نص الشريط
خطر الذنوب
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 2/9/1431 هـ
مرات العرض: 3173
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1748)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا

صدق الله العظيم

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في محورين:

1 - آثار الطاعات والمعاصي.

2 - كيفية تأثير الطاعات والمعاصي على سائر أعمال الإنسان.

المحور الأول: تعرّض القرآن الكريم إلى آثار الطاعات والمعاصي فذكر لها عدة آثار خطيرة:

الأول «الحبط»: عمل يصدر من الإنسان يحبط أعمالًا سابقة عليه، مثلًا قوله عز وجل ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فإن الارتداد يحبط ما سبق وما لحق ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وعندما يتحدث عن التوبة أيضًا يظهر لنا أن التوبة أثرها يمتد لما قبلها من الأعمال ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أسرفوا يعني انغمسوا في المعاصي والذنوب والرذائل ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

فهناك بعض الأعمال تحبط بعضها سواء كانت طاعة أو معصية، مثلًا عندما يقول عزّ وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لماذا؟!، ثم يبين العلّة عن تحبط أعمالكم ﴿وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ، هذه لا تختص بالنبي كما في الروايات، تمتد لأبناء النبي أيضا المعصومين .

ليس لزائر النبي أن يرفع صوته عند قبر النبي وليس لزائر الحسين أو لزائر علي بن موسى الرضا أو لزائر موسى الكاظم أو غيرهم أن يرفع صوته عند قبورهم - الأئمة الطاهرين - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ.

فالنبي وعلي والحسين أحياء عند ربهم بعد مماتهم كحكمه في حياتهم، كما لا يجوز رفع الصوت أمامه وهو حي كذلك، من إساءة الأدب أن ترفع صوتك عند قبر النبي إلا بالتضرعوالدعاء، كما أن هناك بعض الحسنات لها تأثير على ما سبقها، كما قال عز وجل ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَ زُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، النافلة تمحو السيئات حتى ولو لم يتب منها الإنسان.

الثاني «التبعية»: من الآثار أن الإنسان يتحمل تبِعة الآخرين، إن بعض الذنوب لا يقتصر أثرها على الإنسان نفسه، بل يتحمل من خلالها ذنوب الآخرين أيضا، قال تبارك وتعالى ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ الإنسان يتحمل وزره ووزر من عمل بكلامه، من سار على ضوء سنّته ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ، وقال في آية أخرى ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ.

ومن هنا تكون مسؤولية العلماء مسؤولية خطيرة، فإن العلماء يتحملون تبعات أعمال العباد، العالِم الذي يكون بعلمه ويحاول أن يوصل الناس إلى الحقيقة ويحاول أن يوصل الناس إلى البصيرة ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، فإنه كما يكتسب ثواب عمله، أنه يكتسب ثواب من عمل بإرشاده ومن عمل بمواعظه، وبالعكس.. إذا أضلّ الناس أو أدخلهم في طرق لا يرضى بها الله تبارك وتعالى فإنه يتحمل وزره ووزر من عمل بكلامه ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ إذن من آثار الذنوب التبعية.

الثالث «المضاعفة»: هناك بعض الذنوب وبعض الطاعات يتضاعف عليها الثواب أو يتضاعف عليها العقاب، مثلا قوله تبارك وتعالى ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ، تتحمل العذاب مرتين، بينما عندما يتحدث عن الطاعات يقول ﴿مثل مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ، ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وقال: ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا.

ومن الآثار أيضا - الرابع - «أن الإنسان يعطى إذا نوى»: مثلا عندما نلاحظ قوله عز وجل ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، هذا الإنسان المؤمن ماذا يتمنى؟!، كل إنسان يؤسس أسرة، والإنسان إذا أسس أسرة ماذا يتمنى؟!، يتمنى أن تكون أسرته معه حتى في عالم البرزخ، يتمنى أن تكون أسرته معه حتى في عالم الخلد حتى يوم القيامة لماذا؟!، لأنه تعب على هذه الأسرة، عندما أسس أسرة وتعب على تربية أولاده وأرشدهم إلى النهج القوي والصراط المستقيم فإنه يتمنى ألّا تذهب تربيته سدى وألّا تذهب أتعابه هدرا.

لذلك يتمنى هذا المؤمن من كل قلبه أنه إذا مات وانتقل إلى عالم من السعادة والعناء في عالم البرزخ أن تأتي أولاده إليه في ذلك المكان فيعيش مع أولاده في عالم البرزخ مطمئنّا مستقرا كما أنهم معه في الدنيا، ويتمنى أن يعيش معه أبنائه يوم القيامة في روضة من رياض الجنة كما أن يعيش معه في الدنيا، إن الله لا يخيب، يحقق له أهله ويحقق له أمنيته ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ فتكون معه ذريته في العوامل المضيئة المشرقة الذي يريد أن يستقر مع عائلته فيها، إذن الذنوب والطاعات والمعاصي والحسنات لها آثار كبيرة.

المحور الثاني: ربما يتساءل الإنسان فيقول: " بأن مضمون هذه الآيات أن الذنب يؤثر على الأعمال، والطاعة تؤثر على الأعمال، هذا المضمون لا يتطابق مع العقل والنقل:

* أمّا أنه لا يتطابق مع العقل فإذا قام الإنسان بجريمة أو بظلم فلماذا يحمل أوزار الآخرين وآثام الآخرين؟!، إنّ تحميل الإنسان أوزار الآخرين وذنوب الآخرين ظلم، لأنه لم تصدر منه هذه الذنوب ولم تصدر منه هذه الأوزار، فكيف يتحملها؟!، هذا ظلم.

بل قد يقول الإنسان: إن هذا غير معقول، هل من المعقول أن يصرف الإنسان عشرين سنة أو خمسين سنة من عمره بالطاعات في القربات والعبادات ثم يفعل معصية بعد خمسين سنة، هل يعقل أن يؤثر الموجود في المعدوم؟!، هذا الطاعات انتهت وانعدمت ولم تبقى!!، فكيف يمحوها هذا العمل المتأخر؟!، إذا كان عملًا سيئا فهذا من باب تأثير الموجود في المعدوم وهو غير معقول.

وأيضًا لا يتطابق مع النقل، لماذا؟!

* نلاحظ الآيات القرآنية ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ بمعنى ألّا يضيع على الإنسان شيء حتى لو عمل معصية، فإنما عمله من الطاعات سيراه، وقال تبارك وتعالى ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، وقال تبارك وتعالى ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

فكيف يتحمل الإنسان أو زار الآخرين وذنوب الآخرين؟!، هذا لا يتطابق مع القرآن نفسه ومع نصه، القرآن نفسه والله تبارك وتعالى لا يمكن أن يصدر منه الظلم، إذن فما معنى هذه الآيات التي تقول أن الله بذنب قد يمحو حسنات عشرين السنة، وأن الإنسان قد يفعل ذنبا فيحمل به ذنوب الآخرين وأوزار الآخرين فإن هذا المضمون لا يتطابق مع العقل والنقل كما أوضحنا ".

ما هو الجواب عن هذا السؤال؟، هناك وجهان للجواب عن هذا السؤال:

الوجه الأول: هناك قاعدة من قواعد «العقل العملي» يعبّر عنها علماء الكلام عندنا ل «الحسن والقبح»، فيقولون: ”الظلم قبيح والعدل حسن والصدق حسن والكذب قبيح“، ما معنى الحسن والقبح؟، وما معنى أن الظلم قبيح والعدل حسن؟

إن المقياس والميزان في حسن الفعل وقبحه على البناء «بناء المجتمع العقلائي» إذا نظرنا للمجتمع العقلائي - طبعا لا نقصد مجتمعًا معينا كالمجتمع العربي أو الإنجليزي أو الهندي أو الفارسي، لا نقصد العقلاء كلهم -، إذا لاحظنا المجتمع العقلائي في كل زمن، في كل مكان، في كل حضارة، نرى أن المجتمعات العقلائية اتفقت وتطابقت على بعض القيم وعلى بعض الفضائل والمفاهيم.

«معنى القبح»: فالمجتمع العقلائي بأسره يقول: ”بما أن الظلم يُحدث مفسدة عامّة وخللًا عامٍّا في النظام الاجتماعي لذلك المظلوم، الظالم معاقبا عندنا على فعله هذا“.

«الظلم قبيح»: معناه أن المجتمع العقلائي حينما أدرك أن الظلم يحدث اختلالاً في النظام العام، لذلك تبَان العقلاء كلهم على أن الظالم مذموم ومستحق للعقوبة.

وكذلك معنى الحسن عندما نقول أن الأمانة شيء حسن، ما معنى «حسن»؟

«معنى الحسن»: أي أن المجتمع العقلائي في كل حضارة، في كل زمان أدرك أن الأمانة يترتب عليها مصلحة عامة وترتب عليها استقرار المجتمعات وانتظام الحياة الاجتماعية، لذلك تبَان العقلاء في كل مكان على أن الأمين ممدوح ومستحق للمكافئة ومستحق للمدح والثناء، هذا.

فالميزان في الحسن والقبح هو رؤية المجتمع العقلائي العام في كل زمان وفي كل مكان، ولذلك تبان المجتمع العقلائي على قبح الظلم وحسن العدل وقبح الخيانة وحسن الأمانة وقبح الكذب وحسن الصدق وأمثال ذلك.

لأجل هذا فلنأتي للمجتمع العقلائي الذي هو الميزان في الحسن والقبح، والمسألة هو: هل يمكن أن يطالب القاتل بجريمة قتله؟!، المجتمع العقلائي يقول: نعم، لو أن إنسان قتل شخصاً فقد أزهق روحه بالذنب وأفقد عياله، من يموّلهم ومن ينفق عليهم؟!!، هذا ذنب آخر.

فقضى على حقوق هذا المقتول، فإن هذا المقتول كانت له طموحات وكانت له أمنيات وكانت له مسارات، هو بقتله أفسد عليه طموحاته وأفسد عليه أمنياته وأفسد عليه مشاريعه، لو افترضنا أن المقتول دخل في مشاريع وبنتيجة قتله فشلت هذه المشاريع وخسرت، من يتحمل خسارتها؟!، القاتل.

إذن القاتل لم يصنع ذنبا واحداً، لأن القاتل أزهق روح المقتول وانتهت المشكلة بحرْم عائلته من الأب أو المعيل، بل إنه أفسد مشاريعه التي أمّلها وخطط لها، إذن لو قيل للمجتمع العقلائي أن هذا القاتل يتحمل آثار كل هذه الذنوب وآثار كل هذه السيئات لما رأى المجتمع العقلائي في هذا ظلم، رأى هذا عدل وحسن ورعاية لتمام المصالح ورعاية لتمام الحقوق عندما يقال بأن الإنسان يتحمل وزر غيره.

فلنفترض الآن أن عرض على المجتمع العقلائي شخص أغرى الناس بأن قطع إشارة المرور شيء حسن لا يوجد مانع فيه قائلا: أنا أعرف بالنظام، فأغرى الناس بذلك، فقطعوا - الإشارات - حتى أحدثوا أضرارا ماديّة وبدنيّة كثيرة، فلو قال القانون العقلائي بأن هذا الشخص الذي أغرى الناس بهذه المخالفة للنظام يتحمل أخطاء الآخرين الذين أغراهم ويتحمل ذنوب الآخرين الذين أغراهم، لم يجد المجتمع العقلائي في هذا ظلم بل رآه عدلاً وموافق للموازين.

إذن تحمّل الشخص تبعات من عمل بعمله وتحمّل الشخص جزاءاً مضاعفاً على فعله، لأن لفعله آثار متعددة خطيرة، أمر لا يرفضه المجتمع العقلائي، يقبله المجتمع العقلائي ويراه حسن لأن فيه انتظاماً للمصلحة العامة وليس ظلمًا قبيحاً، هذا إذا راجعنا المجتمعات العقلائية، إذن هذا هو الوجه الأول من الجواب عن الشبهة والسؤال الذي طرحناه.

الوجه الثاني: يبتني على مقدمتين:

المقدمة الأولى: هذا الكون الذي نعيشه أسرة واحدة، ومعنى أنه أسرة واحدة أن كل جزء من هذا الكون مؤثر ومتأثر، الكون يتفاعل بعضه مع البعض الآخر، الشمس لها أثر على الكائنات الحية كلها التي على الأرض، القمر له أثر على البحر.. على الشجر له أثر، على الإنسان له أثر.. الخ، الكون يؤثر بعضه على البعض الآخر، هذا الإنسان الصغير في حجمه:

أتحسب  أنك  جرم  صغير   وفيك انطوى العالم الأكبر

هذا الإنسان الصغير في حجمه يصنع ذنوب خطيرة وجرائم كبيرة، هذا الإنسان يحدث مصانع، وهذه المصانع تُحدث تصاعد ثاني أكسيد الكربون، فالتصاعد يحدث احتباساً حرارياً، هذا الاحتباس الحراري يحدث فيضانات وسيول وعواصف تحرق مجتمعات بأسرها، تحرق أمم وتقضي على أمم وبيئات بأسرها، هذا الإنسان بعمل بسيط أثّر للكون أثرًا خطيرا جدًا.

إذن الكون يؤثر بعضه في البعض الآخر ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هناك البعض يقرأ الآية فيتساءل عن معناها، وهذا معناها بظاهرة الاحتباس الحراري فإنه من مصاديقها، فعم الفساد والخراب في البر والبحر بعمل إنسان لأجل أمواله، لأجل ثروته، لأجل أن يبقى جيبه مملوء، يقضي على البيئة كلها ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ.

الكون يؤثر بعضه في البعض الآخر، حتى الإنسان مع أخيه الإنسان، عندما أقف أمامك وأتحدث - خصوصا إذا كنّا صائمين - وأنت تصير وجه لوجه معي، محدقة بيني وبينك، نحن نتصور أنها أمر طبيعي، بينما هي أنني أنقل آثار جسمي إليك وأنت تنقل آثارا من جسمك إليّ، هذا شيء ضروري، لا تتصور أن المسألة خالية وأن المسألة هكذا طبيعية، لا، حتى هذه المواجهة، حتى هذه المحادثة تُحدث تفاعلاً بين جسمي وجسمك، فكيف إذا كانت على نحو التمازج؟!

الإنسان الذي يقضي أغلب وقته مع زوجته أو أغلب وقته مع أبنائه، فلجسمه تأثير على أجسامهم ولأجسامهم تأثير على جسمه لا محال، الكون أسرة واحدة، يؤثر بعضه في البعض الآخر، يؤثر بعضه في الجسم الآخر، هذا التأثير والتأثر متبادل في هذا الكون كله، في هذا الكون بأسره، لو كان عندك حيوان تربيه، أتظن أن المسألة مسألة خالية؟!، لا تتأثر أنت بجسم هذا الحيوان!، بلا إشكال ولو آثار ضئيلة، ولو آثار بسيطة، الكون كله مؤثر ومتأثر.

المقدمة الثانية: بما أن الكون كلّه عالم التأثير والتأثر، فالذنب له أثران:

الأول: الذنب قد يكون له أثر تكويني يسمى تأثير ملكي «مادي».

الثاني: وقد يكون له أثر غيبي ملكوتي.

فأحيانا يكون للذنب أثر ملكي أي مادي وأحيانا يكون له أثر ملكوتي أي غيبي وراء المادة لا ندركه بحواسنا القاصرة، أضرب لك مثال، عندما يقوم الإنسان بسرقة أموال شخص آخر، أهل البيت سافروا، فانقضّوا - السارقين - عليه وأخذوا الذي فيه، - هذا من مميزات الحضارية لمجتمعاتنا أنها تغرق في السرقات ومن العلائم الواضحة على التواصل والتعاون واستتباب المن والاستقرار انتشار هذه السرقات - إذا سرق الإنسان ثروة شخص آخر أو أموال شخص آخر، فإن هذا الذنب له آثار تكوينية، مثل: حرمه من أمواله وربما على أسرته في حالة فقر.

بل ربما تصرّف بعض هؤلاء أبناء الفقراء ارتكاب جريمة كالزنا أو السرقة من أجل رفع الفقر تحت تحصيل المال، فأنت عندما تجوّع الفقير إلى حد يلجأ لزنا أو لحد يلجأ إلى السرقة من أجل أن يعوض عن فقره، فإنك دخيل في الجريمة التي ارتكبها لأنك بسرقتك لماله أو لتجويعك له أصبحت سبب من الأسباب المقدمات لجوعه إلى الجريمة الخطيرة والاجتماعية، إذن الذنوب لا تقتصر على أثر واحد، لها آثار تكوينية متعددة، هذا من ناحية الأثر التكويني.

أمّا من ناحية الأثر الغيبي الذي لا ندركه بحواسّنا، الذنوب لها أثر مادّي يعبر عنه ب «التأثير الملكي» المرتبط بعالم الملك ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ولها أثر غيبي لا ندركه بحواسنا وهذا ما يسمى ب «الأثر الملكوتي» ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.

من هذه الآثار: مثلاً الإنسان عندما يصلّي، هذه الصلاة تطرح أثرا على نفسه - شَعَر أو لم يشْعر -، هذا الأثر هو الانشراح، لين القلب، ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ، الانشراح النفسي أثر غيبي، أثر ملكوتي يترتب على الطاعة، وبالتالي العكس، إذا أقام الإنسان معصية فإن أثر المعصية ينعكس على قلبه شاء أم أبى، ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا.

قد يقول شخصا: أنا لا أرى ضيق في صدري، أنا جالس أفعل معاصي بإسراف.

ليس المراد بالضيق هو الاختناق، المراد بالضيق قسوة القلب ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حتى الحجر يتفاعل مع الله، يتفاعل مع خشية الله ﴿ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، الحجر يتفاعل مع الله وقلب هذا الإنسان إذا أصرّ على الذنب والرذيلة لا يتفاعل مع الموت ولا مع الآخرة ولا مع الموعظة ولا مع الفضيلة، وقلبه أشد قسوة من الحجر، هذا معنى ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء لا نستطيع أن نتفاعل فيه.

ومن أجل ذلك نصل إلى الجواب والنهاية:

هذه الذنوب إذا قسناها بالمقاييس المادية وإذا أخضعناها للموازين المادية سوف نرى أن أثرها ينحصر في زمن محدود وعالم محدود، هذا الإنسان ظلم إنسان آخر، أخذ ألف ريال من أمواله مثلا، ما المشكلة في ذلك؟!، وما محدود له أثر محدود، هذا إذا قسناها بالمقاييس المادية، أما إذا رفعنا نظرنا وتأملنا في المقاييس الملكوتية وأن هذه الذنوب وأن هذا الذنب له آثار ملكوتية غيبية لا ندركها بحواسّنا فليس من المستغرب حين إذٍ تأثير الذنب على ما سبقه من الأعمال.

طاعة خمسين سنة تتبخر وتزول بعمل سيئ واحد بلحاظ المقاييس الملكوتية ممكن، هذا لا يعني تأثير الموجود في المعدوم، لا، لأن هذه الطاعات التي استمرت خمسين سنة بلحاظ آثارها الملكوتية لا زالت موجودة وهذا الذنب الذي بعد خمسين سنة بلحاظ تأثيره الملكوتي يقضي على تلك الآثار الملكوتية كلّها.

وعندما نقول أن الإنسان يتحمل أوزار الآخرين فإنه لا يتحمل ذنوب الآخرين لكن ذنبه نفسه بلغ من الخطورة أن جزاءه يعادل جزاء ذنوب الآخرين كلهم، هذا بلحاظ عالم التأثير الملكوتي.

تأثير الأشياء الملكوتية: نضرب لها أمثلة، ”ضربة علي يوم الخندق تعدل أعمال الثقلين إلى يوم القيامة“، إذا قسناها بالمقاييس الملكوتية الماديّة لم تستغرق دقيقة، عمل محدود في زمن محدود من شخص محدود على شخص محدود، فلماذا امتد هذا الأثر لأعمال الثقلين إلى يوم القيامة؟!، كل ذلك بلحاظ ماذا؟!، بلحاظ المقاييس الملكوتية، لا بلحاظ المقاييس الماديّة، ”ضربة علي يوم الخندق تعدل أعمال الثقلين إلى يوم القيامة“.

ومن هنا نفهم ما ورد عن النبي محمد - - ”من سن حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة“، مثلاً الآن هذه السنن تشيع في مجتمعنا، الآن سنة قراءة القرآن، إحياء ذكر الله في المساجد، صحيح أنه من القديم الناس تأتي أيام رمضان تقرأ القرآن في المسجد لكن الآن «سُنّة» أنهم يأتون ويقرؤون بترتيل وخشوع، بقراءة واحدة، - في إيران متعارف أيام رمضان يجتمعوا ثلاثين واحد، كل واحد يقرأ جزء، خلال ساعة واحدة يقرؤون القرآن كله ويهدون ثوابه إلى روح شخص معين -.

”من سن سنة حسنة كان له أجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة“ هناك البعض يسن سنة سيئة مثلا: الآن في أيام الصيف بعض الأعراس - أعراس النساء - العرس في الفندق... حسنا، بعد العرس تطبيل وتزمير إلى أذان الفجر... إلى ما بعد أذان الفجر بل قد تبزغ الشمس ولا أحد من المحتفلين بهذا العرس صلى صلاة الفجر، هذه سنة حسنة لو سيئة؟!، ”ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة“ وهكذا.

فإذن لا تنافي بين المضامين القرآنية التي تحدثت عن آثار الذنوب والطاعات مع قوله عز وجل ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى وغير ذلك من الآيات القرآنية الأخرى.

والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين

مرض القلب
الإنسان والغيب