نص الشريط
في رحاب مناجاة الشاكين جـ4
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 5/9/1430 هـ
تعريف: 5/9/1430
مرات العرض: 2993
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1119)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

”اللهم إني أشكو إليك نفسًا بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة وإلى سخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة“

هذه النفس الغريبة في أطوارها والمتقلبة في حالاتها، هذه النفس يصفها الإمام حيث يقول بأنها كثيرة العلل طويلة الأمل، أي أن هناك مسبب وسبب، لماذا نفسي كثيرة العلل؟ لأنها طويلة الأمل، فطول الأمل أصبح سببًا لكثرة العلل، وكثرة العلل يعني كثرة التعلل، فإنها تخترع لنفسها العلل المختلفة والذرائع والأسباب في سبيل أن تبتعد عن الطاعة وفي سبيل أن تفعل المعصية.

هذه النفس غريبة في اختراع الأسباب وفي اختراع الذرائع والعلل، إذا جاء الليل وأردت أن أصلي صلاة الليل أو أردت أن أفتح كتابًا من كتب الأدعية جاءتني نفسي ووضعت العلل المختلفة أمامي، تارة تقول بأني متعب منهك لا أستطيع أن أصلي صلاة الليل، لا أستطيع أن أقرأ الدعاء لأنني متعب منهك، وفي ليلة أخرى أريد أن أصلي فتأتي علة أخرى وأقول بأن الوقت ضيق ولا يسمح لي بأن أصلي أو أقرأ الدعاء، وأجيء في ليلة الثالثة وتأتي علة ثالثة بأنك مشغول بمذاكرة دروسك، بمذاكرة أمورك، إذًا كلما عزمت على الطاعة وقفت نفسي أمامي ووضعت أمامي العلل والأسباب والذرائع حتى أتراجع عن الطاعة.

وإذا فعلت المعصية وضعت لي مبررات حتى لا ألوم نفسي وحتى لا أندم على المعصية إذا ارتكبت معصية أو خطأ وأردت أن ألوم نفسي أو أوبخها «لماذا ارتبكت هذه المعصية؟ لماذا استمعت مثلا إلى هذه الأغنية؟ لماذا دخلت في هذه العلاقة غير المشروعة؟» هنا تضع نفسي مبررات «أنت لست الوحيد الذي يعصي الله، كثيرون يعصون الله.. هذه معصيتك صغيرة تغتفر.. أنت الدرب أمامك يمكنك أن تتوب بعد أيام.. أنت الآن استغل الوقت في المعصية وفي لذة المعصية وأمامك فرصة للتوبة وأمامك فرصة للإنابة» وهكذا النفس تحاول أن تخترع العلل والذرائع المختلفة من أجل أن أتراجع عن الطاعة ومن أجل ألا أندم ولا أتأسف على المعصية.

”كثيرة العلل“ والسبب في أنها كثيرة العلل أنها طويلة الأمل، النفس عندها قدرة غريبة كما أنها تزين المعاصي أمامي، تزين لي المعاصي، تعطيني لذة في المعاصي، تقول بأن العلاقة غير المشروعة مع الفتاة الأجنبية تخفف عنك الآلام، تبهج نفسك، تعطيك حيوية ونشاطًا، استماع الأغنية المطربة يبعث فيك النشوة والطرب ويبعث فيك ذوق الحياة، كما أنها تزين لي المعاصي حتى أسترسل إليها فإنها أيضًا تطول لي الآمال وتفتح لي أبوابها، تقول «ما زلت صغير في السن.. ما زلت شابًا.. لا، الموت بعيد.. الآخرة بعيدة.. الدنيا مستمرة بالنسبة إليك» مع أني أرى من الحوادث وأرى من الموتى وأرى من الفجائع والمصائب التي تمر بي ومع ذلك تعطيني النفس أملاً في الحياة.

عجيب نحن في التعلق بالدنيا وعجيبة أنفسنا في الإصرار على فتح باب الأمل، لاحظوا أننا نشيع الموتى، نشيع أعز الناس عندنا إلى قبره ونعيش أيامًا في ذكرى ميت عزيز علينا، ومع ذلك بمجرد أن تمر سويعات على تذكر الموت، بمجرد أن تمر سويعات على مشاهدة القبر والموت ترجع أنفسنا بكل قوة وقدرة وتفتح لنا باب الأمل من جديد، وتقول لنا: العمر باقي، صحيح هؤلاء ماتوا لكنك باقي، لن تموت غدًا أو بعد شهر أو بعد سنة أو بعد سنتين، أنت ما زلت في غمار الحياة، فلأجل أنها طويلة الأمل قادرة على أن تفتح أبواب الأمل للإنسان لذلك تكثر ذرائعها وأسبابها.

”كثيرة العلل طويلة الأمل إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع“ كما ذكر القرآن الكريم: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا «20» وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ما هو السبب في ذلك؟ السبب في ذلك الحرص على الدنيا، إذا صار الإنسان حريص على الحياة، حريص على المادة فبالطبيعي أن يجزع عند الشر ويمنع عند الخير، القرآن الكريم يقول: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ إذا أصابنا المرض توسلنا إلى الله ادفع عنا البلاء، وأصبحنا نتوسل ونبتهل وندعو، وأما بمجرد أن نعطى الصحة ونعطى العافية ونعطى القوة والنشاط نعود إلى المعصية مرة أخرى ونعود إلى الخطيئة مرة أخرى.

وورد في الحديث: ”عبدي تعرف إلي في الرخاء أعرفك في الشدة“ إذا وجدتك أيام الرخاء وأيام العافية وأيام الصحة تصلي النافلة وتدعو وتقرأ القرآن، إذا أصابتك الشدة فأنا أبدؤك قبل أن تبدأني، وأنا أحن عليك وأرحمك قبل أن تسألني وتدعوني، أما نحن فأيام الرخاء لا دعاء ولا نافلة ولا قراءة قرآن، فإذا جاءت الشدة والبلاء رفعنا أيدينا بالدعاء، وقالت الملائكة هذا صوت نشاز لم نسمعه من قبل، صوت جديد الآن جاء إلى دعاء ربه.

”إذا مسها الشر تجزع“ لأنها حريصة على الحياة تخاف أن تذهب الحياة منها، بمجرد أن يصيبنا المرض نجزع نولول، لماذا؟ لأننا نخاف أن نموت، نخاف أن يفوتنا ركب الحياة، نخاف أن نخسر اللذة، لذة المعصية، لذة الدنيا، لذة المادة، لذة الأموال، نخاف أن نخسر اللذة لذلك نجزع بمجرد أن يصيبنا مرض بسيط، نجزع ونهول ونخاف، لأننا حريصون على الدنيا لذلك إذا مسنا الشر نجزع خوفًا من مفارقة الدنيا.

”وإذا مسها الخير تمنع“ تمنع يعني ماذا؟ ليس المقصود بالمنع هنا البخل، لا، تمنع يعني تمنع إخراج الحقوق الشرعية من مخارجها، بيده الخير لكنه لا يخرج الحقوق، بيده الخير لكنه لا يتصدق على الفقراء، بيده الخير لكنه لا يساعد الأيتام، ”وإن مسها الخير تمنع“ يعني تمنع الحق، تمنع العطاء كما في الآية الأخرى: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ «6» وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ يمنعون الماعون يعني يمنعون العطاء عن الفقراء والمحتاجين والأيتام لأجل التشبث بالدنيا، ورد في الحديث: ”مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفًا كان أبعد لها من الخروج“ ”إن مسها الخير تجزع وإن مسها الخير تمنع“ لأجل حرصها على الدنيا وتعلقها بالدنيا.

”ميالة إلى اللعب واللهو مملوءة بالغفلة والسهو“ ميالة إلى اللعب واللهو يعني ميالة إلى الدنيا، الدنيا ما هي؟ لعب ولهو، فاللعب واللهو كناية عن الدنيا ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ هذه هي الحياة الدنيا ميالة إلى اللعب واللهو يعني ميالة إلى الدنيا، متشبثة بالدنيا، متعلقة بالدنيا.

وهناك فرق بين اللعب وبين اللهو، ﴿إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ اللعب دور الأطفال الصغار، أجواء الأطفال الصغار هي أجواء اللعب، اللعب هو عبارة عن القيام بأعمال غير عقلائية، إذا قام الإنسان بعمل غير عقلائي يقال يلعب، فاللعب عبارة عن العمل غير العقلائي، النفس تهوى الأعمال غير العقلائية لأن الأعمال العقلائية تحتاج إلى عقل، تحتاج إلى تفكير، تحتاج إلى تخطيط، والنفس تهرب حتى من التفكير، النفس لقلة حيائها وصغرها وحقارتها تريد أن ترتاح حتى من التفكير، تريد أن ترتاح حتى من التخطيط، تريد أن ترتاح حتى من التأمل والتدبر، تريد أن تكون فارغة.

ولذلك الشاب الفارغ مبغوض عند الله، الشاب الذي يقضي وقته في الفراغ، في النوم، في مشاهدة التلفاز في الجلسات التافهة هذا شاب فارغ ”إن الله يبغض الشاب الفارغ النوام“ كما ورد في الحديث، والفراغ سبب للمفسدة، وورد في الحديث عن الإمام علي : ”ما فرغ العبد ساعة من يومه قط إلا كانت فرغته حسرة عليه يوم القيامة“ الوقت اللي يقضيه في الفراغ من دون عمل من دون نتاج يتحسر عليه يوم القيامة، أنا كنت محتاج إلى هذه الدقائق، هذه الدقائق هذه الساعات التي قضيتها في الفراغ الآن صرت محتاجًا إليها، نظير إنسان قبل أن يسافر بعض الأموال يفرط بها يبذرها وعندما يسافر يدرك أنه كان محتاج إلى هذه الأموال، يقول: لماذا بذرت تلك الأموال وأنا أحتاج إليها حاجة شديدة في سفري؟ لماذا؟ ”ما فرغ العبد ساعة قط إلا كانت فرغته حسرة عليه يوم القيامة“ فإذا قضاء الوقت في الفراغ لعب، والنفس ميالة إلى الراحة والكسل والنوم والمرح.

”ميالة إلى اللعب واللهو“ أما اللهو فهو الانشغال بالأمور الثانوية عن لأمور الأولية، يشغل نفسه بما هو ليس أساسي عما هو أساسي هذا يعبر عنه باللهو، أيهما أحب إلى الله أن نقضي هذا الوقت بعد صلاة الفجر لمدة نصف ساعة أن نقضيه في الموعظة، في قراءة القرآن، أن نقضيه في الدعاء أم نقضيه على الكورنيش مثلا نجلس في القضايا والقصص التافهة التي لا جدوى فيها؟ أيهما أقرب إلى أنفسنا وأيهما أقرب إلى الله؟ من الطبيعي جلوسنا في المسجد أقرب إلى الله ولكن جلوسنا مع الأصدقاء وأمام التلفاز أقرب إلى أنفسنا، فأنفسنا ميالة إلى اللهو وليست ميالة إلى العلاقة، إلى القرب من الله عز وجل.

إذًا أنا أحتاج إلى النافلة، أنا أحتاج إلى النور، يا إخواني نحن نسير في درب مظلم، كل إنسان يسير في الفراغ فهو يسير في درب مظلم، نحن نسير في درب مظلم لأن أوقاتنا فارغة لا دعاء لا نافلة لا قرآن، دروبنا مظلمة موحشة والنهاية؟ ومنتهى الدرب المظلم الوقوع في القبر المظلم، الدرب المظلم يسير بنا نحو القبر المظلم، لذلك نحن نحتاج إلى إنارة، نحن نحتاج إلى إضاءة لكي نعرف مسيرنا ودربنا، وهذه الإنارة وهذه الإضاءة بالنافلة، ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا نحن نحتاج إلى النور والنور بالنافلة، النور بصلاة الليل، النور بالدعاء النور بقراءة القرآن، نحن نحتاج إلى النور.

”ميالة إلى اللعب واللهو“ جاء رجل سأل الإمام الصادق قال: إني أحب الغناء، إني أحب أن أستمع إلى الغناء، قال له: إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ لو قال لك الله يوم القيامة هناك حق وهناك باطل ضع الغناء في خانة منهما تضعه أين؟ تضعه مع الحق، تقول هذا حق أم لا تقول هذا باطل، حق يعني ما ينفع باطل يعني ما لا ينفع ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴿لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، قال إذًا وما لك والباطل.

ورجل آخر يقول: سيدي إني أستمع إلى المغنيات في بيت جارنا وربما أطلت الجلوس في الخلاء لأستمع إليهن، قال: ما أسوأ حالك لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة.

شنوا تعتذر إلى الله؟ لو جاءنا الموت الذي لا يستثني شاب صغير كبير والموت له أسباب عديدة، إذا جاءنا الموت ونحن مازلنا مصرين على المعصية، مازلنا مصرين على الذنب، لو فاجأنا الموت ونحن مصرون على الذنب والرذيلة لم نتب لم نستغفر لم نتراجع بأي عذر نعتذر وبأي كلمة نقولها؟

إذًا ”ميالة إلى اللعب واللهو مملوءة بالغفلة والسهو“ هذا مرض هم آخر، مرض ميلها إلى اللعب واللهو، ومرض آخر مملوءة بالغفلة والسهو، مرض الغفلة مرض خطير.

الإمام علي وقف في الكوفة على السوق وشاف الناس في السوق هذا يبيع وهذا يشتري وهذا يحلف وهذا يعرض بضاعته وهذا يسوق بضاعته «تسويق سوق» وقف وبكى وقال: يا عباد الله إذا كنتم بالليل تنامون وبالنهار تحلفون وما بين ذلك أنتم غافلون فمتى تهيئون الزاد وتستعدون إلى المعاد.

متى؟ إذا أنا في الليل مشغول بجلساتي، بطلعاتي، بمسلسلاتي، بمشاهداتي، وأنا بالنهار مشغول بالنوم والكسل، فمتى تهيئون الزاد وتعدون للمعاد؟ متى؟ هذا هو الغفلة، الغفلة قضاء الأوقات يومًا بعد يوم من دون استيقاظ، من دون استيقاظ إلى التوبة، التوبة يقظة، التوبة انتباهة، تمضي الأيام والسنون وأنا أقول إن شاء الله أتغير، إن شاء الله أتبدل، الشهر الآتي أصير أحسن إن شاء الله، الأسبوع الآتي تصبح أموري أحسن إن شاء الله، إن شاء الله من يجي شهر رمضان رايح أتفرغ للعبادة ويجي شهر رمضان ويتعدا وهكذا كلما مر علي زمن سوفت ووضعت الآمال إلى أن تمضي الأيام، وأنا مملوء بالغفلة والسهو ”ميالة إلى اللعب واللهو ومملوءة بالغفلة والسهو“.

اللهم نبهنا من نومة الغافلين، اللهم نبهنا من نومة الغافلين، اللهم واجعلنا لك من الذاكرين، اللهم واجعلنا ممن استفاد من وقته، واجعلنا ممن اغتنم عمره، واجعلنا ممن انتبه من رقدته ونومه، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، وارحم أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات وإلى أرواح أموت الجميع بلغ ثواب الفاتحة تسبقها الصلوات.

اللهم صل على محمد وآل محمد

في رحاب مناجاة الشاكين جـ3
في رحاب مناجاة الشاكين جـ1