نص الشريط
مرض الجفاف الروحي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 5/1/1422 هـ
مرات العرض: 4004
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1766)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن نقطتين:

  • في التفاعل بين الروح والجسد.
  • في مرض الجفاف الروحي.
النقطة الأولى: التفاعل بين الروح والجسد.

هنا خلاف بين الفلاسفة في كيفية عملية التفاعل بين الروح والجسد، إذ أن الروح من عالم، والجسد من عالم آخر، فإن الجسد من عالم المادة، بينما الروح من عالم المجردات، لأن الجسد كتلة لها ثقل وحجم وتشغل حيزًا من الفراغ، فالجسد يقبل القسمة، وكل ما يقبل القسمة فهو مادي، فحتى حبة الرمل تقبل القسمة، وحتى الموجودات المجهرية التي لا ترى إلا بالمجهر الدقيق تقبل القسمة، وكل ما يقبل القسمة فهو شيء مادي، والجسد يقبل القسمة، إذن هو شيء مادي.

وكل ما لا يقبل القسمة فهو أمر مجرد وليس ماديًا، وهكذا هي الروح، فإن الروح التي نعبّر عنها بأنا لا تقبل القسمة، إذ لا يوجد فيها يمين ولا شمال، ولا فوق ولا تحت، ولا قبل ولا بعد، وبما أن الروح لا تقبل الانقسام، إذن الروح ليست شيئًا ماديًا، وإنما هي شيء مجرد عن المادة، وهذه قاعدة فلسفية عامة: ما يقبل الانقسام مادي، وما لا يقبل الانقسام مجرد.

بما أن الروح من عالم المجردات، والجسد من عالم الماديات، كيف يتم بينهما التفاعل؟ نحن نلاحظ أن الروح تؤثر على الجسد، والجسد يؤثر على الروح، فإن الإنسان إذا فرح ظهر الفرح على وجهه، وإذا خاف ظهر الخوف على وجهه، وهذا معناه أن الروح تؤثر في الجسد. كذلك إذا مرض جسد الإنسان أو هرم، فإن إدراك الروح يصبح ضعيفًا، وإدراك الذهن يصبح ضئيلاً، مما يعني أن الروح تتأثر بالجسد، كما يتأثر الجسد بالروح، فكيف يتفاعلان وهما من عالمين؟

هنا نظريات كثيرة في هذا الباب، ولكنني لا أريد أن أتعرض لها، وإنما أذكر النظرية التي تبناها الفلاسفة المتأخرون مؤخرًا، وهي نظرية صدر المتأهلين الشيرازي «رضوان الله عليه»، وهي أن التفاعل بين الروح والجسد مبنيٌ على الحركة الجوهرية، وبيان أن ذلك الحركة قد تكون مكانية، كما لو خرجت من المأتم إلى الخارج، فهذه حركة مكانية من مكان إلى مكان، وقد تكون الحركة زمانية، كما لو انتقل الإنسان من سن الطفولة إلى سن المراهقة إلى سن الكهولة، وأحيانًا الحركة ليست مكانية ولا زمانية، بل هي حركة جوهرية.

مثلاً: أنت الآن جالس أمامي في المأتم تستمع للمحاضرة، وجسدك ثابت، ولكن ما الذي يتحرك وأنت جالس؟ عقلك يتحرك من المعلومات إلى المجهولات، وينتقل من معلومة إلى معلومة، ومن جهة إلى جهة أخرى، وهذه الحركة العقلية ليست مكانية ولا زمانية، بل هي حركة جوهرية، أي أن العقل في جوهره وفي صميم ذاته يتحرك حركةً تكامليةً من الجهل إلى العلم، ومن عدم المعرفة إلى المعرفة.

عندما نطبّق الحركة الجوهرية على محل كلامنا نقول: صدر المتألهين الشيرازي يقول: عندما يقذف الزوج النطفة في رحم الزوجة فإن لهذه النطفة بمجرد انغراسها في جدار الرحم بعدين: بعدًا ماديًا، وبعدًا تجريديًا، والنطفة تتحرك على البعدين، أي أن النطفة منذ أول لحظة تنغرس فيها على جدار الرحم تتحرك هذه النطفة على بعدين: على البعد المادي، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ القرار هو جدار الرحم الذي التصقت فيه ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا، هذه حركة على مستوى البعد المادي إلى أن يصبح جسدًا متكاملاً. في تمام الأسبوع الثاني عشر يبدأ المخ يرسل إشاراته إلى أعصاب هذا الجسد بالحركة والنبض، ومن خلية واحدة إلى أن يصبح ستة ملايين خلية تتحرك وتؤدي إشارتها وأوامرها إلى هذا الجسد، فهذه حركة على مستوى البعد المادي.

وهناك حركة أخرى على مستوى البعد التجريدي، فإن هذا الإنسان يتنقل في الحياة من حياة طفيلية إلى حياة نباتية إلى حياة حيوانية إلى حياة إنسانية، فهذه درجات ومراتب من الحياة، وهو ينال كل درجة بنفس الحركة، أي أن الحركة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام هي حركة في بعد تجريدي، والحركة في البعد التجريدي هي من حياة لا نمو فيها تسمى بالحياة الطفيلية، إلى حياة النمو المعبر عنها بالحياة النباتية، إلى حياة الإحساس والشعور المعبر عنها بالحياة الحيوانية، إلى حياة الإدراك والتعقل المعبر عنها بالحياة الإنسانية، ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وصل إلى الحياة الإنسانية.

إذن هذه النطفة ليست حركة زمانية ولا مكانية، بل هي حركة جوهرية في صميم ذاتها، بمعنى أن النطفة في جوهرها وفي صميم ذاتها تتحرك على البعد المادي وتصبح جسدًا، وعلى البعد التجريدي وتصبح عقلاً يدرك الكليات وينتزع ويحلل ويتخيل وينتقل من المعلومات إلى المجهولات. إذن مادامت النطفة في جوهرها تتحرك على البعدين من أول لحظة ومن أول يوم، إذن التمازج بين البعدين وتبادل التأثير والتأثر بين البعدين يكون منذ أول لحظة للنطفة التي انغرست من خلالها في جدار الرحم، فالعقل يتأثر بالبدن ويؤثر على البدن أيضًا، أي أن بينهما تبادلاً في التأثير نتيجة لكون الجسد والروح وجودًا واحدًا مبنيًا على حركة واحدة في ضمن بعدين وفي ضمن مستويين، فهي درجات من درجات الوجود الواحد: درجة من درجاته أنه مادي، ودرجة من درجاته أنه عاقل متأمل مفكر.

هنا مسألة شرعية أريد أن أنبه عليها، وهي مسألة استعمال المانع من الحمل. المرأة تارة تستعمل حبوبًا تمنع الحب، فإذا كانت الحبوب لا تضر بجسدها ضررًا بليغًا، فلا مانع من استعمالها، وتارة تستعمل المرأة لمنع الحمل اللولب، وهذا اللولب يمنع النطفة من الاستقرار، أي أن النطفة التي تقذف في الرحم لا تستقر على جداره لأن اللولب يمنعها من الاستقرار، فلا يحصل حملٌ بعد ذلك. في البداية جميع العلماء يقولون: لا يجوز النظر إلى عورة المرأة إلى من قبل زوجها، وأي إنسان آخر لا يجوز له النظر إلى عورتها، حتى لو كان الناظر طبيبةً، ومن الواضح أن وضع اللولب يتوقف على النظر للعورة، وقد يتوقف على ملامستها، وبما أن النظر للعورة غير جائز، إذن الوضع غير جائز، إلا إذا كان من يضع اللولب زوجها، كما لو كان زوجها طبيبًا فيستطيع وضع اللولب بنفسه.

لكن لو افترضنا أن الحمل يوجب لها مشقة لا تتحمل عادة، ويتوقف منع الحمل على استعمال اللولب، بمعنى أنها لا تستطيع استعمال موانع أخرى، فحينئذ إذا توقف منع الحمل - الموجب للمشقة التي لا تتحمل عادة - جاز أن تضع طبيبةٌ في المرأة لكي يمنعها من الحمل، فهنا السيد الخوئي «قدس سره» يقول: لا يوجد مانع إذا كان الواضع للولب زوجها، أو توقف منع الحمل على استعمال اللولب، وكان الحمل حرجًا ومشقةً عليها فلا مانع من استعمال اللولب، ولكن السيد الأستاذ السيد السيستاني «دام ظله» يستشكل في اللولب مطلقًا، فمن ترجع للسيد السيستاني لا يجوز لها استخدام اللولب، حتى لو كان الواضع له الزوج، وحتى لو توقف منع الحمل على استعمال اللولب، فوضع اللولب لا يجوز إلا في حالات الحرج الشديد الذي لا يتحمل عادة، وإلا فوضع اللولب غير جائز بنظره.

النقطة الثانية: مرض الجفاف الروحي.

نحن - مع الأسف - مصابون بمرض الجفاف، فلا نتذوق الدعاء إذا قرأناه، ولا نتذوق قراءة القرآن، ولا نتفاعل مع أجواء الدعاء ولا أجواء النافلة ولا أجواء قراءة القرآن، وهذا المرض عندما نتحدث عنه نتحدث عن جانبين: أعراضه وأسبابه.

الجانب الأول: أعراض مرض الجفاف الروحي.

كل مرض له أعراض يعرف بها، وأهم أعراض هذا المرض عرضان:

العرض الأول: عدم الاكتراث بالذنب.

نفعل الذنب مرة بعد أخرى، ولا نحاسب أنفسنا، ولا نبالي بما صنعنا، ولا نكترث بما أجرمنا وبما أخطأنا. عدم الاكتراث بالذنب وعدم المبالاة به عرض من أعراض مرض الجفاف الروحي، فقد ورد عن الرسول محمد : ”من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن“. الشخص الذي يستاء إذا ارتكب السيئة هو المؤمن، وأما الشخص الذي لا يكترث بالسيئة ولا يبالي بالذنب ولا يبالي بالخطيئة التي يصنعها، فإن عدم الاكتراث بالذنب دليل على أن هذا الشخص مصاب بمرض خطير، وذلك المرض هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بمرض القسوة: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ.

قلوبنا التي لا تبالي بالمعاصي والذنوب أشد قشوة من الحجارة، وقد ورد عن الإمام علي : ”إن الله ليبغض العبدَ الوقحَ المتجرئ على المعاصي“ الذي لا يبالي إذا أذنب، والذي لا يبالي إذا عصى، فيسمع الأغنية ولا يبالي، ويقيم العلاقة غير المشروعة ولا يبالي، ويعق والديه ولا يبالي، ويغتاب المؤمنين ولا يبالي.

العرض الثاني: عدم المبالاة بالموت.

هذا عرض آخر من أعراض هذا المرض المقيت، فإننا نرى من أنفسنا ومن واقعنا نتيجةً للإسراف في الذنوب عدم المبالاة بالموت، فهذا العصر الذي نعيش فيه مع أنه عصر التكنولوجيا وعصر التقدم وعصر الفضاء وعصر الذرة، إلا أن الأوبئة والأمراض الخطيرة المنتشرة فيه لا تقل عن الأمراض التي كانت تنتشر في عصر ذلك الزمان، فإن الأوبئة المنتشرة وموت الفجأة كثير في هذا العصر، ومع ذلك نحن لا نتعظ ولا نأخذ العبرة. نحن قد نشيّع أمواتنا، وربما نقوم بدفنهم، وربما نحضر فواتحهم، ولكننا مع ذلك لا نأخذ عظة ولا عبرة، كأن الأمر لا يهمنا بشيء! عدم المبالاة بالموت وعدم المبالاة باليوم الأخير وعدم المبالاة بساعة الانتقال إلى العالم الثاني دليلٌ على مرض خطير، وهو مرض الجفاف الروحي.

جاء أبو بصير إلى الإمام الصادق ، فقال: أبا عبد الله، خوفني فقد قسا قلبي. أصحاب أهل البيت يأتون لأهل البيت لأخذ الموعظة، فهل نحن نفعل كذلك؟! هل نحن نذهب لبيوت العلماء لأخذ الموعظة؟! هل نحن نزور العلماء ونقول لهم: ذكرونا بالآخرة، ذكرونا بالقبر، ذكرونا بالحساب، ذكرونا بيوم الانتقال؟! هل نحن نفعل كذلك؟! قال الإمام: ”يا أبا بصير، استعد لسفرك“ أنت مسافر، فلا تظن أنك مستقر، بل أنت تمشي في حال سفر حثيث وسريع إلى أن تصل إلى مقرك الأخير، وإلى المحطة التي يجب أن تصل إليها، وإلى القبر المظلم الموحش. "يا أبا بصير، استعد لسفرك، إن جبرئيل جاء إلى النبي قاطبًا عابسًا، فقال له النبي: يا جبرئيل، كنت تجيئني مبتسمًا، وأراك جئتني عابسًا قاطبًا، فماذا جرى؟ قال: الآن وضعتُ منافخَ النار، قال: وما منافخ النار يا أخي جبرئيل؟ قال: إن الله خلق النار فابيضت ألف عام، ثم احمرت ألف عام، ثم اسودت ألف عام، فهي سوداء مظلمة، لو قطر على أهل الأرض قطرةٌ من ضريعها لمات كلهم من نتن ريحها، فلما سمع رسول الله بكى، وما رئي مبتسمًا بعد ذلك اليوم.

عدم المبالاة بالموت والقبر يكشف عن أننا مرضى غافلون بعيدون عما خلقنا لأجله، وماذا ستنفعنا أموالنا؟! وماذا سينفعنا ترفنا؟! وماذا ستنفعنا هذه الحالة من الانغماس مع المادة ومع الترف ومع الدنيا؟! ورد عن الرسول : "إذا وُضِعَ الميت في قبره التفت إلى ثلاثة: يرى أولاده، ويرى أمواله، ويرى أعماله، يقول لأولاده: أولادي، ربيتكم وسهرت عليكم فماذا تعطونني وأنا في هذه الحفرة الموحشة؟ يقولون: ماذا نصنع لك؟! نشيعك إلى قبرك ونواريك في حفرتك، فيلتفت إلى أمواله، يقول: أيتها الأموال التي تعبت عليها وشقيت طول حياتي يوميًا في طلبها وتحصيلها ماذا تعطيني في هذا الموقف الرهيب الفظيع؟ تقول له الأموال: لك مني سترةٌ بيضاء تواري عورتك، فيلتفت إلى أعماله، إلى الشريط الأسود المملوء بالذكريات السوداء المضمخ بالمعاصي والرذائل، يلتفت إلى هذا الشريط وهو كاره، وهو لا يريد أن ينظر إليه، فيقول: وأنت ماذا؟ يقول: أنا قرينك في قبرك «أنا الذي لا أفارقك» وصاحبك عند نشرك.

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد   ذخرًا   يدوم  كصالح  iiالأعمالِ

الجهة الثانية: أسباب مرض الجفاف الروحي.

نحن مصابون بهذا المرض، فكيف نتخلص منه؟ إذا عرفنا أسباب المرض عرفنا طرق العلاج لهذا المرض.

السبب الأول: تسويف التوبة.

كلنا نسوّف.. ليس المهم أننا نذنب، إذ أن من يذنب كثيرون، وقد يذنب الإنسان ذنبًا كبيرًا أو صغيرًا، وليست المشكلة في أنني أذنب، وإنما المشكلة في أنني لا أتوب. من الطبيعي أن الإنسان يذنب، ولكن المشكلة أنه لا يتوب. نحن نذنب ولكن لماذا لا نتوب؟! لماذا لا نندم أنفسنا؟! لماذا لا نوبّخ أنفسنا؟! القرآن الكريم ينادينا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا. ربنا يعطف علينا ويرأف بنا فينادينا: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. مازالت الفرصة أمامك موجودة، فبإمكانك أن تتوب وتندم ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، ولا يوجد ذنب صغير ولا كبير مع التوبة، فإذا تبت وندمت ووبخت نفسك غُفِر ذنبك.

أين نحن عن صوت القرآن؟! أين نحن عن باب التوبة؟! أين نحن عن باب الإنابة؟! علي بن الحسين زين العابدين يقول في دعائه: ”اللهم وأعني على البكاء على نفسي، فقد أفنيتُ بالتسويف والآمال عمري، وقد نزلت منزل الآيسين من خيري“. الإمام علي يخاطب أبا ذر: ”يا أبا ذر، إياك والتسويف بأملك؛ فإنك بيومك ولستَ بما بعده“، فكّر في اليوم ولا تقل: سأتوب غدًا، إذ لازال هناك وقت للتوبة!! ”فإن يكن لك غد لم تندم على ما فرطته في اليوم الآخر؛ لأنك تبتَ فيه إلى ربك“.

التسويف ماذا يصنع؟! تسويف التوبة يؤدي إلى تراكم الذنوب، وتراكم الذنوب يجعل القلب قطعة سوداء. القرآن الكريم يقول: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، والرين هو الصبغ، أي أن قلبك يصبغ بذنوبك، وهذا يمثله الإمام الصادق : ”إذا أذنب العبد خرج في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن تاب انمحت، وإن عاد عادت، حتى تغلب على قلبه، فلا يفلح بعدها أبدًا“. يصبح قلبه قطعة سوداء، فلا يقرأ دعاء، ولا يصلي نافلة، ولا يحافظ على صلاة الفجر في وقتها، ويسمع الأغاني، ولا يبالي بالمعاصي والذنوب بعدما أظلم قلبه واسودت نفسه، فأصبح لا يبالي بأي ذنب ولا معصية، ولا يشعر بطعم الدعاء ولا النافلة.

هذا الإنسان الذي يسوّف التوبة ولا يبالي بالذنب تجده يكره حتى الدعاء، فيثقل عليه حتى الدعاء، فيجد قراءة دعاء كميل مثلاً أمرًا ثقيلاً على قلبه؛ لأنه عوّد نفسه على سماع الأغنية، وعلى العلاقات غير المشروعة، وعلى ما حرّم الله، فيثقل على قلبه أن يسمع دعاء كميل، ويثقل على قلبه أن يصلي نافلة الليلة، ويثقل على قلبه أداء النوافل اليومية، ويثقل على قلبه أن يسجد وقت صلاة الفجر ليصلي مع المصلين؛ لأنه في عالم آخر، وليس في هذا العالم.

بل ترى هذا الإنسان يتغافل حتى عن نقد ذاته، فمتى ما خلا بنفسه يجد نداء داخليًا قويًا: تب إلى الله، وارجع عن المعصية، إلى متى أنت مصر على الذنوب؟! لكنه يحاول أن يبتعد عن نفسه، ويحاول ألا يخلو مع نفسه، ويحاول أن يغطي على هذا النداء الداخلي، وهو نداء النفس اللوامة ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. من نعم الله علينا أن أعطانا نفسًا لوامة تنادي نداء قويًا في جاخلنا: تب، راجع عن المعصية، استح من ربك، خف من الله، تذكر الموت، تذكر الآخرة... إلخ، لكننا نتناسى ونتغافل ونستر هذا النداء ونعطي عليه، وكأننا لم نسمع شيئًا، ونصر على الجري والانقياد وراء شهواتنا وغرائزنا، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.

السبب الثاني: انعدام الأجواء الروحية.

الأجواء لا يصرعها إلا الأجواء، والأجواء لا يقاومها إلا الأجواء. الكثير منا يشتكي، ويقول: أنا أعيش في مجتمع منفتح على جميع المستويات، فأرى المرأة المتبرجة الفاتنة في السوق وفي الشارع وفي كل مكان، وأفتح شاشة التلفزيون فأرى المظاهر الخليعة، وأفتح صفحة الإنترنت فأرى الأفلام الخليعة، فكيف أحصن نفسي؟! كيف أتوب إلى ربي؟! كيف أرجع عن المعصية؟! كيف أخلق داخل قلبي إرادة حديدية وحاجزًا حديديًا يمنعني عن المعصية والرذيلة؟! أنا أعيش في أجواء منفتحة على هذه الصور، وعلى هذه الفتن، وعلى هذه الخلاعة، فكيف أحصّن نفسي؟!... الأجواء لا يقاومها إلا الأجواء، فإذا أردت أن تقاوم هذه الأجواء فعليك أن تخلق أجواء أخرى تقابل هذه الأجواء؛ حتى تستطيع التخلص من قيود وأسر هذه الأجواء، ومن الأجواء المهمة:

النموذج الأول: المسجد.

هل نحن نواظب على المسجد؟! الكثير منا يقول: «لماذا أذهب إلى المسجد؟! الذهاب إلى المسجد يستغرق وقتًا، والصلاة جماعة تأخذ وقتًا طويلاً أيضًا، ولذلك من الأفضل أن أصلي وحدي في مكاني»! المسجد جوٌ روحيٌ يصبغ على قلبك السكينة، ويصبغ على قلبك التوبة والإنابة، فقد جُعِل المسجد لكي يطعّمك طعمًا روحيًا تقاوم به أجواء أخرى. ما جُعِلَت أجواء المسجد إلا مقاومة الأجواء الأخرى، وقد ورد عن الرسول محمد : ”ثلاثة يشكون إلى الله يوم القيامة: مصحفٌ مهجورٌ، ومسجدٌ معطّلٌ، وعالمٌ ضاع بين جهّال“.

المسجد يشكو إلى الله إذا قلَّ الحاضرون فيه، ونحن مع الأسف نمر على كثير من المساجد فلا نجد سوى مجموعة من الأجانب يصلون فيه! أين الناس؟! أين المصلون؟! أين المتعبدون؟! أين المتدينون؟! ورد عن الإمام الصادق : ”إن المساجد شكت إلى ربها من الذين لا يشهدونها، فأوحى الله إليها: وعزتي وجلالي، لا أقبل لهم صلاةً واحدةً أبدًا، ولا أظهر لهم بين الله عدالة، ولا أنيلهم من رحمتي، ولا أجاورهم معي في جنتي“. هجران المساجد يبعث على نزول العذاب بالمجتمع.

وقد ورد عن علي : ”من اختلف إلى مسجد حاز إحدى ثمان خصال: أخًا مستفادًا في الله، آيةً محكمةً يسمعها، كلمةً تدله على هدى، كلمةً تبعده عن ردى، علمًا مستفادًا، ذنبًا يتركه خشيةً أو حياءً“. لا بد من أن يستفيد فائدة، فعلى الأقل إذا تردد على المسجد ترك الذنوب حياء من المصلين الذين يعرفونه ويعاشرونه، وهذا أقل فوائد المسجد، ومع ذلك نحن نصلي في بيوتنا كأن المساجد لا تعنينا شيئًا! المساجد أجواء روحية تقاوم الأجواء الأخرى.

النموذج الثاني: الأسرة.

كيف كانت بيوتنا قبل عشرين سنة مثلاً وكيف هي بيوتنا - مع الأسف الشديد - الآن؟! كنا إذا جلسنا من النوم نسمع صوت الوالدين يقرآن القرآن، ونسمع صوتهما يصليان الفجر، ونسمع صوتهما يصليان النافلة ويقرآن الدعاء، وأما الله فكيف هي بيوتنا؟! بمجرد أن نصحو من الصباح نجلس على شاشة التلفزيون، وعلى ترانيم الموسيقى، وعلى الصور الخلاعية، وعلى أي شيء آخر.. إذن أين بيوتنا الآن وأين بيوتنا من قبل؟! الإمام الصادق يقول: ”البيت الذي يُقْرَأ فيه القرآنُ: تحضره الملائكة، تهجره الشياطين، يضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض. والبيت الذي يُسْمَع فيه الغناء: تهجره الملائكة، تحضره الشياطين، ولا يؤمن فيه الفجيعة“. بيت الغناء لا يؤمن فيه الفجيعة، وليست الفجيعة كارثة مادية بالضرورة من قبيل الزلازل والحرائق مثلاً، بل قد تكون الفاجعة في الدين، وقد تكون الفاجعة في العرض والكرامة، وهي أشد من الفواجع المادية.

كيف نربي أسرنا الآن وكيف كان آباؤنا يربون أسرهم؟! أنا أجلس مع زوجتي وعيالي لمشاهدة المسلسل والفلم والبرنامج، ولكن هل جلستُ يومًا مع زوجتي وأولادي وقرأتُ معهم دعاء كميل؟! هل جلستُ يومًا مع زوجتي وأولادي وقرأتُ معهم دعاء التوسل؟! هل جلستُ يومًا مع زوجتي وأولادي وقلتُ لهم: هذه الليلة ليلة جمعة، فلنكن في حالة دعاء وتقرب إلى الله سويًا؟! هل ربينا أسرنا على هذه الأجواء الروحية؟! الإمام الصادق يقول: ”ما اجتمع أربعة على أمر واحد فدعوا ربهم إلا تفرقوا عن إجابة“، وكان الصادق إذا حزن جمع عياله ودعا وقال: ”أمّنوا على دعائي“، فهل نحن عندنا هذه الجلسات؟! هل عندنا جلسات روحية مع أزواجنا وأولادنا؟! أم أن جلساتنا على الموسيقى وعلى الأفلام وعلى الأحاديث التافهة؟! جلساتنا عن الغيبة وعن الحديث عن الدنيا، كيف ثوبكِ؟! كيف شكلكِ؟! كيف السوق اليوم؟! كيف السيارة؟! كيف كذا...؟! هل نجلس على ذكر الله؟! هل نجلس على أجواء روحية؟! ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.

كيف نريد أن نقاوم الأجواء المنفتحة ونحن ليس عندنا أجواء داخل المنزل؟! إذا لم يكن عندنا أجواء روحية نخلقها داخل المنزل فكيف نقاوم الأجواء المنفتحة؟! من الطبيعي أن الشاب الذي يجلس في منزل فارغ من القرآن وفارغ من الأجواء الروحية، من الطبيعي أن يفقد هذا الشاب المناعة، وإذا فقد المناعة انهار أمام الإغراءات والإثارات والمزوقات التي تحثّه على الجنس وعلى الفتنة وعلى الريبة وعلى العلاقة غير المشروعة؛ لأنه يملك مناعة، والسبب في ذلك أنه لا يملك أسرة تعيش أجواء روحية.

السبب الثالث: عدم الخلوة.

مشكلتنا أننا ليس عندنا خلوة، والمقصود من الخلوة محاسبة النفس. أنا طوال الوقت مشغول، فمتى أحاسب نفسي؟! منذ الساعة السابعة صباحًا إلى المغرب أنا في العمل، وأرجع متعبًا، فأريد أن أرتاح، وأن أشاهد مسلسلاً أو فيلمًا لطيفًا، وأريد أن أتعشى مع عيالي وأطفالي، وربما أخرج للنزهة، ففي يوم الإجازة بعد التعب والعناء الشديد أحتاج إلى استرخاء وإلى راحة، فأين أخلو مع نفسي؟!

يا أخي، كما تهتم بعملك وبوظيفتك وبشكل سيارتك وبشكل وجهك، وتهتم بزوجتك وبأولادك، وتهتم بأثاث منزلك وبسائر أشيائك المادية ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. كما أنك تحب هذه الأشياء وتهتم بها فاهتم بنفسك. عشر دقائق في اليوم، أو ساعة في الأسبوع، تحاسب فيها النفس. هل تجلس مع نفسك.. لا عيال ولا أطفال، بل تبتعد عنهم كليًا، وتجلس لتخلو مع نفسك عشر دقائق في اليوم أو ساعة في الأسبوع لا تلتقي فيها مع أحد، تجلس مع نفسك وتحاسب النفس على كل نقطة، وعلى كل أمر، وعلى كل صغيرة وكبيرة. تمرر الشريط: ماذا صنعت اليوم؟ ماذا صنعت هذا الأسبوع؟ ماذا كانت علاقتي مع فلان؟ ماذا عملت؟ ماذا فعلت؟ إذا جلست تحاسب نفسك فإن هذه الخلوة هي التي تربيك.

القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وورد عن الرسول محمد : ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا“، وورد عن الإمام الكاظم : ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم - كل يوم حساب، كل يوم عتاب، كل يوم مراقبة - فإن عمل حسنة استزاد الله، وإن عمل سيئة استغفر الله وتاب إليه“.

إذن نقد الذات - محاسبة النفس - هو الذي يخلق نفسًا فاضلة، وهو الذي يهذبك، وهو الذي يغيرك، وهو الذي ينقلك من عالم السيئات إلى عالم الحسنات، وهو الذي يجعلك إنسانًا متدينًا إذا كنت إنسانًا غير متدين، فالخلوة ونقد الذات ومحاسبة النفس أمر ضروري. الإمام زين العابدين إمام معصوم ولكنه يقول: ”وما لي لا أبكي؟!“، البكاء ليس عيبًا، بل إن البكاء حسابٌ للنفس وتوبيخٌ لها.

عندما يجلس الإنسان ويحزّن نفسه إلى أن تبكي نتيجة المعاصي والذنوب فإن هذا علاج نفسي ينقلك من عالم إلى عالم أفضل. ”وما لي لا أبكي؟! ولا أدري إلى أين مصيري، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وما لي لا أبكي؟! أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، ومرة عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه“.

تعلقوا بالدعاء، تعلقوا بزين العابدين، تعلقوا بالصحيفة السجادية، فإن الصحيفة السجادية تلامس الروح، وتهذب النفس، وتنبه الإنسان على أقل العيوب والأخطاء. الصحيفة السجادية إذا واظبتَ عليها فإنها تربيك تربية روحية فاضلة، فعلّم نفسك على قراءة الصحيفة، وعلّم أولادك على أن يروا الصحيفة السجادية دائمًا أمام أعينهم، علّمهم على طعم الدعاء، وعلى حلاوة الدعاء، وعلى ذوق الدعاء، فإن ألذ طعم هو طعم الدعاء، وطعم المناجاة مع الله، وطعم الوقوف بين يدي الله باكيًا تائبًا منيبًا.

الذين ارتبطوا بالله إلى آخر لحظات حياتهم.. الحسين بن علي والدم يصبغ شيبته وصدره وهو ينادي ربه: إلهي تركتُ الخلق طرًا.. حبك ملأ قلبي، أنا ألتذ بطعم مناجاتك.

إلهي تركتُ الخلق طرًا في هواك
فلو   قطعتني  في  الحب  iiإربًا
  وأيتمت    العيال    لكي   iiأراكَ
لما   مال   الفؤاد  إلى  iiسواكَ

ولذلك الحسين بن علي الذي كان شديد العلاقة مع الله «عز وجل» إذا أثنى على إنسان أو مدح إنسانًا أو فوّض إنسانًا فهذا يكشف عن أن ذلك الإنسان إنسان عظيم متعلق بالله كما تعلق الحسين بن علي بربه، ولذلك أثنى الحسين بن علي على سفيره مسلم بن عقيل، فقال: ”لقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل“.

 

موقف الإسلام من سيطرة العقل الجمعي
العمل بين المنظور الاقتصادي والمنظور الفلسفي