نص الشريط
في رحاب مناجاة الشاكين جـ7
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 10/9/1430 هـ
مرات العرض: 3481
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (911)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

”إلهي إليك أشكو قلبًا قاسيًا مع الوسواس متقلبًا وبالرين والطبع متلبسًا وعينًا عن البكاء من خوفك جامدة وإلى ما يسرها طامحة“

هذه الكلمات الصادرة عن الإمام زين العابدين في مناجاة الشاكين تتحدث عن قوس النزول، فالنفس في ارتباطها بالله تبارك وتعالى بين قوسين:

1/ قوس النزول.

2/ وقوس الصعود.

قوس النزول له مراحل وخطوات يتنزل العبد من خطوة إلى أخرى إلى أن ينزل في حفرته، وقوس الصعود هو عبارة عن الترقي في القرب من الله إلى أن يصل إلى درجة النورانية، فالكلام من قبل الإمام زين العابدين في قوس النزول.

إذا أصر الإنسان على الذنب وهو ملتفت إلى أنه ذنب وخطيئة ومع ذلك أصر عليه وتعمد قلة الحياء وتعمد الجرأة على الله فإن الإنسان يبدأ ينزل خطوة خطوة: الدرجة الأولى قسوة القلب، والدرجة الثانية الشك، والدرجة الثالثة الظلمة، والدرجة الرابعة البعد عن التوبة، والدرجة الخامسة التعلق بالدنيا، فهذه درجات قوس النزول.

الأولى: القسوة، ”إليك أشكو قلبًا قاسيًا“ وقسوة القلب عبارة عن عدم الالتذاذ وعدم التذوق للعبادة، يشعر أن العبادة عمل روتيني لا طعم له ولا أثر له على النفس ولا على القلب، ويشعر أن العبادة وعدمها سيان، عبد أو لم يعبد، تنفل أو لم يتنفل، لا أثر على سلوكه ولا أثر على تصرفاته، إذًا بلغت نتيجة إصراري على الذنوب درجة القسوة أي عدم الالتذاذ بالعبادة.

ثم أنتقل إلى مرحلة أدنى وهي: مرحلة الشك ”مع الوسواس متقلبة“ كثرة الذنب تؤدي إلى التشكيك في العقيدة، الإنسان نتيجة إفراطه في الذنوب وإسرافه في المعاصي يسيطر الشيطان على هواجسه وعلى خواطره، فإذا رآه قد استسلم له في السلوك يبدأ معه مرحلة أخرى، بما أني استسلمت للشيطان واسترسلت معه في المعصية فينتقل بي الشيطان إلى مرحلة تضعيف العقيدة والتشكيك في الدين، فتبدأ وساوسه تجول في قلبي «هل هناك فعلا جنة ونار؟ هل هناك فعلا آخرة؟ هل هناك فعلا قبر وعذاب أم أن هذه مجرد كلمات لا واقع لها؟» ويبدأ القلب يتقلب، يومًا يقبل الوسوسة ويومًا يرفضها، ”مع الوسواس متقلبًا“ أحيانًا يستجيب لتشكيك الشيطان وأحيانًا يبقى متحيرًا مترددًا، وهذه مرحلة خطيرة، إذا لم يرجع عن هذه الخطوة إلى درجة الإقبال على الله فإنه في حالة نزول إلى أن يتبخر المعتقد من قلبه، ”مع الوسواس متقلبًا“.

والدرجة الثالثة: درجة الظلمة، يخفت النور نهائيًا ويصبح القلب قطعة مظلمة، وهذا ما أشار إليه الإمام عندما قال: ”وبالرين والطبع متلبسًا“ إشارة إلى مرحلة الظلمة «الرين والطبع»، الرين هو أثر المعصية ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ الذنوب تحولت إلى رين نتيجة إصراري على الحديث مع الفتاة الأجنبية، نتيجة إصراري على استماع الأغنية المطربة، نتيجة إصراري على أكل اللحم المحرم، نتيجة إصراري على شرب الشراب المحرم، نتيجة إصراري على المعاصي ومشاهدة الأفلام الخليعة تلبس قلبي بالرين بمعنى أنه أصبح يستثقل الطاعة، الإنسان إذا تشبع بشيء كره ضده، بعد أن تشبع قلبي بالمعصية أصبحت أكره الطاعة، أكره أن أصلي صلاة الفجر، أكره أن أتنفل، أكره قراءة القرآن، لأن قلبي تلبس بالمعصية، تلبس برين المعصية فكره الطاعة.

وأما الطبع فهو الاعتياد على ترك الطاعة، فبدل أن تصبح الطاعة عادة يصبح تركها هو العادة، في أغلب أيام السنة أنا أنام عن صلاة الفجر ولا أجلس لصلاة الفجر، إذا صليت صلاة الفجر يومًا فهذا شيء نادر، تلبس قلبي بالطبع أي بترك الطاعة حتى أصبح ترك الطاعة سمة لقلبي، صفة لقلبي، ”وبالرين والطبع متلبسًا“ ربما أسهر الليل إلى أن يقرب الفجر ثم أنام عن صلاة الفجر من دون إحساس بأهمية الصلاة، خصوصًا صلاة الفجر، لأن قلبي تلبس بهذا الطبع وهو ترك الطاعة ”وبالرين والطبع متلبسًا“.

”وعينًا..“ هذه الدرجة الرابعة، بعد درجة الظلمة وصلت إلى درجة رابعة من درجات قوس النزول ألا وهو ما عبر عنه الإمام: ”وعينًا عن البكاء من خوفك جامدة“ يعني البعد عن التوبة، أصبحت لا أهتم بالتوبة ولا أهتم بالاستغفار، أقول في الصلاة «أستغفر الله» لكن أدري أن هذا كلام لا معنى له، أقول في صلاتي «أستغفر الله ربي وأتوب إليه» وأنا أدري أنني سأعود إلى المعصية بعد الصلاة، وأنا أدري أن هذا كلام فارغ، أقوله لمجرد اللقلقة لا أكثر، لأنني مصر على المعصية بعد قلبي عن التوبة، لا نور للتوبة ولا نبضة للتوبة في قلبي، لذلك عيني عن البكاء من خوفك جامدة، جامدة ليس فيها ذرة من الدمع، لأنه ليس في قلبي ذرة من الندم، لو كان في قلبي ذرة من الندم والحسرة من أجل الذنب لكان في عيني ذرة من الدمع، لكن عيني تجمدت لأن قلبي تجمد وبعد عن التوبة، ”وعينًا عن البكاء من خوفك جامدة“.

والدرجة الأخيرة التي هي درجة الهوي إلى الحفرة، ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ «9» وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ أمه هاوية يعني مقدمة الرأس تسمى الأم، أم الرأس مقدمة الرأس، ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ «21» فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ «22» قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ أما أنا بعد أن نزلت في قوس النزول من درجة إلى درجة وصلت إلى الهوي، ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ «9» وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ «10» نَارٌ حَامِيَةٌ، الدرجة الأخيرة من درجات قوس النزول: التعلق بالدنيا، فلا أستطيع تركها، ”وإلى ما يسرها طامحة“ عيني دائمًا ناظرة إلى الدنيا، لا نظر لها إلى الآخرة أبدًا، ”مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفًا كان أبعد لها من الخروج“ أصبحت حريصًا على الدنيا، وقتي كله لأجل بطني وجيبي وشهوتي ونومي، كل وقتي لأجل دنياي وليس في وقتي شيء للتوبة أو للمغفرة، ”حب الدنيا رأس كل خطيئة“.

هذه درجات قوس النزول وفي مقابلها درجات قوس الصعود، وإن وصلت إلى درجة الهوي لكن أنت تقدر أن ترجع، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ كما سلكت قوس النزول فاسلك قوس الصعود، ويبدأ قوص لصعود بالمراقبة والمعاتبة والمحاسبة والمحاربة والمقاربة والمجاذبة.

يبدأ مراقبة النفس «ماذا أصنع؟ هل ما أصنعه سيء أم حسن؟ هل أنا فعلا عندي طاعات أم ليست عندي طاعات؟».

تبدأ مرحلة المراقبة ثم أنتقل إلى مرحلة المعاتبة «عندي سيئات، عندي معاصي، كيف أتخلص منها؟» طريق التخلص هو التوبيخ، هو التقريع، هو العتاب، أما إذا حاولت أن أنسى المعصية، حاولت أن أتغافل عن المعصية، حاولت أن أقول لنفسي ما مضى مضى، فلن أتغير أبدًا، لن أتغير إلا إذا قمت بالتقريع والتوبيخ لنفسي وأوقفتها في كل ذنب وقرعتها، حينئذ يمكن أن أتغير وإلا فلا، الذي يقول «ما مضى مضى، لا داعي للتذاكر، دعنا مما مضى» هذا لن يتغير، التغير طريقه التقريع.

المعاتبة ثم تأتي مرحلة المحاسبة، أن أضع لنفسي جدولا في كل يوم، المطلوب كذا طاعة، المطلوب كذا عمل حسن، المطلوب كذا قربة من القربات، أضع لنفسي برنامج من القربات والطاعات، هذا شهر رمضان شهر العمل وليس شهر الكسل، شهر العمل «قرآن.. نافلة.. دعاء.. صدقة.. صلة رحم» أضع لنفسي برنامج ثم أحاسب نفسي هل أتممت هذا البرنامج أم لا، ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا“.

ثم ننتقل إلى درجة المحاربة، لأن النفس تبقى طاغية، لأن النفس تبقى متمردة مهما حاسبتها مهما عاتبتها تظل ملحة على المعصية، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ترجع مرة أخرى تنقض علي تريد أن أرتكب الرذيلة، تريد أن أرتكب المعصية، فأحتاج إلى المحاربة، ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“ صحيح الصراع صعب، الصراع مع النفس صعب، الصراع مع النفس صراع مع الأسد، الصراع مع النفس صراع مع قوة شرسة، لكنه ميدان للبطولة، ميدان للتحدي، ميدان لقوة الإرادة، الصراع مع النفس بشدة وبشكيمة وإن كان الصراع صعبًا شرسًا قاسيًا لكنك تحتاج إلى هذا الصراع، وهو أفضل الجهاد «المحاربة».

وبعد مرور هذه المرحلة تصل إلى مرحلة المقاربة، ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا يبدأ النور يشع في أفق النفس، في أفق الروح، تبدأ تلمح نور هو نور الله، نور القرب من الله، نور الدنو «دنى فتدلى»، إيناس النور هو مرحلة المقاربة.

ثم إذا سطع النور في النفس وتجلى الضياء الروحاني في النفس وانجذبت النفس إلى هذا النور وتفاعلت به وصل الإنسان إلى مرحلة المجاذبة فصار بينه وبين النور الإلهي جذب وانجذاب ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء.

والحمدلله رب العالمين

مفهوم العبودية لله تعالى
مقياس السعادة والشقاء