نص الشريط
بحث في بشرية القرآن "ج1"
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 11/1/1428 هـ
مرات العرض: 3087
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2350)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ

هناك بحث طرحه بعض المفكرين الحداثيين يعبر عنه ببشرية القرآن، ما هو المقصود ببشرية القرآن؟ بشرية القرآن له مفاهيم ثلاثة:

  1. بشرية الوحي
  2. بشرية اللغة
  3. بشرية الترتيب

المفهوم الأول بشرية الوحي:

المفكر محمد أركون في كتابه «العقل العربي» والمفكر نصر حامد أبو زيد في كتابه «مفهوم النص» تحدثا عن بشرية الوحي، الوحي هو عبارة عن طرفين: موحي وموحى إليه. مثلا القرآن الكريم يقول: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴿10 فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً، أي أنه جرت عملية اتصال بين زكريا عن طريق الاشارة أي أنه أوحى لهم بالإشارة أن سبحوا بكرة وعشيا. فبما أن الوحي عملية اتصال فهي إنما تتصور بين طرفين من عالم واحد كما في قصة زكريا فهو إنسان وقومه من بني الإنسان فهنا يتصور الاتصال. أما إذا كان عندنا طرفان مختلفان فلي الجنس أحدهما إنسان والآخر ملك أو جن أو كان الآخر إلهاً.

فكيف نتصور عملية الإتصال؟ وكيف يحصل اتصال بين هذا الإنسان المادي الذي اسمه مثلا محمد أو موسى أو أو عيسى وبين عالم تجردي وعالم غيبي؟ خصوصا أن الوحي كما يفسرها المسلمون يمر بمرحلتين فالمعلومات تنتقل من الله للملك ثم تنتقل المعلومات من الملك للنبي. فكيف يحصل الاتصال بين الله الذي هو وجود مطلق لا محدود وبين الملك ثم تتم عملية اتصال أخرى بين الملك الذي هو وجود مجرد وبين البشر الذي هو وجود مادي؟ فنحن بعقولنا لا نتصور هذا الاتصال بين طرفين من عالمين. فلذلك نحن نستوعب أن الوحي هو ظاهرة بشرية. فالوحي مثل أفلاطون وأرسطو وماركس ولينين، محمد وعيسى وموسى مثل هؤلاء. فهؤلاء نوابغ ملكوا عنصر النبوغ وصفاء النفس فيستطيعون بذلك أن يدركوا مصالح العامة ويشرعوا قوانين على طبق المصلحة العامة. فظاهرة الوحي هي ظاهرة بشرية يعبر عناه بالنبوغ والعبقرية وليست مسألة سماوية.

نحن عندما نأتي لهذه المقالة ونريد أن نناقشها. نحن نرجع على ما يذكره الفلاسفة المسلمون. فهم يقولون أن الوحي هو عملية اتصال بين طرفين ولكن الاتصال على نوعين: اتصال حسي واتصال وجداني والاتصال الوجداني أكثر وضوحاً من الاتصال الحسي. مثلا عندما تجري عملية اتصال بين شخص أخرس وآخر مثله فهو يتصل به عن طريق لغة الإشارة. عملية الاتصال هنا حصلت ولكنه اتصال حسي لأنه عبر حركة الأصابع. وهناك نوع آخر من الاتصال يسمى اتصال وجداني لا يعتمد على أدوات حسية مثلا ”وجميع علماء البشرية بما فيهم علماء النفس حيرهم هذا المثال“ وهو مسألة الرؤيا الصادقة وجميع البشرية تقر بأن بعض الرؤى صادقة، قال تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ «104» قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، فما معنى الرؤيا الصادقة وكيف نفسرها؟ طبعا علماء النفس قالوا أنه تنبؤ، حدس ولكن أخيراً من علماء النفس من ذهب إلى ما ذهب إليه فلاسفة المسلمين. فالرؤيا الصادقة هي عبارة عن اتصال وجداني بين الروح وبين العالم الآخر، فالإنسان حينما ينام تتعطل الحواس الخمس ويتخدر البطن. والذي يعمل حال النوم هو الروح فقط. فما هو العالم الآخر؟

نرى القرآن الكريم عنده تعبيرات مختلفة فتارة يقول: أم الكتاب، ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وتارة يقول كرسي ”وسع كرسيه السماوات والأرض“ وتارة يقول العرش ﴿الرحمن على العرش استوى فهذه الألفاظ أم الكتاب، الكرسي والعرش واللوح كلها ألفاظ لمعنى واحد وهو مركز للمعلومات. وراء هذا العالم المادي يوجد مركز للمعلومات وهذا المركز تتصل به الروح حال النوم اتصالاً وجدانيا بدون وساطة الحواس. وقد تتحمل المعلومات مشوشة أو واضحة مؤكدة وقد تنسى أحيا المعلومات وقد تذكرها. فالرؤيا الصادقة هي معلومات نتيجة اتصال وجداني بين الروح وبين العالم الآخر تتذكرها النفس وتتحقق بعد ذلك في الخارج، لذلك هذه النظرية الفلسفية ذكرت في القرآن الكريم: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَافكيف يتوفاها الله وهي لم تمت؟

الأنفس على قسمين:

القسم الأول: قسم حان موتها وجاء أجلها قال تعالى: ﴿إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ فإذا جاء أجلها قطعت عن هذا العالم إلى ذلك العالم.

القسم الثاني: والنفس حال النوم كالتي حان أجلها تخضع لنوع من الوفاة وهي اتصالها بالعالم الآخر لذلك قال القرآن: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا يتوفاها أي يوصلها للعالم الآخر ثم قال تعالى: ﴿يُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فالرؤيا الصادقة اتصال غير حسي بالعالم الآخر وإنما هو اتصال وجداني. وهذا الاتصال الوجداني وحي، نبوة. ورد عن النبي : «الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة» فهو درجة من النبوة.

إذا بعد أن عرفنا أن الاتصال بين طؤفين أحدها من العالم المادي وهو بشر وأحدهما من العالم الغيبي وهو عالم الملأ الأعلى اتصال ممكن عن طريق الرؤيا الصادقة وهو نوع من الاتصال الوجداني. الوحي من هذا النوع فهو اتصال وجداني بالعالم الآخر وهو أمر معقول. غاية ما في الباب أن هناك واسطة ملك وهذا لا يعني أن هناك عمليتين في الاتصال إنما هي عملية واحدة بأداة فالملك مجرد أداة ليس إلا.

مثلا أنا الآن أتكلم، وصوتي يصل إلى من هو خارج المأتم فالصوت يصل لهم عبر أداة فهي عملية واحدة. فالمعلومات تتصل بها روح النبي اتصال وجداني وهذا الاتصال أداته ملك من الملائكة فهو عندما يصل بجبريل لا يتصل بسمعه ولا بصره ولا لمسه ولا ببقية حواسه. لا توجد حاسة تتوسط بينهما أبدا وإنما هو اتصال بأم الكتاب اتصالا وجدانيا وليس جبريل إلا أداة. القرآن الكريم يقول «نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين» ولو قال عليك لقلنا باحتمال أن يكون هذا الاتصال حسياً. فنحن لا نحتاج أن نقول أن الوحي ظاهرة بشرية أو عبقرية أو نبوغية وليست سماوية لأن الاتصال الوجداني معقول كما في الرؤيا الصادقة.

المفهوم الثاني: بشرية اللغة:

وهذه النقطة يركز عليها أركون في عدة كتب. فيقول أنه لو سلمنا أن القرآن نزل على النبي ولكن من الذي صاغ القرآن؟ وهذه اللغة العربية التي صيغ بها القرآن من الذي صاغها؟ أركون يقول أن الفرضية المقبولة أن الصياغة من النبي وليست من الله، أي أن الله أنزل بعض الأفكار والمعلومات على النبي وهو قام بصياغة هذه المعلومات وبما أنه إنسان عربي صاغه بلغته فلغة القرآن صياغة من النبي وليست صياغة إلهية. فالقرآن بشري في لغته وإن لم يكن بشريا في معلوماته وعلى هذا فالقرآن يفقد قداسته فيصبح القرآن مثل الأحاديث النبوية لأنه بكلام ولغة وصياغة بشرية فلا يصح أن نحاكم أحداً بنص قرآني لأن هذا النص ليس نصاً مقدسا كي يكون حاكما.

والنتيجة أنه أنك تقرأ في كتب علماء اللغة «اللغة كائن حي» فما معنى هذا الكلام؟ أي أن اللغة لا تعرف الركود والجمود فهي دائماً في تجدد وتطور وتوسع. إذا فاللغة كائن حي فالقرآن صيغ بلغة بشرية وهي كائن حي فمعاني القرآن دوما في تجدد وتطور وتغير سعة وضيقاً فلا يستطيع الفقهاء أن يحاكموا المثقفين بما يفهمون من القرآن ولا يستطيع المثقفون الإسلاميون أن يحاكموا المثقفين الغربيين بما يفهمون من القرآن لأن اللغة القرآنية لغة بشرية وهي كائن حي والكائن الحي يتغير فمعاني القرآن تتغير سعة وضيقا بتغير الحضارات وتغير الثقافات وتغير الأزمنة فلا يستطيع أحد أن يحاكم أحداً بنص قرآني أبداً.

فلفظة الحار مثلا في هذا الزمن يمكن أن نفهم منها الغباء أما قبل 1000 سنة فكانوا يفهمون من كلمة الحمار ”الصابر“ ولذلك مروان آخر خلفاء بني أمية كان يلقب بالحمار ليس لغباءه بل لصبره. فاللغة تتغير معانيها بتغير الأزمنة والثقافات. ما هو الشاهد؟ أركون عندما يطرح هذه النظرية ما هو دليله على بشرية لغة القرآن وأن النبي صاغه؟ سبق أركون علماء قالوا بهذا من جملتهم المفسر المعروف جلال الدين السيوطي صاحب «الدر المنثور» هو طرح هذه النظرية بأن صياغة القرآن من رسول الله ويستدل بوجهين:

الأول: التراث التاريخي للقرآن. أي أن هناك قسماً من القرآن وآياته أصبح تراثاً وخرج من كونه قانونا فاعلا الى كونه تراثا تاريخياً. مثلا قوانين العبيد، قال تعالى ”وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم“ وقال تعالى ”ضرب الله مثلاً عبداً مملوكا لا يقدر على شيء“ والآن ظاهرة الرق قد انتهت أي أن هذا القانون أصبح تراثاً تاريخياً، وهذا يؤكد أن القرآن صياغة بشرية وليست إلهية إذ لو كان الله صاغ القرآن لصاغ قوانين عامة صالحة لكل زمان ومكان. بينما صياغة القوانين الخاصة لزمن وفترة وتاريخ معين تتحول بعد ذلك لتراث هذا يعني أن من صاغ القرآن هو بسر وكان متأثر بثقافة معينة وحضارة معينة فصاغ القرآن على طبق حضارته وحقبته التاريخية.

الثاني: الأمثلة الأدبية التي يستخدمها القرآن وهي أمثلة كما يرى أركون لا معنى لها. مثلا قوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثفهذا المثال ينسجم مع الثقاث العربية في ذلك الزمان ولكنه لا ينسجم مع الثقافة الإنجليزية أو الثقافة العربية في زماننا فالكلب صار حيوانا أليفاً ينام مع الإنسان وصار له حقوق وهناك منظمات لرعاية حقوقهم، وصار الكلب يرث ويورث، فما صار الكلب حيوان متوحش لكي يصلح هذا المثال. فالأمثلة القرآنية لا تنسجم مع الثقافة المعاصرة. وقال تعلاى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها قال تعالى: ﴿كمثل الحمار يحمل أسفاراً فإذا رجعت للثقافة الانجليزية فهم لا يرون الحمار غبي فكيف ينسجم ال المثال معهم؟ أو افرض بعد 200 سنة انقرض الحمار فأين يذهب المثال؟ فبالنتيجة القرآن استخدم أمثلة هي من وحي ثقافة الصدر الأول وتلك الفترة التاريخية فلو كان القرآن إلهيا لطرح أمثلة تنسجم مع كل اللغات وكل الحضارات وهذا يدل على بشرية القرآن.

نحن نعلق على هذا بثلاث تعليقات:

التعليقة الأولى أدبية: علماء الأدب يقولون ”لكل أديب نفس معين يختص به“ فأنت عندما تقارن بين المتنبي وأبي العلاء المعري تجد أن لك منهما نفس يختص به. حتى الأئمة المعصومون تجد لكل منهم نفسه الخاص فالإمام علي له نفس معين والأمام السجاد له نفس آخر، فعندما تقارن بين دعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي تجد اختلاف النفس الأدبي بين هذا وذاك. فكل متكلم أو أديب له لغة ونفس أدبي يختص به.

لأجل ذلك اعقد مقارنة أدبية بين القرآن وبين خطب النبي المصطفى وبين الأسلوبين فستجد تغاير واضح بينهما، وتجد أن النفس الأدبي يختلف تماما بينهما. وهذا يؤكد لنا المتكلم ليس واحداً وأن من صاغ القرآن غير من تكلم بهذه الأحاديث وهذه الخطب. فمن صاغ القرآن كان أعلى بلاغة وأعلى فصاحة من النبي لأن النفس البلاغي في القرآن أعلى وأسمة من الموجود في خطب وأحاديث النبي فهذا يعني أن القرآن الكريم ليس صياغة بشرية قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍوقال في آية آخرى﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ.

التعليقة الثانية تعليقة عقلية: علماء الكلام يقولون ”نقض الغرض قبيح لا يصدر من الحكيم“ مثلا: أنا أريد ان أوصل رسالة خطيرة ومصيرية لابني الذي يدرس في الخارج فأنا عندما أريد أن أرسل الرسالة لو اعتمدت في هذه الرسالة على واسطة وقلت له يا فلان عندما تلقى ولدي في الخارج بلغه هذه الرسالة. من الجائز أن لا يوصل هذا الشخص الرسالة أو ينقص فيها ويزيد ومن الجائز أن يصوغها صياغة يفهم منها ابني معنى غير ما أريده وبالتالي لو اعتمدت في ايصال الرسالة على واسطة سيكون هذا الاعتماد نقضا لغرضي وهو تنظيم حياة ابني وهذا الغرض لن يتحقق بالاعتماد على الواسطة ونقض الغرض قبيح لذلك يجب عليَّ لزاما أن أرفع الهاتف بنفسي وأتحدث مع ابني وأنقل له فكري وكلامي بشكل مباشر حتى يترتب عليه الهدف.

نفس الشيء بين الله وخلقه فالله أنزل القرآن بهدف لأنه لو كان من دون هدف لكان لغوا واللغو قبيح، وهذا الهدف أن يصل فكر ومعنى السماء للبشرية وإلا لو يصل هذا الفكر وهذه المضامين للبشرية لا تتحقق هداية البشرية قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ”وننزل من القرآن ما هو هدىً وشفاء“ فهدف الله من إنزال القرآن أن تصل مضامين القرآن للمجتمع البشري حتى يترتب عليها هدف الهداية. فالله إما أن يعتمد في صياغة مضامينه على نفسه أو يعتمد على البشر الذي أرسله. فإن صاغه بنفسه صياغة عربية إذا فهو أوصل فكره ومضامينه بنفسه للمجتمع البشري ويتحقق بذلك هدفه.

وإما أن يعتمد في صياغة معانيه على البشر فيصيغها النبي بلغة بشرية والله يعلم أن النبي إذا صاغها بلغته يخرج النص عن كونه مقدساً وسوف يخرج المضمون عن كونه إلهيا ولن يتعامل معها البشر ككلام لله عز وجل. فلو أن الله سلك الطريق غير المضمون لضيع غرضه وهدفه ونقض الغرض قبيح من الحكيم. فكلي يضمن الله أن هدفه تحقق لا بد أن يضمن أن كلامه بنفسه وصل للبشرية فلا بد أن يقوم بصياغته وينزله على إنسان معصوم في الاستقبال والتبليغ ولو لم يكن معصوما لضاع الهدف مرة أخرى فلا بد من عاملين لكي يتحقق الغرض: فأن ينزل القرآن بلفظ من الله وأن يكون المستقبل للقرآن معصوما في الاستقبال والتبليغ وهذا ما ذكره القرآن الكريم: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى وقال تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى «3» إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى أي أنه لا يخطئ في الاستقبال والتبليغ. فبشرية لغة القرآن تعني ضياع الحكمة من نزوله فإذا افترضنا أن الله حكيما فلهذا أنزل القرآن فمقتضى حكمته أن ينزل القرآن بلفظ سماوي فلا تتدخل شكوك البشر فيه.

التعليقة الثالثة: ما ذكر من الشواهد من التراث التاريخي والأمثلة المذكورة في القرآن، فهذه شواهد على عظمة القرآن وعلى سماوية القرآن، فهي لنا وليست علينا. فالقرآن بكونه كتابا سماويا لا بد أن يتعرض للظواهر البشرية كلها ويرسم لها قوانين تحد التعامل مع هذه الظاهرة، فلا يجوز أن يغفل القرآن هذه الظواهر ولا يضع لها قوانين لأن هذا خلاف مقتضى كون القرآن كتابا سماويا شمولياً للبشرية كلها ومقتضى ذلك أن يتعرض للظواهر البشرية كلها ويضع لها قوانين ومن تلك الظواهر البشرية ظاهرة الرق.

صحيح أنها غير موجودة في زماننا ولكنها موجودة في زمان معين فإذا كان القرآن سماويا فلا بد أن يتعرض لهذه الظاهرة وإن كان يدري أنها ستزول وتنقرض يوما من الأيام ولكن بما أنها ظاهرة موجودة في فترة معينة فمقتضى سماوية القرآن وشموليته أن يتعرض لقوانين تتناول هذه الظاهرة وإن كانت ظاهرة مرحلية. ولذلك تلاحظ القرآن يقول عن الزكاة قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْوفي زماننا لا يوجد المؤلفة قلوبهم، أفيعني هذا أن القرآن بشري؟ لا، فالقرآن شرع قانون الزكاة وجعل بعض تفاصيل هذا القانون تنسجم مع زمن وجعل بعض التفاصيل تنسجم مع زمن آخر وهذا مقتضى سماوية القرآن وشموليته أن يرسم قوانين لكل ظاهرة بشرية وإن كانت مؤقتة ومرحلية، وهذا ينسجم مع سماوية القرآن لا أنه دليل على بشريته. وعندما تأتي للأمثلة، لماذا أخذتم أمثلة وتركتم أمثلة؟

فبعض الأمثلة مثل ”كمثل الحمار“ ”كمثل الكلب“ والتي تنسجم وزمان معين ولكن هناك أمثلة لا تنسجم إلا مع زماننا هذا مثلا قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍفالبدوي لن يفهم الآية، فالقرآن كما تحدث وانسجم مع ثقافة ذلك الزمن انسجم مع ثقافة زماننا. وانسجم مع ثقافة هذا الزمان حين قيل قال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَفهذه المجموعات الشمسية لم يلتفت لها إلا الإنسان المعاصر لزماننا هذا، وهذا دليل على عظمة القرآن وسماويته لا دليل على بشريته ونقصه. فالقرآن تحدث بلغات مختلفة وكل لغة تنسجم مع حضارة معينة وثقافة معينة وزمن معين وهذا دليل سماويته لا بشريته.

وإلا النبي إذا كان سيصيغ القرآن لصاغه لصالحه دائماً فلما نرى بعض الآيات التي يستشف منها نوع من الشفقة وليس العتاب قال تعالى: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَوقوله تعالى: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ، فهذه الآيات يقصد منها الشفقة ولكن قد يتوهم منها الإنسان أنها عتاب فتكون على خلاف صالح النبي . فالقرآن نزل بلفظه من قبل السماء من الله تبارك وتعالى.

المفهوم الثالث: بشرية الترتيب:

المفهوم الثالث الذي يطرحه أركون هو بشرية الترتيب فيقول أن هذا القرآن حتى لو نزل من السماء بلغة عربية، ولكن من الذي رتب القرآن بهذه الطريقة من السور والآيات؟ وقدم آيات مكية وأخر آيات مدنية وبالعكس أحيانا حين يقدم الآيات المدنية على المكية؟ فهذا بشر وليس الله، فما نزل القرآن بهذه الصورة من السماء فهو نزل آيات متفرقة يحفظها المسلمون وقام المسلمون في زمن الخليفة الأول وقام المسلمون في زمن الخليفة الأول وجمعوا القرآن بشكل ولما جاء الخليفة الثالث جمع القرآن بشكل نهائي ورسم مصحفا سمي بالمصحف العثماني وجمع على جميع أقطار الدولة الإسلامية ونحن ورثنا هذا المصحف. فهذا المصحف ليس إلهيا في ترتيبه وتقسيمه ولكنه بشري الترتيب والتقسيم.

ولو أن هذا القرآن رتب كما نزل من السماء، الآيات المكية ثم الآيات المدنية، والآيات المكية حسب وقت النزول، لفهمنا القرآن بشكل آخر. ولربما اتضحت لنا قرائن وظروف تاريخية تحدد لنا معنى القرآن. ولذلك بما أن ترتيب القرآن ترتيب بشري فلا نستطيع أن نأخذ بإطلاق الآيات القرآنية فلعل هذه الآية نزلت في ظروف معينة وتسلسل زمني معينة فتساعدنا تلك الظروف لو اطلعنا عليها على فهم معنى الآية سعة وضيقا. فبالنتيجة القرآن في ترتيبه ليس سماوياً.

هذا الأمر الثالث لا ننتقد فيه أركون، فنحن غير واضح عندنا أن الترتيب الموجود في القرآن هو الترتيب الصادر عن النبي محمد . فنحن نفرق بين أمرين: بين إمضاء القراءة وبين إمضاء القرآن. فصدر من الأئمة إمضاء القراءة. ورد عن الإمام الصادق «اقرؤوا كما يقرأ الناس» أي اقرؤوا القرآن في صلواتكم وختماتكم كما يقرؤه جمع العرب ولا تتقيدوا بقراءة معينة فالأئمة أمضوا قراءة القراءة القرآن الموجود بين أيدينا بالترتيب الموجود بين أيدينا وقالوا أن قراءته قراءة عربية معروفة بهذا الترتيب الموجود يكفي في الصلاة ويكفي في ختم القرآن.

ولكن ليس عندنا دليل على إمضاء القرآن أي أنه ليس عندنا دليل أن هذا القرآن بهذا الترتيب أمضاه الأئمة واعتبروا الترتيب صحيحاً كما صدر عن النبي . وهناك فرق بين إمضاء القراءة وإمضاء القرآن.

وأذكر لك الآن بعض المشككات، فكلامنا ليس نظرية فاصلة، فسيدنا الخوئي «قده» يرى بأن القرآن جمع في عهد النبي ولا احتاج لجمع الخليفة الأول ولا إلا جمع الخليفة الثالث، ويستند لقوله ”إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي“ أي أن القرآن كان مجموعا في عهد النبي وما احتاج إلا جمع. وبعض العلماء الآخرين يختلفون معه ويقولون أن القرآن ما جمع في عهد النبي وليس عندنا أي دليل أن القرآن بالترتيب الموجود صدر عن النبي .

نعم، القرآن جميع آياته نزلت منالسماء بلا زيادة ولا نقصان ولن هل الترتيب نزل من السماء؟ هل صدر من النبي ؟ لا يوجد دليل على ذلك. لهذا بعض العلماء يطرح بعض التشكيكات فهناك بعض الروايات تقول ”فجاءهم بالكتاب كملا فلم يقبلوه“ أي أن الإمام علي رتب وبوب القرآن بشكل معين وعرضه على القوم فلم يقبلوه. فهذا يعني أن هناك ترتيبين للقرآن. شاهد آخر أنك تجد بعض الآيات مكررة مثلاً ”أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ“ هذه الآيتان مكررة في سورة القلم وفي سورة الطور. وقوله تعالى﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وهي مكررة في سورة المؤمنون وفي سور المعارج. ربما - نحن لا نجزم لعدم وجود الدليل - يكون هذا التكرار شاهداً أن هذا الترتيب لم يخضع لنظر النبي .

ومثلاً ترى بعض الآيات غير منسجمة مع السياق فعندما تقرأ لآيةالتطهير التي وردت في سياق نساء النبي قال تعالى: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فهل هذه الآية منسجمة مع السياق. فبعض العلماء يقولون أن آية التطهير من سورة الدهر﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً فآية التطهير منسجمة مع معنى وسياق سورة الدهر وليست منسجمة مع آيات تتحدث مع نساء النبي، إذا فمن خلال هذه الشواهد لا نجزم أن هذا الترتيب صدر عن النبي. نعم، هذا الترتيب أمضاه أهل البيت في مسألة قراءة القرآن في الصلاة وختمه أما مسألة أن أمضوا أن هذا الترتيب صادر عن النبي فلا. فإذا كان المقصود ببشرية القرآن بشرية الترتيب فهذا أمر محل بحث ومحل تأمل.

القرآن الكريم كتاب الله الذي نزل إلينا، كتابنا ودستورنا فكيف نتعامل مع هذا الكتاب؟

بعضنا لا يتعامل مع القرآن إلا كتحفة ثمينة، يضعها على الرف أو في الدولاب ولا يقرأ منه شيء، إلا ربما يوما في السنة، وربما إذا ذهب إلى الفواتح يقرأ له بعض آيات القرآن، وهذا تعامل خطير جداً. فالقرآن نور إلى البيت الذي يُقرأ فيه قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فالقرآن نور لمنازلنا وقلوبنا وقبورنا ونور لآخرتنا، أفنحرم أنفسنا من هذا النور؟ ما يضرك لو قرأت في اليوم 5 دقائق؟ ليس عندك وقت اقرأ ما تحفظ وأنت في السيارة وأنت تخرج صباحا إلى العمل، إلى الدراسة.

افتح الراديو، استمع لشريط قرآن واقرأ معه. المهم أن تقرأ بعض آيات القرآن المهم أن تكتسب نوراً وأن تتزود من النور. ورد عن النبي : ”من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ عشرين كتب من الذاكرين، ومن قرأ ثلاثين كتب من القانتين“ إلى أن يقول ”من قرأ خمسين كتب من الخاشعين“ فدرجات الجنة بعدد آيات القرآن الكريم فكلما قرأ آية رقى درجة. إننا بعيدون عن قراءة القرآن وبعيدون عن نوره. وهناك من يتعامل مع القرآن تعاملاً لسانياً والحال بأن المطلوب هو التعامل الروحي قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، فنحن نحتاج إلى التعامل الروحي. صحيح أنني لا أفهم القرآن كله ولكنني أفهم مقداراً منه، فما أفهمه أتدبر فيه وآخذ من الموعظة والعبرة.

بحث في بشرية القرآن
عاشوراء حركة محمدية