نص الشريط
تأملات في النظرية الدارونية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 28/9/1431 هـ
مرات العرض: 3136
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1774)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول الآية المباركة يتم في محورين:

المحور الأول: معالم النظرية الدارونية.

من القوانين الطبيعية التي يذكرها علماء الطبيعة وعلماء الأحياء: إن من خصائص الكائن الحي التفاعل مع بيئته ومحيطه، فهناك فرق بين الجماد وبين الحي، فالجماد الذي لا يملك حياة كالحجر مثلًا، لا يمكن أن يتفاعل مع بيئته، ولا يمكنه أن يتفاعل مع محيطه، فإن الحجر لا يتغير ولا يتبدل، مهما تغير المحيط ومهما تغيرت البيئة، فإنه لا يتغير بتغير البيئة، ولا يتغير بتغير المحيط، لأنه جماد فلا يملك خصوصية التفاعل والتأقلم مع المحيط ومع البيئة التي هو فيها.

بينما الكائن الحي - سواءً كان نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا - من خصائصه أن يتفاعل مع بيئته، لأنها من خصائص الحياة، فإن الحياة - بحسب ما يصورها علماء الأحياء - تدفع بالحي إلى أن يتأقلم مع محيطه، إلى أن يتأقلم مع بيئته. ولذلك الحيوان البحري مزود بأجهزة تتناسب مع بيئة البحر، والحيوان البري مزود بأجهزة تتناسب مع قسوة الصحراء، والحيوان البرمائي مزود بأجهزة تنسجم مع هذا المحيط، ومع هذه البيئة، بلحاظ أن من خصائص الحياة، ومن خصائص النمو: أن يتأقلم الحي مع بيئته ومع محيطه، ويتفاعل معها.

إنما الكلام: هل أن هذا القانون يسري مع الإنسان، بمعنى أن الإنسان أيضًا قد يتغير بتغير بيئته، فالإنسان الذي يعيش في المناطق البيئية، هل يختلف من حيث الأجهزة بالمقارنة مع الإنسان الكائن في المناطق الاستوائية؟ أو الإنسان الذي يعيش في الصحراء، هل يختلف من حيث الأجهزة والقدرة والقابلية عن الإنسان الذي يعيش في المدينة؟ فهل الإنسان يتفاعل ويتغير بتغيير بيئته ومحيطه؟

وهنا يأتي السؤال عن النظرية الدارونية، وهي نظرية تطور الأنواع. هذه النظرية انطلقت من هذا القانون الطبيعي، وهو أن الحي يتفاعل مع بيئته، ويتغير بتغيرها، لذلك افترضت هذه النظرية أن الإنسان مر بمراحل، في كل مرحلة تفاعل مع محيطه وقاوم عوامل الضغط في بيئته إلى أن تحول إلى نوع آخر، كان مثلًا من الحيوانات البرمائية، ثم تحول إلى حيوان بري، ثم تحول إلى إنسان. فهذا التطور من نوع لآخر فرضه التفاعل مع البيئة، فرضه أن في ذاته خصوصية تقتضي أن يتفاعل مع بيئته ومحيطه، فانتقل من نوع إلى نوع، ومن طور إلى طور.

هذه هي النظرية الدارونية المعبر عنها بنظرية تطور الأنواع، وهي أن الإنسان مر من طور إلى طور في إطار نوعي، واختلف من نوع إلى نوع بحسب ما تقتضيه عوامل البيئة المحيطة بهذا الإنسان. نحن نتكلم عن هذه النظرية من زاويتين: زاوية الإمكان، وزاوية الدليل النقلي الإثباتي.

الزاوية الأولى: زاوية الإمكان.

هل من الممكن أن يتطور الإنسان من نوع إلى نوع، هل هذا ممكن عقلًا؟

هناك فرق بين التطور المادي، وبين التطور الروحي، التطور المادي ممكن، أما التطور الروحي بمعنى الانتقال من نوع إلى نوع غير ممكن عقلًا، لماذا؟

أولًا: التطور المادي.

طبعًا الإنسان جسم مادي، هذا الجسم يمكن أن يخضع إلى التطور، لعل الإنسان كان شكله شكل ضفدع، ثم تحول شكله إلى شكل غوريلا، ثم تحول شكله إلى شكل هذا الإنسان الموجود، هذا ممكن عقلًا لأن هذا تطور في الواجهة البدنية، من المحتمل أن الإنسان مر بهذه التطورات المادية الشكلية، كان بشكل ثم بمقتضى التفاعل مع البيئة ومصارعة عواملها، تحول إلى شكل آخر، ثم تحول إلى شكل ثالث، كل هذا ممكن عقلًا، لا مانع فيه.

هذا الجسم مادة، والمادة حية، ومن خصائص الحياة: التفاعل مع البيئة والمحيط، فمن المحتمل بأن الإنسان بمقتضى التفاعل مع بيئته ومحيطه، تغير من شكل إلى شكل. الإنسان في بطن أمه، ألا يتغير من شكل إلى شكل؟ وكذلك في الخارج، هذا أمر ممكن، كان في بطن أمه نطفة، فتحول إلى علقة، فتحول إلى مضغة، فتحول إلى جسم متكامل. كما حصل هذا التطور الشكلي المادي له، من المحتمل أنه خضع إلى هذا التطور الشكلي والمادي وهو في الخارج ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا، وفي آية أخرى: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، فمن المحتمل أنه انتقل من طور إلى طور في الإطار الشكلي، هذا أمر محتمل عقلًا.

ثانيًا: التطور النوعي.

التطور النوعي، بمعنى أن الإنسان كان من نوع من الحيوان، ثم أصبح من نوع آخر، ثم أصبح من نوع الإنسان، هذا غير ممكن عقلًا، لماذا؟ لأن الفارق الجوهري بين الكائنات الحية، ليس فارقًا شكليًا، الشكل غير مهم، الفارق الجوهري بين النبات والحيوان والإنسان ليس هو الفارق الشكلي، يمكن أن يكون إنسان وشكله شكل نبات، يمكن أن يكون إنسان وشكله شكل حيوان، لكنه إنسان، الفارق الشكلي، هذا مجرد فارق خلقي، فارق ظاهري.

الفارق الحقيقي بين الكائنات الحية هو الفارق النوعي، بمعنى أن الحياة أنواع متغايرة، الحياة ليست نوعًا واحدًا، الحياة لها أنواع متغايرة، بذرة الحياة لها أنوع مختلفة، حياة النبات نوع مغاير تمامًا لحياة الحيوان، وحياة الحيوان مغايرة تمامًا لحياة الإنسان، لكل نوع صفات مضادة للنوع الآخر.

دعنا من الشكل، فلنتكلم عن الجوانب الروحية الحياتية. حياة النبات هي حياة النمو، حياة الحيوان هي حياة الحركة الإرادية، إذا كان يتحرك بإرادته فهو حيوان، حياة الإنسان هي حياة التعقل والتفكير. ولذلك يعبر علماء المنطق عن الإنسان بأنه: «حيوان ناطق»، ناطق لا تعني يتكلم، يمكن أن يكون أخرس، المقصود من النطق: التفكير، لأن من القوى الموجودة في الدماغ: القوى التي تحرك الإنسان نحو النطق والتكلم، الإنسان لديه قوة من قوى دماغه، هذه القوة تسمى بالقوة اللغوية، الإنسان بهذه القوة يستطيع أن يكتسب أداة التفهم والتفهيم، من خلال هذه القوة يستطيع هذا الإنسان أن يصل إلى أداة يُفهّم فيها الآخرين أفكاره، ويتفهّم أفكار الآخرين.

هذه القدرة اللغوية ليست موجودة عند الحيوان، هذه القدرة اللغوية على أن تفهم ما يقوله الآخرين وتفهّم أفكارك للآخرين، سواءً من خلال: أداة لفظية، أداة إشارة، أي أداة معينة، هذه القدرة اللغوية تسمى بالنطق، وإن كان الإنسان أخرس ولكن عنده قدرة لغوية، حتى الإنسان الأخرس يمتلك هذه القوة من قوى دماغه، وهي القدرة اللغوية، إنما لسانه لا يستطيع أن يتكلم. فالقدرة اللغوية هي عبارة عن خصوصية النطق لدى الإنسان، فيسمى حيوان ناطق، يعني يمتلك عقلًا يساعده على التفهيم، والتفهم.

فلكل نوع من أنواع الحياة خصوصية، النبات له خصوصية النمو، الحيوان له خصوصية الحركة بالإرادة، الإنسان له خصوصية النطق. وهذه الأنواع متضادة، يستحيل أن يتحول نوع إلى نوع، يعني كانت حياته حياة نباتية، فأصبحت حياته حياة حيوانية، أو كانت حياته حياة حيوانية، فأصبحت حياة إنسانية، من المستحيل أن يتغير نوع إلى نوع آخر، لكن لو تغير الشكل فقط فلا مشكلة.

الله تبارك وتعالى مسخ جماعة من البشر قردة وخنازير، الشكل تغير ولكن الإنسانية ما تغيرت، ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، هذا الممسوخ لم يصبح هو قردًا، مسخ الله شكله بشكل قرد، لكنه إنسان، يعني يمتلك خصوصية الإنسان وهو أنه ناطق مفكر، حتى لو كان شكله شكل قرد، أو غير شكله إلى شكل خنزير عقابًا له، لكنه إنسان.

فالتغير والتطور الشكلي أمر ممكن، الكلام في التطور النوعي، أن ينتقل من نوع إلى نوع، هذا غير معقول، لأن الضد لا يتحول إلى ضده لتباينهما وتغايرهما، النور لا يتحول إلى ظلام، الضد لا يتحول إلى ضده، لا يمكن أن يتحول القيام إلى قعود، نعم، الجسم يترك القيام ويختار القعود، ولكن القيام لا يصبح قعودًا. فالتحول في الأنواع المتضادة أمر غير ممكن عقلًا، لذلك لو تكلمنا على مستوى الإمكان العقلي، نحن نقبل النظرية الدارونية على مستوى الاختلاف الشكلي، لكن على مستوى الاختلاف النوعي غير ممكن.

الزاوية الثانية: زاوية الدليل الإثباتي.

إذا راجعنا ظواهر آيات القرآن الكريم، ظاهرها أن الإنسان خُلق بهذا الشكل منذ أول يوم، ما مر بأشكال متعددة، والكلام في أول إنسان ألا وهو آدم . ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ، الظاهر أنه خلقه من طين بشكل مباشر، لا أنه جعله حيوان برمائي ثم بري ثم إنسان، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، ظاهره أن الله سوّاه من طين بشكل مباشر، لا أنه مر بأشكال متعددة.

وأيضًا قوله: ﴿الذي خلقك فسواك فعدلك، يعني خلقك بشكل معتدل منذ أول يوم، منذ أول لحظة، وفي آية أخرى: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ، وقال «تبارك وتعالى»: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كل ذلك ظاهره أنه خُلق بذلك الشكل من أول يوم. ويؤيد ذلك قوله «عز وجل»: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، أي: أعطيناهم الكرامة المطلقة، منها: الكرامة العقلية، الاجتماعية، الشرعية، الشكلية، أي: خُلق بشكل كريم، كما تقول الآية: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

نعم، هناك روايات تدل على أن قبل آدمنا هذا ألف ألف آدم، وكأن البشرية مرت بدورات، آخر دورة هي هذه الدورة، منذ الستة آلاف سنة التي بدأت بأبينا آدم، وقبلها دورات بشرية أخرى على الأرض وانقرضت، فآدم ما جاء من بشر قبله، جاء من التراب، وهناك دورات بشرية سبقت آدم وانقرضت بتمامها، فلعل هذه الدورات كانت بشكل يختلف عن شكل آدم الفعلي، وكانت بنحو يختلف عن نحو آدم الفعلي، كل هذه محتملات، لا يوجد دليل حاسم، روايات تقول: إن وراء آدمكم هذا ألف ألف آدم، فلعل هناك جموع بشرية عاشت على الأرض فانقرضت.

ولعل ذلك تساعده الآية المباركة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وكأن الملائكة اطلعت على وجود بشري سابق على آدم، وكان ذلك الوجود البشري وجودًا متوحشًا مفسدًا فقاست آدم على ذلك الوجود، ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

هذا الأمر يبقى على مستوى الاحتمال، ليس لدينا دليل حاسم على نفيه أو إثباته، الذي نعرفه من الذكر الحكيم أننا نرجع إلى آدم كما تقول الآية: ﴿الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، فأولنا آدم، وآدم لم يأتِ من بشر قبله، ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، آدم جاء من التراب وجاء بشكل مباشر، كما هو ظاهر الآيات، وأما ما قبل آدم فأمر لا نستطيع أن نثبته أو ننفيه. بعض الروايات - التي لا تخلو من مناقشة في سندها - تقول: هناك وجودات بشرية سبقت آدم .

المحور الثاني: قانون الانتخاب الاجتماعي.

من القوانين التي يذكرها علماء الطبيعة: انتخاب الطبيعة للأقوى، بمعنى أنه إذا وجدت كائنات حية، فإنها تتصارع وتتنازع على البقاء، والطبيعة تنتخب الحيوان الأقوى، ثم يستمر الحيوان الأقوى في البقاء عن طريق التناسل والتوالد، فهذا القانون - انتخاب الطبيعة للأقوى - يذكره علماء الطبيعة، ولذلك كثير من الحيوانات انقرضت وانتهت، لأنها لم تكن الأقوى في مقام الصراع مع الكائنات الأخرى ومع عوامل الطبيعة، فالبقاء للأقوى.

هل يشمل قانون انتخاب الطبيعة للأقوى المجتمعات أيضًا؟ بمعنى أن المجتمعات الإنسانية أيضًا البقاء فيها للأقوى، أما المجتمع الضعيف يضمحل ويموت، هل هذا القانون يشمل المجتمعات أيضًا؟ نعم، كما أن الإنسان له حياة وموت، المجتمعات لها حياة وموت، يقول «تبارك وتعالى»: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، هذا بالنسبة للإنسان.

أما المجتمع فهو أيضًا يموت، كما في قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، الأمة كلها لها أجل وموت، قد يبقى الأفراد، لكن المجتمع مات، لكل مجتمع وحضارة أجل، حضارة قد تدوم قرن أو قرنين ثم تسقط، كم جاءت حضارات وانتهت! حضارة الرومان، حضارة الفرس، حضارة العثمانيين، حضارات بقيت فترة وانتهت، كما أن الفرد يموت، الحضارة تموت، الأمة قد تموت. إذن، بقاء الأمم وبقاء الحضارات يخضع لهذا العامل، ويخضع لهذا القانون الطبيعي، الذي يذكره علماء الطبيعة: البقاء للأقوى.

الأمة القوية تبقى، الأمة الضعيفة تضمحل وتنتهي، وهذا ما تعرضت له الآية المباركة: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، الآية تشير إلى مسألة بقاء الأقوى، وقال في آية أخرى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، فالبقاء للأقوى.

ليس المقصود بالقوة، القوة العسكرية فقط، بمعنى أن الدولة التي تملك قوة نووية فهي أقوى الدول، أو المجتمع الذي يملك قوة عسكرية فهو أقوى الجتمعات، لا، القوة لا تنحصر بالقوة العسكرية والمادية، بل تشمل القوة الفكرية الخلّاقة.

المجتمع الذي يبقى هو المجتمع الذي يملك كفاءات فكرية، المجتمع الذي يملك حضارة فكرية يبقى، المجتمع الذي يملك أدبًا وفكرًا وثقافةً، يملك كفاءات بشرية على مختلف الحقول، على مستوى: الطب، الفلك، الطبيعية. المجتمع الذي يملك ثقافة وفكر وكفاءات بشرية خلّاقة، مجتمع قوي، وهذا المجتمع القوي يبقى، وإن انقرضت المجتمعات الأخرى، وإن زالت المجتمعات الأخرى، فإن المقصود بالقوة: ما يشمل القوة الفكرية، لهذا الآية المباركة لا تتحدث عن قوة عسكرية، بل عن قوة روحية.

﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ، من هم الذين برزوا لجالوت؟ داوود كان يقود مجموعة من المؤمنين أمام طاغية زمانه جالوت، ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، كانت جالوت جماعته مختصرة وقليلة، وجالوت كان هو الملك بيده جنوده وجلاوزته، ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، فداوود كان ملكًا ونبيًا، ثم قالت الآية: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ. إذن، القوة الروحية التي ملكها داوود وجماعته هزمت القوة الأخرى، ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ، فقد تكون هنالك قوة روحي تهزم القوة المادية، فيكون من عوامل بقاء الأمم ومن عوامل بقاء الحضارات: القوم الروحية، القوة الفكرية.

حزب الله هزم إسرائيل، هزمها بقوته الروحية، القوة الروحية عامل من عوامل البقاء والثبات، الحضارة تقوم وتبقى بناءً على القوة، كل مجتمع ملك قوة، ملك البقاء، حتى ولو لم تكن عنده قوة عسكرية، فعنده قوة روحية، وإذا لم تكن لديه قوة روحية، فلديه قوة ثقافية، بقوته الثقافية يستطيع أن يصمد وأن يبقى.

لذلك مجتمعنا هذا - المجتمع القطيفي - أو بالصفة العامة، مجتمع المنطقة الشرقية بما فيه من القطيف والأحساء، لولا أنه يملك كفاءات فكرية منذ القدم لانتهى واضمحل، لأن عوامل محوه كثيرة، وعوامل إزالته كثيرة، لكنه بقي صامدًا، بقي ثابتًا، لأنه يمتلك خزين، يمتلك رصيد من القوة الفكرية، يمتلك كفاءات بشرية، لأنه يمتلك كفاءات بشرية على مستوى: العلم، الأدب، الثقافة، على مستوى الفعاليات الاجتماعية، لأنه يمتلك قوة ثقافية واجتماعية وفكرية استطاع أن يبقى واستطاع أن يصمد واستطاع أن يتحفظ على ثباته واستقراره، فكل مجتمع يريد البقاء، ويريد الاستمرار، عليه أن يُعنى بتقوية وجوده، من خلال كفاءاته: الفكرية، الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية، من خلال ذلك يستطيع أن يبقى ويصمد ويبني نفسه بمرور الأيام.

خطبتي العيد 1431هـ
أحكام الهلال وزكاة الفطرة