ذكرنا في الليلة السابقة أن فرج فودا الكاتب المصري يقول: لم نجد للشيعة بصمات في الحضارة الإسلامية، ما وجدنا الشيعة إلا حركة عنف وحركة دماء وحركة جراح ولم نجد لهم بصمات في الحضارة الإسلامية، لا في حضارة الأندلس، ولا في حضارة دمشق، ولا في حضارة بغداد... وقلنا بأن الحضارة ليس هي المباني، الحضارة لا تقاس بالجسور والقصور والأطلال والمباني، ليست هذه هي الحضارة، هذه نتاج للحضارة، أساس الحضارة هو الفكر والثقافة، إذا لم تجد للشيعة بصمات في الأحجار فاقرأ الفكر.

اقرأ الثقافة الإسلامية تجد أن روّاد الحضارة الفكرية الثقافية الإسلامية هم من الشيعة:

  • مجال علم الكلام: أبو الحسن النوبختي صاحب كتاب فرق الشيعة، صاحب كتاب الإنصاف في الإمامة، محمد بن قبة الرازي.
  • علم الفلسفة: ابن سينا صاحب كتاب الشفاء في مجال الفلسفة، الراوندي صاحب شرح المطالع في مجال الفلسفة.
  • علم الكيمياء: جابر بن حيان.
  • علم الجغرافيا: أحمد اليعقوبي أول جغرافي - كما يذكر المؤخرون - أول جغرافيي المسلمين أحمد اليعقوبي، وكان شيعيًا.
  • مجال علم التاريخ: أبو الحسن المسعودي صاحب مروج الذهب ومعادن الجواهر من أوائل المؤرخين في الحضارة الإسلامية.
  • مجال علم الفلك: نصير الدين الطوسي كتب عنه نفس هذا الدكتور محجوب أنه أنشأ مرصد مراغة عام 657 هـ  وكان أكبر مرصد للحضارة الإسلامية، أنشأه نصير الدين الطوسي وهو من علماء الشيعة.
  • مجال الأدب: من هم روّاد الأدب؟! الفرزدق كان شيعيًا، الكميت كان شيعيًا، دعبل الخزاعي كان شيعيًا، الشريف الرضي كان شيعيًا، المتنبي كان شيعيًا، وهو القائل:
وتركتُ    مدحي    للوصي   iiتعمدًا

وإذا  استطال  الشيء  قام  iiبنفسه

 
إذ   كان   نورًا   مستطيلاً   iiشاملاً

وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً
  • مجال علم النحو: الخليل ابن أحمد الفراهيدي من أين أخذ علم النحو؟ عن أبي الأسود الدؤلي، أبو الأسود الدؤلي عمن أخذ النحو؟ عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه عندما قال له: ”الكلمة إما اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ، فالاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أوجد أو دلّ على معنى في غيره“.

إذن أصول الحضارة الفكرية، جذور الحضارة الفكرية الإسلامية ترجع إلى مهد التشيع وتعود إلى المشروع الثقافي للإمام جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لأن فكر الإمام الصادق اتسم بالشمولية وتنوع المعارف استقطب المئات بل الآلاف، ابن عقدة - وهو زيديٌ - جمع تلامذة الإمام الصادق فكانوا أربعة آلاف طالب، تصور جامعة تضم أربعة آلاف طالب يقودها شخصٌ واحدٌ وهو جعفر بن محمد، الحسن بن علي الوشّاء في عهد الإمام الرضا، الإمام الصادق مات، في عهد الإمام الرضا يقول: دخلتُ مسجد الكوفة فرأيتُ تسعة مئة شيخ كلٌ يقول: حدثني مولاي جعفر بن محمد.

واستفاد منه أئمة المذاهب الإسلامية الأخرى، ارجع إلى كتاب الجاحظ، الجاحظ بنفسه يقول، وهذا ليس من الشيعة، يقول: جعفر بن محمد ملأ الدنيا بعلمه وفقهه وتتلمذ على يديه الإمام أبو الحنيفة الذي نقل عنه: لولا السنتان لهلك النعمان، وقال عنه الإمام مالك - إمام المذهب المالكي - قال: ما رأت عينٌ ولا سمعت أذنٌ ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علمًا وعبادة وورعًا، وروى عنه أحمدُ بن حنبل في مسنده، وروى عنه مسلمُ في صحيحه، إلا البخاري فإنه امتنع عن الرواية وقال: لا أجد طريق ثقةٍ إليه! وهذا ما يوجب تساؤلاً أن البخاري روى عن عمران بن حطان، عمران بن حطان رأس الخوارج، عمران بن حطان لما قُتِلَ الإمامُ عليٌ فرح وأنشد وهو يمدح ابنَ ملجم على قلته للإمام علي، قال:

يا ضربة من تقي ما أراد بها   إلا  ليزلف  عند  الله iiرضوانًا

عمران بن حطان رأس الخوارج ثقة عند البخاري، يروي عنه، أما جعفر بن محمد فهناك علامة استفهام!

المعلم الأخير: القيادة.

ذكرنا في الليالي السابقة: هناك فرقٌ بين المدير وبين القائد، المدير يضع برنامج العمل، المدير إنسانٌ منظرٌ لكن القائد إنسانٌ فاعلٌ، كل مشروع ثقافي لا يتم رسوخه إلا على يد قائد، لا يكفي وجود منظر، الإمام الصادق قام بدورين: دور المنظر ودور القائد، قام بقيادة فعلية لمشروعه الثقافي، قام بعدة خطوات:

الخطوة الأولى: إعداد النخبة الصالحة.

هل نحن نخبة صالحة كما أراد الإمام الصادق سلام الله عليه؟! الإمام الصادق اسمع ماذا يقول، يقول: ”كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم «بأخلاقكم، بسلوككم»، إنّ الرّجل منكم إذا صدق في حديثه وورع في دينه وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفريٌ، وقيل: هذا أدب جعفر، فيسرّني ذلك“، إذا كان يتعامل مع الناس، أيّ ناس؟! ليس الشيعة، مع الناس، يعني: يتعامل مع الفرق الإسلامية الأخرى بل مع الكفار أيضًا، يتعامل معهم بالتواضع، يتعامل معهم بالبسمة، يتعامل معهم بالصدق، يتعامل معهم بالأمانة ”قيل: هذا جعفريٌ، وقيل: هذا أدب جعفر، فيسرّني ذلك، وإذا كان على غير هذا قيل: فعل الله بجعفر ما فعل! ما كان أسوأ ما يؤدّب به أصحابَه! ويدخل عليّ بلاؤه وعارُه“.

إذن سلوكنا يا إخوان هو دليل نقائنا، هو دليل طهارتنا، سلوكنا الحسن مع الآخرين هو علامة، هو دليل، هو وسيلة إعلامية على نقاء مذهبننا ونقاء ديننا ونقاء أئمتنا أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الإمام يمدح شيعته، يقول لسدير: ”شيعتنا أصبر منا“ شيعتنا أكثر صبرًا منا، قلت: كيف سيدي؟! أنتم الذين تُقْتَلُون، شيعتكم أكثر صبرًا؟! قال: ”لأنا نصبر على ما نعلم وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون“، الإمام الصادق يرى أن الشيعي هو المتقي، الشيعي هو صاحب الخلق الحسن المتواضع الصادق مع كل المسلمين، مع كل بني آدم، هذا هو الشيعي، أقبل إليه رجلٌ من أصحابه، قال: كيف خلفت قومَك «يعني: قبيلتك»؟ قال: شيعة محبين لكم، قال: كيف هم؟ هل يعود غنيُهم فقيرَهم؟ وهل يتواصل فقيرُهم مع غنيِهم؟ قال: لا، لم يصلوا إلى هذا، قال: إذن ليسوا بشيعة، شيعتنا من اتقى، شيعتنا من عادى غنيُه فقيرَه وواصل فقيرُه غنيَه، هذا هو الشيعي.

الخطوة الثانية: ترسيخ مبدأ المعارضة للظلم.

ذكرنا أن بعض الكتاب المصريين يقول بأن الشيعة حركة معارضة، نعم الشيعة حركة معارضة لكن معارضة لمن؟ معارضة للظلم وللطغيان، وهذا ليس عيبًا بل مدحًا، لأن وجود المعارضة للظلم والطغيان أمرٌ ضروريٌ لإصلاح المجتمع الإسلامي، لتطوير المجتمع الإسلامي، لتلافي أخطائه وثغراته، نعم كانوا حركة معارضة، الإمام الصادق ركّز مبدأ المعارضة، المعارضة السلميّة، وهذا ما عبّر عنه الإمامُ الصادقُ بالتقية، ما هي التقية؟ عندما يقول الإمام الصادق: ”التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له“ لا يراد بالتقية النفاق أو الازدواجيّة كما يصوّرها الآخرون، التقية هي المعارضة السلمية، المعارضة اللاعنفية، هذه هي التقية، وهذا مبدأ حضاريٌ وليس نفاقًا ولا ازدواجية، ولذلك الإمام الصادق يركّز على مبدأ المعارضة.

جاءه أحدُ أصحابه، قال: عندي رجلٌ كان كاتبًا في ديوان بني أمية واستفاد أموالاً كثيرة، قال: إنّي كنتُ في ديوان هؤلاء - يعني: بني أمية - وكسبتُ من دنياهم أموالاً كثيرة وأغمضتُ في مطالبها، بعد ما أفكر حلال أم حرام، ما هو الحل؟ قال: ”لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا“، ثم قال له: إذا أنا أمرتك تخرج؟ قال: نعم، قال: ”آمرك أن تخرج من أموالك كلها - كل أموالك تطلع منها أنت - ما عرفت صاحبه فرده إليه، وما لم تعلم فتصدق به على الفقراء“.

إذن الإمام ما عارض لأجل المعارضة، وما عارض لأجل الكرسي، عارض لأن هناك اغتصابًا للأموال، لأن هناك ظلمًا، عارض من أجل الإصلاح، من أجل أن ترجع الأموال إلى أصحابها، ولذلك كان يقول: ”إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ الله من حساب الخلائق“.

الخطوة الثالثة والأخيرة: أن الإمام الصادق رسّخ صوتَ الحسين .

أراد الإمام الصادق أن يقول للأجيال: لا يوجد تناقضٌ بيني وبين جدي الحسين، كلانا قام بحركة إصلاح، جدي قام بثورة إصلاحية للقيادة، وأنا أقوم بثورة ثقافية إصلاحية لأصول الفكر الإسلامي، هدفنا واحد، طريقنا واحد، اختلفت الصور من معركة دامية إلى معركة ثقافية نتيجة لاختلاف الظروف ليس إلا، الإمام الصادق رسّخ صوتَ الحسين، رسّخ مبادئ الحسين من خلال عدة جبهات:

حثّ على البكاء: البكاء جبهة، جبهة تثير المظلومية، تثير صرخة الحسين صلوات الله عليه، قال: ”كل البكاء والجزع مكروهٌ ما خلا البكاء والجزع على الحسين فإنه مأجورٌ فيه“.

ركّز على جبهة زيارة الحسين: يقول: ”من أراد أن يكون معنا في موائد النور يوم القيامة فليزر جدي الحسين“، ”من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه“.

الجبهة الثالثة: ركز على إقامة المجالس والمآتم لإحياء ذكرى الحسين وإحياء مبادئ الحسين واسترفد الشعراء من أجل أن يحيوا ذكر الحسين ، ووقف عليه ابنُ هارون وقال:

امرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية

يا  أعظمًا  لازلت  من  وطفاء  ساكبة  iiروية

وإذا   مررتَ   بقبره   فأطل  به  وقِفْ  iiمطية

وابكِ   المطهر   للمطهر   والمطهرة   النقية

كبكاء   معولةٍ   دنت  يومًا  لصاحبها  iiالمنية

الإمام الصادق جسّد كربلاء، دعم معركة كربلاء حينما أثنى على أنصار كربلاء فقال: ”رحم الله عمي العبّاس، كان صلب الإيمان، نافذ البصيرة، جاهد في الله فأبلى بلاءً حسنًا“، الإمام الصادق يعظم العبّاس بن علي: ”السلام عليك أيها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله، السلام أيها الأخ المواسي لأخيه، أشهد أنك قُتِلْتَ مظلومًا، وأن الله منجزٌ لكم ما وعدكم“.

والحمد لله رب العالمين

قوة الإرادة والتحدي في شخصية الإمام الكاظم (ع)
التشيع حركة بناء لا مقاطعة