نص الشريط
تأملات في الخطاب الحسيني يوم عاشوراء
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 21/2/1425 هـ
مرات العرض: 3122
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1519)
تشغيل:

ورد عن الرسول محمد أنه قال: ”حسينٌ مني وأنا من حسين، أحب الله من أحبَّ حسينًا، وأبغض الله من أبغض حسينًا. حسينٌ سبطٌ من الأسباط

حديثنا هذه الليلة في ظلال خطاب عاشوراء. الحسين وقف يوم عاشوراء، وألقى خطابه التاريخي، الذي تضمّن مجموعةً وافرةً من المداليل التربوية والعقائدية والتاريخية. نحن هذه الليلة نسير مع خطاب الحسين، ومع المداليل التي استعرضها الحسين ، ونقسّم خطابه التاريخي إلى عدة مقاطع.

المقطع الأول: أهمية التروي والتأني.

”أيها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا“، هذا المقطع يتضمّن مضمونًا تربويًا لكل مسلم، وهو أنَّ المسلم يجب عليه أن يتروى وأن يتأنى قبل أن يتخذ القرار. عليكم إذا أردتم أن تتخذوا قرارًا أو حكمًا، أن تدرسوا هذا القرار بحكمةٍ ورويةٍ وتدبّرٍ، فمن صفات الإنسان الموضوعي هو الدراسة الموضوعية لقراره، قبل أن يأخذ القرار. أبو ذر الغفاري قال لرسول الله : يا رسول الله، أوصني. قال: ”أوصيك إذا هممت بأمرٍ فتدبّر عاقبتَه، فإن يك خيرًا فامضِ فيه، وإن يك غيًا فانتهِ عنه“.

المقطع الثاني: حق الأمة في الموعظة.

”حتى أعظكم بما هو حقٌّ لكم عليَّ“، موعظتكم حقٌ لكم عليَّ؛ لأن من حق الأمة على العلماء أن يعظوها. هناك حق للعلماء على الأمة، وهناك حق للأمة على العلماء. حق الأمة على العلماء: الموعظة، أن يعظوها، فالإمام يقول لهم: إنَّ لكم حقًا عليَّ، وهو أن أعظكم وأنصحكم، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله - إشارة إلى حق الأمة على العلماء - على العلماء ألا يقاروا على كذبة ظالم، ولا على سبغ مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها“.

المقطع الثالث: فلسفة الاعتذار.

”وحتى أعتذر عليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد“. لماذا الحسين يعتذر؟ هل ارتكب الحسين خطأ حتى يعتذر منه؟! هل ارتكب الحسين جريمة حتى يعتذر منها؟! المقصود بالاعتذار هنا: وضع المبرّر، الاعتذار يطلق على معنيين: تارة يراد بالاعتذار هو التراجع عن الذنب، وتارة يراد بالاعتذار وضع المبرّر للعمل. الاعتذار هنا بمعنى إبداء المبرِّر للعمل، أنا أريد أن أذكر لكم ما هي المبررات التي دعتني إلى أن أقدم عليكم، ليس معنى الاعتذار هنا التراجع عن الذنب، وإنما معنى الاعتذار هنا ذكر المبرّرات للعمل الذي أقدم عليه الحسين، وهو القدوم على مدينة الكوفة.

المقطع الرابع: ربط الحركة بالأنبياء.

”وإن لم تقبلوا عذري، ولم تصدّقوا قولي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون“. هذه آية من آيات القرآن، فلماذا قرأ الحسين هذه الآية هنا؟ يريد الحسين أن يربط حركته بحركة الأنبياء؛ لأن هذه الآية قالها نوح لقومه عندما بلغ بهم السيل الزبى، نوح عندما وصل إلى درجة أنَّ قومه لا يستجيبون له، ولا يفيد فيهم نصح ولا وعظ ولا إرشاد، قال لهم هذه الكلمة، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ. فإذن، الحسين قرأ آية نوح، يريد أن يقول: أنا امتدادٌ للأنبياء، وحركتي امتدادٌ لحركة الأنبياء، ورسالتي امتدادٌ لرسالة الأنبياء، فالموقف الذي وقفه نوحٌ من قومه أنا أقفه معكم بنفس هذا الموقف.

المقطع الخامس: ذم الدنيا.

”أيها الناس، الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالًا بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا الدنية، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها“. الحسين يريد أن يصوّر للآخرين مدى صدق أهدافه، لماذا ذم الدنيا؟ يريد أن يقول لهم: أنا ما خرجت لطلب دنيا، الدنيا عندي لا قيمة لها، هو قال في حديث آخر: ”ألا وإن الدنيا قد تنكرت، وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا“. الحسين أراد بذم الدنيا أن يقول لهم: ليست لي أهداف مادية، وليست لي أهداف دنيوية، وليست لي أهداف سلطوية، الدنيا عندي لا تسوى شيئًا، ولذلك ذمّ لهم الدنيا بهذه العبارات، ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح“.

الحسين يستخدم دائمًا آيات القرآن الكريم، حيث قال: ”فلا تغرنكم هذه الدنيا“، والقرآن يقول: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ، وقال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، إذن الحسين دائمًا يتحدث بالقرآن، دائمًا يتكلم بلغة القرآن، يريد أن يُفْهِم القوم أنني أنا الثقل الثاني للقرآن، أنني أنا ترجمان القرآن، أنني أنا القرآن الآخر، القرآن هو الكتاب الصامت، وأنا الكتاب الناطق.

ساووا   كتاب   الله   إلا  iiأنه   هو صامت وهم الكتاب الناطقُ

المقطع السادس: ذم ازدواجية الشخصية.

يركّز الحسين على مدلول تربوي، وهو ذمّ ازدواجية الشخصية، فيقول: ”وأراكم قد اجتمعتم على أمر أسخطتم الله فيه عليكم، فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد، ثم إنكم زحفتم على ذريته وعترته تريدون قتلهم! لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبًا لكم ولما تريدون! إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعدًا للقوم الظالمين“.

الحسين يركّز على ازدواجية الشخصية، فيقول: أنتم أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول، ومن جهة أخرى تزحفون على ذريته وعترته تريدون قتلهم؟! هذه ازدواجية في الشخصية، الذي يقر بالطاعة ويؤمن بالرسول، كيف يزحف على ذرية الرسول لإبادتهم ولسحقهم وللقضاء عليهم؟! كيف يُجْمَع بين الأمرين؟!

نحن مع الأسف مبتلون بمرض ازدواجية الشخصية. الكثير منا يصلي ويصوم، ويحب آل رسول الله، ويحب أهل البيت، ولكنه أول من يطعن في آل بيت رسول الله، من خلال سلوكه، ومن خلال انحرافه، ومن خلال أخطائه وتجاوزاته. لا يجتمع التدين بحب آل رسول الله، والصلاة والصوم، مع الإصرار على اختلاس أموال الآخرين، ومع الإصرار على غيبة المؤمنين، ومع الإصرار على العلاقات غير المشروعة من خلال الشاتنق أو الجوال أو غيرها، وغيرها من المعاصي. لا يجتمع التدين والصلاة والصوم وحب أهل البيت مع هذه المعاصي والرذائل.

المقطع السابع: محاسبة النفس.

”أيها الناس، انسبوني من أنا، ثم ارجعوا لأنفسكم فحاسبوها: هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟!“. هذا المقطع يركّز على مدلول تربوي، وهو مدلول محاسبة النفس. من صفات الإنسان المسلم محاسبة النفس، فقد ورد عن الرسول الأعظم محمد : ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا“، اغتنموا فرصة العمر لمحاسبة النفس، ”وزنوها قبل أن توزنوا“، وورد عن الإمام الكاظم : ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله، وإن عمل سيئة استغفر الله“. ”أيها الناس، انسبوني من أنا، ثم ارجعوا لأنفسكم فحاسبوها“.

المقطع الثامن: الافتخار بالنسب.

الحسين يستعرض شخصيته، يستعرض نسبه، يستعرض مواهبه، يستعرض عناصره، فيقول: ”ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه، وأول المؤمنين بالله والمصدق برسوله بما جاء به من عند ربه؟! أو ليس حمزة سيد الشهداء عمي؟! أو ليس جعفر الطيار عمي؟! أو لم يبلغكم قول رسول الله فيَّ وفي أخي الحسن: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟! فإن صدقتموني فوالله ما تعمدتُ الكذب، منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إذا سألتموه أخبركم عن ذلك. سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، سلوا أبا سعيد الخدري، سلوا سهل بن سعد الساعدي، سلوا زيد بن أرقم، سلوا أنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من جدي رسول الله فيَّ وفي أخي الحسن، أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟! فإن كنتم في شك من ذلك، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري، فيكم ولا في غيركم“.

ربما يقول الإنسان: ليس الفخر بالنسب، وإنما الفخر بالعمل، فلماذا يفتخر الحسين بنسبه؟! الله «تبارك وتعالى» يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، الفضل للأتقى لا لمن هو أفضل نسبًا. الرسول الأعظم محمد يقول: ”خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدًا قرشيًا“، والشاعر يقول:

أنا   ابن  ديني  وكنيتي  iiأدبي
إن  الفتى من يقول: ها أنا iiذا
  من  عجم  كنتُ أو من iiالعربِ
ليس الفتى من يقول: كان أبي

إذن، لماذا يركّز الحسين على نسبه وعلى شجرته وعلى أعمامه وآبائه وأجداده؟! الحسين يريد أن يركّز على مدلول عقائدي في هذا المقطع من خطبته الشريفة، يريد أن يقول: أنتم مسلمون، وجميع المسلمين سمع من رسول الله هذا الحديث: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“، إذن حديث الثقلين يأمركم كمسلمين بالتمسك بالعترة، من هم العترة؟! الحسين يريد أن يبيّن لهم من هم العترة: أبي أمير المؤمنين، وعمي حمزة، وعمي جعفر، وأخي الحسن، والرسول قال فينا: سيدا شباب أهل الجنة، فأنا المصداق الوحيد للعترة، كل هذه تأكيداتٌ يريد أن يصل بها الحسين إلى نتيجة: أن الثقل الموجود على الأرض الآن هو أنا وليس غيري، الثقل الموازي للقرآن هو أنا وليس غيري، الثقل المساوي للقرآن هو أنا وليس غيري، إذن أنا الثقل الذي عليكم التمسك به، ولا يجوز لكم قتاله. ولذلك قال لهم في النهاية: افترضوا أنني لستُ شباب أهل الجنة، افترضوا أن هذا الحديث ليس صحيحًا، ألا يكفي في كوني ثقلًا موازيًا للقرآن أني ابن بنت نبيكم؟!

المقطع التاسع: التركيز على المظلومية.

”ويحكم! أتطلبونني بدم قتيلٍ لكم قتلته، أو بمال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟! ألم تكتبوا لي أن أقبل علينا، فلقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وإنما تقبل على جند لك مجندة؟!“. لماذا يركز الحسين على المظلومية؟! هل هو ضعيف؟! هل هو خائف؟! هل جبن من القتال؟! لا، [...] بالانتصار، كما يُنْقَل عن غاندي أنه قال: «علّمني الحسين أن أكون مظلومًا فأنتصر»، المظلومية رمزٌ للانتصار، عندما يظهر الحسين [...] يعني يظهر رمزًا لجذب العواطف، لجذب المشاعر، لجذب أحاسيس الجماهير، نحو قضيته ونحو مشروعه.

المقطع العاشر: إعلان الهدف من الحركة.

قال له قيس بن الأشعث: القضية واضحة، ولا تحتاج كلامًا طويلًا، اختصرها، ونحن نختصرها معك، ”انزل على حكم بني عمك؛ فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروهٌ“، هذه هي القضية وخلاصتها. حينئذ أعلن الحسينُ الهدف من الثورة، أعلن الهدف من الحركة، أعلن الهدف من المشروع، قال: ”يا بن الأشعث، أنت أخو أخيك“ أي: أخوك ارتكب جريمة، وأنت ارتكبت جريمة أخرى، أخوك اشترك في دم مسلم بن عقيل، وأنت تشترك في دمي، ”أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟! لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد“. هدفه واضح، هو رفض الذلة، رفض إذلال الأمة الإسلامية كما شرحنا الليلة السابقة، صيانة الأمة الإسلامية عن الإذلال.

المقطع الحادي عشر: الانقلاب التاريخي.

”تبًا لكم أيتها الجماعة وترحًا! أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفًا لنا في أيمانكم، وحششتم علينا نارًا اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلبًا لأعدائكم على أوليائكم، من غير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم؟!“. الحسين يشير إلى مدلول مهم، وهو الانقلاب التاريخي، فيقول لهم: هذا الجيش الذي يقاتلني الآن، ثلاثون ألفًا على أقل الروايات، هذا الجيش جيش من؟ هذا كان جيشًا يحارب بين يدي الإمام علي ، هذا الجيش العراقي، هذا الجيش الكوفي، هذا الجيش كان جيشًا يقاتل معاوية بين يدي الإمام علي .

يقول لهم: سيوفكم سيوفنا نحن؛ لأننا نحن الذين بنيناكم جيشًا، أنتم كنتم - يا أهل الكوفة - متفرقين ومشتتين، جاء علي وجمعكم، جاء علي ووحّد كلمتكم، جاء علي وخلق منكم جيشًا، وخلق منكم إرادة، فأنتم سيوفنا، وأنتم نارنا، ”سللتم علينا سيفًا لنا“ هذه سيوفنا نحن ”في أيمانكم، وحششتم علينا نارًا اقتدحناها على عدونا وعدوكم“ نحن الذين اقتدحنا هذه النار، نحن خلقناها، نحن صنعناها ضد معاوية.

أنتم الآن أربكتم الوضع، أربكتم المعادلة، انقلبتم انقلابًا تاريخيًا مريرًا، من جيش علوي إلى جيش أموي، ”فأصبحتم إلبًا على أعدائكم على أوليائكم“ الذين ربوكم وأغدقوا عليكم، وليت الذين تنصرونهم الآن عدلوا معكم وأعطوكم حقوقكم حتى تناصروهم! ”من غير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل“ لا يوجد أي أمل في العدالة مع هؤلاء، لا يوجد أي أمل في أن يحققوا لكم حقوقهم، ”ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات، تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يستصحف، ولكن أسرعتم إليها، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش“.

المقطع الثاني عشر: الذم اللاذع للقوم.

”فسحقًا لكم! يا عبيد الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، ومطفئي السنن“، لماذا كل هذا الذم؟ أليس الإمام الحسين قد بكى عليهم؟! الحسين يوم العاشر صار يبكي، قالوا: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: ”أبكي على هؤلاء؛ يدخلون النار بسبب قتلي“. هذا الحسين الذي يقطر حنانًا، يقطر رحمة، يقطر عطفًا، لماذا يذم أعداءه بهذا الذم اللاذع؟!

الحسين أراد بهذا المقطع الإشارة التاريخية إلى أنَّ هؤلاء ليسوا شيعته، إلى الآن يقال: ترك الحسينَ شيعتُه! الحسين قتله شيعته وصاروا يبكون عليه! الحسين منذ ذلك اليوم أراد أن يرفع هذا الوهم، الحسين منذ ذلك اليوم أراد أن ينبّه المؤرّخين على أن من أجمع على قتاله ليسوا من شيعته، ولذلك خاطبهم يوم عاشوراء، قال: ”يا شيعة آل أبي سفيان“، الحسين أراد أن ينبّه أي باحث، وأي مؤرخ، وأي محلل، إلى أن هذا الجيش ليس من شيعته، لذلك ذمّه حتى لا يبقى مستمسك ولا حجة لأي مؤرخ أن [...]، جيش كوفي بناه الإمام علي وتعب عليه، ولكنه ليس من شيعته، إذ لا يعقل أن يكون الشيعي معتديًا على إمامه وقائده، ”فسحقًا لكم يا عبيد الأمة“ أنتم اُشْتُرِيتُم بدراهم الأمويين ودنانيرهم، أنتم عبيد، ”لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرًا“.

ما معنى ”وشذّاذ الأحزاب“؟ لما صار فتح مكة انقسموا إلى قسمين: حزب النبي ، وحزب الطلقاء، الذي هو الحزب الأموي، الحزب الأموي كان يسمى بحزب الطلقاء، وحزب رسول الله كان معروفًا بأصحابه ومواليه، الإمام الحسين يريد أن يقول لهم: أنتم انضممتم إلى ذلك الحزب الشاذ، الحزب الذي كان يسمى حزب الطلقاء، أنتم الآن انضممتم إلى ذلك الحزب.

”ونبذة الكتاب“ لأن الكتاب يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، وأنتم نبذتم الكتاب. ”ومحرفي الكلم“، القرآن يأمركم بالأمر بالمعروف، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وأنتم حرّفتم المدلول القرآني، وقلتم: يجب علينا إطاعة ولي الأمر، ألا وهو يزيد بن معاوية، ونترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! ”ومطفئي السنن. ويحكم! أهؤلاء تعبدون؟!“، الآن الحسين يريد أن يبيّن أنهم ليسوا شيعته، لأن هذا غدر متأصل فيهم، ”ويحكم! أهؤلاء تعبدون وعنا تتخاذلون؟! أجل والله“ لو كنتم شيعة لما صنعتم هذا، ولكن أخذتكم أصولكم الأموية، ”أجل والله غدر فيكم قديم، وجشت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم بذلك أخبث ثمر شجًا للناظر وأكلة للغاصب“.

وطبعًا هذا ليس ذمًا لجميع أهل العراق، الكثير من الناس يقول: هذا ذم للعراقيين منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا! لا، العراق مهد الأئمة الأطهار، أغلب أنصار أهل البيت من العراق، أغلب علماء المذهب من العراق، العراق مهد المذهب الإمامي، حبيب بن مظاهر ورشيد الهجري وكميل بن زياد وميثم التمار وحجر بن عدي، هؤلاء كلهم عراقيون، من نصروا المذهب وحملوه على أعناقهم هم من العراق، وعلماء المذهب - العلامة الحلي، والمفيد، والمرتضى، والرضي، والحكيم، والصدر - كلهم من العراق، العراق مهد المذهب الإمامي، مهد هذه الحركة الشيعية من يوم علي إلى يومنا هذا، ولكنْ هذا ذمٌ لخصوص من قاتله، ولخصوص من واجهه.

المقطع الأخير: بيان النتيجة.

الحسين ذكر عدة مراحل في هذا الخطاب: المرحلة الأولى: إعلان الهدف، ”لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل“، المرحلة الثانية: فلسفة الهدف، لماذا أتبنى أنا هذا الهدف؟ ما هي الفلسفة؟ بيّنها في هذا المقطع: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة!“، السبب: ”يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“، هذا المقطع يتعرّض لفلسفة الهدف، لماذا يأبى الحسين الذلة؟! بيّن فلسفة ذلك: يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون. المرحلة الثالثة هي التصميم على تحقيق الهدف، أنا شرحت لكم هدفي، وشرحت لكم فلسفة هدفي، الآن أبيّن لكم تصميمي وإصراري على تحقيق الهدف، ”ألا وإني زاحف بهذه الأسرة، مع قلة العدد، وخذلان الناصر“.

المرحلة الرابعة: النتيجة ما هي؟ الهدف وفلسفته والتصميم على تحقيقه، والنتيجة هي المرحلة الرابعة، حيث أشار إليها بقوله: ”وأيم الله لا تلبثون بعدها“، هل تظنون أن الأوضاع سوف تستقر لكم؟! لا، لن تستقر الأوضاع بعدي أبدًا، إذا قُتِلَت ستنهدم الأوضاع يمينًا وشمالًا، لن يكون لكم قرار، ”وأيم الله، لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُرْكَب الفرس“، الإنسان إذا أراد أن يركب الفرس لا يحتاج إلى أكثر من دقيقة، أنتم سوف ترتاحون بهذا المقدار فقط، وبعدها سيأتي الطوفان، ”إلا كريثما يُرْكَب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور“ أي: ستخرج عليكم الثورات والانتفاضات من كل جانب ومن كل فج، ثورة التوابين، ثورة المختار، ثورة أهل المدينة، ثورة أهل اليمن، ثورة زيد بن علي، لن تستقروا أبدًا، ”عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، إن وليي الله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين“.

فإن نهزم فهزّامون قِدْمًا   وإن  نغلب فغير iiمغلبينا

هزيمتكم ليست غريبة علينا، نحن معروفون بالشجاعة، وإذا قتلتمونا فنحن معروفون بالشهادة أيضًا، فلسنا مغلبين بعد الحصول على الشهادة، بل نحن على كل حال معروفون بإحدى الحسنيين.

الإرادة الإنسانية بين عوامل الضعف والقوة
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ