نص الشريط
ذكر الله وآثاره
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 3/9/1431 هـ
مرات العرض: 2876
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1838)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ «1»

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن محاور ثلاثة:

المحورالأول: هناك عدةآيات تؤكد وتحثّ على ذكرالله ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، قال تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا «2»، ﴿فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا «3»، ماهو المقصود بذكرالله؟

ليس المقصود بذكرالله الذكراللفظي وهو أن يقول الإنسان: لاإله إلا الله، أو سبحان الله أو الحمدلله، فإن الذكر اللفظي مظهر للذكر وليس هوحقيقية الذّكر، فكم من إنسان مصرّ على المعصية وهو يذكرالله على لسانه، الذكر اللّساني ليس إلا مظهرًا، قد يكون هذا المظهر معبرٍّا عن حقيقة إيمانيّة قلبيّة وقدلايكون معبرا عن ذلك.

كما أنه ليس المقصود بذكر الله أن يتصور الإنسان «الله» في ذهنه، فإن هذا الاستحضار - استحضار صورة لله عز وجل - ليس هو المقصود بذكرالله، فهوأمرمشترك بين المسلم والكافر، فحتى الكافر الذي لايؤمن بالله عندمانخبره عنهيتصورالله، حتى العاصي قد يتصور الله في بعض الموارد، فليس هذا المراد من ذكر الله.

بل المراد من ذكر الله هو ذكرالاسترحام والاستمداد، عندما يؤمن الإنسان أن الله منبع الرحمة وعندما يؤمن أن الله منبع المدد ومنبع القوة ومنبع الحياة، فذكر الله هو عبارة عن ميل النفس على سبيل الاسترحام والاستمداد - الذي يعبّر عنه ب «الخضوع» -، لاحظ الآيةالمباركة عندما تحدثت عن ذكرالأب ﴿فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا، كيف يذكر الإنسان أباه؟ ّ!

الإنسان عندما يتصور أباه يتصورالرحمة، لأن أباه مصدر للرحمة، عندما يتصور أباه يتصور المدد والعطاء، لأن أباه مصدر لمدده وعطائه، فعندما يتذكر الإنسان أباه، فهذا التذكر هو عبارة عن ميل النفس للأب على سبيل الاستمداد والاستعطاف، ﴿فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ?، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ.

المراد بذكرالله هو أن يُخضع الإنسان نفسه على سبيل طلب الرحمة وطلب المدد وطلب العطاء، فإن هذا الذكر يعطي الإنسان رصيدا روحيّا وحصانة روحيّة منيعة أمام وساوس الشيطان وأمام التجاوزات والإثارات والإغراءات نحوالمعصية ونحو الرذيلة.

وممّا يؤكد هذا المعنى قوله عز وجل: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ هذا عطف تفسير وليس عطف مغايرة ﴿وَقُلْ عَسَى - ذكرطلب الهداية - أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، مهماوصل الإنسان إلى مرتبة من الهداية يذكر الله ليستمد منه مرتبة أعلى.

المحورالثاني: نحن نلاحظ أن الآية القرآنية جعلت ملازمة بين ذكرالله وبين الاطمئنان ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «4»، وهنا نتعرض لمطلبين:

المطلب الأول: ما هو المقصود بالاطمئنان ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ؟

الاطمئنان له مصلطلحان:

الأول «الأصولي»: مرتبة من مراتب الإدراك، لأنه إدراك الذهن للواقع له درجات، أحيانا يدرك الواقع مئة بالمئة هذا يسمى قطع «يقين»، فإنه يحصل على القطع، وأحيانا أقل، أي على مرتبة برزخية بين القطع والظن تسمى الاطمئنان، فالاطمئنان مرتبة من مراتب الإدراك.

أحيانا الإنسان يدرك أن هناك خطركهربائي خارج بيته مثلا، أحيانا الإنسان يظن لا يقطع مثلا ستين بالمئة، أحيانا يصل إلى درجة تسعين بالمئة هذا يسمى اطمئنان، هنالك احتمال أنه لا يوجد ولكنه ضئيل فلا يعتنى به، فالاطمئنان مرتبة برزخية بين الظن واليقين.

لأجل ذلك يقول علماء الأصول: حجية القطع عقلية وحجيّة الاطمئنان عقلائية، ومعنى ذلك بأن الإنسان إذا قطع بالواقع مئة بالمئة - لايحتاج أن يخبره الشارع - فيقول له عقله: بما أنك قطعت بالواقع مئة بالمئة فعليك أن تسيرعلى ضوء الواقع، ولا بدّ لك أن تسير على ما أدركته، هذه لابدّية عقلية، حجية العقل حجية قطعية.

أماالاطمئنان: أنا وصلت للواقع مئة بالمئة مثلا، فهنا لايحكم العقل بلابديّة ما أدرته بنسبة تسعين بالمئة، ولكن العقلاء «المجتمع العقلائي» يقولوا: من وصل إلى شيء على نحو تسعين بالمئة فيلام إن لم يسر عليه، فهي حجة عقلائية وليست عقلية.

فالمجتمع العقلائي يرى الإنسان الذي يسير على طبق اطمئنانه إنسانا مستقيما، وأما الإنسان الذي يمشي على طبق احتمال عشرة بالمئة ويترك تسعين بالمئة يرونه إنسانا مريضا مشوّشا، فحجيةالاطمئنان حجية عقلائية لا عقلية كمثل القطع.

الثاني «العرفاني»: عبارة عن سكون النّفس واستقراررها، ليس له علاقة بالإدراك، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «5»، لم يقل ”عقلي“، بل قال: ”قلبي“، لوكان الاطمئنان له علاقة بالإدراك لقال ”ليطمئن عقلي“، لا ”ليطمئن قلبي“.

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً «6» الاطمئنان في القرآن - في مصطلح علماء العرفان - عبارة عن سكون النفس واستقرارها وهدوئها، هذا الهدوء من شؤون القلب لا العقل، لأن الإنسان له قوتان:

1 - قوة العقل: وهي تدرك الأشياء، قد تدرك مئة بالمئة فيسمى قطع، وقد تدرك ستين بالمئة ويسمى ظن، قد تدرك خمسين بالمئة يسمّى شك، هذه حالات للإدراك العقلي.

2 - قوة القلب: المطاوعة، القلب دائما منفعل، يحصل شيءفينفعل به فيسُر، يحصل شيءفينفعل به فيحزن، يحصل شيءفينفعل به فيخاف، يحصل شيءفينفعل به فيثبت... وهكذا.

القلب قوة الانفعال والمطاوعة، وليست قوة الإدراك، فإذاوصل القلب إلى حالة الهدوء والاستقرار فهذه الحالة تسمى بالمصطلح العرفاني والقرآني ب «الاطمئنان»، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا «7»، كيف الإنسان يسكن إلى زوجته، كيف الإنسان إذا التقى بزوجته يحدث له حالة من السكون والهدوء والاستقرار.

هذه الحالة منشؤها القلب، هي من أدوار القلب، لأن القلب قوة وظيفتها المطاوعة والانفعال، فالاطمئنان بحسب المصطلح العرفاني هو عبارة عن السكون «سكون النفس واستقرارها»، فلذلك قالت الآية المباركة ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، يعني يحصل للإنسان سكون واستقرار في نفسه.

المطلب الثاني: قديقال بأن آيات القرآن متعارضة أو متباينة، لأن بعض الآيات تتحدث عن سببية ذكر الله للاطمئنان، بينما يتحدث بعضهاعن سببية ذكر الله للخوف والقلق، فكيف نجمع بين هذين الصنفين من الآيات؟!

فهناك صنف من الآيات يقول ذكر الله سبب للاطمئنان ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ - أولياء الله هم المشغولون بذكر الله - لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ «8» أي ليس عندهم حزن ولا قلق، لديهم اطمئنان، وهناك صنف آخر من الآيات تذكر بأن ذكر الله سبب للخوف، سبب للقلق، ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، فكيف نوفق بين هذين الصنفين؟

هناك آية ثالثة جامعة بين هاتين الآيتين ومفسّرة للمقصود والمدلول من هاتين الآيتين، هي ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ «9»، إذن الإنسان يمر بمرحلتين:

الأولى: مرحلة القشعريرة والوجل.

الثانية: مرحلة السكون واللين.

﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فهي تفسرالمقصود من الآيتين السابقتين، كيف يتعاطى الإنسان المؤمن مع ذكرالله؟!، كيف يتفاعل الإنسان المؤمن مع ذكرالله؟!

تفاعل الإنسان المؤمن مع ذكر الله يمربمرحلتين:

1 - مرحلة الخوف.

2 - مرحلة السكون.

ما معنى ذلك؟

الإنسان إذامرعليه ذكرالله، وانقدح في ذهنه ذكْر الله عز وجل يقوم بمقارنة بين الله وبين نفسه، الله منعم أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا «10»، إذا رأى هذه النعم الجزيلة التي حباها الله إياه وأسبغها عليه ورأى نفسه لم يفعل شيء مقصّرا.

”أنت تقابلنا بالإحسان ونحن نقابلك بالإساءة“، ”خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد“، إذا قارن الإنسان بين هذه النعم الوفيرة التي يسبغها الله عليه وبين تقصيره وإساءته وجحوده وكفرانه، يحصل للإنسان حالة قشعريرة حالة الخوف.

يخاف أن يكون تقصيره وإساءته سبب لقطع الرحمة، لقطع الفيض، الله وتبار تعالى لا يحدث شرّا بالإنسان، فقط يقطع الرحمة، الله - تبارك وتعالى - خير، كلّه خير، ولكن إذا أصرّ الإنسان على الرذيلة فقط يحبس عنه الرحمة، قالى تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا «11» إذا فتح باب الرحمة فاض نبع الرحمة على الكل ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «12»، وإذا أصرّ الإنسان على الرذيلة يأتي القسم الآخر ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ.

إذن ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «13»، ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى «14» المسألة مسألة قطع الفيض، حبس الفيض، فإذا رأى الإنسان نفسه مقصرا يحصل عنده خوف أن يحبس الله عنه نبع الرحمة ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أي يخشون أن تنقطع عنهم الرحمة. «المرحلة الأولى»

ثم يلتفت الإنسان إلى أنه مهما صنع من ذنب ومهما صنع من صغيرة ومهما صنع من كبيرة ومهما صنع من آفات فإن ذنبه لاقيمة بلحاظ رحمة الله الواسعة التي لا تستثني أحدا ولا تتجاوز احدا ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا «15».

إذا أدرك الإنسان هذا الذنب الذي صدر منه، هذاالوسخ والقذارة التي صدرت منه أنها بجانب رحمة الله وفيضه لا أثرلها، لذلك يحصل عنده نوع من السكون والاستقرار ﴿ثُمَّ تَلِينُ - السكون والاطمئنان هما اللين - جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.

”اللهم إن الطاعة تسرك والمعصية لا تضرّك - ذنبي ووقاحتي وإساءتي لن يؤثرا على سلطانك وملكك وكبريائك وعظمتك وسعة رحمتك، فهذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير بهذه الذنب الصغير لن يضرسلطانك وكبرياءك شيئا - فهب لي ما يسرك واغفر لي ما لا يضرك، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة“.

إذن هناك صنف من الآيات يتحدث عن المرحلة الأولى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا «16»، وهناك صنف من الآيات يتحدث عن المرحلة الثانية «مرحلة اللّين والمطاوعة» وهو قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، لذلك لا يقع تباين ولا تعارض بين الآيات القرآنية الشريفة.

المحورالثالث: هناك عدةآيات تحدثت عن سببية الإعراض عن ذكر الله لضيق المعيشة، لاحظوا مثلًا قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى «17»، ما هوالمقصود بالمعيشة الضنك؟!

أو يقول في آية أخرى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «18»؟

قد يقول قائل: نحن نرى المؤمنين هم الفقراء، نرى الفقراء هم الذين يعيشون تحت خط الفقر، يعيشون فقرًا مدقعا ومعيشة مؤلمة متعبة، بينما نرى المترفين أو المنحرفين يعيشون ملكا وسلطانا وترفا ورغدا من الحياة، فكيف هذه الآيات تقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، أو ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ؟

طبعا هنا تارة نلاحظ المقاييس الماديّة وتارة نلاحظ المقاييس الروحية، إذا لاحظنا المقاييس الماديّة نعم، ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا «19»، هذا له سلطان له ملك له جبروت يعيش حياة مترفة لا يفكرفي فقراء مجتمعه، أما إذاجئنا إلى المقاييس النفسية فهذا السلطان يعيش قلقا أكثر منك، لايستقر في حياته أبدا، يعيش حياة غير مستقرة، الحياة الحقيقية ليس المقياس فيها المقياس المادّي.

حقيقة الحياة ليست مترتبطة بعالم المادة، حقيقة الحياة مرتبطة بعالم النفس وبعالم الروح، هذاالسلطان صاحب الملك والجبروت يعيش حياة قلقة، يعيش حياة مؤلمة نتيجة القلق والجزع والخوف، وهذاالفقير الذي يتعب نفسه ويجهد بدنه في سبيل لقمة العيش يعيش حياة مطمئنة مستقرة بلحاظ عالم النفس لا عالم المادة ولا بلحاظ عالم العيش، لماذا؟

هناك عاملان يؤثران على الإنسان:

الأول «الجشع»: الإنسان الذي يفتح له أبواب الغنى، الذي تنفتح له أبواب الثروة عادة يصاب بعامل الجشع، كلما أدرك ثروة طمع فيما هو أكثر منها، فهو دائما يعيش حالةالجشع، وحالة الجشع تجعل حياته دائما غير مستقرة، لا يقتنع بما عنده، دائما عنده طمع لما اكثر من ذلك، هذه حالة الجشع تجعل حياته غير مستقرة نفسية.

لأجل ذلك ورد في الحديث الشريف عن النبي - -: ”الدنيا كدودة القز كلّما ازدادت على نفسها لفّا كانت أبعد لها من الخروج“، دخول المرء في الشبكات سهل، ولكن التفكّر في الخروج!، إذا أقحم نفسه في هذه الأبواب صعب علي الخروج لأنه أصاب بعامل الجشع، وقد ورد عنه - -: ”أخوف ما أخاف على أمتي الطمع وطول الامل“.

يقال أن شخصًا شاعرًا ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ليس كلهم طبعا ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُون * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا «20»، هناك بعض الشعراء يتزلف للسلطان ويتزلف للحاكم في سبيل أن يأخذ شيئامن أمواله وشيئا من عطائه، هؤلاء شعراء السلاطين كما أن هناك علماءالسلاطين، وهناك وعّاظ السلاطين، هذه الأفواه التي تمد السلاطين وتثني عليه لأجل أن تستحصل منه بعض النعم الزائفة والزائلة، هؤلاء قسم من أقسام الناس.

واحد من هؤلاء دخل على هارون الرشيد وأثنى عليه ومدحه وكان رجلاً كبير السن لعلّه وصل مئة سنة مثلا، فقال هارون الرشيد له: هل رأيت رسول الله؟، - من زمن النبي إلى زمن هارون كانبالإمكان إذا كان معمّر -، قال: بلى.

قال: هل تحفظ شيئ من حديثه؟، قال: بلى، قال: ما تحفظ؟، قال: أحفظ انه قال: ”أخوف ما أخاف على أمتي - خصلتان - الطمع وطول الأمل“، قال: أعطوه صرة من الدراهم والدننانير، أعطي، لما أراد الخروج كان يتمتم بين شفتيه، قال - هارون -: أرجعوه - أخاف أنه يسبّني -، أرجعوه، قال: ماكنت تقول؟، قال: كنت اقول بأنه سأحصل على مثل هذه الصرة في كل سنة أم في هذه السنة فقط!!

فهذا المعمّر المنهمك الذي على باب قبره يطمع أن يبقى السنة الآتية وما بعدها ليحصل على صرة أخرى، ”أخوف ما اخاف على أمتي: الطمع وطول الأمل“، عامل الجشع يجعل الحياة غير مستقرة.

الثاني «عامل الخوف من عوارض الدنيا»: فهذا الفقير يقول ماسيكون أعظم من الذي صار؟!، فهو لايخاف على شيء، لا يحزن على شيء، لأنه لايملك شيئا، بينما صاحب الثروة أو الملك أوالسلطان في كلّ لحظة تمرعليه تكون عنده حالةالخوف، يخاف أن يخسرملكه، يخاف أن يخسر سلطانه، يخاف ان يخسر ثروته، يخاف أن يخسر أبّهته ومقامه.

إذن فهو يعيش في حالة خوف تجعله إنسانا مضطربا غير مستقر، بينما ذلك الإنسان الفقير الذي يعيش حياة بسيطة يعيش حالة اطمئنان وهدوء من هذه الجهة.

فعاملان: عامل الجشع وعامل الخوف يجعلا حياة المترفين حياة غير مستقرة، بينما حياة المؤمنين التي لا تعيش عاملا الجشع والخوف حياة مطمئنة مستقرة، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا أي: من أعرض عن ذكري فهو يعيش حالة الخوف دائما، هو يعيش حالة الجشع دائما ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىأي تائهًا ضالّا.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذاكرين وأن ينبّهنا من نومة الغافلين.

ملاحظة: وطبعا عندما نقول: أغنياء وفقراء، ليس كل غنيّ منحرف، بالعكس، بعض الأغنياء أموالهم وثرواتهم في سبيل خدمة المجتمع، ورد عن أمير المؤمنين - -: ”أجر الغنيّ الشاكر كأجر الفقير الصابر“، كيف هذا الفقي الذي يصبر على فقره وله أجره، مثل هذا الغني الذي يشكر الله على غناه.

والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين

«1» البقرة: 152
«2» الكهف: 24
«3» البقرة: 200
«4» الرعد: 28
«5» البقرة: 260
«6» الفجر: 26 - 27
«7» الروم: 21
«8» يونس: 62
«9» الزمر: 23
«10» النحل: 18
«11» فاطر: 2
«12» الأعراف: 156
«13» الصف: 5
«14» طه: 126
«15» الزمر: 53
«16» الأنفال: 2
«17» طه: 126 - 127
«18» الطلاق: 2 - 3
«19» آل عمران: 178
«20» الشعراء: 224 - 227

الإنسان والغيب
العدالة عند الإمام علي (ع)