نص الشريط
أهمية الوقت
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 2/1/1423 هـ
مرات العرض: 2909
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2384)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

الآية القرآنية تتحدث عن ظاهرة طبيعية ألا وهي ظاهرة الزمن.

النقطة الأولى: حقيقة الزمن.

كثير منا يتصور أن الزمن أمر واقعي تماما مثل الجسم والكتلة، الجسم شيء واقعي، كتلة مادية تشمل حيزا من الفراغ، لها طول وعرض وعمق، فالجسم شيء واقعي، فهل الزمن أيضا شيء واقعي، يعني هل يوجد في الواقع شيء اسمه زمن، كما أن الجسم شيء في الواقع موجود؟

الفلاسفة يقولون بأن هذا التصور خاطئ، الزمن لا واقعية له، ليس الزمن مثل الجسم أمرا واقعيا، بل إن الزمن خط وهمي ترسمه الحركة، كيف ذلك؟

مثلا: عندما ينزل المطر من السماء، وأنت تقف تنظر كيف ينزل من السماء، هذه القطرة المائية - قطرة المطر - عندما تنزل من السحاب إلى الأرض هي قطرة واحدة، لكن نزول هذه القطرة يرسم في ذهنك خطا مستقيما، كأن هناك خط مستقيم تمشي فيه هذه القطرة من السحاب إلى الأرض، بينما في الواقع لا يوجد شيء، ليس في الواقع إلا هذه القطرة المائية، لكن نزولها يرسم في ذهن الإنسان خط مستقيم، فيظن أن هناك خطوط مستقيمة لهذه القطرة المائية ولتلك القطرة الأخرى، مع أنه في الواقع لا يوجد شيء سوى القطرة المائية النازلة من السماء، إذن القطرة المائية رسمت في ذهنك خطا مستقيما، وأنت ظننت بأن هذا الخط واقعي وموجود، ولكن هو ليس كذلك، الزمن مثل هذا التصور تماما، الزمن خط وهمي ترسمه الحركة، وإلا فليس هناك شيء اسمه زمن.

مثلا: حركة الأرض حول نفسها، الموجود في الواقع هو الأرض وحركة الأرض، يعني المتحرك والحركة، ونتيجة حركة الأرض حول نفسها يرتسم لدينا خط نسميه ليل، ويرتسم لدينا خط آخر نسميه نهار، وإلا فليس هناك شيء غير الأرض وحركتها، ليس هناك شيء في الخارج غير الأرض وحركتها، لا يوجد شيء نسميه ليل أو نسميه نهار، هذا مجرد خط، حركة الأرض حول نفسها ترسم لنا خطا نسميه باليوم، ونقسمه إلى ليل ونهار، إلى ظلام وضياء.

﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ القمر مثلا يتحرك حول نفسه، هذه الحركة ترسم لنا خطا نسميه شهر، وإلا الشهر ليس له واقعية، هو مجرد خط يرتسم في أذهاننا نتيجة حركة القمر، الأرض عندما تتحرك حول الشمس ترسم لنا خطا نسميه بالسنة، السنة الشمسية، السنة القمرية، هذه كلها خطوط ارتسمت في أذهاننا نتيجة الحركة، وإلا فليس الزمن بعدا واقعيا بل هو خط وهمي ترسمه الحركة في أذهاننا تماما كما ترسم القطرة النازلة من السماء خطا مستقيما في أذهاننا.

قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، ﴿عِنْدَ اللَّهِ ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ هذه التعبيرات توحي للإنسان أن الله تبارك وتعالى هو الذي جعل الزمن، يعني أنه جعل الزمن بعدا واقعيا تماما كما أن الله خلق الجسم والمادة، أيضا خلق الزمن، هو الذي يقول: ﴿عِنْدَ اللَّهِ ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ إذن معنى ذلك أن الله خلق الزمن كما خلق الجسم، فالزمن شيء موجود ومخلوق وبعد واقعي، قد يتصور الإنسان أن الآية هكذا، ولكن لا.

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا بلحاظ مبدأ الزمن، لا بلحاظ نفس الزمن، الله تبارك وتعالى خلق القمر متحركا لا ساكنا، وبما أن القمر متحرك، فللقمر حركتان: حركة حول نفسه، وحركة حول الشمس، حركته حول نفسه في ضمن حركته حول الشمس، حركته حول نفسه ترسم لنا خطا نسميه بالشهر ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ يتحرك القمر حول الشمس حركة واحدة، في ضمن هذه الحركة الواحدة يتحرك حول نفسه اثني عشر مرة، اثني عشرة حركة في ضمن حركة واحدة أصبحت السنة مكونة من اثني عشر شهرا، إذن مسألة الشهر والسنة عبارة عن أشياء رسمناها في أذهاننا، وإلا في الواقع لا يوجد شيء، ليس إلا حركة القمر حول نفسه، وحركة القمر حول الشمس، والقمر يتحرك حول نفسه في ضمن حركته حول الشمس اثني عشر مرة، لذلك قلنا أن هنالك اثنا عشرة شهرا، وهناك سنة، والشهر عبارة عن 29 أو 30 يوم حسب حركة القمر ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ هذه التعبيرات تشير إلى أن مبدأ الزمن خلقه الله تبارك وتعالى.

النقطة الثانية: ما هو الربط بين عالم التكوين والتقدير الزمني.

نلاحظ في كثير من الآيات القرآنية ربطا ما بين التقدير الزمني، وبين عالم التكوين، مثلا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وفي آية أخرى يقول: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا في الآيتين هناك ربط تكوين السماوات والأرض في ستة أيام، هنا قد يتبادر إلى أذهان الكثير هذا السؤال: أليس الله قادر على أن يخلق الكون كله في لحظة واحدة، وهو القائل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هو قادر على أن يوجد الكون كله في لحظة واحدة، إذن لماذا ربطه بإطار زمني معين، لماذا خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وتسوية السماوات السبع في يومين، لماذا ربط التكوين بتقدير زمني مع أنه قادر على أن يخلق الكون كله دفعة واحدة؟

الفلاسفة يقولون أن السبب على نوعين:

سبب طبيعي، وسبب اختياري: مثل النار، هي سبب لصدور الحرارة، يعني أن النار منشأ لصدور الحرارة، للاحتراق، النار سبب طبيعي للحرارة وللاحتراق ليس باختيارها، طبيعتها تفرض عليها هكذا، طبيعة النار تفرض عليها أن تكون مصدرا للحرارة والاحتراق، بينما الإنسان تراه يتحرك ويمشي، هذا المشي حركة مصدرها وسببها الإنسان، الإنسان سبب اختياري، لأن بإمكانه أن يمشي أو لا يمشي، وليس مثل النار ليس باختيارها أن تحرق أو لا تحرق، أن تصدر الحرارة أو لا تصدرها هذا شيء طبيعي، بينما الإنسان سبب اختياري، بإرادته أن يمشي ويتحرك، وبإرادته أيضا أن لا يمشي ولا يتحرك.

الله تبارك وتعالى عندما خلق الكون، السماوات والأرض والإنسان وسائر الكائنات الحية، هو سبب اختياري، باختياره أن يخلق هذا الكون، وباختياره أن لا يوجد شيئا من هذا الكون، إنما خلق الكون تفضلا منه تبارك وتعالى، وإلا فهو ليس مجبورا ولا مقهورا على إيجاد هذا الكون بتمام أطرافه، فهو سبب اختياري وليس سببا طبيعيا.

من هنا نفهم التقدير الزمني، لماذا خلق السماوات والأرض في ستة أيام، لماذا لم يخلقها دفعة واحدة، ونفس الشيء تكوين الجنين في تسعة أشهر، لماذا لا يتكون دفعة واحدة، لماذا الجنين لا يتكون في بطن أمه في لحظة واحدة، لماذا الإنسان يمر بعدة مراحل، مرحلة الطفولة، الشباب، الكهولة، الشيخوخة، لماذا لا يطوي الإنسان عمره في لحظة واحدة؟

للتدليل على أنه سبب للاختيار، وليس سببا طبيعيا، لو أن الله أوجد الكون دفعة واحدة لقالوا أن الله ليس مختار، لو كان الله سببا بالاختيار لما وجد الكون دفعة واحدة، فالله تبارك وتعالى من أجل أن يبين لنا ويدلنا على أنه مختار في خلقه، أن باختياره أن يخلق أو لا يخلق، ومن أجل أن يدلل لنا على هذه الحقيقة، جعل الكون في إطار زمني معين، كي يرشدنا إلى أنه بإمكانه خلق هذا الكون، وبإمكانه عدمه، إبطاؤه، وبإمكانه الإسراع به، إذن ربط الكون بالإطار الزمني للتدليل على اختياره تبارك وتعالى، وتدخل إرادته في خلق هذا الكون وهذا الوجود.

النقطة الثالثة: استغلال واستثمار العنصر الزمني في حياة الإنسان وسلوكه.

النصوص تركز على استغلال العنصر الزمني، ورد عن الرسول : ”الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما“ ومن الحكم المشهورة: «الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك» القرآن الكريم يقول: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ الذي لا يستثمر وقته، ولا يستغل الزمن في خسر، إلا فئة من الناس لأنهم مستثمرون لأوقاتهم، مستغلون لأعمارهم ﴿إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.

عندما نقرأ التاريخ، ونراجع صفحاته، نجد أنه يسجل لنا أن سائر التغييرات والإبداعات نشأت عن استغلال الفرصة الزمنية، الرسول الأعظم عاش أربعين سنة ليس مرسلا إلى قومه، ثم بعد ذلك بعث بالنبوة، 13 سنة عاشها في مكة المكرمة في دعوة سرية لا علنية، لو بقي الرسول في مكة ولم يهاجر إلى المدينة، أي لم يستغل الفرصة الزمنية لبقي الدين الإسلامي مطموسا، وخامد الذكر، وبقي في أدراج النسيان، 11 سنة عاشها في المدينة أو أقل من ذلك، فرصة زمنية لو لم يستثمرها الرسول لضاعت الرسالة الإسلامية وأصبحت في مطاوي النسيان، إذن استغلال الفرصة الزمنية هو الطريق للتغيير، للإبداع، لا يمكن لأي إنسان أن يغير ويبدع إلا إذا استغل الفرصة الزمنية.

علي عاش 25 سنة بعد وفاة رسول الله في بيته، يمارس عملا تعليميا محدودا، يعلم بعض أصحابه تعاليم الدين، أصولا وفروعا، وظيفة محددة وضئيلة لا أكثر من ذلك، ولكن عندما سنحت له الفرصة الزمنية، أي عندما آلت الخلافة إليه، ورأى أن الفرصة الزمنية قد حانت لأجل التغيير والإبداع وقلب الوضع إلى وضع آخر استثمر الفرصة الزمنية، نقل الخلافة من المدينة إلى الكوفة، وبهذا النقل والاستثمار والاستغلال لعنصر الزمن، صدر عن علي كتاب نهج البلاغة، ببركة هذه السنين صدر عن علي أبطال خلدوا التاريخ، رشيد الهجري، ميثم التمار، حجر ابن عدي، حبيب ابن مظاهر، كميل ابن زياد، هؤلاء العلماء تخرجوا على يد علي عندما نقل الخلافة من المدينة إلى الكوفة، عندما استثمر العنصر الزمني، لولا أن عليا استغل هذه السنوات الخمس لما وصلنا كتاب نهج البلاغة، ولما سمعنا بهذه البطولات والتضحيات التي جسدها تلامذة علي والذين تخرجوا على يد علي إذن استثمار الفرصة هو طريق التغيير، من هذا المنطلق ينبغي للإنسان المؤمن استثمار الزمن، استغلال الفرصة الزمنية في مجالين وفي طريقين:

المجال الأول:

مجال تهذيب السلوك، التوبة، تنظيف العمل، هذا المجال يتوقف على استثمار الفرصة الزمنية، كثير منا مع الأسف قد يصر على بعض الذنوب والمعاصي، قد نصر على مشاهدة الأفلام الخليعة، قد نصر على استماع الأغاني المطربة، قد نصر على إقامة العلاقات الغير مشروعة، نصر على هذه الذنوب ونتمادى فيها، وننحدر في هاويتها، وإذا وخزنا الضمير يوما من الأيام، وسألتنا أنفسنا، إلى متى أقيم علاقة غير مشروعة، إلى متى أشاهد الأفلام الخليعة، إلى متى أصر على استماع الأغاني، إذا سألني ضميري يوما من الأيام ماذا أقول له؟ ليس الآن أتوب، في المستقبل أصبح إنسانا فاضلا، الآن دعني أمشي مع شهوتي، ودعني أجري وراء غريزتي، ودعني أنساق وراء أحاسيسي، ووراء نوازعي الشيطانية نحو المعصية، الذنب، الرذيلة، والتوبة في المستقبل، بعد فترة من الزمن، لا داعي إلى العجلة، ولست أنا الوحيد ممن يذنب أو يعصي، أو يصر على الذنب، أو يصر على المعصية، هكذا الإنسان يجري وراء شهوته، هكذا تحدثه نفسه بأنك ما زلت شابا، ما زال العمر طويلا، ما زال الوقت متسعا، لماذا العجلة، لماذا تستعجل في التوبة والإنابة، وتحرم نفسك من اللذات والشهوات، وتحرم نفسك من هذه المتعة، إلى أن يبادرنا الموت، إلى أن تأتينا الساعة التي لا تقبل التقديم ولا التأخير، وحينئذ ماذا يصنع الإنسان؟

ورد عن الرسول محمد : "إذا وضع الإنسان في قبره تمثل له ثلاثة: أمواله، أولاده، عمله، يلتفت أولا لأمواله، يقول: أيتها الأموال شقيت عليك الليل والنهار وبذلت بدني وجهدي في سبيل جمع هذه الأموال وتحصيلها وتخزينها، فماذا تعطيني أموالي وأنا في هذا الموقف الحرج، الصعب، فتقول له أمواله: لك عندنا سوى بيضاء فقط تواري بها عورتك ليس لك من الأموال التي جمعتها ليلا ونهارا وتعبت عليها سوى قطعة بيضاء تواري بها عورتك وسوأتك ليس إلا، فيتحسر ويتأسف ويلتفت إلى أولاده: أولادي ربيتكم سهرت الليالي في سبيل تنميتكم وتربيتكم وتغذيتكم، فماذا تعطوني؟ يجيبه أولاده: نشيعك إلى قبرك، ونواريك في حفرتك، ثم نودعك، فماذا بقي أمامك بقي ذلك العمل، بقي أمامي ذلك الشريط الأسود الذي لا أحب أن أسمعه وأشاهده، ولا أحب أن أتذكره، لأن كله ذكريات سوداء، مملوءة بالذنب والرذيلة والمعصية، والإصرار على المعاصي، هذا العمل الذي أكرهه وأبغضه هو الذي يصاحبني، يلتفت إلي العمل ويقول: أنا قرينك في قبرك، وصاحبك عند نشرك، أنا الذي لا أفارقك طرفة عين أبدا.

من هنا يلتفت الإنسان إلى أنه ضيع الفرصة، فرصة استثمار الوقت والزمن، ضيعها إلى أن نزل إلى هذه الحفرة المنتنة، من هنا جاءت الأحاديث الشريفة، عن الرسول : ”بادر بأربع قبل أربع: بغناك قبل فقرك، بصحتك قبل سقمك، بشبابك قبل هرمك، بحياتك قبل موتك“ عليك بالمبادرة واستغلال الوقت، لا أن تؤجل وتقول العمر طويل، بل استغل العنصر الزمني.

أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، يقول: يا رسول الله أوصني، فيقول له الرسول : ”يا أبا ذر كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك“ عمرك أغلى من دراهمك، الدقائق واللحظات والثواني التي تمر عليك استثمرها واستغلها بأسرع وقت، بادر إلى التغيير، إلى التوبة، إلى الإنابة ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا استغل العنصر الزمني في سبيل التوبة والإنابة.

الحر بن يزيد الرياحي كان من جنود عبيد الله ابن زياد، أصر على قتال الإمام الحسين وما بقي من عاشوراء إلا أيام معدودة، لو لم يستغلها الحر بن يزيد الرياحي لكان من حفنات التراب، ولكان من حصب جهنم ووقودها، لكن الحر قدر العنصر الزمني واستثمره ورفض الرذيلة والظلم، وصعق النفس الأمارة بالسوء، وصعق شهوته، وبدأ بكل رجولة وبكل بطولة يبادر نحو التضحية، نحو الفداء، نحو تقديس المبادئ والعقيدة، سحق الدنيا وصعد إلى الآخرة، هذا العنصر الزمني الذي استغله الحر جعله من أبطال التاريخ، من أبطال التضحية والفداء، جعله نجما مشعا على مدى الزمن.

فعلى المؤمن أن يستغل العنصر الزمني في مجال آخر ألا وهو مجال المشروع الاجتماعي، المؤمن ليس إنسانا أنانيا يركز على نفسه فقط، المؤمن ليس إنسانا يقتصر على الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة فقط، بل هو الذي يقوم بالمسؤولية الاجتماعية، الذي يحمل على عاتقه أعباء المشروع الاجتماعي، هو الذي يساهم في الأنشطة الخيرية، الثقافية، المأتمية، في كل نشاط يخدم المجتمع، المؤمن ليس كسولا ولا متقاعسا ولا إنسانا يفكر في نفسه فقط، بل هو من يفكر في إصلاح غيره كما يفكر في إصلاح نفسه، فاستغل العنصر الزمني في سبيل قيامك بالمشروع الاجتماعي، القرآن الكريم يقول: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ اعتبرهم القرآن رابحين وليسوا في خسر لأنهم استغلوا العنصر الزمني واستثمروا الفرصة الزمنية.

من الظواهر الزمنية ظاهرة الأعياد وتنقسم إلى قسمين: أعياد دينية، وأعياد غير دينية.

الأعياد الدينية: ابن أبي عمير يروي عن الإمام الصادق يقول: ”السبت لنا، والأحد لشيعتنا، والاثنين لأعدائنا، والثلاثاء لبني أمية، والأربعاء لشرب الدواء، ويوم الخميس لقضاء الحاجة، ويوم الجمعة للتنظيف والتطيب، وهو عيد المسلمين، وهو أفضل من عيدي الفطر والأضحى، وهو اليوم الذي يخرج فيه قائمنا أهل البيت، وما من عمل أفضل في هذا اليوم من الصلاة على محمد وآله، ويوم الغدير أفضل الأعياد كلها“

وهناك أعياد لم تذكر في النصوص، مثل عيد رأس السنة، عيد سيدنا المسيح ، عيد الحب، هذه الأعياد التي لم ترد في النصوص الشرعية ماهو موقف الشريعة الإسلامية من هذه الأعياد؟

بعض علماء المسلمين حرم هذه الأعياد، وقال يحرم على المسلمين الاحتفال بعيد رأس السنة، أو الاحتفال بأي عيد آخر لدليلين:

الدليل الأول: أن هذا الاحتفال تشبه باليهود والنصارى والتشبه بهم حرام.

الدليل الثاني: أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أي عندما يتبع غير المسلمين يحشره الله مع من صار معه، إذا الاحتفال بعيد الميلاد حرام.

نحن لا نوافق على هذا الاستدلال، بالنسبة للدليل الأول، التشبه باليهود والنصارى هل هو حرام أم لا؟

فقهاؤنا يقولون: التشبه على قسمين: تشبه سلوكي، وتشبه شعاري:

التشبه السلوكي:

قد يظن بعض الناس أن التشبه الشكلي بين الذكر والأنثى حرام، مثلا أن تقص المرأة شعرها إلى مستوى شعر الرجل، هذا تشبه شكلي، أو أن الرجل يربي شعره إلى أن ينزل على كتفيه، الرجل يتشبه تشبها شكليا بالمرأة، أو المرأة تتشبه تشبها شكليا بالرجل، فقهاؤنا يقولون: إذا استلزم هتك الحرمة، يعني أن الإنسان الذي يربي شعره إلى كتفيه إذا استلزم ذلك هتك حرمته، صار موضعا للغيبة، للتهمة، موضعا للنقد من قبل الناس، فهو حرام، لأن هتك حرمة المؤمن حرام، إذن يحرم على المؤمن أن يقوم بعمل يعرض حرمته للهتك، وإذا كان تشبه الرجل بالمرأة، أو تشبه المرأة بالرجل موجبا لهتك الحرمة، يكون هذا التشبه حراما.

أما في الرواية الواردة أن عليا رأى رجلا في مسجد رسول الله يتأنث، قال له: اخرج من مسجد رسول الله، فقد سمعت رسول الله يقول: ”لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهين من النساء بالرجال“ فالتشبه المحرم هو التشبه السلوكي، يعني التأنث والتذكر، أما التشبه الشكلي ليس حراما إذا لم يوجب هتك حرمة المؤمن، فلنفترض أن إنسانا يمثل دور امرأة، كما هو المعروف سابقا في العراق أيام محرم بعض الرجال يمثلون دور النساء في معركة كربلاء، فيلبس ثياب النساء، أو المرأة تمثل دور الرجل، فتلبس لباس الرجل، هذا ليس محرما وإن كان تشبها شكليا، فالتشبه الشكلي ليس محرما ما لم يوجب هتك الحرمة، بل المحرم هو التشبه السلوكي، يعني التأنث والتذكر.

التشبه الشعاري:

مثلا اليهود لهم شعار النجمة، لو أننا وضعنا هذه النجمة على ثيابنا، أو بيوتنا، أو مقتنياتنا، هذا تشبه بشعار اليهود، وهذا حرام، النصارى لهم شعار معين، الصليب، لو أننا اتخذنا الصليب شعارا على ملابسنا أو بيوتنا أو مقتنياتنا أو تحفنا لكان حراما.

التشبه الشعاري يعني أن المسلمين يحملون شعار اليهود أو النصارى، وهذا حرام، لأنه موجب لوهن المسلمين، المسلمون عندما يقلدون الغرب في شعاراته، يظهرون أمام الملأ الدوني أن المسلمين لا حضارة، ولا مجد، ولا تاريخ لهم، ولأجل عدم ثقتهم بأمجادهم وبحضارتهم وبتاريخهم يتشبثون بالشعارات والتقاليد والعادات الغربية، إذن التشبه الشعاري محرم لأنه يوجب هتك حرمة المسلمين ووهنهم، لذلك فالاحتفال بعيد الميلاد ليس تشبها شعاريا، لأنه احتفال بعيد ميلاد نبي من الأنبياء بعثه الله تبارك وتعالى.

الدليل الثاني:

وهو قوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى المؤمنون لهم سبيل، ولهم سيرة، علماؤنا يقولون: سيرة المؤمنين على قسمين: سيرة المؤمنين بما هم مؤمنون، وقسم سيرة المؤمنين لا بما هم مؤمنون، بما هم عرب، عقلاء.

مثلا: سيرة المؤمنون من زمن الرسول إلى زمان أئمتنا على تربية اللحية، المؤمن لا يحلق لحيته، هذه السيرة سيرة لها قيمة شرعية، لأنها صدرت عن المؤمنين بما هم مؤمنون، ولذلك ورد عن الرسول الأعظم : ”احفوا الشوارب واعفوا اللحى، ولا تشبهوا بالمجوس“ إذن لو أن الإنسان قال سيرة المؤمنين على عدم حلق اللحية تدل على أن حلق اللحية أمر مرجوح فكلامه صحيح، لأن هذه السيرة صادرة عن المؤمنين بما هم مؤمنون فلها قيمة شرعية.

بينما جرت سيرة العرب مثلا على لبس العمامة، كان العرب يلبسون العمامة إلى أزمنة قريبة، يستطيع الإنسان أن يقول هذه سيرة شرعية، أي يستحب للإنسان لبس العمامة، لأن سيرة المسلمين جرت على لبس العمامة، ولكن لا سيرة العرب على لبس العمامة لا بما هم مؤمنون بل بما هم عرب، فهذه السيرة ليس لها قيمة شرعية، فلابد أن نبحث عن دليل آخر على استحباب لبس العمامة.

إذن سيرة المؤمنين على قسمين:

سيرة شرعية: وهي السيرة التي تصدر عن المؤمنين بما هم مؤمنين.

سيرة غير شرعية: وهي التي تصدر عن المؤمنين بما هم عرب وبما هم عقلاء.

نحن نقول المؤمنون لم يحتفلوا بعيد ميلاد السيد المسيح، ولم يحتفلوا بعيد الحب، لكن عدم احتفالهم لا بما هم مؤمنون، حتى يستفاد من ذلك بأن الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح أمر غير مرغوب فيه، فهذا دليل غير تام، نحن المسلمين لا نقف أمام هذه الأعياد موقفا سلبيا، بل نستغلها ونستثمرها في صالح الدعوة إلى الإسلام، إذا جاء يوم رأس السنة، وإذا جاء يوم ميلاد السيد المسيح، علينا نحن المسلمين أن نستغل هذه الفرصة في الدعوة إلى الإسلام، علينا أن نوزع بطاقات نكتب فيها حديثا عن الرسول محمد ، أن نوزع ورود نكتب عليها اسم علي وفاطمة والحسن والحسين، أن نتبادل التهاني والتحيات ممزوجة بذكر أهل البيت وفضائلهم، وأحاديثهم.

الإعجاز والهداية لدى الإمام
حقيقة النور وطريق الوصول إليه