نص الشريط
إختلاف الأديان وَالمذاهب ظاهرة إيجابية أم سلبية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/1/1433 هـ
مرات العرض: 3076
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (7507)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأول: هل أن التعددية في الأديان والمذاهب تكاملٌ أم تباينٌ؟

ومن أجل توضيح هذه النقطة نقول بأن الاختلاف بين الأشياء على قسمين:

  1. هناك اختلافٌ نوعيٌ
  2. وهناك اختلافٌ ضديٌ.

والاختلاف النوعي اختلافٌ إيجابيٌ، بينما الاختلاف الضدي اختلافٌ سلبيٌ، لنضرب مثالاً لكل منهما: مثلًا اختلاف العلم والجهل، هذا عالمٌ، هذا جاهلٌ، هذا كريمٌ، هذا بخيلٌ، هذا شجاعٌ، هذا جبانٌ... هذا الاختلاف سلبيٌ؛ لأن العلم والجهل والكرم والبخل والشجاعة والجبن صفات متضادة متباينة، فالاختلاف بينها اختلافٌ سلبيٌ.

أما عندما نأتي لاختلاف الزهور والورود فلكل زهرةٍ رائحة معينة، ولكل وردة طعمٌ معينٌ، اختلاف الزهور والورود ليس اختلافًا ضديًا، إنما هو اختلافٌ نوعيٌ، فإن كل زهرة تشكّل نوعًا معينًا، ولذلك فالاختلاف بينها إيجابيٌ وليس سلبيًا، نظير الاختلاف بين الشعراء والأدباء، فإن الاختلاف بين الشعراء من حيث النفس الأدبي ومن حيث المهارة الأدبية ليس اختلافًا سلبيًا، فإن كل شاعر يمثل نفسًا أدبيًا معينًا، فالاختلاف بينهم اختلافٌ إيجابيٌ وليس اختلافًا سلبيًا، هناك من ينتمي للمدرسة الواقعية، هناك من ينتمي للمدرسة الرمزية، هناك من ينتمي للمدرسة الرومانسية... كل هذه كل هذه اختلافات إيجابية لأنها اختلاف في النفس الأدبي، كاختلاف الزهور والورود.

من هنا نتساءل: هل أن اختلاف الأديان من قبيل اختلاف الزهور والورود، فهو اختلافٌ إيجابيٌ، أم من قبيل اختلاف العلم والجهل والكرم والبخل، فهو اختلافٌ سلبيٌ؟ هل أن تعدد الأديان تعددٌ نوعيٌ فهو ظاهرة إيجابية أو أنه تعددٌ ضديٌ فهو ظاهرة سلبية؟

ذهب بعض المُفكرين الاسلاميين إلى أن اختلاف الأديان واختلاف المذاهب الإسلامية اختلافٌ إيجابيٌ، فكل دين وكل مذهب يشكّل رائحة معينة ويشكّل نفسًا معينًا، فجميع الأديان المذاهب هي على صواب، وهي على حق، ليس بينها حقٌ وباطلٌ، كلها أخذت نصيبًا من الصواب، ونصيبًا من الحق، فاختلاف الأديان والمذاهب اختلافٌ نوعيٌ إيجابيٌ وليس اختلافًا ضديًا سلبيًا، لماذا؟ ما هو الدليل على ذلك؟

الدليل على ذلك: يقول صاحب هذه النظرية: هنا دعامتان لابد لنا من التأمل فيهما:

الدعامة الأولى: أن الله عز وجل تجلى لجميع البشر كلٌ بحسب طاقة وقابليته، وهُو القائل عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، خلق المخلوق ثم تجلى إليه وهداه إليه، فالله تجلى لكل المخلوقات ولجميع البشر كلٌ بحسب طاقته، وهذا ما أشارت إليه الآية المُباركة: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، إذا نزل الماءُ من السماء كل وادٍ يحمل من الماء بقدر الوادي، إذا كان الوادي صغيرًا حمل ماءً قليلاً، وإذا كان الوادي واسعًا حمل ماءً كثيرًا، تمامًا التجلي لله في مخلوقاته بهذا النحو، كل بشر أخذ من معرفة الله ومن الوصول إلى الله بقدر طاقته وقابليته، وهذا أمرٌ طبيعيٌ؛ لأن الله لامحدود، واللامحدود لا يمكن أن يتجلى بتمامه للمحدود، الله مطلقٌ ولا يمكن أن يتجلى المطلق بإطلاقه للمقيّد، فالله تجلى للبشرية كلٌ بحسب طاقته، لا أنه تجلى لهم بتمامه، فإن اللامحدود لا يمكن ان يتجلى للمحدود بتمامه، ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق“، كل مخلوق له نفسٌ يتصل به لربه تبارك وتعالى.

الدعامة الثانية: نحن كلنّا تجلى الله لنا، فكل واحد منا له تجربة روحية مع الله عز وجل؛ لأن الله تجلى لنا، ولكن من اكتشف هذا التجلي جماعة محدودة من البشر، ليس كل البشر اكتشف هذا التجلي، نظير تنفس الأكسجين، كلنا نتنفس الأكسجين في هذا الفضاء، لكن القليل منا من يعرف أن هذا أكسجين، القليل منا من اكتشف الأكسجين وعرف خصائصه الكيميائية المعينة، مع أن الكل يتنفسه ولكن من يعرفه قليلٌ، الكل تجلى له الله لكن من يعرف هذا التجلي ومن يكتشف هذا التجلي هو من يقدر على تفسير هذا التجلي وتفسير هذه التجربة الروحية، وهم الأنبياء، فالأنبياء تجلى لهم الله واكتشفوا هذا التجلي واستطاعوا أن يضعوا تفسيرًا لهذا التجلي، فكل نبي من الأنبياء فسّر تجربته الروحِية بينه وبين ربه.

إذن دين إبراهيم هو تفسيرٌ لتجربته الروحية مع الله، ودين موسى هو تفسيرٌ لتجربته الروحية مع الله، ودين عيسى هو تفسير تجربته الروحية مع الله، ودين محمدٍ «صلى الله عليه وآله» هو تفسيرٌ أيضًا لتجربته الروحية مع الله، كلٌ قد فسّر تجربته الروحية مع الله، إنما يختلفون في الدرجات نتيجة اختلافهم في القوة الفكرية وذهنية، لذلك عبر القرآن عن عيسى بأنه كلمة الله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وعبر عن النبي بأنه خاتم النبيين: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، خاتم يعني: ملك أقوى قابلية فملك أكبر تجربة روحية فملك أعظم تفسير لهذه التجربة الروحية، وهذا الاختلاف بين الرسل عبرت عنه الآية المباركة: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.

بعد أن عرفنا هذا التحليل ماذا نستنتج؟ نستنتج أن الذي زرع الاختلاف بين الأديان هو الله، لأن هذه الأديان ترجع إلى تجارب روحية مع الله، فالله هو الذي زرع الاختلاف ولم ينشأ الاختلاف من الرسل أنفسهم أو من أتباعهم، كما نستنتج من هذا أن اختلاف الأديان اختلافٌ إِيجابيٌ، لأن هذه تفسيرات لتجربة روحية، عيسى فسّر تجربته وقال كذا وكذا، والنبي فسّر تجربته وقال كذا وكذا، هذا اختلافٌ نوعيٌ لأنه اختلافٌ في تفسير التجربة، فهو اختلافٌ إيجابيٌ وليس اختلافًا سلبيًا، إذن لا يوجد في الأديان حقٌ وباطلٌ، لا، كل الأديان لها نصيبٌ من الحق، لها نصيبٌ من الصواب؛ لأن كل الأديان تعني تجارب روحية مع الله عز وجل.

وكذلك المذاهب، التشيع لا يمثل الحق الخالص، والتسنن لا يمثل الحق الخالص، بل التشيع أخذ نصيبًا من الحق والتسنن أخذ نصيبًا من الحق؛ لأن كلا المذهبين تفسيران لتجربة معينة، فليس بينهم حقٌ وباطلٌ.

وهذا لو لم نقل به - يعني: لو ما قلنا هذا الكلام ماذا سيحدث؟ - سيكون الذين هم على الحق أقلية من هذا الوجود البشري كله، منذ يوم آدم إلى يومنا هذا كم مليار بشر عاش على الأرض؟! مليارات المليارات من البشر، فإذا قلنا بأن من هو على الحق فئة معينة - وهم الشيعة الإمامية مثلًا - إذن هذا يعني أن من بين مليارات المليارات مليارٌ واحدٌ هو على الحق والبقية على باطل، وهذا يتنافى مع هداية الله تبارك وتعالى، فإن الله تعالى وصف نفسه بأنه الهادي، فكيف يصف نفسه بأنه الهادي وهو لم يهدِ إِلّا فرقة واحدة وفئة واحدة وهم الشيعة الإمامية مثلاً؟! إذن وصف نفسه بأنه هادٍ هذا وصفٌ لغوٌ لأنه لم ينطبق إلا على فئة تشكّل أقلية بالنسبة لهذا الوجود البشري كله، فلابد أن نقول أن جميع الأديان على هدى، وجميع المذاهب على هدى، وكل دين وكل مذهب أخذ من الهداية نصيبًا، لأن هذا هو الذي ينسجم مع وصف الله نفسَه أنه هو الهادي، فهذه النظرية تقول بأن التعددية الدينية بين الأديان والمذاهب تعددية إِيجابية، جميع الأديان على حق هدى، وكذلك المذاهب.

نحن في المقابل لنا اتجاهٌ آخر: نحن في المقابل نقول: لا، هذه الأديان، هذه المذاهب، بعضها حقٌ وبعضها باطلٌ، بعصها صوابٌ وبعضها خطأ، بعضها على هدى وبعضها على غير هدى، لماذا؟

أولاً: علاقة النبي مع الله ليست تجربة روحية بل هي علاقة وحي، والوحي يختلف عن التجربة الروحية، العبادة تجربة روحية، الإنسان عندما يقف أمام ربه ليصلي هذه الصلاة تجربة روحية، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ أما النبوة ليست تجربة، النبوة وحيٌ، والوحي ماذا يعني؟ يعني الانكشاف، انكشاف عالم الغيب لهذا النبي انكشافًا وجدانيًا، لأن الانكشاف على قسمين:

  1. هناك انكشافٌ حسيٌ.
  2. وهناك انكشافٌ وجدانيٌ.

أولاً: الإنسان عندما يضع يده في النار فيحس بحرارتها هذا يسمّى انكشافًا حسيًا، انكشفت لي الحرارة بالحس، أما إذا ضمت الأم ولدها فشعر الولد بحنان الأم فهذا الانكشاف انكشافٌ وجدانيٌ وليس انكشافًا حسيًا، أي أن الحنان انتقل من قلب الأم إلى قلب ولدها انتقالاً وجدانيًا، النبي عندما يتلقى الوحي فالوحي ليس تجربة يقوم بها النبي قد تخطئ وقد تصيب وقد تزيد وقد تنقص... لا، الوحي عملية انكشاف، ينكشف لقلب النبي عالم الغيب انكشافًا وجدانيًا قطعيًا، فالنبي كما يعلم بفرحه، بحزنه، بحبه، ببغضه، يعلم بالمعلومات التِي أوحيت إليه، ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

ثانيًا: عندما نعترف بأن الأنبياء يتفاوتون في الطاقة، ليس جميع الأنبياء بطاقة واحدة، ليس جميع الأنبياء بمستوى واحد، وأن القرآن عندما عبر عن النبي «صلى الله عليه وآله» بأنه خاتم الأنبياء يعني أن النبي وصل إلى أرقى درجة بشرية من الاتصال بالله، عندما نعترف بهذا فقد اعترفنا ضمنًا بأن الاختلاف بين الأنبياء سلبيٌ وليس إِيجابيًا، لأنك عندما تقول: معرفة النبي كاملة، إذن اعترفت بأن معرفة من قبله ناقصة، عندما تقول بأن النبي سُمّي خاتمًا لأنه حصل على أكبر درجة من المعرفة يعبر عنها القرآن الكريم: قاب قوسين، ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، عندما نعترف أن النبي وصل إلى أرقى درجة من المعرفة فلأجل ذلك صار خاتم الأنبياء وصار دينه خاتم الأديان وشريعته خاتمة الشرائع إذن اعترفنا بأن معرفة الأنبياء السابقين معرفة ناقصة، والنقص سلبيٌ وليس إيجابيًا، إذن اختلاف الأنبياء ليس اختلافًا إيجابيًا، بل هو اختلافٌ سلبيٌ، بمعنى أن بعض الشرائع ناقصة، وبعض الشرائع كاملة وتامة.

وثالثًا: هناك فرق بين الدين والشريعة، لا نخلط بين الأمرين، الدين ليس متعددًا، لا يوجد عندنا دينٌ يهوديٌ ودينٌ مسيحيٌ ودين إسلام... لا يوجد، الدين واحدٌ، جميع الأنبياء بعثوا بدين واحد، الاختلاف بين الأنبياء اختلافٌ في الشريعة وليس اختلافًا في الدين، الدين هو عبارة عن العقيدة بأصول ثلاثة: التوحيد، النبوة، المعاد، هذه الأصول الثلاثة هي الدين، وجميع الأنبياء بعثوا على هذه العقيدة وعلى هذه الأصول الثلاثة، فالدين واحدٌ، لاحظوا القرآن الكريم ماذا يقول:

  1. القرآن الكريم يقول: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ - يعني: دينك هو دين نوح، ليس شيئًا آخر - وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، الدين واحدٌ.
  2. إبراهيم نفسه يقول القرآن الكريم عنه: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، دينٌ واحدٌ.
  3. ويقول القرآن الكريم: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ، أنتم مسلمون منذ ذلك اليوم.

الدين واحدٌ، وهو الإسلام، بعث به جميع الأنبياء، ولذلك قال القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ الإسلام يعني الدين الذي يجمع الشرائع كلها، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فالدين واحدٌ، لا يوجد عندنا أديان حتى نقول: اختلاف الأديان.

أما الشرائع فهي مختلفة، الشرائِع ما معناها؟ يعني الأحكام، طريقة العبادة في شريعة موسى تختلف عن طريقة العبادة في شريعة عيسى، وطريقة العبادة في شريعتيهما تختلف في شريعة محمّدٍ ، فهذا اختلافٌ في الشريعة وليس اختلافًا في الدين، الدين واحدٌ، الشريعة تختلف، ولذلك قالت الآية المباركة التي افتتحنا بها: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً يعني شريعة، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا.

إذا كان الاختلاف اختلاف شرائع لا اختلاف أديان فهل يمكن أن تكون كل هذه الشرائع صحيحة في زمن واحد؟ بمعنى أنه الآن في زماننا جميع الشرائع - يعني: جميع طرق العبادة - طريقة اليهود وطريقة النصارى وطريق المسلمين، جميع الطرق الثلاث صحيحة، جميع الطرق الثلاث صواب، جميع الطرق الثلاث على هدى؟! لا، لا محالة الشريعة اللاحقة نسخت الشريعة السابقة، الشرائع ينسخ بعضها بعضًا، شريعة موسى نسخت شريعة نوح، وشريعة عيسى نسخت شريعة موسى، وشريعة النبي نسخت ما قبله، كل شريعة نسخت السابقة، ليس كل الشرائع الآن صارت صحيحة، لا، بعضها منسوخٌ وبعضها ناسخٌ.

وهذا موجود حتى في الشريعة الإسلامية نفسها، مثلاً: في أول البعثة كانت قِبْلة المسلمين بيت المقدس، ثم نسخ هذا الحكم وجُعِلَت القِبْلة هي الكعبة، ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، المرأة إذا زنت ما هو حكمها؟ كان حكمها السجن، بعدها بُدّل، نُسَخَ هذا الحكم إلى: أنها إن كانت محصنة ترجم، إن لم تكن محصنة تُجْلَد، صار نسخ لبعض الأحكام الشرعية، هذا النسخ ماذا يعني؟! يعني أن الأحكام الشرعية - التي نعبّر عنها بالشرائع - هذه الأحكام تتبع المصالح، فبعض الأحكام تشرّع لمصلحة مؤقتة، فإذا انقضى وقت المصلحة يُشرّع الحكم الآخر لمصلحة دائمة، فيسمّى الحكم المُشرّع لمصلحة دائمة ناسخًا، والحكم المشرّع لمصلحة مؤقتة منسوخًا، لذلك نقول: الشرائِع السابقة - شريعة موسى وعيسى - نسختا لأنهما كانتا لمصالح مؤقتة، وجاءت شريعة النبي بمصالحَ دائمةٍ، فكانت ناسخة ما قبلها، ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا.

إذن اختلاف الشرائع صحيحٌ لكنه ليس اختلافًا إيجابيًا لأنه اختلاف ناسخ ومنسوخ، فما كان منسوخًا فهو باطلٌ فعلاً وإن كان في زمانه صحيحًا، وأما الأديان فليس بينها اختلافٌ لأن الدين واحدٌ وليس متعددًا.

رابعًا: يقول الفلاسفة: القضايّا على قسمين:

  1. قضايا لا واقع لها، فلا يوجد فيها خطأ وصوابٌ.
  2. وقضايا لها واقعٌ، ففيها خطأ وصوابٌ.

أمثلة: الذوق، الذوق ليس له واقعٌ، أنت تتذوق وردًا معينًا، وزوجتك تتذوق وردًا آخر، وابنك يتذوق وردًا ثالثًا، اختلاف الذوق ليس فيه خطأ وصواب، لماذا؟ لأنه لا يوجد له واقعٌ وراء الذوق نفسه، لذلك نقول: هذا الورد له رائحة، هذا الورد له رائحة... لا يصح أن تقول: والله هذا الورد هو الصصحيح، هذا الورد هو الخطأ! كيف يعني هو الخطأ؟! المسألة مسألة ذوقية، اختلاف الأذواق اختلافٌ بشريٌ ليس له واقعٌ وراءه، لذلك ليس فيه خطأ وصوابٌ، كذلك اختلاف النفس الأدبي بين الشعراء، أنت تأتي وتقارن بين النفس الأدبي للمتنبي مثلاً وبين النفس الأدبي للبحتري، أو بين النفس الأدبي للبحتري وبين النفس الأدبي لأبي تمام، لا تقدر أن تقول: والله النفس الأدبي للمتنبي صح والنفس الأدبي للبحتري خطأ! لا يوجد خطأ وصوابٌ، لماذا؟ لأن المسألة تعني اختلاف الأذواق، هذا اختلافٌ في الذوق.

إذن القضايا الذوقية لا واقع لها حتى يكون فيها خطأ وصوابٌ، بينما القضايا التي لها واقعٌ فيها خطأ وصوابٌ، كيف؟ مثل الطب، عندما تقول: أنا شخّصتُ أن فلانًا مريضٌ بالمرض الفلاني، يقدر أن يقول لك طبيبٌ آخر: هذا تشخيصك خطأ أو صوابٌ؛ لوجود واقع، لأنّ وراء هذه التشخيصات واقعًا يخطئه شخصٌ ويصيبه شخصٌ آخر.

الدين ليس من القضايا الذوقية حتى لا يكون له واقعٌ، الدين من القضايا الواقعية، لذلك الدين فيه خطأ وفيه صوابٌ، المسيحيون يقولون: إنّ الله تجسّد في ولده عيسى بن مريم، والمسلمون يقولون بأنّ الله لا ولد له ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولا يعقل أن يتجسّد في بشر، فمن منهما الخطأ والصّواب؟ لا يمكن أن تقول: الجميع على صواب، أحدهما يوافق الواقع فهو صوابٌ والآخر يخالفه فهو خطأ، لا يمكن أن يقال بأنّ الجميع على صواب، هذا غير معقول، المسألة ليست قضية ذوقية حتى يكون الجميع على صواب.

الشيعة يقولون: الإمام المنصوص عليه علي بن أبي طالب، والسنة يقولون: لا يوجد نص، إحدى المقولتين خطأ والأخرى صوابٌ، لا يمكن أن يكون كلاهما صوابًا، هذه قضايا واقعية، قضايا إما مصيبة أو مخطئة، إذن اختلاف الأديان وخاتلاف المذاهب في الشرائع اختلافٌ سلبيٌ، يعني: بعضها صحيحٌ وبعضها خطأ، لأن هذا الاختلاف وراءه واقعٌ إن أصابوه فهو صح وإن أخطؤوه فهو خطأ.

وأمّا عندما نقول بأن الله هادٍ، الله من أوصافه أنه هادٍ، هل هذا يعني أنّه هدى البشرية كلها؟! هذا ناتجٌ عن الخلط بين أقسام الهداية، الهداية على أقسام:

  1. هناك هداية فطرية.
  2. وهناك هداية تشريعية.
  3. وهناك هداية فعلية.

الهداية الفطرية لكل البشر، كل بشر خلقه الله هداه هداية فطرية، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، هذه هداية فطرية لكل البشر.

وهناك هداية تشريعية، بمعنى أنّ الله أنزل نظامًا عادلاً من السماء للمجتمع البشري كله، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، هذه أيضًا هداية عامة لكل البشر.

أما القسم الثالث - وهو الهداية الفعلية - فهذه تخصّ فئة دون فئة، حيث قال عزّ وجلّ: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.

فأي مانع لو قلنا أنّ الفئة التي هداها الله بالفعل - يعني: هداية فعليّة - هي فقط الشّيعة الإماميّة مثلاً، هذا لا يتنافى مع أنّ الله وصف نفسه بالهداية، الله وصف نفسه بالهداية يعني الهداية الفطرية، وهي هداية عامة لجميع البشر، والهداية التشريعية، وهي هداية عامة لجميع البشر، أمّا القسم الثالث - وهو الهداية الفعليّة - فالقرآن نفسه يصرّح بأنّ الهداية الفعليّة لبعض البشر دون بعض، يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، ويقول القرآن الكريم: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا يعني ما هداهم كلهم، إذن الهداية الفعلية بصريح القرآن لبعضٍ دون بعضٍ، لكنّ الهداية الفطريّة والتشريعيّة عامة للجميع.

فاستنتجنا من هذا: وصلنا إلى نهاية البحث في المحور الأول - وهو المحور الأطول - إلى أنّ اختلاف الأديان والمذاهب في الشرائع «في الأحكام» اختلافٌ سلبيٌ وليس اختلافًا إيجابيًا، اختلافٌ ضديٌ وليس اختلافًا نوعيًا.

المحور الثاني: هل القرآن يقرّ التعدديّة؟

هل القرآن يؤمن بِالتعددية في الأديان والمذاهب أم لا؟

ربما يقول قائلٌ بأنّ القرآن نعم يقرّ التعدديّة، لاحظوا القرآن ماذا يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني: الجميع زينون! اليهود والنصارى والصابئون كلهم زينون! ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، إذن القرآن يقرّ التعددية، القرآن الكريم يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا فالقرآن يعترف بأن هناك سبلاً وليس السبيل واحدًا فقط، فالقرآن يقرّ التعددية، فلماذا نحن نأباها؟! ولماذا نقول: المذاهب بعضها حقٌ وبعضها باطلٌ؟! الجميع حقٌ، الجميع هدىً.

لكنّ هذا الكلام نظر إلى قسم من الآيات وأغفل قسمًا آخر، لنقرأ قسمًا آخر، لنقرأ قسمًا آخر من الآيات ماذا يقول، يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يعني الصراط المستقيم واحدٌ وليس متعددًا، هناك فرقٌ بين الصّراط وبين السّبيل، لا نخلط بين المفهومين:

الصّراط: واحدٌ دائمًا وليس متعددًا، حتى لو عبّر عنه القرآن الكريم بالنكرة، قال: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، يقول العلماء: التعبير بالتنكير للتعظيم لا لأن الصّراط متعددٌ، الصراط المستقيم واحدٌ، ولذالك قال عزّ وجلّ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، هو واحدٌ.

أمّا السّبيل: السّبيل يمكن أن يتعدّد، لِمَ؟ لأنّ السبيل نسبته إلى الصراط نسبة مجرى النبع للنبع، إذا عندك نبع ماء وهذا النبع يتفرّع إلى مجارٍ متعددة، النبع نفسه واحدٌ وليس متعددًا، هذا نسمّيه صراطًا، وأمّا المجاري لأنّها متعددة نسمّيها سُبلاً، فالسبل هِي الطرق التِي تُوصِل إلى الصّراط المستقيم، فمنزلة الصراط بالنسبة إلى السبل بمنزلة النبع بالنسبة للمجاري المختلفة، ولذلك قال: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا سبلنا يعني الطرق التي توصل إلى الصراط المستقيم، وأمّا الصراط المستقيم فهو واحدٌ وليس متعددًا.

اقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، هذه الآية توضّح لك ما هو المقصود بالآيات السابقة، ما هو المقصود بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ما هو المقصود به؟ المقصود به هذه الآية، القرآن يفسّر بعضُه بعضًا، ومتشابَه القرآن يُرَدّ إلى محكمه ليُعْلَمُ المراد منه، هنا نقرأ هذه الآية، يقول: لا يكفي أن يكون صائبيًا ولا يكفي أن نصرانيًا، لابدّ أنْ يطبّق التوراة كما نزلت، والإنجيل كما نزل، والقرآن كما نزل، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ - يعني: طبّقوها - وَالْإِنْجِيلَ «ما يكفي التوراة» وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ما الذي أنزل وراء التوراة والإنجيل؟ القرآن الكريم، من طبّق هذه الكتب الثلاثة كما نزلت - لا كما حُرّفت - فهو الذي يكون جزاؤه الأخروي مضمونًا.

ومن الواضح أنّ التوراة التي نزلت من السماء والإنجيل الذي نزل من السماء هو بنفسه يقرّ بنبوة النبي محمّدٍ ، ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، وقال في آية آخرى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يعني: القرآن صدّق بعضَ الكلام الموجود في الإنجيل ونسخ البعض الآخر، مهيمن عليه يعني ناسخ، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ إذن لا يكفي أن يقول: أنا صائبيٌ أو أنا نصرانيٌ، حتى يدخل في هذه الآية، لا، نصرانيٌ أو يهوديٌ أو صائبيٌ هو من طبّق الكتب الثلاثة كما نزلت، فإذا طبّق الكتب الثلاثة كما نزلت صار مسلمًا، لم يصر يهوديًا أو نصرانيًا، إذن ليس في القرآن قبولٌ للتعدديّة، وإنما القرآن ينصّ على أنّ الصراط واحدٌ والحق واحدٌ وليس هناك شيءٌ آخر.

المحور الثالث:

لا يخفى أن واقعنا الإسلامي يتضمن مذاهبَ متعددة: الحنبلي والحنفي والمالكي والشافعي والإمامي والزيدي والإسماعيلي والأباضي... مذاهب، فرّبما يقول قائلٌ: لماذا لا نتعامل مع هذه المذاهب كما نتعامل مع اختلاف الفقهاء؟! أليس عندنا في المذهب الإمامي فتاوى فقهية مختلفة؟! الخميني والشيرازي والخوئي والكَلباكَاني وغيرهم... اختلافٌ، لماذا لا نتعامل مع اختلاف أئمة المذاهب كما نتعامل مع اختلاف فقهاء الإمامية؟! لماذا نقول بأن الاختلاف بين المذاهب اختلاف حق وباطل، بينما اختلاف فقهاء الإمامية اختلاف حق؟! لماذا لا نتعامل مع هذا التنوع المذهبي كما نتعامل مع التنوع الفقهي في دائرة التشيّع؟!

هناك فرقٌ بين الحجّيّة وبين المعذريّة، ما هو الفرق بينهما؟

نحن نقول: متى تكون الفتوى حجة على الإنسان بحيث عليه أن يعمل بها؟ إذا كانت هذه الفتوى صادرة من فقيهٍ يجري على وفق الموازين المستفادة من كتاب الله وسنة نبيه وأحاديث الأئمة المعصومين عليهم السّلام، نعم هنا نحن نقول: فتاوى فقهاء الإمامية حجّة، لماذا حجّة؟ حجّة علينا أن نعمل بها، كلٌ يعمل بفتوى مُقلَده ومرجعه، لماذا حجة؟ لأنّ هذه الفتاوى صدرت عن طرق علمية مستفادة من الكتاب أو سنة النبي أو أحاديث المعصومين أو العقل القطعي، لأنها مستفادة من هذه الطرق المضمونة تكون هذه الفتوى حجة عليك أن تعمل بها، بينما نأتي لفتاوي أئمة المذاهب الأخرى: بما أنّ الطرق التي اعتمد عليها أئمة المذاهب الأخرى في الوصول لهذه الفتوى بنظرنا ليست طرقًا صحيحة ومضمونة لأنها ليست مستفادة - بنظرنا - من أحاديث الأئمة المعصومين ، أو ليست مستفادة من العقل القطعي، لذلك نحن نقول: هذه الفتاوى وهذه الآراء ليست حجّة، لِمَ؟ لأنّها لم تنشأ ولم تنبع عن أسس علمية مستفادة من هذه المنابع الصحيحة: الكتاب، سنة النبي، وأحاديث المعصومين، والعقل القطعي، هذا هو الفرق بين فتاوى فقهائنا وفتاوى أئمة المذاهب الأخرى، الفرق هو في الطريق «طريق الوصول إلى الفتوى من أين أتى؟».

أمّا عندما نأتي إلى العنصر الثاني وهو المعذريّة، نحن نقول: نفس الشيء، عندما يختلف فقيهان من الإمامية يعني كلاهما حقٌ؟! لا، قطعًا واحد خطأ وواحد صوابٌ، لا يوجد فرقٌ بينهم وبين غيرهم، فقيهٌ يقول: غسل الجمعة يجزي عن الوضوء، وفقيهٌ يقول: لا يجزي عن الوضوء، يعني كلا الرأيين صحيحٌ؟! لا طبعًا، واحدٌ منهم صحيحٌ وواحدٌ منهم حطأ، لأن الواقع واحدٌ وليس متعددًا، الواقع في علمم الله حكمٌ واحدٌ، هذا الفقيه أصابه، وهذا الفقيه أخطأه، لكنّ الفقيه إذا أخطأ فعمله وعمل مقلديه بفتواه معذّر له أمام الله تبارك وتعالى، لكنّ هذا لا يعني أن فتواه صحيحة، لعلعها أخطأت الواقع.

إذن نحن لا نلتزم بأن فتاوى فقهائنا كلها هدى وكلها صحيحة وكلها صوابٌ حتى يقال لنا: إذن اعتبروا اختلاف المذاهب أيضًا كذلك! لا، نحن أيضًا نقرّ أنّ اختلاف فقهائنا بعضه صوابٌ وبعضه خطأ؛ لأنّ الواقع واحدٌ ولا يتعدّد، إنّما نقول: فتوى الفقيه الجامع للشرائط المستندة للطرق الصحيحة العلمية، هذه الفتوى حجة عليك أن تعمل بها، أمّا أنها صوابٌ لا نستطيع أن نقول أنها صوابٌ، لعلها خطأ، لكنّك إذا عملتَ بها فأنت معذورٌ أمام الله، وهو إذا عمل بها فهو معذورٌ أمام الله ليس إلا، وإلا نحن لا ندّعي العصمة ولا ندّعي الصواب.

نفس الشيء نأتي إلى أئمة المذاهب الأخرى، نقول: أي إنسان - حنبلي، مالكي، شافعي... - إذا أخطأ الواقع ولم يصب الواقع إما في معتقداته أو في أحكامه الفقهيّة، فإن كان قاصرًا، يعني: لا يستطيع أن يصل إلى الواقع إما لقصور في عقله، إما لقلةٍ في مصادره، لا يستطيع أن يصل إلى الواقع، فهُو معذورٌ، هذا يعتبر مستضعفًا، ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، والإمام الخميني «قدّس سرّه» ذكر في بحثه في الفقه أنّ أغلب أهل السنة مستضعفون معذورون؛ لأنهم لا يمكنهم الوصول إلى الحق إمّا لضعف في الطاقة والقابلية وإمّا لتأثير الجو تأثيرًا قهريًا عليهم، معذورٌ.

إذن بالنتيجة: نحن لا نقول بأنّ اختلاف المذاهب كله صوابٌ، كما أنّ اختلاف فقهائنا ليس كله صواب، بعضه صوابٌ وبعضه خطأ؛ لأن الواقع واحدٌ لا يتعدد، وإنما نقول: فتوى الفقيه الإمامي حجة وفتوى الفقيه غير الإمامي ليست بحجّة؛ لأنّ فتوى الفقيه الإمامي اعتمدت على طريق علمي مستفادٍ من الكتاب والسنة وأحاديث المعصومين والعقل القطعي، بينما فتوى الفقيه غير الإمامي لم تعتمد على هذه الطرق، فلا تكون حجة، وكلّ إنسان لم يستطع الوصول إلى الواقع لقصور عقله أو لضعف مداركه أو لقلة المصادر أو لتأثير الجو تأثيرًا قهريًا عليه فهو معذورٌ، يعتبر جاهلاً قَاصرًا، معذورٌ.

إنّ اختلاف المذاهب على قسمين:

  1. اختلافٌ فكريٌ: وهذا موجود منذ وفاة النبي الأعظم إلى يومنا هذا.
  2. اختلافٌ اجتماعيٌ: والاختلاف الاجتماعي هو الخطير، أما الاختلاف الفكري ليس خطيرًا، فهذا اختلافٌ موجودٌ، كما هو موجودٌ بين الشّرائع والملل هو موجودٌ بين المذاهب والفرق.

الاختلاف الاجتماعي هو نقطة الخطر؛ لأن الاختلاف الاجتماعي يعني وجودَ احتقان طائفي وحالة استعداء طائفية من فرقة على أخرى ومن مذهب على آخر، مجرّد الاختلاف الفكري مع احترام كل مذهب للمذهب الآخر وكل مذهب يقرّ بأن المذهب الآخر له الحرية في ممارسة طقوسه وشعائره وبيان فكره ومعتقداته، هذا ليس اختلافًا خطيرًا، إنما الخطر عندما يتحوّل الاختلاف إلى اختلاف اجتماعي، عندما يتحوّل الاختلاف إلى احتقان طائفي وتشنج مذهبي، بحيث يشكّل حالة استعداء وحربًا طائفية من فرقة على آخرى، سواءً كانت حربًا إعلامية أو كانت حربًا ميدانية عسكرية، لا فرق، فالخطر كل الخطر في الحروب الطائفية، وليس الخطر في الاختلاف الفكري.

وقد تفادى علماؤنا الكبار «رضوان الله عليهم» أن تقع الأمة في حرب طائفية، فطرحوا مشروع التقريب، وطرحوا مشروع الوحدة، وطرحوا مشروع التآخي، فالإمام الحكيم والسيد البروجردي «قدّس سرّهما» أسّسا مكتبة تقريب بين المذاهب في القاهرة قبل 45 سنة أو أكثر، وأنشأ هذا المكتب مجلة «رسالة الإسلام» التي كان يكتب فيها الشيعة والسنة معًا، ونادى الإمام كاشف الغطاء والإمام الخميني «قدّس سرّهما» بمشروع الوحدة الإسلامية، ونادى علماءُ آخرون بمشروع التآخي، وقال السّيّد السّيستاني «دام ظله»: السنة ليسوا إخواننا فقط بل هم أنفسنا... وكل هذه المشاريع قُصِدَ منها حماية الأمة من الانزلاق في حرب طائفية سواءً كانت حربًا إعلامية أو حربًا عسكرية ودموية.

والمسلمون بينهم مشتركات كثيرة يستطيعون من خلالها بناء أقوى الجسور - جسور الأخوّة - والقرآن يصرّح: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ والمقصود بالمؤمنين هنا: المسلمون، كما في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فهذا كله خطابٌ للمسلمين، ومن أهمّ النقاط التي يشترك به المسلمون ولاء أهل البيت، المسلمون يختلفون في الصّحابة لكنّهم لا يختلفون في آل بيت النبي، المسلمون يختلفون في الصحابة - في فلان وفلان أو فلانٍ أو فلانٍ - ولكنّ الجميع يؤمن أنّ عليًا والحسن والحسين وزين العابدين والباقر والصادق علماء أتقياء، لا ينازع في ذلك أحدٌ من المسلمين، إذن هناك نقطة تجمع المسلمين جميعًا، وهي عدالة أهل البيت ونقاء أهل البيت، وهذه النقطة كفيلة بأن تثير وتزرع روح الأخوّة بين المذاهب الإسلاميّة كلها.

وهذه الأيام أيام مناسبة لو أنّ المسلمين يركّزون على تاريخ أهل البيت لكانت هذه المناسبة - مناسبة محرم الحرام - ذات تأثير أخوي على جميع المسلمين، إذ لا يوجد مسلمٌ يرضى بهذه المجزرة، هذه المجزرة التي نحتفل بذكراها الأليمة في كل عام لا يرضى بها مسلمٌ.

والحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّدٍ وأهل بيته الطيّبين الطاهرين

النص وَتعدد القراءات