نص الشريط
الإمام الجواد وظاهرة النبوغ
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 11/1/1427 هـ
مرات العرض: 3483
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1445)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

من الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين الإمام الجواد ، وحديثنا عن الإمام الجواد في محورين:

الأول: في موقفه من مسألة الخمس.

والثاني: في ظاهرة العلم اللدني الذي تجلى في شخصيته المباركة.

المحور الأول:

الإمام الجواد هو أكثر إمام تصدّى لمسألة الخمس، حيث وضع الوكلاء، وقام بدور جباية الأخماس وتوزيعها بحسب الطرق المتعارفة آنذاك، وهناك تساؤلٌ فقهيٌ حول الخمس في أرباح المكاسب، أي: فيما يكتسبه الإنسان من التجارة أو الوظيفة أو العمل، هل أن الخمس في أرباح المكاسب حكمٌ قانونيٌ إلهيٌ فرضه الله تعالى، أو أنّ الخمس في أرباح المكاسب حكمٌ ولايتيٌ، يعني: فرضه بعضُ الأئمة لأنهم ولاة الأمر لا لأن الخمس حكمٌ إلهيٌ؟ هناك نظريتان بين الفقهاء:

النظرية الأولى:

التي يتبناها أغلب علماء الإماميّة، بل ادّعى صاحب الجواهر أن علماء الإماميّة متّفقون على هذه النّظريّة، أنّ الخمس في أرباح المكاسب حكمٌ إلهيٌ مستفادٌ من قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى بمعنى أن أي شيء يغنمه الإنسان - يعني: يكتسبه الإنسان - إذا كان زائدًا على مؤونة سنته يجب عليه خمسه، وهذا المعنى المستفاد من الآية قد يؤيّد ببعض الرّوايات كما ورد عن الإمام موسى الكاظم حيث سأله سماعة عن الخمس، قال: ”في كل ما أفاد الناسُ من قليلٍ أو كثيرٍ“ كل ما يسمّى فائدة زائدة على مؤونة السنة ففيه الخمس.

لكنّ أصحاب هذا الرّأي - وهم أغلب فقهاء الإماميّة - يواجهون مشكلة، وهي أنّنا إذا راجعنا التاريخ وجدنا أن التاريخ لا يدعم هذا الرّأي، فلا النبي محمّدٌ ، ولا الإمام علي، ولا الحسن، ولا الحسين، ولا الباقر، هؤلاء الأئمة لم يتصدَ أحدٌ منهم لجباية الأخماس، ولم ينصبوا وكلاء لجباية الأخماس، ولم تظهر منهم رواياتٌ تحثّ الشّيعة على دفع الأخماس، أخماس أرباح المكاسب، لأنّ الخمس في غنيمة الحرب ثابتٌ عند جميع المسلمين، الخمس في المعدن، إذا أخرج الإنسان معدنًا من الأرض يجب عليه خمسه، الخمس في الركاز، الركاز يعني الكنز، وجوب الخمس في المعدن، في الركاز، في غنيمة الحرب، متفقٌ عليه بين جميع المسلمين، المسألة خمس الأرباح، أرباح المكاسب، لم نجد أحدًا مِنْ هؤلاء مِنَ النبي وحتى الإمام الباقر مَنْ تصدّى لجباية الأخماس أو أخذها أو الحثّ عليها، يعني: على خمس أرباح المكاسب، وهذا يعني مؤشرًا على عدم كون الخمس حكمًا إلهيًا مفروضًا من قِبَلِ الله عزّ وجلّ.

هؤلاء - أصحاب هذه النّظريّة - يجيبون عن هذا التّساؤل بجوابين:

الجواب الأول:

أنّ الأحكام الشّرعيّة بُلّغت بشكلٍ تدريجي، ما بُلّغت في زمان واحد، بُلّغت بشكل تدريجي، النبي ثلاثًا وعشرين سنة عاش مع الرسالة، ثلاثة وعشرين سنة لم تكن كافية لتبليغ جميع الأحكام، ولذلك اعترفت جميع المسلمين - حتى في فتاوى ابن تيمية - أنّ كثيرًا من الأحكام ما عُرِفت في حياة النبي وإنما عُرِفت مِنْ قِبَلِ الإمام علي ، كأحكم البغاة، وكثير من أحكام القضاء، لم تُعْرَف منذ حياة النبي ، ممّا يؤكّد مضمون الحديث: ”أنا مدينة العلم وعليٌ بابها“، فالنبي لم يكمل تبليغ الأحكام، أكمل الدين لكن ما أكمل التبليغ، فرقٌ بين إكمال الدين وإكمال تبليغ الدين، النبي أكمل الدين يعني: جميع التشريعات أوصلها إلى الإمام أمير المؤمنين ، ولكنه ما أكمل تبليغها، إذن معنى الآية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ليس معناها أكملتُ تبليغ الدين، معناها أكملتُ التشريع لا التبليغ، يعني: جميع التشريعات شُرّعَت، قُنّنت، وأما التبليغ فلم تتح الفرصة لإبلاغ جميع الأحكام، ولذلك يقولون: كمال الدين بالإمامة لأن الإمامة هي مستودع بقية الأحكام وخزانة بقية الأحكام، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فجملة من الأحكام لم تبلغ في عهد النبي.

فلعل النبي أوكل تبليغ الخمس في أرباح المكاسب إلى من؟ إلى الأئمة المتأخرين من ذريته، من الإمام الصادق بدأ الحديث عن خمس أرباح المكاسب وحتى الإمام المنتظر عجّل الله فرجه الشّريف، فتمّ التبليغ بواسطة الأئمة المتأخرين، هذا الجواب الأول.

الجواب الثاني:

أن حكم الخمس في أرباح المكاسب بُلّغ من البداية، يعني أن النبي أبلغه إلى المسلمين ولكنّ النبي لم يتصدَ لأخذه ولا الإمام علي ولا الحسن ولا الحسين ولا زين العابدين، لماذا؟ لأن لهم الولاية على الأخذ أو الإسقاط، لهم الولاية على ذلك، الخمس حقهم، فلهم الولاية على أخذه أو إسقاطه، هو واجبٌ بُلّغ منذ زمن النبي، لكن بما أنه حقهم فلهم الولاية على إسقاطه أو أخذه، فلعلّ اختلاف الظرف هو الذي أوجب اختلاف نوع التعامل، يعني: الظروف الاقتصادية التي عاشها الإمام علي والحسن والحسين كانت ظروفًا متقهقرة، كانت ظروفًا متسمة بالفقر، متسمة بالبؤس، لذلك أسقط الأئمة عن شيعتهم أو عن المسلمين خمس أرباح المكاسب إلى زمن الإمام الصادق، يعني: بولايتهم أسقطوا الخمس ولم يطالبوا به لأن الظروف لم تكن تسمح بدفع الزكاة ودفع الخمس أيضًا، لدفع كلا الضريبتين وبدفع كلا الواجبين، ولما ازدهرت الأوضاع الاقتصادية في زمن الإمام الصادق سلام الله عليه تصدّى الإمام الصادق إلى إعمال ولايته بأخذ الخمس، ثم تطورت الحالة في الأئمة المتأخرين إلى أنهم وضعوا وكلاء لجباية الخمس، فإنما لم يأخذوا لا لأنه ليس بواجب إلهي بل لأن لهم الولاية على أخذه أو عدم أخذه، وقد أعملوا ولايتهم في عدم الأخذ لظروف الفقر وأعملوا الولاية في الأخذ لما تغيّرت الأوضاع.

لعلّ هذا تشير إليه رواية: الإمام الصادق سلام الله عليه كان يطوف بالكعبة، وكان عبّاد البصري - أحد الصوفية - جالسًا، فلمّا مرّ الإمامُ أمسك بثوب الإمام وجرّه وقال له: يا جعفر - الإمام الصادق - لقد كان أبوك أمير المؤمنين يلبس الثوب المرقع وأنت تلبس القهوي المروي؟! «يعني معناه أن لباس الإمام كان لباسًا فاخرًا، لباسًا جميلاً» وأنت تلبس القهوي المروي؟! أفلا تكون على سنة جدك علي بن أبي طالب؟! فالتفت إليه الإمام، قال: ”يا هذا لقد كان جدي في زمان فقر وبؤس فواسى أهل زمانه، ولما تغيّر الزمانُ وحسنت أحواله فأبراره أولى به من فجّاره“، إذن هناك تغيّرٌ في الأوضاع الاقتصاديّة فرض نوعًا من التّغيّر في التّعامل.

إذن الخمس واجبٌ إلهيٌ، وإنما لم يأخذه الأئمة المتقدمون لأحد هذين السببين اللذين ذكرناهما، الخمس كان ثابتًا في الرّكاز وكان ثابتًا في المعدن ومع ذلك الرّسول لم يتصدَ لأخذه، مع أنه كان ثابتًا وبنصوص واضحة عن النبي محمّدٍ كما في الأحاديث في صحيح مسلم وغيره ومع ذلك النبي لم يأخذه لأنه له الولاية على الأخذ أو عدم الأخذ، هذه نظرية.

النظرية الثانية:

هذه تعتبر نظرية نادرة بين علماء الشيعة، أنّ الخمس حكمٌ ولايتيٌ وليس حكمًا قانونيًا، يعني: الخمس في أرباح المكاسب لم يُفْرَضْ في الكتاب، هذه الآية الواردة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ يقولون: الغنيمة لم يُحْرَز ظهورُها في مطلق الكسب، يعني: أصل الظهور هو محلّ ترديدٍ، بعض علماء الشيعة كسيّدنا الخوئي قدّس سرّه يقول: لا، لفظ غَنِمَ ظاهرٌ لغة في الكسب، كلّ ما يكسبه الإنسان فهو غنيمة، كما في قوله تعالى: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ يعني: مكاسب، غَنِمَ بمعنى كَسَبَ، اللفظ ظاهرٌ لغة في الكسب، والآية وإن وردت في سياق آيات القتال وفي سياق آيات الجهاد لكنّ هذا لا يعني أنّ الآية ناظرة لغنيمة الحرب، «خصوص المورد لا يخصّص الوارد» قاعدة أصولية، ورود القاعدة في مصداق، في تطبيق معين لا يخصّص القاعدة بذلك التطبيق، خصوص المورد لا يخصّص الوارد.

أما علماء آخرون يقولون: لا، هو أصل ظهورها ليس معلومًا، لو كانت ظاهرة في العموم لقلنا: خصوص المورد لا يخصّص الوارد، لكنّ أصل الظهور - أنها ظاهرة في مطلق الكسب - هذا غير معلوم، وبالنتيجة: من المحتمل أنها استعملت في مطلق الكسب ومن المحتمل أنها استعملت في غنيمة الحرب، فلا يُسْتَدَلّ بالآية على ثبوت الخمس في جميع الأرباح على أنّه قانونٌ إلهيٌ.

هؤلاء يقولون: الخمس بيد ولي الأمر، الإمام المعصوم بما هو ولي الأمر يشرّع الخمس، بما هو ولي الأمر لا يشرّع الخمس، وهذا هو السّرّ، النبي، الإمام علي، حسن، حسين، الباقر، زين العابدين لم يشرّعوا الخمس لأن الخمس أمرٌ ولايتيٌ بيد ولي الأمر يشرّعه إذا رأى المصلحة في تشريعه ويمتنع عن تشريعه إذا لم يجد المصلحة في ذلك، الأئمة المتقدّمون لم يشرّعوه، الأئمة المتأخّرون شرّعوه، لا أنه حكمٌ إلهيٌ، بل شرّعوه من باب أنّهم ولاة الأمر.

نحن نأتي إلى موقف الإمام الجواد الذي يرتبط بمحل كلامنا، عندما نلاحظ الرواية عن الإمام الجواد كتب إليه علي بن مهزيار، علي بن مهزيار كتب إليه يسأله عن الخمس، الإمام كتب إليه: ”إنّ الذي أوجبتُ في سنتي هذه - وهي سنة 220 - لمعنىً من المعاني أكره تفسيره كله وسأفسّر لك بعضه «ما هو هذا؟»، إنّ مواليّ أو بعضهم أصلحهم الله قصّروا فيما يجب عليهم «كأنّ هناك ضرائب كانت واجبة قصّر الناس في دفعها»، فأحببتُ أن أزكّيهم وأطهرهم بما فعلتُ من أمر الخمس في عامي هذا، قال الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ“.

فبعض الفقهاء قد يستفيد من هذه الرواية أنّ المسألة ليست حكمًا إلهيًا، المسألة بيد الإمام، الإمام يقول: أوجبتُ، هو الذي أوجب، أوجبتُ الخمس في عامي هذا، إنّ بعض موالي قصّروا فيما يجب عليهم فأحببتُ أن أطهرهم وأزكيهم بما فعلتُ من أمر الخمس في عامي هذا، فالمسألة تعني أنّها بيد الإمام، تشريع الخمس... ليست مسألة أخذ وعدم أخذ، لا، أصل التّشريع بيد الإمام لأنه حكمٌ ولايتيٌ، والأئمة السّابقون لم يشرّعوه، شرّعه الإمام، نَصَبَ الوكلاءَ لجبايته، إذن فأمر الخمس منوط بولي الأمر، نحن لا نريد أن ندخل في البحث الفقهي وتأييد هذا الرّأي أو الانتصار لذلك الرّأي وإنّما أردنا أنْ نعطي لمحة عن الخلاف الفقهي في مسألة الخمس وكيفيّة تعامل الفقهاء مع هذه الرّواية الواردة عن الإمام الجواد في أنّه أوجب الخمس يعني أعمل ولايته على أخذه أو أوجب الخمس يعني أصل تشريعه بيده صلوات الله وسلامه عليه.

المحور الثاني: مسألة العلم اللدني.

نحن نعلم أن الإمام الجواد تصدى للإمامة وعمره سبع سنوات وكانت هذه الظاهرة أثارت الإشكالات والأسئلة: كيف يقود الأمة طفلٌ عمره سبع سنوات؟! وقد طرح هذا الإشكال على الإمام الرضا وهو حيٌ حيث سأله بعضُ أصحابه: إذا حدث أمرٌ فلمن نرجع؟ قال: إلى ولدي محمد أبي جعفر، قالوا: إنه صغير، ذاك الوقت عمره ست سنوات، يعني كيف؟! إنه صغير فكيف يكون حجة؟! قال: لقد كان عيسى بن مريم حجة وهو في المهد، ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا فكما كان عيسى بن مريم حجة على الناس وهو طفلٌ في المهد فمحمد الجواد وعمره سبع سنوات لا مانع من أن يكون حجة وقائدًا للأمة الإسلاميّة بأسرها.

المأمون العبّاسي أبرز الإمام الجواد وجمع العلماء، علماء الأديان، علماء المذاهب، لمحاورة الإمام الجواد، جاء مجموعة من العباسيين إلى المأمون، قالوا: إن هذا الغلام وإن راقك هديه لكنه صغيرٌ لا معرفة له ولا فقه له فأمهله حتى يتأدب، يعني: يتعلم الآداب، يصير قليلاً رجّال! ثم لا بأس بأن تبرزه وترى فيه ما ترى، قال: إنّ هذا من أهل بيت علمهم من الله ومن مواده وإلهامه، العباسيون ما اقتنعوا، أحضورا يحيى بن أكثم قاضي القضاة في الدولة العباسية، قالوا له: امتحن محمد، شوفه هذا يعرف لو لا، أقبل يحيى بن أكثم، رأى طفلاً أمامه عمره سبع سنوات، قال: هذا كيف أتكلم معه؟! دعني أعطيه مسألة فقهية صغيرة وأمشي عنه! قال: يا محمد ما تقول في محرم قتل صيدًا؟ إذا أحرم الإنسان لحج أو عمرة فمن محظورات الإحرام الصيد، هذا لا، خالف محظورات الإحرام، اصطاد، ما تقول في محرم قتل صيدًا؟ التفت إليه الإمام، قال: ”قتله في الحل أم في الحرم؟ قتله بالمباشرة أم بالواسطة؟ قتله متكررًا أم مفردًا؟ قتله في الليل أم في النهار؟ كان من ذوات الطير أم من غيرها؟ كان من صغار الطير أم من كبارها؟ كان من ذوات الظلف أم غيرها؟“ ما هذا؟! نحن طرحنا طرحًا واحدًا، هذا فتح لي فروعًا، في بعض الروايات الإمام أعاد عليه السؤال، قال: أنا أسألك يا يحيى، قال: سل، قال: ”ما تقول في رجل نظر إلى امرأة أول النهار فكان نظره حرامًا، فلما صار الضحى صار نظره حلالاً، فلما صار الظهر صار نظره حرامًا، فلما صار العصر صار نظره حلالاً، فلما صار المغرب صار نظره حرامًا، فلما صار العشاء صار نظره حلالاً، فلما صار نصف الليل صار نظره حرامًا، فلما طلع الفجر صار نظره حلالاً؟!“، في يوم واحد صارت أحكام كثيرة في علاقة واحدة بين رجل وامرأة، كيف يصير هذا؟! فلم يحر جوابًا.

طبعًا أنا لا أريد أن أجيب، أنت اذهب وابحث، لا يوجد وقت، هنا تبرز ظاهرة العلم اللدني للإمام الجواد صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الظاهرة تنقلنا إلى البحث، أن نبحث عن العلم اللدني، نبحث عن العلم اللدني وأطرح عدة أسئلة: ما هو العلم اللدني؟ ما الفرق بينه وبين النبوغ المبكر؟ ما هي مبادئ العلم اللدني؟ ما هي آثار العلم اللدني؟ أنا أجيب عن هذه الأسئلة بشكلٍ مختصرٍ:

1 - ما هو العلم اللدني؟

العلم اللدني هو نوعٌ من الوحي، لأن الوحي ينقسم إلى أقسام ثلاثة، القرآن الكريم قسّم الوحي، قال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا هذا القسم الأول، ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ القسم الثاني، ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ هذا القسم الثالث، ﴿وَحْيًا يعني: إلهامًا، يلهمه، ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ يعني: يسمع صوتًا، الله يخلق صوتًا في جسم معين فيسمعه هذا الإنسانُ كما سمع موسى بن عمران من الشجرة المحاذية لجبل طور سيناء، هذا قسمٌ ثانٍ من الوحي، ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يعني: يهبط جبرئيل من السماء فيوحي إليه ما أوحى اللهُ إليه، ﴿وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا، النبي محمّدٌ جمع الأقسام كلها، ألْهِمَ، سمع الصّوت، نزل عليه جبرئيلُ ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ولذلك ورد عن الإمام الصادق : ”إنّ العلمَ ثلاثة أقسام: خطورٌ بالبال، وقرعٌ في السّمع، ونكتٌ في القلب“.

إذن القسم الأوّل من الوحي هو الإلهام، الإلهام ما معناه؟ أن يُقْذَفَ في قلب الإنسان معلومة من المعلومات بشكلٍ جازم، ما معنى بشكلٍ جازم؟ يعني: يشعر بأن المعلومة كأنّها وجدانٌ من وجداناته، كيف الإنسان يشعر بالجوع، كيف الإنسان يشعر بالفرح، الشعور بالفرح شعورٌ جازمٌ لا شعور تشكيكي، هل يوجد أحدٌ يشك أنه جائعٌ أو ليس جائعًا؟! أو يشك أنه فرحان أو ليس فرحان؟! الأمور الوجدانيّة أمورٌ جزميّة، الأمور الوجدانيّة جزميّة لا تشكيك فيها، إذن كما يشعر الإنسان بالفرح، بالحزن، بالجوع، بالشبع، يشعر بالإلهام، الإلهام معلومة جازمة، يشعر بها الإنسان كسائر وجداناته، هذا نوعٌ من الوحي، وهذا يسمّى العلم اللدني.

وهذا لا يختصّ بالأنبياء، حتى الحيوانات، القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا لاحظ النحل ألْهِمَ، ألْهِمَ نوعًا من الغريزة، ونوعًا من المعلومات المودعة في غريزته حتى ينظم حياته وينظم مجتمعه، ليس فقط الإنسان ولا فقط الأنبياء، القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ما كانت نبيًا ولا نبيّة، لا هي نبي ولا نبية! ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وفعلاً تصرّفت بشكل طبيعي لأنها ألْهِمَت معلومة جازمة جدًا، إذن العلم اللدني نوعٌ من الوحي، مرتبة من مراتب الوحي، قد يحصل عليها أي إنسان، غاية ما في الأمر أنّ الأنبياء أوْحِيَ إليهم دينٌ كاملٌ وشريعة كاملة بينما الإنسان العادي قد يُوحَى إليه بعضُ المعلومات، وإلا الوحي بمعنى الإلهام واحدٌ وهو المعلومة الجازمة.

السؤال الثاني: ما هو الفرق بين النبوغ المبكر وبين الإلهام؟

النبوغ المبكر دعنا نرجع إلى علم النفس: ماذا يقول عن النبوغ المبكر «ظاهرة النبوغ المبكر»؟ النبوغ المبكر أن يمتلك الطفل درجة عالية من الذكاء يقيسونها على قياس الذكاء أنها 140 أو 130، إذا كان درجة الذكاء 140 أو 130 هذا يملك النبوغ المبكر، النبوغ المبكر له ظواهر:

1/ سرعة الاستقبال: سريعًا ما يستقبل المعلومة.

2/ سرعة الفهم: يعني سريع في تحليل المعلومة، ترى هذا الطفل إذا تطرح عليه معلومة سريعًا يسألك عن تفاصيل المعلومة، معناه أنّه سريع الالتقاط، سريع الفهم، سريع التحليل.

من مظاهر النبوغ المبكر:

3/ القدرة على الجمع والتقسيم: كيف القدرة على الجمع والتقسيم؟ يعني: أنت ترى هذا الطفل، اطرح عليه معلوماتٍ متناثرة، قل له: عليٌ إمامٌ، محمّدٌ نبيٌ، الصّلاة واجبة، المسجد للصّلاة جماعة... معلومات متناثرة، يقوم يجمع ما بينها في إطار واحد، مثلاً يقول لك: هذه معلومات دينية، أو هذه معلومات تتكلم عن الدين، يجمعها كلها في إطار واحد، جمع المعلومات تحت إطار واحد، أو التقسيم، أنت أحيانًا تطرح على طفلك - إذا كان ذكيًا - تطرح عليه معلومة واحدة فتراه يسألك خمسة أسئلة عن المعلومة الواحدة، يعني: عقله يقدر أن يقسّم المعلومة إلى عدّة أجزاء وإلى عدّة حقائب، القدرة على الجمع والقدرة على التقسيم من مظاهر الذكاء، من مظاهر النبوغ المبكر.

ومن مظاهر النبوغ المبكر:

4/ قوة الحدس: يصير عنده قوة حدس، يعني: تطرح عليه مسألة رياضية، مسألة عقلية، سريعًا ينتقل إلى حلها وجوابها، يمتلك قوة الحدس.

هذه مظاهر للنبوغ المبكر، النبوغ المبكر يحتاج إلى مراكز رعاية الموهوبين والنوابغ، مع الأسف نحن نحتاج إلى هذه المراكز، لا يوجد مجتمعٌ لا يوجد فيه نوابغ، بل حسب الإحصائيات عند علماء التربية يقولون: لا تخلو مدرسة ليس فيها نابغة نبوغًا مبكرًا وإن كان يشكّل 1% أو 2% من طلابها، النبوغ المبكر موجودٌ بشكل شائع، بشكل ظاهر، لكن هناك حاجة إلى مراكز لرعاية الموهوبين، هذه المراكز تعلم الأسرة، يعني الأسرة أحيانًا لا تعرف كيف تتعامل مع هذا الموهوب، لا تعرف كيف تتعامل مع هذا الطفل النابغة، هذا الطفل النابغة يضيع عمره، يضيع وقته، يضيع جهده وطاقته من دون أن تتعلم الأسرة كيف تتعامل معه، لذلك مراكز رعاية الموهوبين تتكفل بتعليم الأسرة، يعني: تعلم أسرة الموهوب كورسًا شهرًا أو شهرين، تعلمهم كيف تتعامل، تعلم الأسرة كيف تتعامل مع الطفل الموهوب وكيف تفجّر طاقاته وقدراته، مضافًا إلى أنه يحتاج إلى برنامج تعليمي خاص لأن الطفل الموهوب قد يختصر ثلاث سنوات في سنة واحدة، ويحتاج أنْ يُوَجّه - الطفل الموهوب - إلى الاختصاص إلى الذي يبدع فيه وينبغ فيه من أول أيامه ومنذ نعومة أظفاره.

فنحن عندنا نبوغ مبكر، وعندنا علم لدني، يعني: الإمام الجواد عندما كلم وعمره سبع سنوات كان نبوغًا مبكرًا هذا أو كان علمًا لدنيًا؟ هذا كان من باب العلم اللدني لا من باب النبوغ المبكر، لماذا؟

هناك فرق بين النبوغ المبكر والعلم اللدني، أشرح لك الآن: النبوغ المبكر نتاجٌ بشريٌ لثلاث قوى حسب ما يذكر علماء النفس، راجع المدرسة التحليلية، يذكر علماء المدرسة التحليلية: هناك ثلاث قوى تساهم في ظاهرة النبوغ المبكر: القوة اللأولى: قوة الحس، يعني: هذا الذكي يستقطب ببصره، بسمعه، معلومة من المعلومات، هناك قوة اسمها قوة الحدس، وهناك قوة اسمها قوة الذاكرة، قوى ثلاث: الذاكرة والحس والحدس، تتفاعل هذه القوى الثلاث توصل هذا الإنسان الذكي إلى الحلول السريعة.

إذن الذكاء والنبوغ المبكر نتاجٌ بشريٌ لقوى ثلاث، وبما أن هذه القوى قد تخطئ وقد تصيب، لأنها قوة مادية، والقوة المادية قوة ناقصة، والقوة الناقصة في معرض الخطأ، في معرض عدم الإصابة لأنها قوة مادية، دائمًا المادة كما يقول الفلاسفة: المادة منشأ النقص، لاحظ الآن أنت مادمتَ جسمًا فأنت ناقصٌ، متى تصير كاملاً؟ عندما تتحرّر من هذا الجسم، أنت مادمتَ جسمًا أنت تعيش النّقصَ، المادة منشأ النقص، مادام الإنسانُ في هذه الحياة روحه مرتبطة بهذا الجسد المادي إذن معلوماته ناقصة، معلوماته مبتورة، إذا أسلم الرّوح إلى بارئها وتحرّرت الرّوحُ من الجسم، القرآن يقول: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ المعلومات كلها تأتيك، تكتشف العوالم، تكتشف الدنيا بأسرها، تكتشف تفاصيل التفاصيل، الجسم، المادة منشأ النقص.

إذن هذه القوى الثلاث - الذاكرة، الحدس، الحس - نتاجها نتاجٌ بشريٌ، النتاج البشري نتاجٌ ناقصٌ لأنه محفوفٌ بالمادة والمادة منشأ النقص، لذلك قد يخطئ وقد يصيب، أمّا الإلهام فهو معلومة صافية جزميّة، معلومة صادقة جزميّة وليست نتاجًا بشريًا قد تكون في معرض الصّدق أو الخطأ في معرض الإصابة أو الخطأ، هذا هو الفرق بين النبوغ المبكر وبين العلم اللدني، فالعلم الصّادر عن أهل البيت علمٌ لدنيٌ وليس صورة من صور النبوغ المبكّر.

السؤال الثالث: ما هي مبادئ العلم اللدني؟

العلم اللدني له مبادئ ثلاثة:

1/ المبدأ الإلهامي: قد يُلْهَمُ الإنسانُ المعلومة، كما ذكرنا إلى أم موسى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى.

2/ المبدأ العبادي: أحيانًا ينشأ الإلهام عن طريق العبادة، المُقْبِل على عبادة الله يُلْهَم، تنفتح له عوالمُ من الإلهام، التعلّق بالله مفتاحٌ للإلهام، الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، العلاقة مع الله، الارتباط بالله مفتاحٌ للإلهام، الإمام الجواد سلام الله عليه لما تزوّج أم الفضل، أم الفضل بنت المأمون، المأمون زوّجه ابنته، وهذه قضت على الإمام نفسه، سمّت الإمامَ وقضت على حياته، الإمام الجواد أخبرها أنّ الحيض طرقها، قالت: كيف عرفت؟ أنت تعلم الغيب؟! قال: أعلمه بعلم الله، يعني: الله تبارك وتعالى قذف في قلبي ذلك نتيجة علاقتي مع الله، نتيجة ارتباطي بالله تبارك وتعالى حصل هذا الأمرُ.

المبدأ الثالث للعلم اللدني هو الاكتساب من الكتاب أو السنة، كيف الاكتساب من الكتاب أو السنة؟

1/ أمّا من الكتاب: جاء رجلٌ إلى الإمام الصّادق عليه السّلام، قال: هل أنت تعلم علم ما كان وما يكون؟ قال الإمام: نعم، قال له: كيف؟! أنت إله يعني حتى تعلم علم ما كان؟! أنت إله؟! قال: لا، ما يحتاج إله، قال: إذن كيف تعلم؟! قال: من كتاب، أما قرأت قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ففي الكتاب كل شيء، ونحن أهل تأويل الكتاب فلدينا العلم بكل شيء، المسألة ما تحتاج إلى إله، الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن محفوفًا برموز، ليس كل إنسان يقدر أن يكتشفها، هذا القرآن يشتمل على رموز لا يمكن فكها إلا لأهل الذكر، إلا لأهل القرآن ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فبما أن القرآن تبيانٌ لكل شيء ونحن العلماء بالقرآن إذن نحن المطلعون على تبيان كل شيء، المسألة لا تحتاج إلى إله.

2/ أو من السنة: أحيانًا يكون هذا من السنة، جاء رجلٌ إلى الإمام الكاظم سلام الله عليه، قال: يزعمون أنك تعلم الغيب! قال: ”ضع يدك على بدني فوالله ما بقيت شعرة إلا وقفت، أنا أعلم الغيب؟! إنما هي وراثة من رسول الله “، وبهذا المنطق نفسه أيضًا الإمام الرضا سلام الله عليه أجاب بهذا الجواب، علم التشريع من العلم الموروث عن رسول الله، ورد عن الإمام الصادق أنه قال: وإنّ عندنا الجامعة، وما هي الجامعة؟ قال: ”كتابٌ بإملاء رسول الله وخط علي بن أبي طالب، فيه جميع ما يحتاجه الناسُ من حلال وحرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة“، فعلم التشريع كان علمًا مكتوبًا، وصل إليهم يدًا بيدٍ، وصل إلى الإمام الصادق والإمام الصادق يفرّع عليه بما يلهمه اللهُ تبارك وتعالى، فهنا العلم اللدني متفرّعٌ على كتاب الجامعة الذي وصل إليهم يدًا بيدٍ.

السؤال الرابع: ما هي آثار العلم اللدني؟

العلم اللدني كما ذكرنا القدرة على اكتشاف الأشياء، من عنده علمٌ لدنيٌ عنده قدرة عقلية وحدس غريب على اكتشاف الأشياء واكتشاف أسرار الأشياء واكتشاف غوامض الأشياء، العلم اللدني - القدرة على اكتشاف الأشياء - له عدّة آثار، من آثاره: العصمة، من آثاره: الإمامة، من آثاره: الهداية الأمرية، من آثاره: العلم بالغيب، هذه كلها معلومات عقائدية تحتاج إلى تفصيل طويل أنا أشير إليها إشارة سريعة:

الأثر الأول: العصمة.

العصمة من آثار العلم اللدني، لا يمكن أن تكون عصمة بدون علم، لأن المعصوم لماذا يبتعد عن المعصية ويُقْبِل على الفضيلة؟ لماذا؟ يبتعد عن الرذيلة ويُقْبِل على الفضيلة، لماذا؟ لأنه ملك علمًا بعواقب الرذيلة ونتائج الفضيلة جعلته يُقْبِل على الفضيلة ويبتعد عن الرذيلة، كما يبتعد الإنسان عن معلوماته الحسّيّة الجزميّة، إذن العلم اللدني واسطة في العصمة، لأن الإمام يملك علمًا لدنيًا بأخطار المعصية، ويملك علمًا لدنيًا بآثار الطاعة، لذلك أقبل على الطاعة باختياره وامتنع عن المعصية باختياره، نظير ماذا؟ يعني أنت الآن مثلاً هل رأيتَ إنسانًا يشرب الغائط؟! لا يوجد إنسان يشرب غائطًا، لماذا؟ لأنه يعلم بخطر الغائط علمًا حسيًا يقينيًا، علمك بخطر الغائط علمًا حسيًا يقينيًا أبعدك عنه، صرتَ تشمئز منه، نفس القضية بالنسبة للإمام المعصوم، الإمام المعصوم يعلم بخطر الكذب والغيبة والعقوق وسائر المعاصي علمًا يقينيًا واضحًا كعلمنا بخطر الغائط، فيشمئز من المعاصي بطبعه كما يشمئز الإنسانُ من شرب الغائط بطبعه تمامًا، فالعصمة أثرٌ من آثار العلم اللدني.

الأثر الآخر هو: الإمامة نفسها.

الإمامة ما هو معناها؟ كثيرٌ من الكتّاب عندما يأتي يكتب عن الإمامة يقول: الإمامة رئاسة! الإمامة هي الخلافة! لا، الخلافة والرئاسة هذا مظهرٌ من مظاهر الإمامة، الإمامة يوجد شيءٌ أكبر من هذا الخلافة والرئاسة، الخلافة - خلافة رسول الله - وقيادة الأمة بعد رسول الله مظهرٌ واحدٌ من مظاهر الإمامة، لكن الإمامة ليست هذا، الإمامة هي الولاية على النفوس، الإمام وليٌ على الأنفس، الإمام وليٌ على النفس بتمام شؤونها وتمام متعلقاتها، الإمامة نوعٌ من الولاية، كيف أنا عندي ولاية على نفسي؟! كل إنسان عنده ولاية على نفسه، أنا عندي ولاية على نفسي، أقدر أن أحبّ فلانًا، كيفي، وأبغض فلانًا بكيفي، أفكر، كيفي، لا أريد أفكر، كيفي، عندي ولاية على نفسي، يعني: عندي قدرة أن أتحكم في نفسي ومشاعرها وعواطفها وخواطرها، عندي ولاية على نفسي وشؤوني.

الإمام له الولاية على الأنفس، ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فضلاً عن أموالهم، فضلاً عن أملاكهم، إذا كان وليًا على أنفسهم من باب أولى على أموالهم وأملاكهم، النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، النبي أولى بي من نفسي وأموالي وأملاكي وسائر شؤوني، لو كان للنبي قرارٌ على نفسي فلا قرار لي، ولو كان للنبي قرارٌ على أموالي فلا قرار لي، النبي له ولاية على النفوس بتمام شؤونها، وهذه الولاية ثابتة لعلي ، ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ”فمن كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه“.

فالإمامة ولاية واقعيّة وليست مجرّد رئاسة، هذه الرئاسة والخلافة هذه يسموها ولاية ظاهرية، أما الولاية الواقعية فهي الإمامة، هي حقيقة الإمامة، لولا أن الإمام عنده علمٌ لدنيٌ ما صار له ولاية على الأنفس، إنّما صارت له ولاية على الأنفس وسائر شؤونها لأنه يمتلك علمًا لدنيًا، يعني: علمًا يكشف له الأنفس وخفاياها وغوامضها وأسرارها، لذلك ترتّب عليه أن له ولاية على الأنفس، فالإمامة من العلم اللدني.

الأثر الثالث: الهداية الأمرية.

كم مرة أنا شرحت الهداية الأمرية، لكن أشير إليها سريعًا، الهداية على قسمين:

1. هداية خلقية.

2. وهداية أمرية.

الهداية الخلقية مثلما الخطيب يصعد المنبر، يبلغ الناسَ، يعظهم، يزجرهم، هذه يسمّونها هداية خلقية، والنبي كان يهدي الناسَ والأئمةٌ والمصلحون، أمّا الهداية الأمرية فهي إفاضة النور على النفس، يعني: الإمام يفيض عليك شعاعًا من نوره، شعاعًا من فيضه، هذا يسمى هداية أمرية، القرآن الكريم يقول: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا هداية أمرية.

كميل بن زياد ممّن حصل على الهداية الأمرية، كميل بن زياد كان إنسانًا عاديًا، صحب الإمام عليًا ، لما الإمام علي رأى أنّ كميل بن زياد أهلٌ وكفأ للهداية الأمرية جلس معه، لما جلس مع كميل أفاض على قلبه شعاعًا من نوره وشعاعًا من رؤيته الملكوتية، فجعل كميلاً معطرًا بطيب الهداية الأمرية من قِبَلِ الإمام علي ، ”يا كميل، إنّ هاهنا لعلمًا جمًا لو أصبتُ له حملة“ وكان من حملته كميل الذي أفيض عليه شعاعٌ من الهداية الأمرية.

طبعًا واحد يسمع هذا الكلام ويقول: أوف! هداويش هذولا! هذه الأئمة آلهة يتصرفوا في النفوس ويفيضوا عليها شعاع الهداية! هداويش! وش قاعد تحشي الليلة أنت! بسم الله الرحمن الرحيم! الليلة حشيك غريب الليلة! وش قاعد تقول؟! لا، هذا كله كلام مذكور في القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ لاحظ القرآن الكريم دقيقٌ في التعبير، ما قال: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات، قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ مباشرة، لا أوحينا إليهم افعلوا، لو قال: أوحينا إليهم افعلوا الخيرات، يسمّونه وحيًا تشريعيًا، يعني: أوحى إليهم التّشريعَ، قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ يعني: طُبِعُوا بطابع فعل الخيرات، خُلِقُوا وهم في سياق فعل الخيرات، خُلِقُوا وهم في إطار فعل الخيرات، هذا وحيٌ تكوينيٌ وليس وحيًا تشريعيًا، ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ إذن هناك هداية أمرية.

أنت الآن ما رأيك في إبليس؟! إبليس قادرٌ على أن يؤثر في النفوس أم لا؟ قادر، القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ إبليس يقدر أن يؤثر على الناس، يوسوس في صدورهم، إبليس صار له ولاية على النفوس، أليس كذلك؟! لولا ولايته على النفوس لما استطاع أن يبثّ سمومَه فيها ولما استطاع أنْ يؤثر عليها، فكما أن لإبليس ولاية أمرية - ولاية التأثير على النفوس - الإمام له الأثر المعاكس، له ولاية الهداية الأمرية، وهو زرع الولاية في النفوس والتصرف فيها بنور الهداية، وهذا من آثار ومن مظاهر العلم اللدني.

والأثر الأخير وأختم به: مسألة علم الغيب.

بعض المعلومات الغيبيّة، قد يقول قائلٌ: علم الغيب خاصٌ بالله عز وجل، والقرآن الكريم يقول: ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ علم الغيب خاصٌ بالله، لكن ينبغي أن نلتفت إلى أن الغيب على قسمين:

1 - غيب ذاتي.

2 - وغيب عرضي.

الغيب الذاتي خاصٌ بالله، ما معنى الغيب الذاتي؟ الغيب الذاتي هو الغيب الذي يحصل بلا واسطة، العلم الذي يحصل بلا واسطة غيبٌ ذاتيٌ، وهو خاصٌ بالله تبارك وتعالى لأن ذاته عين العلم تبارك وتعالى، فالعلم له بلا واسطة، ذاته عين العلم، أما الغيب العرضي فهو العلم الذي يحصل بالواسطة، وهذا يمكن أن يحصل للمخلوقات، القرآن الكريم يقول: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ إذا ارتضى الرسول أطلعه على علم الغيب.

جاء رجلٌ إلى الإمام الرضا ، قال: تزعمون أنكم تعلمون الغيب ولا يعلم الغيبَ إلا الله؟! قال: أما قرأتَ قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ؟ قال: بلى، قال: ”المرتضى هو جدّنا محمّدٌ وقد أطلعه الله على غيبه، ونحن ورثة رسول الله فوصل إلينا ما وصل إلى رسول الله“، إذن صار علمَ غيب عرضي، يعني: بالواسطة، هذا لا مانع أن يثبت للمخلوق، أبدًا لا مانع أن يثبت للمخلوق، إذن علم الغيب من آثار العلم اللدني ومن مظاهر العلم اللدني، مَنْ كانت له قدرة على اكتناه الأشياء واكتشاف الأشياء فله قدرة التنبّؤ بالمغيّبات ومعرفتها، العلم بالغيب من آثار العلم اللدني الذي ثبت لأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلا مانع: لا يعلم الغيب إلا الله يعني الغيب الذاتي، والأئمة يعلمون بعض علم الغيب بالعلم العرضي.

نظير مسألة قبض الأرواح... أتكلم مع شخصٍ، أقول له: قبض الأرواح، قال: قبض الأرباح؟! أرواح ما قلتُ الأرباح! لكن هذا كان ذهنه في الأسهم الظاهر! يفكر، فلما قلتُ أنا: قبض الأرواح، قال: قبض الأرباح!

المسألة هنا في قبض الأرواح تلاحظ أن القرآن يذكر آيتين، يقول في آية: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ويقول في آية أخرى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ كيف نجمع بين الآيتين؟ تلك الآية تقول: التوفي لله، هذه الآية تقول: التوفي لملك الموت، الجمع مثلما قلنا في علم الغيب: التوفي بالذات لله، والتوفي بالواسطة لملك الموت، القدرة على التوفي هي لله وإنما ثبتت هذه لملك الموت بإعطاء وبإقدار وبإذن من الله تبارك وتعالى، فكذلك المسألة بالنسبة إلى علم الغيب.

لذلك كان الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم يعلمون بمناياهم وبما يحصل لهم، وهذا العلم من جملة ما وصل إليهم ومن جملة ما ألهموا به، نعم قد يخفى عنهم هذا العلم في بعض الموارد لمصلحة، كما ورد عن الإمام الباقر سلام الله عليه: ”يُبْسَط لنا العلمُ فنعلم ويُقْبَضُ عنّا فلا نعلم“، ولذلك حديث الإمام الحسين عمّا يحصل له كان من مظاهر علم المنايا والبلايا: ”كأنّي بأوصالي تقطعها عسلانُ الفلا، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشًا جوفى، وأجربة سغبى، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين“.

والحمد لله ربّ العالمين

الإمام الهادي وحركة الأمر بالمعروف
ثورة الحسين تعميق وتحليل