نص الشريط
أسس البناء الإجتماعي في القرآن
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/1/1429 هـ
تعريف: الليلة (1) من شهر محرم الحرام لعام 1429هـ
مرات العرض: 2820
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2091)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث عن ثلاث محاور:

المحور الأول:

حول نشأة المجتمع الإنساني بنظر القرآن الكريم، ما هو المجتمع وكيف نشأ المجتمع، المجتمع هو كل مجموعة من الناس تعيش في بيئة معينة وتحكمها أعراف معينة فهي المجتمع، البدو في البادية مجتمع والناس في الريف مجتمع والناس في المدينة مجتمع.

الذي ركز عليه الباحثون هو كيف نشأ المجتمع أي كيف تحول الإنسان من وجود فرجي إلى كيان اجتماعي؟ كيف تحول آدم وحواء من فردين إلى خلية تبني الحياة الحضارة؟ ما هي الحاجة التي دفعت بالإنسان إلى أن يؤسس مجتمعاً، وللتوضيح نذكر تقسيم الحاجات، تنقسم الحاجات إلى ثلاث أقسام:

1/حاجة فطرية.

2/حاجة اضطرارية.

3/ وحاجة اختيارية.

الحاجة الفطرية كحاجة الإنسان إلى الغذاء فالإنسان ولد وهو يحتاج إلى الغذاء والغريزة تدفعه لتناول الغذاء. وهناك حاجة اضطرارية كحاجة الإنسان إلى الدواء فالدواء لا يعالج حالة فطرية بل يعالج حالة اضطرارية «طارئة» فالمرض حالة طارئة على حياة الإنسان فالدواء يعالج هذه الحالة. وهناك حاجة اختيارية يفرضها العقل بعد دراسة وتخطيط مثلاً حاجة الإنسان إلى أن يتزين، كما في الآية المباركة: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، الإنسان محتاج في هذا المجتمع إلى أن يجذب الآخرين إليه وأن يجذبه الآخرون إليهم، هو يجذب الآخرين إليه بالزينة ويجذبه الآخرون إليه بالزينة لذلك أمر تعالى بالتزين عند كل صلاة من أجل الجاذبية الاجتماعية، حاجة الإنسان إلى الزينة ليست حاجة فطرية وليست حاجة اضطرارية للإنسان، إذن حاجة الإنسان إلى الزينة حاجة اختيارية يعني أن العقل اخترعها، العقل بعد دراسة وتفكير اخترع هذه الحاجة وهي حاجة الإنسان إلى الزينة.

بعد أن عرفنا أن الحاجات ثلاث فطرية واضطرارية واختيارية، أي حاجة من هذه الأقسام الثلاثة دفعت الإنسان إلى أن يقيم مجتمعاً، فهل حاجة الإنسان إلى المجتمع هي حالة فطرية كحاجته للغذاء؟ أم هل حاجة الإنسان للمجتمع هي حاجة اضطرارية كحاجته للدواء؟ أم حاجة اختيارية كحاجته للزينة؟. بعض الباحثين كالسيد صاحب الميزان عليه الرحمة عندما ترجع إلى كتابه الميزان الجزء الثاني صفحة 117، صاحب الميزان يصور الحاجة إلى المجتمع بحاجة اضطرارية، فليس الإنسان اجتماعياً بفطرته وليست الحاجة إلى المجتمع حاجة عقلية، لا بل لحاجة اضطرارية. كيف؟ ولد الإنسان ومعه غريزة حب الذات، وغريزة حب الذات قادت الإنسان إلى غريزتين: غريزة جلب اللذة وغريزة دفع الألم. غريزة دفع الألم تفرض على الإنسان أن يقاتل الآخرين أن يقاوم الطبيعة، وأن يقاوم الحيوانات وأن يقاوم الإنسان الآخر حتى يعيش ولكي يحتفظ بحياته. وغريزة جلب اللذة فرضت على الإنسان أن يجلب الناس هذا يستخدم ليبني له بيتاً وهذا يستخدمه ليخيط له ثوباً وهذا يستخدمه ليخبز له خبزاً وكل إنسان يستخدمه لقضاء مآربه، إذن الإنسان من أجل تحقيق لذاته رغباته وطموحاته صار يستخدم الناس. لو خلي الإنسان وطبعه كما يقول صاحب الميزان فإنه سيكون إنساناً يقوم الآخرين حتى يحتفظ بحياته ويستخدم الآخرين حتى يحقق رغباته، لكن الإنسان درك أنه مضطر إلى عقد اتفاق مع الآخرين مثل الدولتان الجارتان المتحاربتان كالهند وباكستان بينهما حروب قديمة فتضطر الدولتان إلى أن تبرم عقد ميثاق يقضي بالصلح بينهما وتبرم اتفاقية أمنية بينهما لكي تعيش الدولتان بسلام وهذا العقد يكون عقداً اضطرارياً.

الإنسان والمجتمع هكذا، الإنسان أدرك كما أن له غريزة فإن للآخرين أيضاً، وكما أنه يريد استخدام الآخرين لتحقيق مآربه فإن الآخرين أيضاُ يريدون استخدامه لقضاء مآربهم إذن ما هو الحل؟ الحل هو أن يعقد اتفاقاً وميثاقاً مع الآخرين فاضطر الإنسان إلى عقد ميثاق مع الآخرين ومضمون هذا العقد هو انه مستَخدِم ومستَخدَم هو يستخدمهم وهم يستخدمونه ولذلك نشأ المجتمع. إذن حاجة الإنسان للمجتمع هي حاجة اضطرارية بنظر بعض الباحثين كالسيد صاحب الميزان وهي عبارة عن عقد ميثاق بين الإنسان وبين المجتمع على أنه مستخدِم ومستخدَم ويؤيد ذلك بأنه بعض الآيات القرآنية كالآية المباركة التي تقول: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا.

نحن عندما نلاحظ مجموعة الآيات نقول لا، حاجة الإنسان للمجتمع هي حاجة فطرية وليست حاجة اضطرارية، حاجة الإنسان للمجتمع كحاجته للغذاء وحاجته للهواء. أي أن الإنسان اجتماعي بفطرته وبطبعه وليست حاجة اضطرارية. لماذا؟ الإنسان يحتاج إلى المجتمع من خلال أمرين فطريين:

الفطري الأول: الحاجة إلى التعبير عن الذات والحاجة لتحصيل الأمن والحماية. بالنسبة إلى الحاجة عن التعبير عن الذات تجد أن كل إنسانه عنده مشاعر وعواطف وأفكار وطاقات مخبوءة وقدرات مكبوتة فهذا الإنسان يمتلك طاقة في الفن وهذا الإنسان يمتلك طاقة في الرياضة وهذا الإنسان يمتلك طاقة أدبية وهذا الإنسان عنده طاقة علمية. كل إنسان يمتلك مشاعر وعواطف وطاقات، فكيف يعبر عن هذه الأفكار الطاقات والعواطف؟ حاجة الإنسان للتعبير عن قدراته وأفكاره وطاقاته ومشاعره دعته لكي أن يؤسس مجتمع، قادت الإنسان إلى أن يؤسس المجتمع حاجة فطرية لكي يعبر عن ذاته ويظهر طاقاته الكامنة ويظهر أفكاره ومشاعره، وهذا التعبير لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان هناك مجتمع يستقبله ويستقبل طاقاته ويستقبل أفكاره يعينه على إظهار قدراته وذاته. فحاجة الإنسان للمجتمع تكمن هنا في حاجته إلى التعبير عن الذات، إذن حاجة الإنسان إلى المجتمع حاجة فطرية وليست حاجة اضطرارية وهذا هو الأمر الفطري الأول.

الأمر الفطر الثاني: حاجة الإنسان إلى الأمن فالإنسان يولد ومعه عقدة الخوف قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً»، يولد وهو خائف من كوارث الطبيعة، وخائف من الأمراض وخائف من فتك الإنسان الآخر. فكيف يحصل على الأمن؟ وكيف يشعر الإنسان بأنه آمن مطمئن؟ الشعور بالأمن والاطمئنان لا يتولد إلا إذا انتمى الإنسان إلى المجتمع كالقبيلة ينتمي إليها أو أسرة يرتبط بها أو هناك شعب يرتبط به، إذن انتماء الإنسان إلى القبيلة أو الأسرة أو الشعب هو الذي يعطيه الشعور بالأمن والاطمئنان وهذه الحاجة الفطرية لا تتحقق إلا إذا انتمى الإنسان إلى المجتمع ولذلك أنت تقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواوهذا يبين أنه جعل إلهي، كما أن تنوع الإنسان إلى ذكر وأنثى مسألة فطرية فقد خلق الإنسان وهو يميل إلى الأنثى ميول فطري، وكما أن الإنسان خلق وهو يميل إلى الجنس الآخر، كذلك الإنسان خلق وهو يميل إلى القبيلة ميولاً فطرياٌ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ يعني خلقناكم وخلقنا فيكم الميل الفطري الطبيعي الميل إلى الانتماء إلى القبيلة، الميل إلى الانتماء إلى الأسرة الميل إلى الانتماء إلى الشعب، لأن الميل إلى الانتماء يعطي الشعور بالاطمئنان والأمن والحماية ويغذي حاجة فطرية قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.

إذن بالنتيجة: حاجة الإنسان إلى المجتمع هي حاجة فطرية وليست اضطرارية... نعم الالتزام بالعدالة الاجتماعية ليست حاجة فطرية فالإنسان إذا كان متوازناً عاقلاً يلتزم بالعدالة الاجتماعية ويعطي كل ذي حق حقه، أما إذا أدرك أنه قوي ولا يحتاج إلى الناس فإنه يخرج عن إطار العدالة الاجتماعية ويبطش ويظلم لأنه يشعر بأنه قوي ولا أحد يراقبه أو يحاسبه، فإنه إذا شعر بالقوة وبالغنى فسيطغى ويتجاوز قانون العدالة قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى إذا شعر بالغنى والقوة اعتدى على حقوق الآخرين وظلم العباد وهذا لا يعني أن حاجته للمجتمع ليست حاجة فطرية، لا بل هو يحتاج إلى المجتمع حاجة فطرية لكنه قد يخرج عن قانون العدالة نتيجة لطغيان الشهوة والأنفة والعصبية في ذات الإنسان.

المحور الثاني:

الآية المباركة ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ، هنا سؤالان يتبادران إلى ذهن الإنسان:

السؤال الأول: كيف كان الناس أمة واحدة واختلفوا؟ ما الذي بذر بذرة الاختلاف بين الناس؟ فالقرآن يقول «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً» وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ فما الذي أجج شرارة الاختلاف بين الناس؟

السؤال الثاني: ما علاج الدين في علاج هذا الاختلاف؟ القرآن الكريم يقول: ﴿اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ كلا هذان السؤالان تجيب عنهم الآية المباركة.

نأتي للسؤال الأول: القرآن يطلق كلمة أمة على عدة معاني فالقرآن مثلاً يطلق الأمة على شخص واحد قالت تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ فكيف كان إبراهيم أمة وهو إنسان واحد، هؤلاء المصلحون الذين لا يفكرون إلا بالمجتمع يعتبرهم القرآن مجتمعاً، كل المصلحين وقادة المسيرة الإنسانية من أنبياء ورسل من أئمة ومن علماء من قادة المجتمعات أمة بحد ذاته، لماذا؟

لأن هذا القائد لا يفكر بهمومه الخاصة، لا يفكر بهمومه الفردية، هذا القائد لا يفكر في بطنه أو جيبه أو نومه. القائد الاجتماعي هو القائد الذي لا يعيش إلا الهموم الاجتماعية، لا يفكر غلا في قضايا أمته وقضايا شعبه، لأن هذا القائد لا يعيش إلا الهموم الاجتماعية تراه يقطع كل وقته في التنظير لإنقاذ المجتمع وفي التفكير في إعلاء كيان المجتمع لذلك هذا القائد مجتمع برأسه﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةًيعني كان قائد اجتماعي لا يفكر إلا في المجتمع، إذن الأمة تطلق على المفرد. وتطلق على الزمن، القرآن الكريم يقول: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ الأمة: يعني الفترة وتطلق كلمة الأمة على الدين.

مثلاً: قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأمة: هنا بمعنى الدين، يعني كما ربكم واحد فدينكم واحد. وأحياناً يطلق الأمة: بمعنى المجتمع﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني مجتمع واحد. إذا كان مجتمعاً واحداً فلماذا اختلف؟ التوضيح: أنت تتابع الأخبار السياسية فيقال لك مثلاً الحكومة اللبنانية حكومة توافقية يعني حكومة لا تأتي على ضوء قانون بل تأتي على ضوء تصالح والتوافق، وتسمع مثلاً الحكومة العراقية حكومة توافقية يعني ليس بالقانون. فما معنى هذا الكلام، المجتمع مختلف من أول يوم ولا يوجد مجتمع بدون اختلاف. المجتمع يعني الاختلاف، لم إذا؟

لأن المجتمع متفاوت في طاقاته هناك قوي وضعيف، هناك غني وفقير هناك عالم وجاهل، هناك ذكي وغبي وهكذا، تفاوت المجتمع في الطاقات يولد الاختلاف، اختلاف المجتمع في طاقاته سبب للاختلاف في حدود صلاحياته. عندنا رئيس وعندنا شعب فما هي حدود صلاحيات الرئيس - نختلف فيها - وما هي واجبات الشعب - نختلف فيها -. هناك مالك وهناك عامل فما هي حدود صلاحيات العامل - نختلف فيها - وما هي حدود صلاحيات المالك - نختلف فيها -، هناك وسائل إنتاج ووسائل توزيع فما هي حدود وسائل الإنتاج وما هي حدود وسائل التوزيع، وهذه كلها موارد اختلاف. مادمنا نختلف في الطاقات فنحن نختلف في المعايير وفي المقاييس.

المجتمع اختلف من أول يوم، من يوم آدم وحواء والمجتمع اختلف في الحدود وفي الحقوق وفي الصلاحيات. إذا اختلف المجتمع في الحدود والصلاحيات فكيف يرفع هذا الاختلاف؟ هناك طريقتان لرفع هذا الاختلاف: طريقة توافقية وطريقة قانونية. أول ما توصل إليه المجتمع البشري أن يقضي على الاختلاف بواسطة الطريقة التوافقية يعني مادام أننا عائشون فلنتصالح وكل واحد يتنازل عن شيء من حقوقه حتى نتصالح ونتوافق وحتى نؤسس مجتمعاً وحكومة وحتى نؤسس بلاداً. المجتمع قبل بعثة الأنبياء كان مجتمعاً توافقياً أي كان يحل خلافاته بطريقة بسيطة بطريقة توافقية وهذا معنى «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً» وليس معنى واحدة أي أنهم لم يختلفوا، لا بل كانوا يختلفون، لكنهم كانوا يرفعون اختلافاتهم بطريقة توافقية وبطريقة صلح وتنازل إلى أن جاء دور الأنبياء قال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ فصار الحل بيد الأنبياء وليس الطريقة التوافقية بل الطريقة القانونية، الآن القانون هو الذي يحكم في الاختلاف وليس التوافق.

فالأنبياء لم يقضوا على الاختلاف بل أتوا بطريق يرفع الاختلاف ألا وهو الطريق القانوني، ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أي يرفعون اختلافاتهم بالتوافق ثم جاء الأنبياء فقالوا لهم أن الطريقة التوافقية تفشل بعد فترة. فالطريقة التوافقية لا تصمد، الطريقة التوافقية لا تبقى، الطريقة التوافقية مهددة بالفشل ومهددة بالانهيار لذلك الأنبياء قالوا لا يمكن رفع الاختلاف بين الناس إلا بالطريقة القانونية. عندنا قانون يقول حدود صلاحيات الرئيس كذا وحدود صلاحيات الشعب كذا، حدود الثروة كذا، حدود وسائل الإنتاج كذا، حدود وسائل التوزيع كذا. هناك قانون نزل من السماء يحدد الحقوق ويحدد الصلاحيات فيرفع الاختلافات رفعاً قانونياً لا رفعاً توافقياً وهذا دور الدين في رفع الاختلاف.

المحور الثالث:

نحن عندما نقوم بمقارنة بين الأمة الإسلامية - لا أقصد المسلمين - فهناك فرق بين الأمة الإسلامية وبين المسلمون فالمسلمون هم من يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله أما الأمة الإسلامية فهي الأمة التي تعيش مبادئ الإسلام وقيم الإسلام. نحن عندما نقارن بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى، نجد أن الأخلاق موجودة في كل الأمم وليس الأمة الإسلامية فقط، الأمم الغربية عندها قيم وأخلاق، الأمم الشرقية عندها قيم وأخلاق.

الأمم التي لا تدين بالدين الإسلامي لديها قيم وأخلاق، وحتى الأمم التي لا تدين بدين سماوي كالأمم الوثنية والبوذية فهي عندها قيم وأخلاق. عندما تلاحظ المجتمع الأمريكي تجده يساعد الفقراء، أكثر من ثمانمائة ألف جمعية خيرية في أمريكا فلا تتصور أنك فقط لديك جمعيات خيرية، فهي موجودة حتى في الأمم التي لا تدين بدين الإسلام عندها قيم كقيم مساعدة الضعيف وقيم مساعدة الفقير وقيم مساعدة المحتاج، تمتلك هذه القيم وهذه الأخلاق. ولهذا تلاحظ أن أي كارثة تحدث في العالم ترى هذه الشعوب تظهر في مسيرات وتتعاطف مع الكوارث وتندد بأسباب الكارثة.

إذن هناك قيم وهناك مُثل إنسانية تعيشها جميع الديانات وتعيشها جميع الأمم وجميع الشعوب، إذن ما هي مميزات الأمة الإسلامية وماذا أضاف الدين الإسلامي إذا كان جميع الشعوب لديها قيم وكل الشعوب لديها مثلاً وأخلاقاً؟ وما الجديد الذي أتى به الدين بالنسبة إلى الأمم؟ الذي أضافه الدين ولم يوجد في أدبيات الملل الأخرى وفي أدبيات الأمم الأخرى ألا وهو روح الإيثار والتضحية، وهذه قيمة إنسانية اجتماعية لا تجد لها أدبيات في الملل الأخرى وفي الملل الأخرى. التوضيح، مثلاً روح الإيثار، فكل شعب وكل ملة يقول لك أي شيء يكون عندك ويكون زائداً عن حاجتك من طعام وأموال تبرع به للمحتاج وللمسكين، كن متضامناً مع المساكين، كن متضامناً مع الأمم المضطهدة المحرومة والمحتاجه.

هذا يؤمن به كل دين، لكن هل يقول لك الدين قوت يومك تتبرع به إلى غيرك وتبقى من غير قوت، فهذه مسألة أعمق من مساعدة الفقير والمحتاج، هناك خلق أعمق من خلق المساعدة. فهناك إحسان وهناك إيثار والإيثار أعظم من الإحسان. جميع الملل وجميع الشعوب تدعوا للإحسان وذلك بالترع للمحتاجين وهذا إحسان. ولكن الدين الإسلامي دين السماء يركز على قيمة أدق وأعمق فيقول لك: أنا لا أطلب منك فقط الإحسان، أنا أطلب منك درجة أعمق من الإحسان، أطلب منك قيمة ومرتبة من الخلق أعمق من الإحسان وهي مرتبة الإيثار قال تعالى: ﴿َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ إذن هناك مرتبة أعلى﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فما معنى الأخوة، الأخوة لا تقتضي فقط الإحسان فهذا للأخ ولغير الأخ، فإذا كان أخوك معك فهل تتعامل معه بالإحسان فقط أم تتعامل معه بدرجة أكبر من الإنسان؟ طبعاً تتعامل معه بدرجة أكبر من الإحسان.

هذا المجتمع تحكمه الأخوة والأخوة لا تكتفي بالإحسان، الأخوة تقتضي درجة أعلى من الإحسان وهي درجة الإيثار. الذي يؤثر غيره على نفسه يتبرع بقوت يومه ويبيت جائعاً ويتبرع بماله ويبيت محروماُ ويتبرع ببعض أعضاءه ويعيش مريضاً ليعيش غيره سليماً، هذا هو الإيثار وهو قيمة خلقية ركز عليها الدين السماوي ولم تركز عليها الملل الأخرى ولم تركز عليها التجارب الأخرى. مسألة الإيثار وقيمة الإيثار التي أضافها الدين إلى عالم القيم الاجتماعية وإلى عالم المثل الاجتماعية. تأتي إلى القرآن الكريم فتجد كيف يمجد المؤثرين قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً.

علي وفاطمة وحسن وحسين، مدرسة الإيثار، أعلى مراتب القيم الاجتماعية يمارسها هؤلاء كمدرسة وكخط، خط الإيثار وهذه القيمة الاجتماعية - قيمة الإيثار - التي أضافها الإسلام إلى الملل الأخرى تبتني على مبدأ وهو مبدأ الإيمان بالمعاد وهو مبدأ الإيمان بالعوض الأخروي، يعني أن إيثارك لن يذهب سدى. إيثارك سيتحول إلى حياة أخرى، إلى حياة سرمدية سعيدة رغيدة هانئة، وهذا الإيثار لن يضيع وسيتحول إلى حياة تنتظرك وتشتاق إليك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لأن الدين السماوي يطرح مبدأ المعاد ومبدأ التعويض، لذلك يطرح مبدأ الإيثار وقيمة الإيثار، وهذه هي القيمة الأولى.

المورد الثاني قيمة التضحية: تلاحظ عند علماء الاجتماع الجندي عندما يخرج ويقاتل، مثلاً الجندي الأمريكي عندما يقاتل دون أمريكا أو مثلاً جندي روسي يقاتل دون روسيا، ما الذي يدفع هذا الجندي للتضحية بنفسه؟ ما هو الحافز الذي يحفز بهذا الجندي لأن يضحي بنفسه؟ يقولون في البحوث أنه ليس هناك سوى محفز واحد وهو محفز المد الإعلامي أي عندما يقتل هذا الجندي يكتب اسمه من الشهداء ومن المضحين ويصبح له إعلام، ويجعل له شعار أو رمز أو تمثال، إذن المحفز والدافع الذي يدفع بالجندي لأن يقاتل دون بلده ودون وطنه هو المجد الإعلامي الذي سيناله بعد مقتله. لكن الباحثين يقولون بأن هذا المحفز غير كافي، هناك الكثير من الجنود يتخلفون عن المعركة وهناك جنود يصابون بالإحباط أو التخاذل ويتراجعون، إذن هذا المحفز وهو المجد الإعلامي ليس محفزاً كافياً للقتال دون الوطن وليس محفزاً كافياً إلى الجهاد دون الوطن.

ما هو المحفز الصحيح؟ وما هو المحفز المضمون؟ المحفز المضمون هو الإيمان بالآخرة قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فهذا هو المحفز المضمون وليس هناك محفز غيره، ما لم يؤمن هذا الجندي بوجود آخرة، ما لم يؤمن هذا الجندي بأن جهاده سيعوض، وما لم يؤمن بأن قتاله وشهادته ستتحول إلى حياة أخرى، إذن نحن لا نضمن استمراره في القتال، لا نضمن صمود إرادته، لا نضمن صلابة موقفه. لذلك جميع الشعوب وجميع الديانات تحتاج إلى الأطروحة الإسلامية أن هناك معاد وهناك حياة أخروية وهناك تعويضاً لأن الإيمان بالمعد هو المحفز وهو الدافع نحو التضحية.

إذن إذا تسأل ماذا أضاف الدين للقيم الاجتماعية؟ الذي أضافه الدين للقيم الاجتماعية أضاف قيمة التضحية لأنه أعطى للتضحية بعداً أخروياً، أعطى للتضحية دافعاً داخلياً، أعطى للتضحية محفزاً داخلياً. لذلك أضاف قيمة التضحية كما أضاف قيمة الإيثار. لذلك نحن يا إخوان إذا رأينا واقعنا ونرى هذا الدين العظيم الذي يركز على الإيثار وعلى التضحية تجد أن واقعنا مفلس.

واقعنا مع الأسف مفلس من قيم الإيثار والتضحية، واقعنا مع الأسف هو واقع الأمم الجاهلية التي لا تعيش القيم الاجتماعية التي أضافها الإسلام. نحن من نرى أحدهم حصل على وظيفة في شركة مرموقة، هل يساعد إخوانه؟ هل يفكر في إخوانه الذي لا يحصلون على وظيفة في أن يوطد لهم ويساعدهم ويقضي حوائجهم! لا، إذا حصل على الوظيفة لا يفكر إلا في جيبه وفي بطنه وفي أن يبقى في مركزه ومنصبه، لا يفكر في قضاء حوائج إخوانه.

لذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين «من قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى الله حاجته ونودي من بطنان العرش علي ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة» قضاء حاجة المؤمن مصيرها الجنة، بشكل واضح. نحن أنانيون، نحن مصلحيون، نحن برجماتيون لا نفكر إلا في مراكزنا وفي مصالحنا، نعرف أن إخواننا يحتاجون إلى وظائف ومساعدات وقضاء حوائج لكننا لا نفكر إلا في أنفسنا وفي مصالحنا. إذن نحن بعيدون عن القيم الاجتماعية التي ركز عليها الإسلام، قيمة الإيثار وقيمة التضحية.

إذا أردنا أن نتعلم هاتين القيمتين قيمة الإيثار وقيمة التضحية: فلنقرأ مدرسة كربلاء ترى الإيثار وترى التضحية، هذا الشخص لا يشرب الماء مع أنه محتاج للماء، ينزل للماء ويشعر ببرودة الماء فيتذكر عطش أخيه، فيؤثر أخاه على نفسه «يا نفس من بعد الحسين هوني، وبعده لا كنت أو تكوني، هذا حسين وارد المنون وتشربين بارد المعين، تالله ما هذي فعال دين ولا فعال صادق اليقين» هذه روح الإيثار. وهناك روح التضحية التي جعلت هؤلاء يتسابقون نحو المعركة ونحو الموت «بني ما طعم الموت عندك، قال " طعم الموت عندي أحلى من العسل إذا كان بين يديك يا أبا عبد الله» إذن هذه مدرسة للتضحية ومدرسة للإيثار ومدرسة للعطاء وهذه المدرسة التي نكررها كل سنة أيام عاشوراء. نحن نكرر الذكرى لماذا؟ فلنستفيد من هذه المدرسة، لنستفيد من شعاع هذه المدرسة ولنقرأ من الصفحات المشرقة في هذه المدرسة «في كل عام لنا بالعشر واعية - تتطبق الدور والأرجاء والصككا»

هوية الإنسان في القرآن