نص الشريط
الطقوس الحسينية بين التعبد والتحليل
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/1/1422 هـ
مرات العرض: 3043
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1549)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ

صدق الله العلي العظيم

حثَّ الأئمة من أهل البيت على مجموعةٍ من الشعائر والطقوس، فحثوا على البكاء على الحسين، وورد عنهم: ”من ذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة“. وحثوا على إنشاد الشعر في الحسين، وورد عنهم: ”من أنشد فينا شعرًا فبكى أو أبكى فله الجنة“. وحثوا على زيارة الحسين ، حتى ورد عنهم: ”من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه“. هذه الطقوس التي حثَّ عليها أهل البيت - كالبكاء والزيارة والمأتم والسجود على التربة - أصبحت محلاً للبحث والتحليل، وهناك ثلاثة اتجاهات في تفسير هذه الطقوس والألوان التي حث عليها أهل البيت: الاتجاه التعبدي، والاتجاه السياسي، والاتجاه التحليلي.

الاتجاه الأول: الاتجاه التعبدي.

هذه الطقوس التي حثَّ عليها أهل البيت هي عبادات نمارسها كما نمارس سائر العبادات، سواء أدركنا أهدافنا وملاكاتِها أم لم ندرك ذلك. نحن نمارس أعمال ليلة القدر ممارسةً عباديةً محضةً، حيث نصلي صلاة ليلة القدر بقصد التقرب إلى الله، ونزور الحسين ليلة القدر بقصد التقرب من الله، ونمارس سائر أعمال ليلة القدر ممارسة تعبدية محضة بقصد التقرب إلى الله، وكذلك نطوف بالبيت سبعة أشواط لا لهدف آخر، وإنما للتقرب إلى الله فقط، ونرمي جمرة العقبة يوم العاشر من ذي الحجة من دون أي هدف نرجوه، وإنما من أجل التقرب إلى الله.

وكذلك هو حال الطقوس الحسينية - كالبكاء والمأتم وزيارة الحسين والسجود على التربة وإنشاد الشعر - فإنها عبادات، فنحن نمارس هذه الطقوس والألوان ممارسة عبادية، أي أننا نأتي بهذه الشعائر قربةً إلى الله تعالى، لا لأجل هدف آخر، فنحن ننظر إلى هذه الشعائر نظرةً تعبديةً محضةً، فهي عبادات كسائر العبادات الأخرى.

الاتجاه الثاني: الاتجاه السياسي.

أصحاب هذا الاتجاه يقولون: الحسين بن علي ثار من أجل هدف واضح، وهو الإطاحة بعروش الأمويين والعباسيين ومن حوّل الخلافة إلى ملك عضود، وقد أدركت السلطة الأموية آنذاك هدف الحسين، فحصارت قضية الحسين محاصرةً ماديةً وإعلاميةً، ولذلك عندما كان الحسين متجهًا من الحجاز إلى الكوفة، أوقفوه في الطريق، وأنزلوه في كربلاء رغمًا عليه، وسدوا عليه جميع الطرق، حيث سدوا باب البصرة وباب الكوفة وباب اليمن وباب الحجاز وسائر الأبواب، وهكذا حاصروه في تلك المنطقة، وصفّوه هو مع أهله حتى الأطفال منهم، ومنعوا عنه الماء والسلاح.

وما انتهت القضية بالتصفية الجسدية، بل بدأت المحاصرة الإعلامية أيضًا لقضية الحسين ، حيث بدأ الإعلام الأموي من خلال قنواته الخاصة يروّج أن الحسين إنسانٌ خرج على إمام زمانه، ورسول الله جده ورد عنه أنه قال: ”من خرج يريد الفرقة وشذ عن الجماعة فاقتلوه كائنًا من كان“، إذن الحسين شذ عن الجماعة وطلب الفرقة، فهو مستحقٌ للقتل، كما قال أبو بكر ابن العربي: الحسين قتل بسيف جده! فلم يذنب أحدٌ في قتل الحسين ولم يخطئ أحدٌ في قتله، وإنما قتلت الأمة الحسين امتثالاً لأمر جده، فالحسين قتل بسيف جده، فهو خارجيٌ خرج على إمام زمانه فاستحق القتل! وهذه محاصرة إعلامية لقضية الحسين .

إذن فقد تعامل بنو أمية مع قضية الحسين بهذا النوع من المعاملة: حاصروها ماديًا وإعلاميًا، ومن هنا خطّط الأئمة تخطيطًا سياسيًا لإبقاء الحرارة الحسينية، ولإبقاء الجذوة الحسينية، فحثوا على هذه الطقوس والشعائر. لاحظ الأحاديث التي وردت في الحسين تجدها لم ترد في حق إمام آخر، إذ أن هناك سيلاً ومجموعةً هائلةً من الأحاديث والروايات وردت في الحسين ، وهذا دليلٌ على أن الأئمة كان عندهم تخطيط سياسي. مادام بنو أمية قد حاصروا قضية الحسين محاصرة مادية وإعلامية، فنحن في المقابل لا بد أن نحث المسلمين على طقوس وشعائر تبقي جذوة الحسين مستعرةً، وتبقي حرارة الحسين مشتعلةً، وذلك من خلال الحث على البكاء والمأتم والزيارة والسجود على تربة الحسين، فكل هذه طقوس سياسية، استخدمها أهل البيت في مرحلة إشعال جذوة الحسين وإلهاب حرارة الحسين.

ما هو الفرق بين الاتجاه التعبدي والاتجاه السياسي؟

نحن إذا أخذنا بالاتجاه التعبدي ونظرنا إلى هذه الطقوس نظرة تعبدية، لم نهتم بالهدف السياسي من البكاء، بل نقول بأن البكاء عبادة نمارسها إلى يوم القيامة كما نمارس سائر العبادات، بينما الاتجاه السياسي يقول: البكاء كان وسيلةً إعلاميةً سياسيةً لمرحلةٍ معينةٍ من الزمن، وبما أن الزمن تغيّر فلا بد من أن تتغير الوسائل الإعلامية حسب تغير الزمن.

البكاء والمأتم وبعض هذه الطقوس والشعائر مجرد ألوان ووسائل إعلامية استخدمها أهل البيت في ظروف معينة وفي مرحلة معينة وفي زمن معين، وكلما تغير الزمان احتجنا إلى وسائل إعلامية أخرى، فنستبدل هذه الوسائل بوسائل أخرى، فنستخدم الوسائل المسرحية والفنية مثلاً، ونحوّل وسائل الإعلام حول قضية الحسين إلى أشكال وشعارات أخرى، وذلك لأن هذه الطقوس ليست طقوسًا عباديةً حتى نبقى عليها إلى يوم القيامة، وإنما هي وسائل إعلامية خدمت قضية الحسين في مرحلة معينة، وأما الآن فيمكننا استبدالها بوسائل إعلامية أخرى.

الاتجاه الثالث: الاتجاه التحليلي.

حتى نركّز هذا الاتجاه ونعمّقه لا بد من أن نلتفت إلى عدة ركائز:

الركيزة الأولى: التوفيق بين الأصالة والتجديد.

لا منافاة بين المحافظة على الطقوس التي مارسها أهل البيت وبين تطوير الشعائر الحسينية إلى وسائل أخرى، فنحن نحافظ على هذه الطقوس - كالبكاء والعويل والمأتم وزيارة الحسين - ومع هذا نطوّر وسائل الإعلام التي تخدم صوت الحسين، وتخدم أصداء حركة الحسين، بما ينسجم مع واقعنا المعاصر؛ لأن لدينا قاعدة قرآنية عامة نسير عليها: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.

الشعائر جمع شعيرة، والشعيرة مأخوذة من الشعار، والشعار هو الوسيلة الإعلامية، ولذلك قال القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، أي أن هذين الجبلين أصبحا شعارًا لإعلان الإخلاص إلى الله «عز وجل» وشعارًا لإعلان القرب منه، فالشعائر مجموعة من الشعارات التي تخدم هدف السماء، وتخدم هدف الدين، وتخدم هدف الإنسانية.

نحن عندنا قاعدة عامة: أي وسيلة إعلامية - سواء كانت المسرح أو الفن مثلاً - تخدم صوت الحسين، وتؤجّج صرخة الحسين، وتوصل أصداء حركة الحسين إلى نفوس العالم وإلى قلوبهم، فهي محبوبة ومطلوبة، وتندرج تحت الآية المباركة، فلا منافاة ولا منافرة بين أن نحافظ على هذه الوسائل - وهي البكاء والسجود على التربة والمأتم - وبين أن نطوّر الوسائل الإعلامية التي تخدم الحركة الحسينية إلى ما ينسجم مع حضارتنا المعاصرة.

الركيزة الثانية: لا يصح لنا تجاوز إطلاق النصوص.

إذا كان عندنا نص مطلق فلا بد من الالتزام به، فمثلاً: الله «تبارك وتعالى» يقول: ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، فهل يصح لقائل أن يقول: «الله حرّم الربا في ذلك الزمان حيث لم يكن هناك تضخم في العملة، وأما الآن فصار عندنا تضخم في العملة، ونتيجة التضخم لا يمكن التعويض والتدارك إلا بالقروض الربوية، فتحريم الربا كان ناظرًا لمرحلة زمنية، ولا يشمل المرحلة الزمنية المعاصرة»؟! هذا الكلام لا يصح؛ لوجود آية قرآنية مطلقة، فمادام النص مطلقًا وغير مقيد بزمن لا بد من الأخذ بإطلاقه إلى أن تقوم الساعة.

كذلك نصوص الميراث، كقوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، إذ لا يستطيع لقائل أن يقول: «هذا النص ورد عندما كانت المرأة أمية وغير متعلمة، وكانت المرأة في وضع ثقافي متدنٍ، وأما الآن فقد تطورت المرأة، وملكت زمام الثقافة، وأصبحت تشارك على مختلف المستويات صفًا إلى صف الرجل، فهذه الآية خاصةٌ بتلك الأزمنة»؛ وذلك لأن هذا النص مطلق، فنأخذ بإطلاقه، ونعمل به إلى أن تقوم الساعة، فلا يصح لنا تجاوز النصوص إذا كانت نصوصًا مطلقةً.

كذلك حال الكثير من الطقوس العبادية الغامضة بالنسبة إلينا، فمثلاً: الله «تبارك وتعالى» يأمرنا بأن نطوف بالبيت سبعة أشواط، فلماذا لا نتجاوزها ونجعلها ثمانية أو أربعة مثلاً؟! لماذا لا نرمي جمرة العقبة بثمان أو بست حصيات بدل سبع؟! هذه الأمور لها ملاكات غيبية لا تدركها عقولنا، ولا تصل إليها أفهامنا، ولا بد من أن نعترف بعجزنا عن فهم أهداف هذه الأمور وملاكاتها، فعلينا السير على إطلاق النص.

نفس الكلام هنا: عندنا نصوص مطلقة في هذه الطقوس، من قبيل ما ورد عن الصادق : ”من ذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة“، فإن هذا النص لم يقيّد بزمن دون زمن، ولا بأمة دون أمة، ولا بجيل دون جيل، فهو نص مطلق، ولذلك نأخذ بإطلاقه إلى أن تقوم الساعة. وأما إذا لم نفهم لماذا البكاء مستحب إلى يوم القيامة، وما هي العلة والسبب والهدف من وراء ذلك، فإننا نأخذ بإطلاق النص وإن لم نفهم السبب؛ إذ أننا لا نفهم كل شيء.

مثال: الإمام الصادق في أول زيارة يذكرها السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال يقول مخاطبًا الحسين : ”أشهد أن دمك سكن في الخلد، فاشعرت له أظلة العرش مع أظلة الخلائق، وبكته السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، وما يرى وما لا يرى“. ما معنى هذا الكلام؟! ما معنى سكنى دمه في الخلد؟!

أنت تسمع من الخطباء رواياتٍ صحيحةً تقول بأن الحسين فعل فعلاً غريبًا جدًا يوم عاشوراء: عندما ذبح طفله الرضيع، حيث أخذ دمه وصار يرمي به إلى السماء، وهو يقول: ”لقد هوّن ما نزل بي أنه بعين الله“، فما سقطت منه قطرةٌ. أين ذهبت هذه الدماء؟! الحسين نفسه يوم عاشوراء عندما سقط من على فرسه وانبعث الدم من صدره كالميزاب أخذ الدم من صدره وخضّب شيبته، وقال: ”هكذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي“، ثم رمى بالدم إلى السماء فما سقطت منه قطرة. أين ذهبت هذه الدماء؟! أين ذهبت هذه القطرات؟! التقطتها الملائكة الموكلون بهذه المهمة. هذه مهمة غيبية لا نفهمها ولا تدركها عقولنا قام بها الملائكة، حيث التقطوا هذا الدم الثائر الطاهر الذي يلتهب وهو يقول:

تركتُ الخلقَ طرًا في هواكَ   وأيتمتَ  العيالَ  لكي iiأراكَ

هذا الدم عظيمٌ عند الله «عز وجل»، ودم غالٍ جدًا عند الله «عز وجل»، بحيث وكّل الملائكة بأن يلتقطوا هذه الدماء، وذهبت الدماء إلى الخلد، فلما سكن في الخلد اقشعرت له أظلة العرش مع أظلة الخلائق، ولا أريد أن أبحث في المعاني الفلسفية لهذه النصوص؛ فإن لها وقتًا آخر، ولكن صار لدم الحسين حضورٌ لا في عالم المادة فحسب، بل له حضور في عوالم أخرى وراء هذا العالم الذي نعيش فيه، كعالم العقول، وعالم المثال.

دم الحسين صار له حضور في العوالم كلها، فاشعرت له أظلة العرش مع أظلة الخلائق، وبكته السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، وما يرى وما لا يرى. عالم الشهادة هو ما يرى، وعالم الغيب هو ما لا يرى. فهل تتصور أنك تبكي وحدك؟! هل تتصور أنك عندما تأتي إلى هذا المأتم وتسمع الخطيب فتبكي فإنك وحدك تبكي مع الحسين وتتفاعل وتتعاطف مع قضية الحسين؟! لا، الحسين له حضور في عوالم أخرى وراء هذا العالم المادي.

إذن نحن نمشي على النصوص المطلقة، فإن النصوص تحث على البكاء والنحيب، وهي ليست مقيدة بزمن ولا بمرحلة ولا بجيل بدون جيل؛ لأن هناك مناطات وملاكات غيبية لا تصل إليها أفهامنا وراء البكاء ووراء فلسفة البكاء.

الركيزة الثالثة: هذه الشعائر لها جانب تربوي.

هذه الشعائر التي أمر بها أهل البيت أساليب تربوية لنا، وليست مجرد وسائل إعلامية، سواء احترمها الآخرون أم لم يحترموها. الآخرون يعترضون عليك ويقولون: إلى متى أنت تبكي على الحسين؟! 1400 سنة وأنت تبكي على ميت مات منذ مئات السنين! إلى متى أنت تزاحم نفسك بالحضور في المأتم الحسيني كل عام؟! إلى متى أنت تزور كربلاء؟! إلى متى أنت مع هذه العقلية المتخلفة والذهنية البالية؟!

افترض أن هذه الطقوس لم يفهم فلسفتها الآخرون، ولم يعرف معناها الآخرون، لكنها طقوس تربيك إذا التفتَّ إلى معانيها. هذه الطقوس ندب إليها أهل البيت لتربينا ولتعلمنا على عدة قيم وفضائل ومثل من أجلها ثار الحسين، ومن أجلها صرخ الحسين، ومن أبعادها التربوية:

البُعْد الأول: هذه الطقوس تعلّمنا على روح التضحية.

نقرأ في زيارة الحسين: ”إن كان لم يجبك بدني عند استثغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري“. الحسين بذل دمه، فهل أنت مستعدٌ لبذل طاقتك الجسمية أو طاقتك الفكرية أو أوقاتك أو جهودك أو بعض أموالك في سبيل المبادئ والقيم؟! هذه النصوص تعلّمنا أن الهدف من البكاء والمأتم ومن زيارة الحسين أن تأخذ شحنة، وتأخذ شعلة من حرارة الحسين، ألا وهي حرارة البذل، وحرارة العطاء، وحرارة التضحية. هل فعلاً نحن مستعدون للتضحية؟! هل فعلاً نحن مستعدون للبذل والعطاء؟! هل فعلاً نحن مستعدون لخدمة المبادئ والقيم، كما خدمها الحسين بأغلى ما عنده: دمه ودماء ذريته؟!

البُعْد الثاني: هذه الطقوس تعلّمنا على روح الرفض.

هذه الروح ربّاها أهل البيت وأصرّوا على تربيتها. كثيرون يلوموننا إذا قرأنا زيارة عاشوراء! لو التفتَّ إلى فلسفة زيارة عاشوراء، وكيف تطعمك بطعم الرفض، وأن تكون رافضًا للذنب والعدوان والمنكرات، لما لمتنا. هذه الزيارة تربّيك على روح الرفض، فنقرأ فيها: ”اللهم هذا يومٌ فرحت به آل زياد وآل مروان بقتلهم الحسين صلوات الله عليه، اللهم إني أتقرب إليك في هذا اليوم، وفي موقفي هذا - وأنا في حال التهاب وامتزاج وتعاطف مع الحسين - وأيام حياتي“ أي أنني لا أرفض رفضًا آنيًا وقتيًا، بل أنا مربى على روح الرفض دائمًا، ”بالبراءة منهم واللعنة عليهم، وبالموالاة لنبيك وآل نبيك عليه و“. إذن هذه الطقوس - من بكاء ومأتم وزيارة وسجود على التربة - تعلّمك على روح الرفض، رفض الذل والعدوان، رفض المنكرات، رفض ما ثار من أجل رفضه الحسين بن علي .

البُعْد الثالث: هذه الطقوس تعلمنا روحَ العشق الإلهي.

هذه الطقوس التي نمارسها كلَّ سنة وكلَّ عام تعلّمنا على روح العشق لله. ليس العشق للمادة. نحن مترفون ومنغمسون في الأجواء المادية، ومنغمسون في أوحال الشهوات، ومنغمسون في هذه الزخارف والبهارج الدنيوية، فليكن لنا حظٌ من عشق الله، وليكن لنا درجة من درجات عشق الله، وليكن لنا نصيب من الإقبال على الله. هذه الطقوس - كالبكاء والتربة وزيارة الحسين - تجعلك إنسانًا حسينيًا. إذا مارست هذه الطقوس وأنت ملتفت إلى معناها أصبحت إنسانًا حسينيًا، والإنسان الحسيني الزينبي هو من كان عاشقًا لله، ومن كان مرتبطًا بالله، ومن كان بعيدًا عن الانغماس في أجواء الترف والشهوات. الجو الحسيني الزينبي هو الجو الذي صنعه الحسين يوم عاشوراء.

الحسين إلى آخر لحظة يقول: أنا لستُ نادمًا ولا متحسرًا، ماذا فقدت؟! فقدت الدنيا؟! فقدت الزخارف والبهارج؟! أنا حصلت على أكبر غنيمة، وهي رضا الله، ”اللهم رضا بقضائك“ أي أنني راضٍ بما أنا فيه ”وتسليمًا لأمرك يا غياث المستغيثين“. وزينب التي مدت يديها تحت جسده لتعلمنا أنها هي التي فهمت صوت الحسين، وهي التي أبقاها الله امتدادًا لصرخة الحسين: ”اللهم تقبل منا هذا القربان“.

إذا لامنا شخص وقال لنا: لماذا تبكون وتنتحبون وتحضرون المآتم؟! نقول له: لأننا نريد أن نربي أنفسنا على رفض الظلم والعدوان، وعلى روح البذل والعطاء، وعلى عشق الله الذي من أجله ثار الحسين، والذي ألهب قلب الحسين، أفمن يربي نفسه على هذه المبادئ والقيم يلام؟! أفمن يربي نفسه على هذه الفضائل يكون في موضع اللوم وفي موضع العتاب؟! أبدًا، بل هو الشخص الذي عرف الطريق لتربية النفس وتهذيبها وتكميلها بالفضائل والمبادئ. الحسين صنع لنا في كربلاء مدرسة روحية تربوية لو سرنا عليها ومشينا عليها لكنا قد حقّقنا أهداف الحسين بن علي.

الميزان في القيم الأخلاقية