نص الشريط
أطروحة التفكيك بين الدين الواقعي وفتاوى الفقهاء
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 16/2/1425 هـ
مرات العرض: 2905
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1679)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن موضوع التفكيك بين الدين الواقعي وفهم الفقيه، وقد شرحنا هذه الأطروحة في الليلة السابقة، فمن لم يحضر الليلة السابقة قد لا يتفاعل مع موضوع هذه الليلة؛ لأنه مرتبط به ارتباطًا وثيقًا، وبالإمكان مراجعة الأشرطة. نحن في مناقشة الأطروحة التي تفكّك بين الدين الواقعي وبين فهم الفقيه، أو تفكّك بين الجانب الإلهي للدين وبين الجانب البشري للدين، نحن نطرح محاور ثلاثة متسلسلة ومترابطة نتحدث فيها.

المحور الأول: إمكان الوصول إلى الدين.

هل الدين شيءٌ يمكن الوصول إليه أم لا يمكن؟ هل الدين شيءٌ مخبوءٌ في مكان معين، لا يمكن الوصول إليه، أم أن الدين شيءٌ واضحٌ، وشيءٌ ميسورٌ، يمكن للبشرية أن تصل إليه؟ من الواضح جدًا أن الدين إنما شُرِّع، وإنما أنْزِل لأجل تنظيم المسيرة البشرية، لأجل تنظيم الحياة البشرية، بما أن الدين شيءٌ أنزل وشُرِّع بهدف تنظيم الحياة على الأرض، حياة فردية أو حياة اجتماعية، فإذن لا بد للدين أن يصل إلى البشر، لأنه لو لم يصل إلى البشر لضاع الهدف الذي من أجله شُرِّع هذا الدين، الهدف من تشريع الدين تنظيم الحياة، فلا بد لله «عز وجل» أن يوصل هذا الدين إلى نفس المجتمع البشري، ولو لم يوصل الدين إلى المجتمع البشري، لم يتحقق الهدف الذي من أجله شُرِّع الدين، وإذا لم يتحقق الهدف فتشريع الدين يكون لغوًا وعبثًا لا مبرّر له من قِبَل الحكيم «تبارك وتعالى»، فالدين لا بد أن يصل إلينا، لا بد أن يصل إلى المجتمع البشري حتى تتحقق أهدافه، فكيف نصل إلى الدين؟ كيف يمكننا الوصول إلى الدين؟

الدين ليس بدعًا، بل هو كسائر الأشياء الواقعية، لو أردنا أن نصل إلى شيء من الأشياء فكيف نصل إليه؟ الدين ليس شيئًا استثنائيًا، الدين كسائر الأشياء الواقعية التي لها طرق إذا سلكها الإنسان وصل إليها، فما هو الطريق للوصول إلى الأشياء، حتى نسلك هذا الطريق ونصل به إلى الدين؟ هناك طريقان: الطريق الأول هو الطريق العقلي، والطريق الثاني هو الطريق اللغوي.

الطريق الأول: الطريق العقلي.

هذا هو ما يعبّر عنه بدليل حساب الاحتمالات، فإنه دليل عقلي رياضي يوصلنا للأشياء الواقعية باتفاق العقلاء. دليل الاحتمالات قانون معروف رياضيًا: تراكم الاحتمالات في محور معين ينتج اليقين الرياضي بذلك المحور، وحتى أشرح لك هذا القانون أذكر مثالًا على ذلك: أنا عندما أفتح إذاعة لندن مثلًا في الراديو، وأسمع منها أنه قد حدثت مواجهات في النجف الأشرف بين العراقيين وجنود القوات الأجنية، عندما أسمع الخبر من إذاعة لندن يصبح عندي احتمال بنسبة 20% أن هذا الخبر صادق، ثم أفتح التلفزيون، فأرى القنوات تنقل هذا الخبر، قناة الجزيرة، قناة العربية، قناة المنار، قناة العالم، فيزداد الاحتمال من 20% إلى 80% لأن كل القنوات ذكرت هذا الخبر، وبعد ذلك أشاهد الصوت والصورة، تنقل لي القنوات بصورة حية واقع الاصطدامات بين العراقيين وجنود القوات الأجنبية، أرى ذلك بالصوت والصورة، فيصعد الاحتمال من 80% إلى 100%، فيحصل عندي يقين بأن هذه احتمالات حصلت قطعًا، من أين حصل اليقين؟ نتيجة تراكم الاحتمالات، الاحتمالات تراكمت وتصاعدت حول محور معين، ونتيجة محورها حصل لي اليقين الرياضي بحصول هذا الحدث.

إذن، دليل حساب الاحتمالات دليل علمي يوصلنا إلى اليقين بالأشياء، وهذا الدليل نفسه كما نسلكه في اكتشاف الأشياء، نسلكه في اكتشاف الدين أيضًا. نستطيع عبر هذا الطريق أن نصل إلى الدين، وأن نكتشف الدين، فمثلًا: صلاة المغرب ثلاث ركعات، من أين اكتشفنا ذلك؟ يجب الطواف بالكعبة سبعة أشواط، من أين اكتشفنا ذلك؟ في الإسلام يأخذ سهمًا كاملًا في الميراث، والمرأة تأخذ نصف سهم، من أين اكتشفنا ذلك؟ من يقول بأن هذه الأحكام هي الدين ومن الدين؟

نقول: عن طريق دليل حساب الاحتمالات، فإننا إذا لاحظنا أن جميع الفقهاء - فقهاء جميع المذاهب - أفتوا بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، هذا يعطينا احتمالًا بنسبة 20% صادق مطابق للدين، ونضم إليه السيرة العملية بين المسلمين، سيرة المسلمين من قرون على توزيع الميراث بهذه الطريقة، سيرة المسلمين تنضم إلى فتاوى الفقهاء فيتصاعد الاحتمال، يصبح 60 أو 70% أن هذا الحكم صادق، ومضافًا إلى السيرة نلاحظ أيضًا تظافر النصوص، عندما نرجع للنصوص نجد في القرآن وفي الروايات - روايات الإمامية وروايات غيرهم - جميعها متطابقة في هذا الحكم المعين، وهكذا يتصاعد الاحتمال ويصل إلى 100%.

إذن، دليل حساب الاحتمالات كما هو دليل علمي يوصلك لليقين بالأشياء الأخرى، كذلك هو دليل يوصلك إلى اليقين بالدين، فلا مجال لأن تقول: ليس من المعلوم أن هذا من الدين! أنت سلكت دليلًا علميًا، وهو دليل حساب الاحتمالات، فلا معنى بعد أن تسلك هذا الدليل وتحصل على اليقين الرياضي بالنتيجة أن تقول: ليس من المعلوم أن هذا هو الدين، بل لا زال الدين مخبوءًا، ولم أصل إليه بعد! أنت سلكت دليلًا علميًا يفيد اليقين بالأشياء، وصلت إلى اليقين بأن صلاة المغرب ثلاث ركعات، وصلت إلى اليقين بأن صلاة الفجر ركعتان، وصلت إلى اليقين بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وبعد الوصول إلى اليقين الرياضي لا معنى لأن يشكّك الإنسان ويقول: لا زال الدين مخبّأً تحت الكرسي أو وراء الستارة ولم أصل إليه بعد! مع أنه سلك دليلًا علميًا.

وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بضروريات الدين، وصلنا إلى ضرورة من ضروريات الدين، فمن أنكر فهو مرتد، لا لأنه أنكر فتوى الفقهاء، بل لأنه أنكر الدين الذي وصل عبر دليل حساب الاحتمالات. وأما لو قال: أنا لا أبالي، صحيح أن الفقهاء يقولون بأن الطواف بالبيت سبعة أشواط، لكنني أكتفي بخمسة أشواط، أو أريد أن أجعله عشرة أشواط! إذا خالف الحكم فمن الطبيعي أن يتهم بالفسق، لا لأنه خالف فتوى الفقهاء، بل لأنه خالف دينًا وصل عن طريق علمي، وهو دليل حساب الاحتمالات.

الطريق الثاني: الطريق اللغوي.

هذا طريق يسلكه أبناء العرف في تحديد الأشياء، فمثلًا: أنا عندما أقرأ بيت شعر للمتنبي مثلًا، المتنبي يقول:

وإذا أتتك مذمتي من iiناقص   فهي الشهادة لي بأني كاملُ

وأقرأ هذا البيت، أقول: المتنبي يقول بأنَّ مذمة الناقص شهادةٌ بالكمال، فلو ناقشني إنسان وقال: من أين عرفت أن المتنبي يقول؟! تقول: هذا شعره، يقول: هذا فهمك أنت، وأما كلام المتنبي فشيء آخر! فهمك شيء، وفكر المتنبي شيء آخر، فكر المتنبي معانٍ مرتسمة في ذهنه، وفهمك معان مرتسمة في ذهنك، ففهمك شيء، وفكر المتنبي شيء آخر، فكيف تدّعي أن فهمك هو فكر المتنبي؟! هذا فهمك وليس فكر المتنبي! كما أن فتاوى الفقهاء هي فهمهم، وأما الدين فهو شيء آخر، كذلك أيضًا أي إنسان يقرأ شعر المتنبي ويقول بأنه يفهم من كلامه أن مذمة الناقص شهادة بالكمال، نقول له: هذا فهمك أنت، وأما فكر المتنبي فهو شيء آخر! ما هو الجواب؟

الجواب واضح، صحيح أن فكر المتنبي هو معان مرتسمة في ذهنه، لكن كيف أصل إلى فكره وهي معان تخطر في ذهنه؟ الطريق للوصول إلى فكره هو اللغة، المتنبي يتكلم بكلام عربي، وأنا إنسان عربي، والعربي يفهم كلام العربي، فإذن يصل إليَّ فكر المتنبي عبر اللغة التي تكلّم به المتنبي، اللغة طريق واضح أجمع عليه العقلاء، طريق واضح للوصول إلى الأفكار.

مثال أوضح: كان بعض أساتذتنا يقول: إذا لم تمثّل بالمال فإن الناس لا يفهمون! لذلك أطرح هذا المثال: افترض أنك جالس في بيت، وأتيتُ لك بوثيقة تثبت أن جدّي اشترى هذه الدار، فإذن هذه الدار بمقتضى الميراث تكون لي، فلا بد من أن تخرج من الدار بمقتضى هذه الوثيقة، هل أستطيع أنا أن أخاصمك وأرفع عليك دعوى في المحكمة بهذه الوثيقة أم لا؟ من الواضح أنني أستطيع ذلك. لنفرض أن القاضي قال: الوثيقة شيء وفهمك شيء آخر، الوثيقة هي شيء في الواقع، ولكن فهمك شيء آخر، هذا ما فهمته أنت من الوثيقة، وأما الوثيقة فهي أمر آخر، فهناك تفكيك بين الوثيقة وبين فهمك للوثيقة، فكيف نعتمد على فهمك للوثيقة؟! حينئذ أقول للقاضي: بناء على ذلك، لا يمكن إثبات شيء أصلًا؛ لأن أي مقالة أعرضها بإمكان أي شخص أن يقول: هذا فهمك للمقالة، وأما المقالة فهي شيء آخر! هذا فهمك للوثيقة، وأما الوثيقة فهي شيء آخر! إذن، لا يثبت أصلًا أي مدّعى، وذلك بسبب التفريق بين الفهم وبين الواقع. هذه الوثيقة بلغة عربية، وليست بلغة فارسية مثلًا، وأنا عربي، ففهمت هذا الكلام العربي، فماذا تريد أكثر من هذا أيها القاضي؟!

إذن بالنتيجة: قد تصل المعاني والمضامين عبر العامل اللغوي، فأنا وصلت لمضمون الوثيقة عن طريق اللغة. كذلك الأمر في الدين تمامًا، الدين وصل إلينا عبر لغة، ولم يصل إلينا مجرّدًا من دون لغة، فإذا سلكنا الطريق اللغوي وصلنا إلى الدين، وهذا ما يطرحه الفقهاء، فمثلًا: عندما يأتي الفقيه ويقول: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، هذه الآية تدل على أن الربا محرم مطلقًا، إذ إن للآية إطلاقًا، والإطلاق طريق لغوي، الآية ما قيدت، لم تقل: الربا في زمان دون زمان، ولم تقل: الربا بين شخصين حرام وبين المواطن وبين الدولة ليس بحرام، ولم تقل: الربا في فرض عدم تضخم العملة حرام، وأما في فرض تضخم العملة فهو حلال. هذه التفصيلات ليست مذكورة في الآية، بل الآية مطلقة، والإطلاق طريق لغوي لاكتشاف المضمون، وأنا كفقيه أمشي على الطريق اللغوي، وأفتي بحرمة الربا مطلقًا، إلا أن يأتي نصٌ من أهل البيت أو من النبي محمد يقيّد هذا النص، وما دام لا يوجد تقييد فأنا أفتي على طبق الإطلاق، على طبق الطريق اللغوي.

وأما الاحتمالات التي تطرحها أنت: والله الآية ناظرة لذاك الزمن الذي لم يكن فيه تضخم العملة! أقول لك: هذا تقييد، فما هو الدليل عليه؟! تقول لي: هذه الآية ناظرة للربا بين شخصين لا للربا بين المواطن والدولة، أقول لك: هذا تقييد، فما هو الدليل عليه؟! أنا أمشي على طريق لغوي، وهو الإطلاق، فأنا لا ألام؛ لأنني مشيت على طريق اللغة، أنت الذي تحتاج إلى دليل، أنا لا أحتاج إلى دليل، أنا مشيت على طريق عرفي، وهو طريق لغوي لاكتشاف الأشياء، فأفتيت على طبق ذلك.

إذن بالنتيجة: الدين أمر يمكن الوصول إليه، وليس الدين مخبوءًا في المريخ، أو في الزهرة، أو مخبوءًا في صدور أهل البيت ، بل الدين شُرِّع لكي ينظّم حياتنا، فلا بد أن يصل إلينا نحن المسؤولين عن أهداف الدين، وطريق الوصول إلى الدين هو الطريق العقلي، وهو دليل حساب الاحتمالات، أو بالطريق اللغوي، كما شرحنا، فهذه هي الطرق التي توصل إلى الدين، وبعد الوصول إلى الدين لا معنى لوضع التسويلات من هاهنا وهاهنا، وأن هذا الدين شيء وفهمك شيء آخر، ومن يقول فهمك هو الدين، وهذا أول الكلام... إلى آخر المطلب.

المحور الثاني: هل الدين حكر على الفقهاء؟

شرحنا في المحور الأول أنَّ الدين يمكن الوصول إليه، والوصول إليه يتحقق عبر قراءة اللغة، فهل أنا أستطيع إذا قرأت اللغة أن أصل إلى الدين؟ هل يمكن لي أن أعتمد على فهمي، وعلى قراءتي اللغوية، في الوصول إلى الدين؟ هل يمكنني أن أستقل بنفسي؟ أنا أقرأ القرآن، وأمشي على طبق ما أفهم من خلال القراءة اللغوية، أو أقرأ الروايات الواردة عن أهل البيت، وأسير على ما أفهم من خلال هذه الروايات، وأستقل عن الفقهاء في فهمي لمضامين الدين ومقاصده، هل يمكن ذلك أم لا يمكن؟

الجواب: نحن نقول، لا يوجد حجر، لا أحد عنده سلطة عليك، أنت حر، لا أحد يقف أمامك ويقول: لا يجوز لك أن تقرأ النصوص، ولا يجوز لك أن تحكّم فهمك في النصوص، وأن فهم النصوص قرآنًا وسنةً حكرٌ على فئة معينة في المجتمع، ألا وهم الفقهاء، بل أنت مطلق العنان، أعمل فهمك، وأعمل عقلك، القرآن يحثك على اتباع العقل، أعمل عقلك كيفما تشاء، ولكن هناك ميزانًا يجب اتباعه، وهذا الميزان طرحه القرآن الكريم، حيث قال: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، ونحن ليس عندنا غير هذا الميزان، فنحن لا نقول لك: فهم القرآن خاص بنا نحن، وأما أنت فلا علاقة لك بفهم القرآن! ولا نقول: فهم الأحاديث خاص بنا نحن، وأما أنت فلا علاقة لك، الفقهاء فقط هم الذين يفهمون، وغيرهم لا يفهمون! نحن لا نقول ذلك، وإنما نقول: هنالك ميزان بيننا وبين كل شخص.

أنت عندما تقول: أنا أفهم من القرآن كذا، أنا أفهم من القرآن أن الربا المحرّم هو الربا في ذلك الزمان، نسألك: هل فهمك مستند إلى علم أم لا؟ إن كان فهمك مستندًا إلى علم فأنت معذور أمام الله، وإن لم يكن فهمك مستندًا إلى علم فالآية المباركة تخاطبك: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا، الميزان أن يكون فهمك عن علم. أنت لو أرجعت الفقهاء، وقلت: من يقول بأن فهم الفقهاء مستند إلى العلم؟! يقول لك الفقهاء: نعم، فهمنا مستند إلى العلم، وهذا العلم يعتمد على عناصر ثلاثة: توثيق النص، وتنقيح الظهور، وحلَّ التعارض.

العنصر الأول: توثيق النص.

النص إذا كان قرآنًا فإنه لا يحتاج إلى توثيق؛ لأن القرآن قطعيٌ، وأما إذا كان رواية ونحن نريد أن نوثق هذه الرواية، نريد أن نثبت أنها صادرة أو غير صادرة، كيف نوثّق النص؟ نحن عندنا علم يسمّى علم الرجال، وهو عبارة عن مجموعة قواعد، هذه القواعد لا بد أن تبحث عنها، هل شهادات الرجاليين حسية أم حدسية؟ هل أن توثيقات الرجاليين يعتمد عليها أم لا يعتمد عليها؟ هل مشائخ الإجازة ثقات أم غير ثقات؟ هل كثرة الرواية تدل على الوثاقة أم لا؟ هل الترضي يدل على الوثاقة أم لا؟ هل الترحم يدل على الوثاقة أم لا؟ وغيرها من القواعد التي تحتاج إلى تنقيح، هذا علم كامل اسمه علم الرجال.

نحن الفقهاء لا نحتكر الفهم لنا، بل نقول لك: هذا العلم موجود، فادخله، ولا أحد يمنعك من ذلك، ادخل العلم، واقرأه، وادرسه بدقة، وبعد أن تدرسه بدقة فإما أن تقبله، فأنت كغيرك، وإما أن ترفضه، فأقم دليلًا وحجةً على الرفض، واخترع علمًا آخر، نحن مستعدون أن نقبله، لا مانع عندنا، اخترع لنا علمًا جديدًا في توثيق النص، وأقم عليه الدليل والبرهان، نحن نأخذ به ونتبعه في مجال توثيق النص، نحن نطلب الحقيقة، فإذا أوصلتنا إليه فهذا هو المنى، وهذا هو الهدف.

نحن عندنا علم اسمه علم توثيق النص، علم الرجال، فإن قبلت هذا العلم فأنت تسير بمسيرتنا، إن رفضته فأقم دليلًا وحجةً على تفاهة هذا العلم أو سخافته أو عدم إنتاجه، واخترع لنا علمًا جديدًا يفيدنا، ونحن نسير عليه، لا مانع من ذلك أصلًا، فالمسألة ليست مسألة احتكار، ولا مسألة إغلاق، ولا مسألة رفض.

ولذلك، يختلف الفقهاء نتيجة اختلافهم في توثيق النص، فمثلًا: السيد الخوئي «قدس سره» كان يفتي طوال ثلاثين سنة بأن غسل زيارة الحسين من بُعْد يجزي عن الوضوء، فمثلًا: لنفترض أن اليوم هو يوم الأربعين أو يوم عاشوراء مثلًا، فأنت تغتسل غسل الزيارة، أنت لست في كربلاء، فأنت تغتسل عن بعد، فهل غسل الزيارة يجزي عن الوضوء أم لا؟ كان يفتي سنينًا طويلة بأن غسل الزيارة يجزي عن الوضوء؛ اعتمادًا على رواية في كامل الزيارات لابن قولويه، كان السيد الخوئي في ذلك الزمان يرى أن هذا الكتاب صحيح السند، جميع رجاله ما لم يرد فيهم طعن أو قدح هم ثقات، وبعد ذلك، قبل أن يتوفى بخمس أو ست سنين، عدل عن رأيه، وقال: غسل الزيارة إذا كان بماء الفرات، أو ثبت استحبابه - كما في بعض الزيارات - بدليل خاص، وإلا ليس كل غسل زيارة يجزي عن الوضوء. لماذا عدل؟ عدل لأنه اكتشف أن القاعدة التي كان يعتمد عليها لمدة ثلاثين سنة - وهي توثيق كتاب كامل الزيارات - غير تامة، وهو السيد الخوئي أستاذ الفقهاء. إذن بالنتيجة: تغيّر نظره نتيجة اختلاف توثيق النص، وثّق النص في فترة، ثم اكتشف أن توثيقه في غير محله، وعدل عن رأيه، وعدل عن الفتوى.

مثال آخر: الخلاف بين السيد الخوئي والسيد السيستاني، في الربا بين المسلم والكافر، هل يجوز؟ أنا الآن أقرض شخصًا مسلمًا مئة بمئة وعشرة، فهذا لا يجوز؛ لأنه ربا، ولكن لو أقرضت إنسانًا كافرًا مئة بمئة وعشرة، فهل يجوز ذلك؟ السيد الخوئي يقول: لا يجوز، بينما السيد السيستاني يقول: يجوز؛ إذ لا ربا بين المسلم والكافر، وذلك لرواية ياسين الضرير: ”ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا، نأخذ منهم ولا نعطيهم“، الرواية موجودة، لكن السيد الخوئي يقول: ياسين الضرير ليس ثقة عندي، فلا أعتمد على الرواية، بينما السيد السيستاني يقول: صحيح، ولكن المشهور من الفقهاء عملوا بالرواية، وعمل المشهور قرينةٌ على الوثوق بها، فيفتي على طبق هذه الرواية، ويقول: لا ربا، لا مانع من الربا بين المسلم والكافر.

«....... خلل في التسجيل تسبب في نقصان العنصر الثاني وشيء من العنصر الثالث......»

العنصر الثالث: حل التعارض.

.... ماذا نصنع؟ نقول: هذه روايات متعارضة، عندنا روايات على ثلاثة أصناف: روايات صحيحة معتبرة تقول: ”صم عاشوراء؛ فإنه كفّارة سنة“، ”صم عاشوراء؛ فإنه يعدل صوم الدهر“، هذه روايات موجودة عندنا عن الإمام الصادق. عندنا في المقابل روايات أخرى صحيحة السند أيضًا، سئل الإمام الصادق عن صوم يوم عاشوراء، قال: ”أما إنه صوم يوم ما نزل به كتابٌ ولا جرت به سنةٌ إلا سنة آل أبي جياد بعد مقتل الحسين“، كيف تجمع بين الرواية الأولى والرواية الثانية؟ هل الإمام يتناقض؟! وفي صنف ثالث من الروايات: ما ذكره الشيخ الطوسي في كتابه «مصباح الزائر»، رواية عبد الله بن سنان، رواية معتبرة في صوم يوم عاشوراء، ”صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تتمه كملًا“، أنت صم عاشوراء لكن ليس صومًا كاملًا، بل صمه إلى الظهر فقط. كيف تجمع بين هذه الأصناف الثلاثة من الروايات؟

مساكين هؤلاء الفقهاء! يدوّخ حاله خمس ليال حتى يجمع بين الروايات، وأنت تأتي بكل راحة: هذه رواية موجودة تقول كذا وهم يفتون لنا بكذا! هذا يدوّخ حاله خمس ليال، هناك علم موجود، علم تعارض الأدلة، علم كامل اسمه تعارض الأدلة، تعارض مستقر، تعارض غير مستقر، حل التعارض المستقر، حل التعارض غير المستقر، علم قائم برأسه، نحن ليس عندنا دكتاتورية، لا نقول: الفهم حكر علينا، فهم الروايات لنا نحن فقط الحوزويين! حتى أنت تستطيع، ادخل هذا العلم، اقرأه، ادرسه، إما أن تقبل، إما أن ترفض، المهم أن تستند إلى دليل، المهم أن تستند إلى برهان، حتى لو اخترعت لنا علمًا جديدًا، لا مانع عندنا، إذا كان هذا العلم مستندًا إلى دليل وبرهان، الاجتهاد لم يتوقف، والعلم لم يتوقف.

السيد الصدر «قدس سره» اخترع في باب تعارض الأدلة قواعد ما اخترعها أحد قبله، والسيد السيستاني أضاف له فصلًا كاملًا ما أضافه أحد قبله، وهو باب علل اختلاف الحديث، أضاف بابًا لهذا العلم، باب مفصل، ليس عندنا مانع، المهم أن يستند الإنسان إلى دليل وبرهان؛ حتى لا ينطبق عليه ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

إذن، بإمكانك أن تفهم الدين، وليس هناك عوائق ولا حواجز، وبإمكانك أن تعتمد على فهمك، ولكن بشرط أن يكون فهمك مستندًا إلى العلم، والعلم يتكوّن من العناصر الثلاثة التي شرحناها، فبإمكانك أن ترجع إلى هذه العناصر، وتعطينا رأيك عن دليل وبرهان، فإذا أعطيتنا رأيك عن دليل وبرهان قبلنا ذلك، المهم أن يستند الإنسان إلى العلم، وقد استند الفقهاء في فهمهم إلى العلم، فهم معذورون. نحن ليست عندنا هذه الرواية: أنه إذا أصاب المجتهد فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر، الشيعة ليست عندهم هذه الرواية، وإنما نحن نقول: إذا أصاب المجتهد فهو، وإن أخطأ فهو معذور، ولكنه ليس مأجورًا، إن أصاب فقد أصاب، وإن أخطأ فهو معذور؛ لأنه بذل جهده، وبذل طاقته في سبيل أن يصل فلم يصل، فإن أصاب فهو كذلك، وإن أخطأ فهو معذور، وليس عندنا ”إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر“.

أترك المحور الثالث إلى ليال أخرى.

إذن، فالمهم هو الاستناد إلى الحجة، المطلوب هو الاستناد إلى العلم، وأهل البيت يركّزون دائمًا على أن يعتمد الإنسان المسلم في أموره على حجة، أن يعتمد في أموره على علم، لأن المعتمد على العلم يسمى صاحب بصيرة، صاحب البصيرة هو من يعتمد على العلم والحجة في مسيرته، في طريقه، في اتجاهه، دائمًا يستند إلى علم وحجة، فهو صاحب بصيرة، وصاحب البصيرة ممدوحٌ قرآنًا وسنةً، الأحاديث تؤكد على مدح صاحب البصيرة، من يمتلك بصيرة في دينه.

ولذلك، تجد الحر بن يزيد الرياحي يوم عاشوراء يعترض على عمر بن سعد، يقول: ”ويحكم! من تقاتلون؟! إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر“، هؤلاء مضافًا إلى شجاعتهم وفروستهم هم أهل بصيرة، جماعة مشوا على بصيرة من أمرهم، ساروا على العلم، ساروا على الحجة. ولذلك، تقرأ في زيارة أبي الفضل العباس: ”أشهد أنك مضيتَ على بصيرةٍ من أمرك“، أنت مشيت وأنت واضح الطريق أيها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله.

ندوة حول التجديد في الفكر الديني
الدين بين الإلهية والبشرية