نص الشريط
العمل بين المنظور الاقتصادي والمنظور الفلسفي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 4/1/1422 هـ
مرات العرض: 3013
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1810)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • حول العمل بالمنظور الاقتصادي.
  • حول العمل بالمنظور الفلسفي.
  • في العمل التطوعي وأبعاده وآثاره.
النقطة الأولى: العمل بالمنظور الاقتصادي.

هناك خلاف أساسي بين النظرية الإسلامية والنظرية الرأسمالية حول محور الكسب، فإن النظرية الإسلامية تقرّر أن المحور الأول للكسب هو العمل، فجميع أنواع الكسب تتفرع عن العمل، ومن لم يبذل عملاً وجهدًا وطاقةً فلا كسب ولا ثروة له، فالمحور الأساس في الكسب واكتناز الثروة هو بذل الطاقة والجهد والعمل، ويقسّم فقهاء الإسلام العملَ إلى قسمين: عمل مباشر، وعمل مختزن، فما الفرق بينهما؟

مثال: عندما أستأجر شخصًا وأقول له: اكنس هذا المأتم، أو أقول له: ازرع هذه الأرض، أو أقول له: سُق هذه السيارة من نقطة كذا إلى نقطة كذا، فحينئذٍ يكون هذا الشخص قد عمل عملاً، وهذا العمل محورٌ للكسب يستحق الأجرة؛ لأنه بذل جهدًا، هذا ما نعبّر عنه بالعمل المباشر. ولكن لو استأجرتَ سيارتي لتقودها لمدة يوم ثم أرجعتَها إلي، فحينئذٍ أستحق أجرة مع أنني لم أبذل لك عملاً مباشرًا، فإنك أنت الذي قمت بالقيادة، ولكنني أستحق أجرة لأنني عملتُ عملاً مختزنًا، حيث أن السيارة التي أعطيتُك إياها تبذل طاقة، فهي وإن لم تكن عملاً مباشرًا، إلا أنها عمل مختزن، وعلى ذلك، فإنني وإن لم أكنس مأتمًا، ولم أزرع أرضًا، ولم أقد سيارة، إلا أنني سلمتُك سيارةً، والسيارة جهاز، والجهاز يعني الحركة وبذل الطاقة، فأكون بذلك قد سلمتُك عملاً، ولكنه ليس عملاً مباشرًا، بل هو عمل مختزن، ولأجل أنني سلمّتُك عملاً أستحق عليك أجرًا وكسبًا.

والخلاصة: أن محور الكسب في النظرية الإسلامية هو العمل، سواء كان عملاً مباشرًا أم كان عملاً مختزنًا ومتضمنًا في جهاز معين أو أداة معينة، ومن هنا نجد خلافًا بيننا وبين الرأسمالية في مسألة الإجارة، والتي قد يغفل عنها الكثير من الناس ولا يفهمونها، وبما أن هذه المسألة الشرعية ابتلائية ومرتبطة ببحثنا، نوضّحها من خلال مثال.

المثال: عندما أكون أنا صاحبَ مكتب عقاري، وتكون أنت صاحب عمارة مثلاً، فأستأجر عمارتك بجميع شققها، وبعد ذلك أؤجر هذه الشقق على الآخرين بمبلغ أعلى، كما لو استأجرت الشقة بألفي درهم شهريًا، وقمتُ بإيجارها على الآخرين بألفين وخمس مئة درهم، وذلك من غير أن أصنع شيء أبدًا، بحيث سلمتُ الشقة إلى المستأجر كما استلمتها من المالك، فحينئذٍ لا يجوز لي ذلك، بل هو حرامٌ شرعًا عند جميع الفقهاء.

والسر في حرمة ذلك أن محور الكسب هو العمل، سواء كان عملاً مباشرًا أم كان عملاً مختزنًا، ولكنك لم تعمل أي عمل في هذه الصورة، وإنما استلمتَ مفتاح الشقة من المالك وسلّمتَه إلى المستأجر، فلا يصح لك أن تأخذ خمس مئة درهم زيادةً، بل إن هذه الزيادة أكلٌ للمال بالباطل، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ. نعم، لو أخذتَ الشقة وصبغتها، أو ووضعتَ في مصابيح أو ستائر مثلاً، أو أحدثت عملاً آخر في الشقة، ثم أجّرتها بسعر أكثر، فحينئذٍ يجوز لك أخذ هذا الأجر؛ لأنه على أساس بذل جهد وطاقة وعمل، إذ أن محور الكسب - كما ذكرنا - هو العمل، فإذا لم يكن عمل فلا كسب.

النقطة الثانية: العمل بالمنظور الفلسفي.

الفلاسفة يقولون: العالم ينقسم إلى قسمين: عالم الخلق، وعالم الأمر، وهذا التقسيم أخذه الفلاسفة من القرآن الكريم، حيث يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، إذ أن الله «تبارك وتعالى» هو المفيض للوجود، وإفاضة الوجود على نوعين: إفاضة تدريجية، وإفاضة دفعية من دون تدريج، ويعبّر عن الأولى بعالم الخلق، كجسد الإنسان مثلاً، فإنه من عالم الخلق؛ لأن الوجود يعطى للجسد تدريجًا، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا.

وفي المقابل توجد إفاضة دفعية غير تدريجية، فمثلاً: الله «تبارك وتعالى» عندما يريد أن يوجد الروحَ التي تتعلق بالجسد فإنه يفيضها إفاضة دفعية بلا تدريج، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، أي أن هذه الإفاضة لا تدريج ولا مهلة ولا تراخٍ فيها، وهذا ما يعبّر عنه بعالم الأمر.

والخلاصة: أن ما يوجد بالتدريج - وهو الأشياء المادية - يعبّر عنه بعالم الخلق، وأما ما يوجد دفعةً واحدةً - كالأرواح - يعبّر عنه بعالم الأمر، وعلى ذلك، فالإنسان مشكّلٌ من عالمين: عالم الخلق المتمثل في جسده، وعالم الأمر المتمثل في روحه، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ولم يقل: من خلق ربي، إذ أن مصطلح الأمر - كما ذكرنا - يختلف عن مصطلح الخلق.

بعد أن فهمنا الفرق بين الخلق والأمر نقول: كل عمل من الأعمال التي نمارسها له جانبان: جانب خلقي، وجانب أمري، فمثلاً: عندما أقف أمامك وأصلي، فإنك ترى من صلاتي شكلها، أي أنك ترى قراءة وركوعًا وسجودًا وجلوسًا، فأنت ترى الجانب الخلقي الشكلي المادي للعمل، ولكنك لا ترى التفاعل الروحي بيني وبين الصلاة، ولا تدري هل أنا خاشع أم لا، ولا تعلم هل أنا أصلي مخلصًا لله أم أصلي رياء، ولا تعرف فيما يشرد ذهني، إذ أن بعض الناس بمجرد أن يكبّر يسافر إلى السوق والأعمال والتجارة والمعاملات والشيكات، فإن سلّم رجع من البنك إلى المسجد! وبعض الناس بمجرد أن يكبّر يسافر مع زوجته ويعيش مسيرة كاملة من الأخذ والرد بينه وبينها إلى أن ينتهي من الصلاة! والبعض الآخر بمجرد أن يكبّر يدخل في عوالم أخرى ليست من العوالم المادية في شيء، كعالم الآخرة، وعالم القبر، وعالم الحساب، وعالم الموت، وعالم التعلق والارتباط بالله، كما قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ.

إذن فالصلاة لها جانبان: جانب خلقي كلٌ يراه، وجانب أمري باطني غير مادي، وهو الارتباط الروحي أثناء الصلاة، وهذا الجانب الأمري نحن لا نراه، وإنما يراه الله ورسوله والمؤمنون، كما قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فالمؤمنون والفاسقون والكافرون يرون الجانب الخلقي فقط من العمل، لكن الجانب الأمرين من العمل لا يراه إلا ثلاثة: الله ورسوله والمؤمنون، والمقصود بالمؤمنين الأولياء الأئمة من أهل البيت .

ولذلك توجد آيات قرآنية أخرى أيضًا تؤكّد على أن حقائق الأعمال يطّلع عليه الرسول وأهل بيته الطيبين الطاهرين، ولذلك نقول في زيارتهم: ”أشهد أنك تسمع الكلام وترد السلام“، ويقول القرآن الكريم: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، أي أن الكتاب المرقوم الذي يشتمل على حقائق أعمال الخلائق إنما يشهده الصفوة من أهل البيت.

النقطة الثالثة: العمل التطوعي وأهميته.

نتحدث عن هذه النقطة بشكل مفصّل من خلال ثلاثة أسئلة: ما هو مفهوم العمل التطوعي؟ وما هي أبعاد العمل التطوعي؟ وما هي آثار العمل التطوعي؟

السؤال الأول: ما هو العمل التطوعي؟

العمل التطوعي هو العمل الذي يصدر من الإنسان بدافع إنساني وبدافع إلهي، لا بدوافع مادية ولا بدوافع نفعية، وهذا ما يعبّر عنه بالصدقة، إذ أن الكثير منا يتصور أن الصدقة هي إعطاء الفقير! والحال أن الصدقة لا تنحصر في إعطاء الفقير بعض الأموال، بل إن كل عمل تطوعي فهو صدقة، وكل عمل خيري فهو صدقة، وكل عمل صادق فهو صدقة، وكل عمل يربط الإنسان بالله «عز وجل» فهو صدقة، ولذلك ورد عن الرسول : ”إماطة الأذى عن الطريق صدقة“، أي أن الإنسان عندما يرفع الأذى عن الطريق ويسهّله للناس ففعله صدقة.

بعض أمثلة الصدقة: تعليم من يحتاج إلى العلم من الصدقة، فإذا كان اختصاص الإنسان فيزياء، أو رياضيات، أو اجتماعيات، فإنه عندما يعلّم إنسانًا آخر ما هو متخصص فيه بدافع إلهي فإن هذا التعليم صدقة. كذلك المساهمة في أي عمل، كالمساهمة في المأتم أو المسجد، أو المساهمة في أي عمل خيري، من خلال الجسد أو العقل أو الطاقة أو الذهن، فإن هذه المساهمة صدقة أيضًا.

ومن الصدقة أيضًا: التبرع بالدم، وهذه ظاهرة شيعية إذا تنامت فستكون ظاهرة إعلامية لشيعة آل البيت، إذ لو كان الشيعة في كل مكان يتبرعون بالدم يوم العاشر من المحرم لمن يفتقر إلى الدم لكانت هذه وسيلة إعلامية للمذهب الشيعي وللحركة الحسينية لا تضاهيها وسيلة إعلامية أخرى، فالتبرع بالدم لمن يحتاج من أفضل الصدقات، ومن أفضل القربات، خصوصًا في يوم عاشوراء الذي هو يوم الحسين الذي هو مصدر الصدقات والقربات ، فالتبرع بالدم للمسلم المحتاج صدقة أيضًا.

كذلك كظم الغيظ صدقة، فعندما يسيء لي شخصٌ ولكنني أعفو عنه وأصفح فإن العفو عنه صدقة. ولذلك مالك الأشتر - وهو أحد أصحاب الإمام علي - خرج يومًا يلبس قميصًا خامًا وعمامة خامًا، ومشى في الطريق، فرآه شخصٌ من الأشخاص وهو لا يعرفه، فاستهزأ به واحتقره، فلما مشى مالك الأشتر قليلاً التفت رجلٌ إلى ذلك الشخص وقال له: كيف شتمته واستهزأتَ به؟! ألم تعرف من هو؟! هذا مالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فتأثر الرجل وانفعل وتخوّف، فبدأ بالبحث عن مالك الأشتر حتى يعتذر منه، إلى أن دخل المسجد وهو يبحث عنه، فرأى مالك الأشتر يصلي، وانتظره إلى أن ينتهي من صلاته، فلما فرغ مالك الأشتر من صلاته جلس بين يديه، وقال: يا هذا، أنا شتمتك واستهزأت بك وقد جئت إليك معتذرًا، فقال له مالك: لا تثريب عليك؛ فإني ما جئتُ المسجدَ إلا لأصلي وأستغفر لك.

إذن فالعفو عن الإساءة صدقة، فكيف بمقابلة الإساءة بالإحسان؟! لا شك أنه من أعظم الصدقة، فالصدقة والعمل التطوعي مفهومه أعم وحقيقته أوسع من إعطاء الفقير بعض المال.

السؤال الثاني: ما هي أبعاد العمل التطوعي؟

العمل التطوعي له بعدان حضاريان:

البعد الأول: أن العمل التطوعي ينم عن رشد المجتمع ونضجه.

المجتمع الذي تنتشر فيه الأعمال التطوعية مجتمع رشيد، والمجتمع الذي تنتشر فيه الجمعيات الخيرية، ولجان كفالة الأيتام، والأعمال المسجدية والأعمال المأتمية، والأعمال التعليمية والثقافية... المجتمع الذي يقوم على الأعمال التطوعية والخيرية من قِبَل أبنائه وشبابه مجتمعٌ رشيدٌ ناضجٌ، وأما المجتمع الذي ينغمس في أحوال الماديات دون أن يفكّر في الأعمال التطوعية، والمجتمع الذي ينغمس في البحث عما يملأ جيبه وبطنه، والمجتمع الذي لا يفكّر أبناؤه منذ الصباح إلى الليل إلا في المادة واكتنازها وتكثيرها وطلبها وتحصيلها، والمجتمع الذي لا يلتفت إلى الأعمال الخيرية والتطوعية، فإنه لا يمكن أن يوصَف بأنه مجتمع رشيد، فإن رشد المجتمع في أن يعتمد المجتمع على الأعمال الخيرية والتطوعية.

من هنا نقول: مجتمعنا هذا الذين نحن نعيش فيه يحمل طاقات كثيرة، فإن أبناءنا وأجيالنا وأطفالنا وشبابنا لديهم طاقات كبيرة، فبعض أبنائنا عنده طاقة الشعر، وبعضهم عندهم طاقة الفن، وبعضهم عندهم موهبة الخطابة، وبعضهم عندهم موهبة الذكاء، وبعضهم عندهم موهبة التعليم، وهذه المواهب تحتاج من يربّيها ومن يحتضها ومن يقوّمها ومن ينمّيها، وعلى كل مجتمع أن يعتمد على نفسه، بحيث لا يحتاج أن يستورد من المجتمعات الأخرى علماءَه وخطباءَه وكتّابه وشعراءَه وفنّانيه وناقديه، بل لا بد للمجتمع الرشيد من أن يعتمد على طاقات أبنائه ومواهبهم وملكاتهم، وأن يعتمد على خيره الداخلي.

إذا كان مجتمعنا مجتمعًا متعاونًا مع أهل العلم الموجودين في هذه المنطقة، بحيث تعاون الآباء والأبناء والشباب مع أهل العلم الموجودين في المنقطة، فحينئذٍ استطاع المجتمع أن يصنع عملاً تطوعيًا يرعى هذه المواهب الخطابية والأدبية والفنية والتعليمية والذهنية، فإن هذه المواهب تحتاج إلى صقل ومتابعة وتربية، حتى ينهض المجتمع بنفسه، ويعتمد على نفسه، ومراعاة وتربية هذه المواهب يحتاج إلى تعاون الجهود وتلاقح الخبرات والأيدي، كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ومن أعظم الأعمال التطوعية ومن أعظم الصدقة أن ننهض بمجتمعنا، وأن نربي مواهب أولادنا، وأن نراعي طاقاتِ أبنائنا، وأن نعتمد على طاقاتنا الذاتية والداخلية، وهذا هو الدليل على نضج المجتمع ورشده.

البعد الثاني: البعد الروحي.

العمل التطوعي يعني نقاء الضمير، فإذا أراد الإنسان أن يكون ضميرُه نقيًا خالصًا من شوائب الدنيا وأدران المادة وأوساخ الترف وأوحال زخارف الدنيا، بحيث يكون ضميره صفحة بيضاء مشرقة، فعليه أن يبادر للأعمال التطوعية، وعليه أن يطوّع نفسه وإرادتَه وجوارحَه وجوانحَه على القيام ببعض الأعمال التطوعية؛ لأنها نقاء للضمير.

ولذلك حتى الكفار يقومون بالأعمال التطوعية، ففي أمريكا - والذي نعتبره مجتمعًا غير مسلم - سنة 1991 كانت هناك تسع مئة مؤسسة خيرية، وفي ذلك العام نفسه نشرت هذه المؤسسات أن الأمريكيين تبرعوا بما يقارب 140 مليون دولارًا للمؤسسات الخيرية. أليس المسلمون أولى بذلك؟! أليس المسلمون أحرى وأولى بأن يواسي بعضهم بعضًا ويهتم بعضهم بالبعض الآخر؟! ورد عن الرسول : ”من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم“، فالأعمال التطوعية والخيرية تنقّي الضمير، وتصفّي القلب، وتجعل الإنسان مضيئًا مشرقًا.

السؤال الثالث: ما هي الآثار الإيجابية للعمل التطوعي؟

الأثر الأول: استثمار الفراغ.

نحن نحتاج إلى أن نستثمر فراغنا فيما ينفعنا، فإن الإنسان قد يقضي وقته منذ الصباح إلى الليل في العمل، ثم يرجع منزله ليستريح، فيشاهد بعض الأفلام وبعض القنوات الفضائية، وفي اليوم التالي يقوم بنفس الأعمال، وأما الإجازة فهي عندنا وقت الاسترخاء والكسل، ووقت النوم على الوسادة الناعمة، ووقت التفكير في أشهى المأكولات، ووقت التفكير في أجمل الرحلات والمتع، فهل الحياة جيب وبطن ونوم؟! أليس للحياة معنى آخر؟! أليس للحياة قيمة أخرى؟! أليس للحياة مضمون آخر؟! هل الحياة هي جمع الأموال من خلال الوظيفة ثم استخدامها في الإجازة للسفر إلى الخارج من أجل الاسترخاء والراحة والتعويض عن تعب العمل وعنائه؟!

إذا انقضت حياة الإنسان هكذا فسيأتيه السؤال: ماذا قدّمت لمجتمعك؟ وماذا أعطيتَ لمجتمعك؟! إنما عشت فقط لجيبك ولبطنك! عشت فقط للذتك ولشهوتك! عشت فقط لذاتك ولأناك! ماذا قدمت لمجتمعك؟! أمير المؤمنين يقول: ”خير الناس من نفع الناس“، فماذا أعيطت للناس؟! ما قدمت للمسلمين والمؤمنين؟! هل حياتك عبارة عن جيب وبطن ولذة وشهوة؟!

حاول أن تنخرط في عمل تطوعي، وحاول أن يكون لك عمل تطوعي من الأعمال، كالصدقات والأعمال المسجدية والمأتمية، وكذلك الأعمال التعليمية والتثقيفية، فمثلاً: الكثير منا يجلس أمام الإنترنت، ويستطيع الإنسان من خلال جلوسه أمام الإنترنت أن يقوم بعمل تطوعي، فيستطيع أن يدافع عن المذهب الشيعي، ويستطيع أن يهدي بعض الأشخاص من خلال بعض النصائح والإرشادات، ويستطيع أن يوجّه بعض الأشخاص إلى مصادر العلم والمعرفة.

إذن عليك أن تبادر للعمل التطوعي لاستثمار فراغك، فقد ورد عن الرسول : ”ما فرغ العبد ساعةً قط إلا كانت فرغته حسرةً عليه يوم القيامة“، فإذا مرت الساعة من غير أن يستمثرها الإنسان فإنه يتحسر يوم القيامة عندما يرى شريط أعماله ويرى ساعات كثيرة في حياته فارغة، حيث جلس فيها مسترخيًا كسولاً لا يقوم بأي عمل من الأعمال! فعلى الإنسان أن يستثمر فراغه في الأعمال التطوعية.

الأثر الثاني: العمل التطوعي يذيب الأنانية ويربّي عند الإنسان الروح الغيرية.

نحن منغمسون في أوحال الترف ومشغوفون بأجواء المادة، فلا بد من أن نربي أنفسنا وأرواحنا على إذابة الأنانية، وعلى تجاوز الأنا يومًا من الأيام. الإنسان قد يكون يقطع الساعات ويصرف الجهود ويبذل الطاقات كل يوم لأجل «أنا»، فمتى سيبذل الطاقة لأجل «أنت» لا لأجل «أنا»؟! متى تتحرك دوافعه وتتحرك نفسه وتنطلق جهوده لأجل المجتمع لا لأجل الأنا؟! متى يتجاوز الأنا؟!

نحن نحتاج إلى تجاوز الأنانية، ونحتاج إلى تربية روح الغيرية، فقد ورد عن الإمام الحسن الزكي : ”ما رأيتُ أعبد من أمي فاطمة. كانت إذا قامت إلى صلاتها لا تنفتل عن الصلاة حتى تتورم قدماها من كثر الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتُها دعتَ لنفسها قط. أقول لها: أماه فاطمة، لم لا تدعين لنفسك؟ تقول: بني حسن، الجار ثم الدار“، هكذا كانت الأم تربّي طفلها على الصدقة، وعلى العمل التطوعي، وعلى روح الغيرية، وعلى أن يشعر بغيره، وعلى أن يشعر بآلام الآخرين، وعلى أن يشعر بالمجتمعات المحرومة، وعلى أن يشعر بآلام المحرومين والمحتاجين، وتربّي الطفل على أن يكون ضميرًا حيًا للآخرين.

هل نربي نحن أطفالنا على هذا؟! هل نربي أطفالنا على أن يدعو للآخرين؟! هل نربي أطفالنا على أن يتصدقوا للآخرين؟! حاول أن تعطي طفلك بعض الأموال، وقل له: بنيَّ، ساهم بنفسك بهذه الأموال في المأتم، وفي المسجد، وفي المشروع الخيري، وفي المشروع الثقافي... حتى يتعلم الغيرية من خلال الصدقة.

الإمام الصادق قال لبعض أبنائه: كم عندنا من النفقة؟ قال له: أربعون دينارًا، قال: تصدّق بها، قال: ليست عندنا إلا هي! قال: تصدّق بها، ألم تعلم أن لكل شيء مفتاحًا، ومفتاح الرزق الصدقة؟! ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؟! فتصدّق بها ولده، فما مرت عشرة أيام حتى وصل إليهم من بعض محبيهم أربعة آلاف دينار. إذن فالصدقة تربّي عندنا روح الغيرية، والصدقة بمفهومها الواسع والشامل تعلّم النفس على الكمال، وتقود النفس إلى الكمال الروحي العلوي.

معاوية بن أبي سفيان في حرب صفين قال: أول سلاح أحارب به الإمام علي هو منع الناس، وفعلاً جاء معاوية بجيشه وخيّم عند الفرات، وحبس ماء الفرات عن جيش الإمام علي . يصف عمرو بن العاص الموقف فيقول: ضج الجيش عطشًا وظمأ، فخرج علينا شيخٌ ناهز الستين من عمره، ربق الحزام على بطنه وشهر سيفه، وأجلى الجيش بأجمعه عن الفرات، فلما قبض الماء وصار الماء تحت يديه أباح الماء لجيش معاوية ولجيشه أيضًا.

هكذا كانت النفس العلوية المحمدية الفاطمية الكاملة التي ربّيت على الغير لا على الأنا، والتي تسجّدت في أمير المؤمنين . ونفس الموقف تكرّر في شبله الحسين ...

مرض الجفاف الروحي
مبدأ التقية وظاهرة الازدواجية