نص الشريط
قوة الإرادة والتحدي في شخصية الإمام الكاظم (ع)
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 8/1/1427 هـ
مرات العرض: 3485
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1992)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

ألا يا قاصدَ الزوراءِ عرّج على

ونعليك اخلعنَّ واخضع خشوعًا

فعندهما  لعمركَ نارُ ii«موسى»



 
«الغربي»   من   تلك  iiالمغاني

إذا     لاحتْ     لديك    iiالقبتانِ

ونورُ      «محمدٍ»     متقادلانِ

جاء أبو حنيفة لزيارة الإمام الصادق ، وكان الإمام مشغولاً بآخرين، فوقف ينتظر الدخول عليه، يقول: فرأيتُ صبيًا واقفًا، سلمتُ عليه، قلتُ: من أنت؟ قال: أنا موسى بن جعفر، قلتُ له: جئتُ لمسائلَ لأبيك، ولا أستطيع الدخول عليه، فهل يمكن أن أسألك؟ قال: سل، قلتُ: ممّن المعصية من الله أم من العبد؟ قال: ”إنّ المعصية لا يخلو حالها إما أن تكون من الله أو من العبد والله أو من العبد وحده، فإن كانت المعصية من الله - يعني: كان العبد مكرهًا عليها - فإن الله أعدل من أن يعاقب عبده على ما لم يفعل، وإن كانت المعصية مشتركة - يعني: جزء من الله وجزء من العبد - فإن الله أقوى الشريكين، وأقوى الشريكين أولى بألا يؤاخذ الشريك الضعيف على ما فعل، فتعيّن أن المعصية من العبد وحده“، يقول: فاكتفيتُ بكلامه ولم أدخل على الإمام جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه.

حديثنا حول الشخصية العملاقة للإمام موسى بن جعفر الكاظم في محورين:

  • فاعلية الصدقة.
  • قوة الإرادة.

الإمام الكاظم جسّد ملكتين وصفتين: فاعلية الصدقة، وقوة الإرادة.

المحور الأول:

عندما نتحدث عن فاعلية الصدقة نتحدث عن مفهومين:

1 - مفهوم الصدقة.

2 - ومدى ملاك الصدقة لاستحقاق المثوبة.

1 - ما هو معنى الصدقة؟

عندما نسمع قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ما معنى الصدقة؟

كثيرٌ منا يظن أن الصدقة هي أن تتبرع بمال على الفقير، هذه هي الصدقة، الصدقة هي التبرع بالمال على فقير أو محتاج، ولكن الصدقة مفهومٌ أوسع من ذلك، الصدقة متقومة بعنصرين:

العنصر الأول: أن يكون العمل صادقًا.

لماذا سُمّيت صدقة؟ لأنها مأخوذة من الصدق، يعني: أن يكون العمل صادقًا، صادقًا يعني ماذا؟ يعني: خالصًا لوجه الله، بألا يكون العمل لأجل منفعة ذاتية، بألا يكون العمل لأجل سمعة، أو لأجل منصب، أو لأجل جاهٍ، أو لأجل أي منفعة ذاتية وأي مصلحة شخصية، أن يكون العمل صادقًا يعني: خالصًا من جميع النوازع الذاتية والمصلحية، ولذلك نرى بأن الإسلام حثّ على الصدقة بل أوجب الزكاة وحرّم الرّبا، لماذا حرّم الرّبا وفرض الصدقة؟ لأن الربا والصدقة متعاكسان، متعاكسان في الأثر، الربا يكرّس غريزة حب الذات، الإنسان لماذا يرابي؟ يعني: الإنسان لماذا إذا أقرض آخرين أخذ عليهم فوائدَ ربوية؟ لماذا؟ الإنسان عندما يتعامل بالربا يعني عندما يأخذ الفوائد حتى مع البنوك، يعني لا فرق في حرمة الربا بين إنسان وإنسان أو بين الإنسان والبنك، لا فرق بينهما، يعني أنا عندما أريد أن أودع أموالاً في البنك الأهلي، عندما أودع أموالاً في بنك أهلي بشرط الفائدة، هذا ماذا؟ ربا، قرضٌ ربويٌ، لا يوجد فرقٌ بينهما، الربا لا فرق فيه بين أن يكون بين شخصين أو بين شخص وبنك أهلي يودع أمواله في البنك بشرط الفائدة، هذا ربا، ربا محرم.

الربا يكرّس حبّ الذات، الرّبا يكرّس الأنانية لدى الإنسان، يكرّس أن يخدم الإنسان ذاته لأنه لا يعطي شيئًا للآخر إلا بعوض أو بأضعاف مضاعفة، فالربا يكرّس الأنانية والجشع وخدمة الذات، بينما الصدقة تكرّس ماذا؟ تكرّس تجاوز الذات، تكرّس الغيرية، تكرّس الإحسان، فمفعول الصدقة مناقضٌ ومعاكسٌ لمفعول الربا، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ يعني: هما عملان متعاكسان متناقضان، فالصدقة العنصر الأول فيها أن يكون العمل صادقًا، يعني: خالصًا لوجه الله لا لمنصب ولا لمصلحة شخصية، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.

بعض علماء العرفان يقول: حتى الكافر بالله يتصور فيه أن يكون له صدقة، حتى الكافر، لماذا؟

لأن الكافر عندما يعطي الصدقة مجردًا عن أي دافع مجردًا عن أي مصلحة فهو يعطيها بقصد الرحمة الإنسانية، يعني: هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله عندما يعطي الصدقة يعطيها بقصد الرحمة الإنسانية، يعني: أن يرحم الآخر، أن يعطف على الآخر، والرحمة خلقٌ من أخلاق الله، الله تبارك وتعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الرحمة من أوضح صفات الله تبارك وتعالى، وقد ورد عن النبي محمّدٍ أنه قال: ”تخلقوا بأخلاق الله“، كيف يعني الإنسان يتخلق بأخلاق الله؟ يعني: يصير رحيمًا، الرحمة من أخلاق الله، الرحمة من صفات الله، من تحلى بالرحمة الإنسانية فقد تخلق بأخلاق الله، هذا الكافر الذي لا يعترف بالله إذا تحلى بالرحمة وقصد الرحمة من صدقاته فهو قد تخلق بأخلاق الله من حيث لا يشعر، وهو بالتالي قصد وجه الله من حيث لا يشعر، لأن القرآن الكريم قال: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وجه الله يعني صفاته، من صفاته الرحمة، هذا الكافر عندما قصد الرحمة قصد وجه الله من حيث لا يشعر لأنه تخلق بخلق من أخلاق الله تبارك وتعالى، إذن العنصر الأول المعتبر في الصدقة أن يكون العمل صادقًا لوجه الله لا لأجل منفعة أخرى.

العنصر الثاني: أن يكون إحسانًا للآخرين.

لذلك أنت إذا تلاحظ الكتب الفقهية - الرسائل العملية - يعرّفون الصدقة بأنها الإحسان، الإحسان إلى الغير قربة إلى الله صدقة، كل إحسانٍ فهو صدقة، الصدقة ليس من اللازم أن تكون أموالاً، التعليم صدقة، إنسانٌ يعلم إنسانًا مجانًا، هذا صدقة، مثلاً: يقضي حاجة إنسان، أنا موظف، يأتي إنسان إلى المؤسسة التي أنا موظفٌ فيها، أقوم له بعملٍ بدون مقابل، صدقة، حتى الهدية من صديق إلى صديق، أنا صديقي أعطيه هدية بلا مقابل، صدقة، الصدقة يراد بها الإحسان، ليست الصدقة لازم على الفقير، لا، حتى على الغني تصير صدقة، الصدقة كل إحسانٍ فهو صدقة، حتى لو كان على الغني، حتى لو كان عطفًا على الغني، رحمة للغني، فهو صدقة، كلّ إحسانٍ خالصٍ لوجه الله فهو صدقة.

إذن الصدقة لها مفهومٌ أعم، لذلك ورد عن النبي محمّدٍ : ”إماطة الأذى عن الطريق صدقة - هذا طبعًا ليس أموالاً - وتعليم سورة صدقة“ واحد يعلم آخر سورة من القرآن، فإذن الصدقة لها مفهومٌ واسعٌ لا يختص بدفع الأموال للآخرين.

الأمر الثاني:

أن ثواب الصدقة يعتمد على أحد أمرين: على الدوافع والآثار، ربما الإنسان يتصدق بمال على الفقير بدافع الرحمة لكن المال يتلف قبل أن يصل إلى الفقير، يعني هذا لا يثاب؟! يثاب على دوافعه، وربما يعطي الإنسان مثلاً أموالاً كثيرة فيكثر ثوابه نتيجة لكثرة الأموال، إذن هناك مناطان في الثواب: الدوافع مناط للثواب، وحجم العمل أيضًا مناط آخر للثواب، كلما كان العمل أكبر كان الثواب أكثر، ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”خير الناس من نفع الناس“، كلما كان العمل أنفع كان ثوابه أكبر، لذلك نحن نلاحظ في مجتمعنا تخلف مفهوم الوقف للحاجات الأساسية، يعني كيف؟

أنت عندما تلاحظ مجتمعنا ترى أن الناس يوقفون الدور أو المساكن أو الأراضي لماذا؟ إما أن يقف الأرض للحسين ، أو للأئمة الأطهار، أو لمسجد مثلاً، أو لمثلاً ذريته، يعني: أهداف الوقف أهداف محصورة جدًا، إما على أهل البيت، إما على الذرية، إما على المساجد، وكأنه لا ثواب إلا على هذه الأمور، يعني: كثير يتصور أنه لا ثواب إلا إذا أنا وقفتُ الأرض مسجدًا، وإلا كيف أحصل على ثواب؟! أو وقفتُ الأرض حسينية، أو وقفتُ الأرض على ذريتي، وإلا كيف أحصل على ثواب؟! لا، الثواب لا ينحصر بالمسجد ولا بالحسينية ولا بالذرية ولا بالفقراء، هناك حاجات أساسية لدى المجتمع يترتب على الوقف إليها ثوابٌ كبيرٌ جدًا.

مثلاً أضرب لك أمثلة: مركز للمعاقين، المعاقون ألا يحتاجون إلى مركز؟! طبعًا يحتاجون إلى مركز، المعاقون في مجتمعنا يحتاجون إلى مركز يعتني بهم، بمواهبهم، يعتني بطاقاتهم، بتعليمهم، بتهذيب سلوكهم، أنت إذا تنظر إلى عوائل المعاقين ترى أن عوائل المعاقين يعيشون مأساة، لأنهم لا يستطيعون أن يوفروا للمعاقين - لأبنائهم المعاقين - تعليمًا أو مثلاً مهنة أو فرصة للعمل، المعاق في مجتمعنا يبقى بلا عمل، بلا تعليم، صفر على الشمال لأنه لا توجد مراكز للمعاقين، إنشاء مراكز للمعاقين من أعظم القربات التي يترتب عليها الثواب الجزيل عند الله تبارك وتعالى.

هذا عندما ينشئ مركزًا للمعاقين ليس فقط يقضي حاجة المعاق، يقضي حاجة المعاق، ويقضي حاجة أهل المعاق، ويجنّب المجتمع الجريمة، لأن هذا المعاق أحيانًا قد يكون عامل جريمة، قد يكون عامل نقمة لأنه لم يُوَفر له العملُ، لم يُوَفر له التعليمُ، أنت بإنشائك مركزًا للمعاق تقضي حوائجَ عديدة، حاجة المعاق، حاجة والديه، حاجة أهله، تجنيب المجتمع الجرائم والنقم، فيشملك ”من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله حاجته ونودي من بطنان العرش: عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة“ هذا حديثٌ واردٌ عن النبي محمّدٍ .

ولذلك بعض الجمعيات كجمعية سيهات الخيرية - وهي جمعية موفقة ومباركة وتستحق الدعم والتأييد من المؤمنين - بادرت إلى أمثال هذه الخطوات وأمثال هذه المشاريع، المجتمع يحتاج إلى مركز للمعاقين، المجتمع يحتاج إلى صندوق للبعثات العلمية، كثير من أبنائنا يخرجون من الثانوية بمعدل لا يهيئهم للدخول في جامعات المملكة، هؤلاء هل يبقون بلا تعليم؟! هل يبقون بلا وظيفة؟! يحتاجون إلى بعثات علمية، طيب إذا لم يمكن بعثهم من خلال الدولة فهناك حاجة إلى صندوق أهلي يقوم ويأخذ على عاتقه بعثة هؤلاء الطلبة ليدرسوا في الخارج سواء كان دراسة طب، دراسة هندسة، حتى الدراسة الدينية، حتى الدراسة الأدبية، وجود صندوق للطلبة الموهوبين من أجل بعثهم إلى الخارج ليرجعوا علماء أطباء مهندسين مفكرين يرفعون من مستوى المنطقة ومن مستوى المجتمع من أعظم القربات ومن أعظم الخيرات.

إذن المسألة لا ينحصر الثواب بمسجد، المساجد كثيرة، الحسينيات كثيرة، والأوقاف التي على المساجد والحسينيات كثيرة أيضًا، نحن نحتاج إلى أوقاف لمثل هذه الأمور، لمثل هذه الحاجات الأساسية، حتى الإنسان عندما يكتب في وصيته، بعض المؤمنين يكتب في وصيته ثلث، الثلث - ثلث أمواله - للخيرات، للمبرات، الوصي يظن أن الخيرات فقط ماذا؟ فقط الفقراء، هذه الخيرات، تقول له: طيب هذا مركز معاقين، قال: لا! ما دخلي به؟! هذا خيرات، يظن الوصي أن الخيرات فقط هي الفقراء أو المساجد، لا، الخيرات والمبرات تشمل كل عمل يقضي حاجة المؤمنين، ومركز المعاقين، وصندوق للمبتعثين، ومركز للبحوث العلمية، أو مكتبة أهلية، كل ذلك يقضي حوائج المؤمنين فهو من الخيرات وهو من المبرات وهو من الصدقة.

الإمام الكاظم سلام الله عليه كان يركّز على الصدقة ذات الفاعلية المستمرة، لا يركز على الصدقة الآنية، نحن دائمًا نركّز على الصدقة الآنية، أعطي خمسة ريال لفقير، تصدقت خلاص! هذه صدقة آنية، ثواب آني، الإمام يعلمنا على أن نفكر في الصدقة المستمرة، الصدقة الدائمة، الصدقة التي تأتي أكلها على الدوام، لا الصدقة الآنية، ورد عن النبي محمّدٍ : ”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية - يعني: يؤسّس وقفًا، الوقف يبقى فيبقى ثوابه، يبقى عمله - صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له“.

الإمام الكاظم مشهورٌ بالوقوف والصدقات، ومن أوقافه أنه وقف أرضًا عظيمة في المدينة يقدّر خراجها بأربعين ألف دينارًا سنويًا، بحسب ذلك الزمان يعتبر ريعًا كبيرًا جدًا، وَقَفَ، قال: ”هذا ما تصدّق به - تصدّق به يعني: وقف - هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر وهو حيٌ صحيحُ البدن مختارٌ صدقة بتًا بتلاء لا مثنوية فيها، وقف أرضه - وحدّد الأرض، وحدد نوع الأرض - على صلبه من أولاده الذكور والإناث وعلى أن واليها يخرج من غلاتها بعد عمارتها ثلاثين عدقًا لمساكين القرية“، يعني: المساكين الذين حول هذه المزرعة، حول هذه الأرض، يعيشون لهم من خراجها ولهم من ريعها ما يعتبر نفقة عليهم وإحسانًا إليهم.

الإمام الكاظم دائمًا يفكّر في فاعليّة الصدقة بشكل واضح، جاء إليه أصحابه وقالوا: إنّ فلانًا عمريٌ، هناك واحد من عائلة الخليفة عمر بن الخطاب لكن كان متشنجًا ضدّ الإمام الكاظم ، فكان دائمًا يشتم الإمام، وإذا لقيه في الطريق يؤذيه، وأصحاب الإمام يقولون له: ماذا نفعل مع هذا؟! يعني كل يوم أذية، كل يوم مشكلة، قال: دعوه، أنا أتصرف معه، يومًا من الأيام سأل الإمام عن مزرعته، أين مزرعته هذا؟ قالوا: في المكان الفلاني، فذهب الإمام وهو على حماره، وصل إلى المزرعة، لا يمكن أن يعبر المزرعة لأن كلها مزروعة بهذه الحشائش، كيف يعبر إلى الرجل؟! فعبر على الحشائش، قام إليه العمريُ، قال: يا هذا أفسدتَ علينا زرعنا، الإمام ساكتٌ عنه إلى أن وصل إليه، نزل من على حماره، سلم عليه، ردّ ، ابتسم الإمام إليه، ضاحكه، ثم قال له: كم خسرت على زرعك هذا؟ قال له: مئة دينار، قال: كم ترجو أن تربح منه؟ قال له: لا أعلم الغيب! قال: أنا لم أقل تعلم الغيب، قلتُ: كم ترجو، ما قلتُ: كم تربح، لو قلتُ: كم تربح، كان يصير علمًا بالغيب، قلتُ: كم ترجو؟ كم ترجو أن تربح منه؟ قال: مئة دينار، قال: هذه ثلاث مئة دينار مقابل ما أفسدنا عليك من الزرع، وصار الإمام يصله بين حين وآخر إلى أن تحول وأصبح من المؤمنين الموالين للإمام الكاظم صلوات الله وسلامه عليه.

إذن الصدقة ثوابها بأثرها الاجتماعي، ثوابها بفاعليتها الاجتماعية، عندما تخلق مجتمعًا متواصلاً مترابطًا متآخيًا حينئذٍ يكون لها ثوابٌ جزيلٌ، الصدقة صارت طريقًا للأخوة، الصدقة صارت طريقًا لإيجاد أخوة إيمانية، وهذا من موجبات الثواب الجزيل للصدقة، إذن هذا كلامنا في المحور الأول في شخصية الإمام الكاظم صلوات الله وسلامه عليه.

المحور الثاني: قوة الإرادة.

كان الإمام الكاظم مظهرًا لقوة الإرادة وصلابة الإرادة، إذا نريد أن نتحدث في هذا المحور أتحدث عن أمور ثلاثة:

1 - ما هي الإرادة؟

2 - وما هو أثر الإرادة في العمل «في عمل الإنسان»؟

3 - وما هي عوامل تقوية الإرادة «كيف الإنسان يمتلك إرادة قوية»؟

الأمر الأول: ما هو معنى الإرادة؟

عندما نقول: أردتُ أن أصلي فصليتُ، أردتُ أن أسافر فسافرتُ، ما هو معنى الإرادة؟

الإرادة هي السلطة النفسية على الفعل وعدمه، الإنسان عندما يتصور فعلاً معينًا، مثلاً: أنا أتصور أنني أذهب لاستماع الخطيب الفلاني، إذا تصورتُ أقول: هذا الخطيب يفيدني أو لا؟ هذا أخاف يطول في القراءة هذا الخطيب! يكسّر أرجلنا هذا الخطيب! هذه عوامل إعاقة، عوامل تثبيط عن الحضور للاستماع، أنا إذا تصورتُ العمل وتصورتُ فوائد العمل وإيجابيات العمل هنا تأتي مرحلة الإرادة، يأتي طور الإرادة، الإرادة يعني أن النفس تُعْمِلُ سلطتها، تقول: اذهب، أو تقول: لا تذهب، النفس لها سلطة على الإنسان، إعمال النفس لسلطتها على الإنسان بأن تأمره أو تزجره هذه السلطة النفسية بالأمر أو الزجر تسمّى إرادة، هي هذه ماهية الإرادة لدى الإنسان.

الأمر الثاني: ما هو الفرق بين الحكم والاعتقاد؟

طبعًا هذا بحثٌ فلسفيٌ علميٌ أنا لا أريد أن أدخل فيه بتفاصيله لكن أشير إلى ما يرتبط بمحل بحثنا، بمحل حديثنا، العلماء الفلاسفة يقولون: ليس كل ما يتيقن به الإنسانُ يعتقد به، ليس لازمًا، الإنسان قد يرى أشياء صحيحة لكن لا يعتقد بها، كيف؟ كيف يراها صحيحة وهو لا يعتقد بها؟!

هناك قوتان يمتلكهما الإنسان:

1. قوة العقل.

2. وقوة القلب.

العقل يدرك، يحلل، العقل وظيفته الإدراك والتحليل، والقلب وظيفته الانفعال، يفرح، يحزن، يرضى، يغضب، يصدّق، يكذّب، يشكّك، هذه كلها عوارض القلب لا عوارض العقل، العقل وظيفه الإدراك والتحليل، أما القلب وظيفته الإذعان أو التشكيك أو التكذيب، قد يدرك العقل شيئًا 100% لكن القلب لا يطاوع العقل، قد يدرك العقل شيئًا بالأدلة، بالبراهين، لكن القلب لا يتفاعل معه أبدًا، القرآن الكريم يؤكّد على هذه الحقيقة، ماذا يقول؟ ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ يعني: هذا الإنسان إذا رجع إلى عقله يؤمن بوجود الله، إذا رجع إلى عقله، إذا رجع إلى عقله يرى الأدلة والبراهين واضحة قاطعة على أن الله خالقٌ، ولكن إذا رجع إلى قلبه يجد أن قلبه لا يطاوع عقله، فهو متيقنٌ بالشيء ويراه صحيحًا لكنه لا يعتقد به، يعني: قلبه لا ينعقد على عقله، ليس هناك تطاوعٌ وتفاعلٌ بين القلب وبين العقل.

أضرب لك مثالاً واضحًا: الآن أنت إذا مثلاً أحضروا أمامك إنسانًا ميتًا، وجعلوه أمامك، وأطفؤوا الكهرباء، وسدّوا الباب، وقالوا لك: اجلس أنت أمام هذا الإنسان الميّت، أنت هنا ماذا؟ طبعًا يصيبك نوع من ماذا؟ من الذعر والخوف وكذا، تتوهم أن هذا الميت سيقوم، أو سيتحرك، كيف؟ هل عقلك يقول بذلك؟! لا، لو راجعتَ عقلَك عقلُك يقول: هذا ميّتٌ، هذا مثله الآن مثل الجدار تمامًا، أصلاً لا حركة لا نفس، مثله مثل الجدار، عقلك يقول: هذا لن يتحرك، خلاص مات، ولكن قلبك يقول: لا أصدّق! عقلك يقول شيئًا قلبك لا يصدّقه.

إذن هناك ثنائية وهناك انفصالٌ بين قوة العقل وقوة القلب، قد القلب ينسجم مع العقل وقد لا ينسجم معه، قد يطاوعه وقد لا يطاوعه، إذن هناك ثنائية بين العقل وبين القلب، لذلك لا تستغرب أنه كثيرٌ يعرفون إمامة أمير المؤمنين بالأدلة، بالبراهين القاطعة، يرونها واضحة في كتبهم ومؤلفاتهم لكن النفس لا تطاوع، منطق العقل لا يطاوعه القلبُ، يبقى القلب منفصلاً عن العقل لأنه عاش في بيئة أو رُبّيَ على رواسبَ ثقافيةٍ معينةٍ تمنع انصياع القلب للعقل.

وهذا ما يحدث عندنا، كل إنسان عنده هذا، ليس فئة دون فئة، كل إنسان، مثلاً: أنا لماذا أعصي الله عز وجل؟! لأن القلب لم يتفاعل مع العقل، عقلي يقول بأن معصية الله تقودني إلى عذاب، تقودني إلى جحيم، تقودني إلى خطر، لكن قلبي لا يتفاعل مع ما يدركه عقلي، وبالتالي عدم التفاعل بين القلب والعقل يقود الإنسان إلى المعصية، إذن تحقيق التفاعل بين القلب والعقل يحتاج إلى الإرادة، هنا تأتي فاعلية الإرادة، هنا تأتي فاعلية الإرادة وصلابة الإرادة لأن الإرادة تتدخل لأجل تحقيق التفاعل بين القلب وبين العقل، بين هاتين القوتين لابد من إرادة ولابد من قرار.

الأمر الثالث:

كثيرٌ منا يشكو ضعفَ الإرادة، يقول: أنا إرادتي إرادة ضعيفة، أنا بمجرد أن أسمع صوتَ الموسيقى المطربة الجميلة أنساب إليها وأسترسل وراءها، لا أمتلك إرادة تحجبني وتوقفني عن سماع الموسيقى المطربة، أنا مثلاً عندما أتعرض لإغراءات شيطانية، مثلاً: أدخل على الإنترنت، أدخل على الشاتنق أتعرف على فتاة وتبدأ الإغراءات - إغراءات المرأة، كلمات المرأة، أحاديث المرأة - تقودني إلى الاسترسال، تقودني إلى الانسياب وراء هذا العالم الشهوي، كلما قلتُ أرتدع أو أنزجر أو أبتعد لا أمتلك إرادة قوية، لا أمتلك إرادة صامدة، إرادة حازمة تمنعني عن الانسياب وراء هذا العالم، إذن أنا عندي إرادة ضعيفة تحتاج إلى تقوية وتحتاج إلى غذاء يقوّيها ويجعلها صامدة صلبة، ما هي العوامل في تقوية الإرادة؟ كيف نقوي إرادتنا؟

هناك عوامل أربعة نستفيدها من تراث أهل البيت صلوات الله عليهم وخصوصًا تراث الإمام الكاظم لتقوية الإرادة، طبعًا هي موجودة في علم التربية، يعني بمصطلحات علم التربية أنا أذكرها، هي موجودة في تراث أهل البيت وموجودة عند علماء التربية.

العامل الأول: التلقين.

علماء التربية يسمونه التلقين، تلقين النفس، الإنسان يحتاج كل يوم لا أقل خمس دقائق يمارس عملية التلقين، لا يهمل الإنسان ذلك سواء كان أول الصباح أو كان آخر الوقت قبل أن ينام، خمس دقائق يحتاج إلى عملية تلقين، ما معنى عملية تلقين؟ يعني أن يلقن نفسه: ماذا فعلتُ؟! ماذا صنعتُ في هذا اليوم؟! ما هي الحسنات التي أتيتُ بها؟! ما هي السيّئات التي أتيتُ بها؟! يراجع ملف السيّئات، إذا راجع ملفَ السيّئات، راجع شريط السيّئات بدأ يلقن نفسه الندمَ، بدأ يلقن نفسه الحسرة، بدأ يلقن نفسه التوبيخ، تلقين النفس للندم والتوبيخ والحسرة كل يوم خمس دقائق يعطيك حصانة ذاتية أمام المعاصي، يعطيك مناعة داخلية أمام الانسياق وراء الشهوات، التلقين يمنحك إرادة صلبة أمام الغرائز والشهوات، ورد عن الإمام الكاظم : ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم“ كل يوم ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى منها، وإن عمل سيئة استغفر الله وتاب إليه“، التلقين عنصرٌ ضروريٌ في صقل الإرادة.

العامل الثاني: التذكير.

هناك تلقينٌ وهناك تذكيرٌ، التذكير أين يتم؟ التذكير يتم حين الإقبال على المعصية، حين الإقدام على المعصية يأتي عامل التذكير، ما هو عامل التذكير؟

الإنسان يفكّر: ما هو الفرق بيني وبين الحيوان؟! الحيوان أيضًا يمشي وراء شهوته، أنا أمشي وراء شهوتي، إذن أي فرق بيني وبين الحيوان؟! الإنسان لابد أن يذكّر نفسه أنه إنسانٌ، لابد أن يذكّر نفسه أنه يمتاز عن الحيوان، يمتاز عن البهائم، يمتاز عن الطفل، يمتاز عن المستضعَف، لابد أن يذكّر نفسه أنه شخصٌ يتميز على غيره، تذكير النفس بأنني إنسانٌ يتميّز على غيري بالعقل وبالانتصار بالعقل وبالتغلب على الشهوة، تذكير النفس بالإنسانيّة عنصرٌ ضروريٌ في صقل الإرادة، حاول دائمًا الإنسان متى ما فكّر في المعصية أن يذكّر نفسه بأنّه إنسانٌ وأنّه يتميّز على غيره.

ورد عن أمير المؤمنين : ”إن الله خلق الملائكة عقلاً بدون شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في الإنسان عقلاً وشهوة، فمن غلبت شهوتُه عقلَه فهو أدنى من البهائم، ومن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة“، إذن التذكير بالإنسانيّة عنصرٌ ضروريٌ في تربية الإرادة، الإمام الكاظم سلام الله عليه يقول «يوصي هشام بن سالم»: ”يا هشام، إن العاقل اللبيب هو الذي يكثر الصواب في مخالفة الهوى“ يعني: دائمًا يرى أن الصواب على خلاف الهوى، أن البطولة والرجولة والإنسانيّة هي أن تنتصر على هواك، هي أن تنتصر على نفسك، علماء العرفان يقولون: اللذة في ترك اللذة، لاحظ كيف، يعني: الإنسان إذا انساق وراء الشهوة يحصل على لذة لكن لذة جسدية، لذة حسية، لكنه إذا قاوم الشهوة وانتصر عليها يحصل على لذة عقلية، على لذة روحية، اللذة في ترك اللذة.

العامل الثالث من عوامل تقوية الإرادة: التوازن في إشباع الغرائز.

كيف يعني التوازن في إشباع الغرائز؟ يعني أنت ربما تقول: أنا ما أحتاج يوميًا، لكن تحتاج يوميًا، أنت تحتاج يوميًا، كلٌ منا يحتاج يوميًا إلى أن يكون متوازنًا في إشباع شهواته وفي إشباع غرائزه، كيف؟

الإمام الكاظم يقول لأصحابه: ”اجعلوا زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة للقاء الإخوان الذين يذكرونكم بعيوبكم ويخلصون إليكم في باطنهم، وساعة لقضاء لذة بغير حرام، فإنكم إذا قمتم بهذه الساعة - يعني: قضاء اللذة - قدرتم على الثلاث ساعات“ لاحظ كيف الموازنة، الإمام الكاظم يقول لك: أنت لابد أن تشبع غريزتك، غريزة حب الطعام، غريزة حب الطبيعة، غريزة حب المرأة، غريزة الشهوة، لابد أن تشبعها لكن في حدود الموازنة مع الأمور الأخرى، إذا أنت أشبعتَ هذه الغريزة شعرتَ بحالة من الشبع، شعرتَ بحالة من الاكتفاء، وإذا شعرتَ بحالة من الاكتفاء برزت الإرادة نحو المعصية ونحو الرّذيلة، إذن بالنتيجة الإنسان يحتاج إلى أن يقسّم أوقاته لإشباع شهواته بشكل متوازن كي يكون ذلك عاملاً في صقل الإرادة وفي تقوية الإرادة.

العامل الأخير: تقبّل الواقع.

يعني: الإنسان لابد أن يتقبل أنه مسافرٌ، أنه راحلٌ لا باقٍ، هذه ما يتعامى الإنسان عنها، يحاول أن يتغافل ويحاول أن يقول: لا، لا يوجد.. ماذا يفيد؟! لابد أن يتقبّل الواقع، علماء النفس يقولون: الشخصية السوية هي التي تتقبّل الواقع، والله إنسان معوق يقول: لستُ معوقًا؟! يقول لك: أنا أتقبل الواقع، إنسانٌ فقيرٌ يقول: لستُ فقيرًا؟! لابد أن يتقبّل الواقع، أيضًا الإنسان لابد أن يتقبل أنّه راحلٌ، وأنه مسافرٌ، ليس مستقرًا، وهذه كيف يتقبلها الإنسان؟ إذا عوّد نفسه كل ليلة على ذكر الموت، إذا عوّد نفسه كل ليلة على التذكير بالقبر، إذا ذكّر نفسه بالموت وبالقبر كل ليلة فهو قد تقبّل الواقع وصار شخصية سوية، وهذا التذكير يصقل الإرادة ويقوّي الإرادة أمام المعاصي والرذائل، ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لضيق لحدي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لسؤال منكر ونكير إيايّ“، إذن هذه عوامل أربعة تساعد على تقوية الإرادة.

نأتي الآن إلى صور من سيرة الإمام الكاظم تدلّ على صلابة الإرادة وقوّة الإرادة:

الصورة الأولى: الإمام الكاظم يجسّد هذه الكلمة ”أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر“، جاء هارون الرّشيد، أمسك بقبر النبي محمّدٍ ، قال: السلام عليك يا ابن العم، الإمام الكاظم كان موجودًا في المسجد، عرف ماذا يقصد هارون الرّشيد، يعني: يريد أن يقول: نحن وصلنا للخلافة لأننا أبناء عم النبي، فنحن أحق بالخلافة، قام الإمام الكاظم في وجهه وأمسك القبرَ وقال: السلام عليك يا أبتاه، فالتفت هارون الرّشيد، قال: كيف تدّعون أنّكم أبناء رسول الله وأنتم أبناء علي والولد ينسب لأبيه ولا ينسب لأمّه؟! كيف تقولون أنّكم ذرّية رسول الله وأنتم أبناء علي؟! فقال له الإمام الكاظم: أما قرأتَ القرآن؟! القرآن ينسب الذرية حتى للجد من طرف الأم، اقرأ القرآن، القرآن يقول في حق النبي إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ثم يعدّد: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ من ذرية من؟ إبراهيم، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ - يعدّد من يكونون في ذريته - دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ صار عيسى من ذرية إبراهيم، وعيسى لم يكن له أبٌ فاعتبره القرآن من ذرية إبراهيم، هذا معناه أن أولاد البنت ذرية للجد أيضًا وإن كانوا أولادًا لابنته لأن القرآن ذكر عيسى من ذرية إبراهيم.

أما قرأتَ قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ أبناء الرسول الذين دعاهم الرسول في المباهلة من هم؟! أخرج فاطمة وحسنًا وحسينًا، يا هارون لو بعث رسول الله وطلب ابنتك أتزوجه إياها؟! قال: نعم وأتشرف، قال: أما أنا فلا يطلب ابنتي ولا أزوجه إياها لأنه ولدها، فهو أبوها وهي ابنته، فغضب هارون الرّشيد وصمّم على اعتقال الإمام لأن هذه المناظرة جرت بين الناس، تعرف هذا خليفة وعنده جنود وعنده حشم وأكيد الناس واقفة تشاهد هذا المنظر، إذن الإمام الكاظم جسّد قوّة الإرادة وصلابة التّحدّي عندما وقف وقال كلمة حق عند سلطان جائر.

الصّورة الأخرى للإمام الكاظم صلوات الله وسلامه عليه:

أنتم تعرفون أن الإمام الكاظم سُجِنَ في عهد هارون الرشيد على اختلاف الروايات، سبع سنوات، تسع سنوات، أربعة عشر سنة، على اختلاف الروايات، المهم سُجِنَ، ونُقِلَ من سجن إلى سجن، يقول أحدُ الشيعة: دخلتُ على الفضل بن الربيع وكان مسؤولاً عن سجن الإمام الكاظم، يقول: دخلتُ عليه فإذا هو في أعلى السطح، ذهبتُ إلى أعلى السطح وهو جالسٌ «الفضل بن الربيع»، فقال لي: يا أحمد انظر إلى صحن الدار، يقول: نظرتُ إلى صحن الدار، قال: ماذا ترى؟ قلتُ: أرى ثوبًا خلقًا، ثوبٌ بالٍ ملقىً على الأرض، قال له: فقط؟! قال له: فقط، قال: هذا ليس ثوبًا باليًا، هذا إمامك موسى بن جعفر، قلتُ: ماذا؟! قال: نعم هذا إمامك، إنّه منذ أن يصلي الفجر يسجد سجدة واحدة من بعد صلاة الفجر وحتى صلاة الظهر لا يرفع رأسه، قلتُ: يا سبحان الله! وماذا يقول؟! قال: طالما سمعناه يقول: ”اللهم إنّي كنتُ أسألك أن تفرّغني لعبادتك وقد أجبتَ دعائي فالحمد لك والشّكر لك“.

ما هذه الطاقة من الإرادة هذا عنده؟! تصوّر إنسانًا في السّجن، إنسانٌ في السّجن يقاسي التعذيب، يقاسي الألم النفسي، يقاسي التعذيب الجسدي، يقاسي مرارة الوحدة، مرارة الوحشة، ومع ذلك لا ينهار بل يملك إرادة قويّة تجعله يتفرغ للعبادة، سجدة واحدة من الصباح إلى الظهر، ”السّلام على حليف السّجدة الطويلة وصاحب الدّمعة الغزيرة“.

صورة ثالثة من صور قوّة الإرادة للإمام الكاظم:

حاول هارون أن يثير الإمام بمختلف الصّور، بعث للإمام الكاظم جارية جميلة، جارية جميلة وضيئة، يعني: بيضاء الوجه، قال: اذهبوا لعلها تغريه فتؤثر عليه، جاؤوا بالجارية، أدخلوها على الإمام الكاظم في السجن، قال: لا حاجة لي بها بل أنتم بهديتكم تفرحون، أرجع الجارية إلى هارون، قال: أرجعوها وقولوا له: ما حبسناك برضاك وما خدمناك برضاك، ودعوها عنده وانصرفوا، جاؤوا بالجارية، أدخلوها السجن، أغلقوا الباب عليهما، ذهبوا، ثم تصوّروا أنهم يحاولون أن يؤثروا على روح الإمام إذا رأى أن لا أحد يراقبه ورأى أن لا أحد ينظر إليه وأمام جارية حسناء جميلة ينجذب إليها وبالتالي تكون وسيلة إعلامية مهمة للحط من شأن الإمام ، تركوها معه ثلاثة أيام، جاؤوا بعد الأيام الثلاثة وإذا الجارية ساجدة على الأرض ثلاث ساعات وهي تقول: سبّوح قدّوس سبحانك سبحانك غفرانك ورضوانك.

حوّل الجارية من امرأة تتعمد إغراء الرجل وإيقاعه في المعصية إلى امرأة تائبة منيبة متبتلة، تقول الرواية: ومازالت على ذلك حتى ماتت لا تفارق المحراب وتقول: أنا على إثر العبد الصالح موسى بن جعفر، هذا ليس فقط عنده إرادة يتحمّل آلام السجن، عنده إرادة أكثر من تحمّل آلام السجن، وهو أن يؤثر في الآخرين وأن يهدي الآخرين وأن يغيّر سيرة الآخرين وهو في تلك الطامورة المظلمة.

من صور قوّة إرادته:

بعث هارون الرشيد إليه يحيى بن خالد البرمكي، يحيى بن خالد البرمكي جاء إلى هارون، قال له: كل يوم تظهر مشكلة إلى موسى بن جعفر داخل السجن، السجّانون يفتتنون به ويخدمونه ويتركون السجن، مشكلة، قال هارون: أما ترى حلاً؟ أما ترى أمرًا تريحنا منه وتخلصنا من غمّه وهمّه؟! قال له يحيى بن الفضل: أطلق سراحه، مُنّ عليه، وصِلْ رحمك، وأرحنا كي لا تفسد علينا قلوب شيعتنا، قال له: اذهب إليه وقل له: إنّ أمير المؤمنين يريد إطلاق سراحك لكن هناك شرطًا صغيرًا، قال: ما هو؟ قال: قل له: إنّ أمير المؤمنين أقسم يمينًا على نفسه ألا يخلي سبيلك حتى تعتذر إليه وتقرّ بالإساءة وتطلب منه العفو عمّا مضى، فقط كلمة تقولها، وليس في إقرارك عارٌ ولا في سؤالك منقصة، ما أحد يدري، هذا فيما بيننا نحن.

تصوّر أنت سجينًا وقاعدًا في السجن أربعة عشر سنة وفي طامورة مظلمة ويقولون له: تطلع لكن فقط هذه الكلمة تقولها وكل شيء ما يصير، طبيعي طبعًا يقولها بلا إشكال، هذا أتى إلى الإمام الكاظم، فتحوا الباب، قال له يحيى بن خالد كذا وكذا والإمام يصلي، خلص من الصلاة يدخل في صلاة أخرى، يخلص من الصلاة يدخل... وهذا واقف يحيى بن خالد، ثم وقف أمامه، قال: يقول لك أمير المؤمنين كذا كذا كذا كذا وأنت يطلق صراحك هذا اليوم، قال: قل له: إنّ أجلي قريبٌ، وإذا جافينا بين يدي الله يوم القيامة فيعلم من المظلوم ومن الظالم ومن المعتدي، قل له: إنّ كل يوم بلاء ينقضي مني ينقضي مقابله يوم رخاء منك، وسنجتمع في يوم ليس له انقضاء ويأخذ كلٌ منا جزاءه، قل له: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ليس عندي كلام غير هذا، ولذلك قضى عليه هارونُ الرشيد، إذ لم يجد وسيلة لتطويعه ولم يجد وسيلة لإذلاله، بقي صلب الإرادة، بقي صامدًا متحديًا حتى قضى نحبه شهيدًا مظلومًا.

وهذه - صور قوة الإرادة وصلابة الإرادة - هي كلها صور يوم كربلاء، الإمام الكاظم يذكّرنا بالإرادة الحديديّة التي كانت يوم كربلاء، واحد يقف ويقول: والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبدًا عن ديني، قوة الإرادة، وواحد آخر يقول: والله لو قطعت بالسيف إربًا إربًا وأحرقت ثم نشرت سبعين مرة ما تخليت عن نصرة أبي عبد الله الحسين، وواحد يقول: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة“، كلها صور لقوة الإرادة، حتى الطفل الصغير يمثل قوة الإرادة، حتى الطفل الصغير يمثل قوة التحدي...

والحمد لله رب العالمين

موقعية أهل البيت (ع) في الاقلام الاسلامية
المشروع الثقافي في سيرة الإمام الصادق