نص الشريط
محورية الدليل العقلي للدين
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 9/9/1432 هـ
مرات العرض: 3321
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1480)
تشغيل:


بسم الله الرّحمن الرّحيم

﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ

صدق الله العليّ العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث عن أهمّيّة الاعتماد على الدّليل العقلي، فقد دلّت الآية المباركة على أهمّيّة الاعتماد على العقل، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وإنّما يدركون الأحسنَ بواسطة عقولهم، وإلا فلو لم يعتمد الإنسانُ على عقله لم يدرك أحسنَ الآراء أو أحسنَ الأقوال أو أكثرها صوابًا، والقرآن الكريم قد أشاد بأهمّيّة الدّليل العقلي من خلال ثلاث جهات:

الجهة الأولى: أنّه حثّ على التّفكير وحثّ على استخدام العقل، كما في الآية التي قرأناها، وفي قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وقال تبارك وتعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وقال تبارك وتعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وقال تبارك وتعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وكلّ هذا حثٌ على استخدام العقل واستخدام التّفكير في التّمييز بين الآراء والأقوال.

الجهة الثانية: أنّ القرآن الكريم نفسه استخدم الدّليلَ العقلي في إثبات العقائد وفي إثبات وجود الله تبارك وتعالى، مثلاً: القرآن الكريم يقول: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا وهذا استخدامٌ للدّليل العقلي في إثبات وحدانيّة الله تبارك وتعالى، القرآن الكريم يقول: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ وهذا استخدامٌ للدّليل العقلي في إثبات خالقيّة الباري تبارك وتعالى، والقرآن الكريم يقول في إثبات عصمة القرآن الكريم: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وهذا أيضًا استخدامٌ للدّليل العقلي لإثبات عصمة القرآن وحجّيّة القرآن.

الجهة الثالثة: أنّ القرآن الكريم استخدم العقلَ حتى في إثبات الأحكام الشّرعيّة، مع أنّ الأحكام الشّرعيّة أحكامٌ تعبّديّة ذات ملاكات خفيّة علينا، مع ذلك تبارك وتعالى استدلّ بالعقل لإثبات حجّيّة هذه الأحكام الشّرعيّة، ممّا يكشف عن محوريّة العقل في القرآن الكريم، مثلاً: يقول عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، مثلاً: يقول: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني: إنّما أوجب اللهُ الصّيامَ عليكم لأجل الوصول إلى التّقوى، مثلاً: يقول عزّ وجلّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وهكذا... نفس الأحكام الشّرعيّة شرّعها واستدلّ على تشريعها بدليلٍ عقلي.

فمَنْ يلاحِظ هذه الجهات الثلاث في القرآن الكريم يدرك محوريّة العقل في الاستدلالات القرآنيّة وأهمّيّة العقل في الوصول إلى النّتائج وتمييز الآراء والأقوال، بعد ذلك نأتي إلى مَنْ عارضَ محوريّة العقل في الدّين وفي التّشريعات وفي الاستدلالات القرآنيّة، هناك مُحْدَثُون وحداثيّون كتبوا حول هذه النّقطة وقالوا بأنّ عقلانيّة القرآن وعقلانيّة الدّين - بمعنى اعتماد الدّين واتّكاء الدّين في استدلالاته على الأدلة العقليّة - هذا لا ينتج شيئًا، لماذا؟ لأدلةٍ ثلاثةٍ أتعرّض إليها:

الدّليل الأوّل: أنّ الدّليل المضمون هو التّجربة لا الدّليل العقلي، الدّليل الذي تُضْمَنُ نتائجُه وتُضْمَنُ ثمراتُه هو الدّليل التّجريبي القائم على تكرار العمل إلى أنْ يصل الإنسانُ إلى اليقين بالنّتيجة، أمّا الأدلة العقليّة فليست مضمونة النّتيجة؛ لأنّ الأدلة العقليّة يكثر الخطأ فيها ويكثر الاشتباهُ فيها، والدّليل على كثرة الخطأ في الأدلة العقليّة اختلاف الفلاسفة واختلاف العلماء واختلاف الباحثين والمحقّقين، فإنّ اختلاف الفلاسفة والعلماء والباحثين يكشف عن أنّ أحدهم خَطِئَ لا محالة، وأنّ أحدهم اشتبه لا محالة، إذ لا يُعْقَلُ أنْ يختلفوا ومع ذلك يكون كلّ كلامهم وكلّ فكرهم صحيحًا، فالأدلة العقليّة مظنّة للخطأ ومَعْرَضٌ للاشتباه، والدّليل على الاشتباه اختلاف العلماء في كثيرٍ مِنَ الأدلة العقليّة.

بينما الدّليل التّجريبي مضمون النّتيجة، مثلاً: إذا أردنا أنْ نعرف أنّ الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة نقيم هذه التّجربة على ألف فردٍ مِنَ الماء، على مليون فردٍ مِنَ الماء، ونكرّر التّجربة إلى أنْ نصل إلى اليقين بأنّ الماء إذا بلغت درجة حرارته مئة فإنّه يغلي، هذا الدّليل - وهو الدّليل التّجريبي - مضمون النّتيجة لأنّه مستلزمٌ للتّكرار إلى أنْ يصل الإنسانُ إلى اليقين، بينما الأدلة العقليّة ليست مضمونة النّتيجة لكثرة الخطأ والاشتباه فيها، وبالتّالي فكون الدّين عقلانيًا لا ينتج شيئًا للدّين ولا يثبت صحّة الدّين وحجّيّة الدّين، إنّما يثبت صحّة الدّين وحجّيّته إذا كان معتمدًا على الأدلة التّجريبيّة لا على الأدلة العقليّة، هذا هو الوجه الأوّل الذي استدلّ به بعضُ الحداثيّين في مقابل عقلانيّة الدّين.

هذا الاستدلال تُسَجَّلُ عليه عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: أنّ هذا الاستدلال استدلالٌ على عدم حجّيّة العقل بالعقل، هذا الاستدلال عقليٌ أيضًا، نفس هذا الاستدلال ليس استدلالاً تجريبيًا إنّما هو استدلالٌ عقليٌ، عندما يقول: بما أنّ الأدلة العقليّة يكثر فيها الخطأ والاشتباه إذن فالدّليل المضمون في نتيجته هو الدّليل التّجريبي، نفس هذا الكلام هو استدلالٌ بالعقل، هو اعتمادٌ على العقل، فكيف نبطل دورَ العقل بالعقل نفسه؟! كيف نعتمد على الاستدلال العقلي لإبطال ثمرة ونتيجة الدّليل العقلي؟! هذه الملاحظة الأولى.

الملاحظة الثانية: إنّ مِنْ جُمْلَة الأدلّة التي اتّكأ عليها علمُ الكلام في الفكر الدّيني هو الدّليل التّجريبي، ولم يتّكئ علمُ الكلام على خصوص الأدلة العقليّة المحضة، بيان ذلك: الدّليل التّجريبي هو عبارة عن تكرار التّجربة إلى أنْ تصل إلى اليقين بالنّتيجة، مثلما ذكرنا: إذا أردنا أنْ نعرف أنّ الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة نقوم بتكرار هذه التّجربة، نضع ماءً على النّار ونرى، نقيس حرارته، نرى أنّه إذا بلغت درجة حرارته مئة غلا الماءُ، نكرّر هذه التّجربة مليون مرّة إلى أنْ يحصل لنا اليقينُ بهذه النّتيجة، نفس الكلام في الاستدلالات الدّينيّة.

مثلاً: كيف نثبت أنّ لهذا الكون منظمًا حكيمًا؟ كيف نثبت أنّ لهذا الكون ولهذا الوجود منظمًا حكيمًا؟ بالتّجربة، جسم الإنسان يخضع لنظام، فيكشف جسمُ الإنسان عن وجود منظم حكيم لهذا الجسم، النّبات يخضع لنظام، يكشف ذلك عن وجود منظم حكيم للنّبات، تأتي إلى حركة الأرض في طبقاتها، تخضع لنظام، يكشف ذلك عن وجود منظم حكيم لطبقات الأرض، تأتي إلى النّظام الفلكي: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ تكتشف أنّ هناك نظامًا محكمًا يحكم المسيرة - مسيرة المجموعات الشّمسيّة - والأفلاك كلها، تكتشف أنّ هناك منظمًا حكيمًا، وهكذا كلما وضعتَ يدَك على موجودٍ من الموجودات الأرضيّة أو السّماويّة لوجدتَه يخضع لنظام ينظم مسيرة وجوده وتكتشف من وراء ذلك أنّ هناك منظمًا حكيمًا، فببركة استقراء الموجودات الكونيّة تكتشف أنّ الجميع يخضع لنظام محكم، والنظام المحكم يكشف عن المنظم الحكيم، وهذا ما يسمّى بدليل حساب الاحتمالات.

أصلاً الدّليل التّجريبي ما لم يرجع لدليل حساب الاحتمالات لا ينتج شيئًا، كلّ تجربةٍ ما لم ترجع لدليل حساب الاحتمالات لا يمكن أنْ تنتج، أنت الآن إذا قمتَ باستقراء ألف فردٍ من الماء واكتشفتَ أنّ ألف فرد من الماء يغلي إذا بلغتَ درجة حرارته مئة، ما لم تستخدم دليل حساب الاحتمالات وهو ضرب الاحتمالات في بعضها البعض حتى يتصاعد الرّقم - رقم الاحتمال - إلى أنْ يصل إلى درجة اليقين، ما لم تقم بدليل حساب الاحتمالات فإنّ الدّليل التّجريبي لا ينتج ولا يثمر، ونفس الكلام نحن عندما نريد أنْ نكتشف أنّ للكون منظمًا حكيمًا ونستقرئ الموجودات كلها لكي نثبت ذلك إنّما نستند إلى دليل حساب الاحتمالات، فكلما استقرأنا تجربة وكلما قرأنا نظامًا من الأنظمة التّكوينيّة تصاعد الاحتمالُ إلى أنْ يصل إلى درجة اليقين المطلق.

الملاحظة الثالثة: كما أنّ الأدلة العقليّة يقع فيها الخطأ والاشتباه فإنّ الأدلة التّجريبيّة أيضًا يقع فيها الخطأ والاشتباهُ، وكم من أخطاء طبّيّة بُنِيَت على الدّليل التّجريبي ثم اُكْتُشِفَ خطؤها، علم الطبّ في كلّ جيلٍ - أو لنقل: في كلّ خمسين سنة - كأنّه يعيد نفسَه؛ لأنّه يُخْضِعُ تجاربَه السّابقة التي استند إليها في تشخيص بعض الأمراض أو تشخيص بعض الأدوية، يعيد التّجربة فيها ويخضعها للتّجربة مرّة أخرى إلى أنْ يكتشف مناطقَ الخلل ومناطقَ النّقص، إذن كما أنّ الدّليل العقلي مظنة للخطأ فإنّ الدّليل التّجريبي أيضًا مظنة للخطأ، ولا ميزة من هذه الجهة للدّليل التّجريبي على الدّليل العقلي.

الملاحظة الرّابعة وهي المهمّة: لا يمكن للدّليل التّجريبي أنْ ينتج إلا بالاعتماد على الدّليل العقلي، مستحيل أنْ ينتج الدّليلُ العقلي إلا بالاعتماد على الدّليل العقلي، كيف؟

هناك مقدّمة عقليّة مطويّة وهي: حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحدٌ، هذه المقدّمة العقليّة ما لم يُعْتَمَدُ عليها لا يمكن أنْ يكون الدّليلُ التّجريبي منتجًا، أضرب لك المثالَ نفسَه: الآن نحن لو قمنا بالتّجربة على مليار فردٍ من الماء، استقرأنا مليار فرد من الماء ووجدنا أنّ كلّ فردٍ من هذا المليار يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة، كيف نستطيع أنْ نصدّر حكمًا عامًا وقضيّة كليّة تشمل المياه في جميع مناطق العالم وتشمل المياه الموجودة والمياه التي ستُخْلَقُ بعد ألف سنة؟ كيف نستطيع أنْ نصدّر نتيجة عامّة؟ كيف؟ كيف نستطيع أنْ نقول: كلّ ماءٍ يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة؟ كيف نستطيع أنْ نصدّر قضيّة عامّة ونحن لم نستقرئ إلا مليار فرد؟! لعلّ غير هذا المليار لا يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة! كيف نستطيع أنْ نُصْدِر حكمًا كليًا يشمل المياه التي استقرأناها والمياه التي لم تُوجَد بعد والتي تُوجَد بعد ألف سنة والتي تُوجَد بعد مليون سنة؟! كيف نستطيع أنْ نُصْدِرَ حكمًا عامًا؟! لا يمكن للدّليل التّجريبي أنْ يصدر حكمًا عامًا إلا إذا استند إلى مقدّمةٍ عقليّةٍ، وهي: حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحدٌ، تقول: هذه المياه مياهٌ، والمياه التي ستُوجَد بعد ألف سنة مياهٌ، والمياه التي ستُوجَد بعد مليار سنة مياهٌ، فبما أنّ الجميع مياه وهذه المياه تغلي إذا بلغت درجة حرارتها مئة إذن المياه التي ستأتي ستكون مثلها، فأقحمنا ضمن الاستدلال مقدّمة عقليّة: حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحدٌ، لولا هذه المقدّمة العقليّة لما كان الدّليلُ التّجريبيُ منتجًا.

إذن ليس عندنا شيءٌ اسمه دليل تجريبي أصلاً، أصلاً هذا خطأ، تقول: دليل تجريبي ودليل عقلي، هذا أصلاً كلام خطأ، التّقسيم خطأ، ليس عندنا دليل تجريبي ودليل عقلي، كلّ الأدلة أدلة عقليّة؛ لأنّ الدّليل التّجريبي أيضًا لا ينتج إلا إذا اعتمد على مقدّمة عقليّة وكبرى عقليّة وإلا لا يكون منتجًا، فلا يوجد عندنا دليلٌ تجريبيٌ ودليلٌ عقليٌ، جميع الأدلة أدلة عقليّة، جميع الأدلة ترجع إلى الدّليل العقلي، لا مجال للتّنصّل من ذلك أبدًا.

هذا الوجه الأوّل الذي اُسْتُدِلَّ به على عدم حجّيّة الدّليل العقلي والملاحظات التي تُسَجَّلُ عليه.

الدّليل الثاني: بعض الحداثيّين يقول أنّ علماء الدّين أو علماء المسلمين يستدلّون على صحّة الفكر الدّيني بالدّليل العقلي، وما هو الدّليل على صحّة الدّليل العقلي؟! هم يستدلّون على صحّة الفكر الدّيني بالدّليل العقلي، يقولون: الدّليل العقلي أنتج أنّ للكون خالقًا حكيمًا عادلاً، وأنتج ضرورة وجود أنبياء وأوصياء، وضرورة وجود يوم للمعاد، كلّ هذا بالعقل، سلّمنا بالعقل، فأنتم أثبتّم صحّة الفكر الدّيني بالدّليل العقلي، لكن ما الذي يثبت صحّة الدّليل العقلي؟! العقل نفسه، العقل نفسه حكم بصحّة الدّليل العقلي! وهذا دَوْرٌ، كيف نثبت صحّة الدّليل العقلي بالعقل نفسه؟! هذا نظيرٌ بعض السّلفيّين يستدلّ على حجّيّة القرآن بالقرآن! كيف تستدلّ على حجّيّة القرآن بالقرآن؟! هذا دورٌ، ما هو الدّليل على أنّ القرآن حجّة؟! يقول لك: الدّليل على أنّ القرآن حجّة أنّ القرآن قال: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ أنت تسدلّ على القرآن بالقرآن! وهذا استدلالٌ دوريٌ، لابدّ أنْ تستدلّ على حجّيّة القرآن بدليلٍ آخر غير القرآن، مثلاً: واحد يقول: الدّليل على نبوّة النّبي محمّدٍ أنّ النبي قال: أنا نبيٌ! هذا ماذا يفيدنا؟! لابدّ من دليلٍ آخر، أنتم أيضًا تستدلّون على صحّة الدّليل العقلي وحجّيّة الدّليل العقلي بالعقل نفسه، وهذا دورٌ، فكيف تتخلصون من محذور الدّور هنا في المقام؟!

الجواب: المعلومات التي يمتلكها الإنسانُ على قسمين:

1 - معلومات نظريّة.

2 - معلومات بديهيّة.

والإنسان بفطرته لا يحتاج إلى تحكيم العقل ولا يحتاج إلى تأمّل العقل، الإنسان بفطرته فُطِرَ وجُبِلَ على أنْ يتوصّل للنظريّات من خلال البديهيّات، فيثبت صحّة النّظريّات بالبديهيّات، لكن لو سُئِلَ: ما الدّليل على صحّة البديهيّات؟! فيقول: البديهي مستغنٍ عن الدّليل لأنّه بديهيٌ، البديهي لا يُسْتَدَلُّ عليه لأنّه بديهيٌ وإلا لم يكن بديهيًا، يعني الآن مثلاً أنا أضرب لك مثالاً: يأتي واحد ويقول: 2 + 2 = 4، لماذا 2 + 2 = 4؟ لأنّ كلّ 2 يتكوّن من 1 و1، فإذا كان كلّ 2 يتكوّن من 1 و1 إذن 2 + 2 يصير أربع واحدات، تأتي تقول له: ما الدّليل على أنّ كلّ اثنين يتكوّن من 1 و1؟! يقول لك: أأصفع بك؟! كلّ اثنين يتكوّن من 1 و1 هذا بالبداهة، والبديهي لا يحتاج إلى دليلٍ، إذ لو احتاج إلى دليلٍ لم يكن بديهيًا، كيف يكون بديهيًا وهو يحتاج إلى دليلٍ؟! بمعنى أنّ البديهي هو ما أدركه الوجدانُ بطبعه بدون حاجةٍ إلى تأمّلٍ ونظرٍ، كلّ ما يدركه الوجدانُ بطبعه وبفطرته فهو أمرٌ بديهيٌ، البديهي لا يحتاج إلى استدلالٍ لإثبات حجّيّته، وإلا لا يبقى عند الإنسان أيّ شيء.

حتى الإنسان الشّكّاك، ترى إنسانًا يشكّك في كلّ شيءٍ، هناك أناسٌ هكذا، يقعد في المجلس مستندًا على المخدّة وكلّ شيء يقول: ليس معلومًا! ليس عليه دليلٌ! كلّ شيءٍ يشكّك فيه، حتى هذا الإنسان الذي يشكّك في كلّ شيءٍ إذا سألتَه: هل تشكّك في شكّك؟! أنت الآن كلّ شيءٍ تشكّك فيه، لكن هل تشكّك أنّك شاك؟! يقول: لا، أنا شاكٌ، أرى نفسي شاكًا كيف أيضًا أشكّك؟! أنا أشكّك في كلّ شيءٍ لكنّ كوني شاكًا هذا شيءٌ بديهيٌ لا أستطيع أنْ أشكّك فيه، أنا شاكٌ بالوجدان، فكونه شاكًا بالبداهة، بالوجدان، وما هو البديهي - أي: ما هو المُدْرَك بالوجدان - لا يحتاج إلى استدلالٍ.

إذن توصّلنا إلى النّتيجة: وهي أنّنا عندما نستدلّ على صحّة الفكر الدّيني بالدّليل العقلي نستدلّ على صحّة الدّليل العقلي بالبداهة، وأنّ المعلوماتِ العقليّة الأوليّة البديهيّة هي التي نستخدمها في إثبات الفكر الدّيني، والمعلومات البديهيّة لا تحتاج صحّتها إلى دليلٍ لبداهتها، والبديهي مستغنٍ عن الدّليل، يعني الآن مثلاً أضرب لك مثالاً: نحن كيف نستدلّ على وجود سببٍ لهذا الكون؟ بقاعدة السّببيّة: أنّ لكلّ مسبَّبٍ سببٌ، هذه القاعدة السّببيّة هل تحتاج أيضًا إلى دليلٍ؟! لو قال قائلٌ: هذه أحضر دليلاً عليها! أحضروا هيا! نقول: هذه من المعلومات البديهيّة التي يدركها الإنسانُ بوجدانه وطبعه، والبديهيّات لا تحتاج إلى دليلٍ.

إذن فبالنّتيجة: لاحظ المغالطة كيف، الإنسان عندما يقول لك: أحضر لي دليلاً، يعني معناه ماذا؟ معناه هو يؤمن بقاعدة السّببيّة، لو لم يؤمن بقاعدة السّببيّة ما طلب دليلاً، هو يريد أنْ يقول لك: هذه الفكرة مسبَّبٌ، فتحتاج صحّتها إلى سببٍ، والسّبب هو الدّليل، فهو لأنّه يؤمن بقاعدة السّببيّة يطالِب بالأدلة، لأنّ الإنسان يؤمن بوجدانه وبفطرته بقاعدة السّببيّة وأنّ لكلّ مسبَّب سببٌ لذلك يقول: الإيمان بأيّ فكرةٍ مسبَّبٌ، وكلّ سببٍ يحتاج إلى سببٍ، إذن الإيمان بالفكرة يحتاج إلى سببٍ، وهو الدّليل القائم عليها، فهو الإنسان يغالط في قاعدة السّببيّة، وهو إنّما ينطلق في التّشكيك في هذه القاعدة انطلاقًا من قاعدة السّببيّة نفسها التي يؤمن بها بوجدانه وبطبعه.

الوجه الثالث الذي اُسْتُدِلَّ به على عدم حجّيّة الأحكام أو الأدلة العقليّة:

قالوا: كلّ ما في الوجود فهو خاضعٌ للتّغيّر، الإنسان يتغيّر جسمُه، المشاعر تتغيّر، العواطف تتغيّر، كلّ ما في الكون خاضعٌ لنظام التّغيّر، فبما أنّ كلّ ما في الكون خاضعٌ لنظام التّغيّر إذن هذه المعلومة العقليّة التي ترتسم في الدّماغ والدّماغ موجودٌ عضويٌ في البدن خاضعٌ للتّغيّر، دماغ الإنسان أيضًا تموت منه خلايا وتحيا فيه خلايا، دماغ الإنسان موجودٌ عضويٌ خاضعٌ للتّغيّر، والأدلة العقليّة والمعلومات العقليّة صورٌ مرتسمة في الدّماغ، إذن هي أيضًا خاضعة للتّغيّر، وبما أنّ الأدلة العقليّة خاضعة للتّغيّر فكيف نعتمد عليها وهي أمورٌ لا ثبات لها وإنّما تخضع للتّغيّر والتّبدّل؟! فلا يمكن الرّكون إلى الحجج العقليّة لأنّها صورٌ متغيّرة بتغيّر محلها وهو الدّماغ، وما لا ثبات له فكيف يمكن الاعتماد عليه دليلاً؟! هذا هو الوجه الثالث.

الملاحظات التي تُسَجَّل على هذا الوجه:

الملاحظة الأولى: أنّ هناك خلطًا بين القوانين العامّة وبين الظواهر والموجودات، الموجودات تخضع للتّغيّر لكنّ القوانين التي تحكم الموجوداتِ لا تخضع للتّغيّر أبدًا، لاحظ الآن مثلاً هذه التّفاحة تأخذها بيدك، مادامت في يدك لا تسقط على الأرض، بمجرّد أنْ ترمي التّفاحة إلى السّماء تقسط على الأرض، تسقط على الأرض نتيجة ماذا؟ قوّة الجاذبيّة التي تجذبها إلى الأرض، هذه التّفاحة خضعت للتّغيّر، كانت في يدك، أصبحت ملقاة في الفضاء، ثم وقعت على الأرض، خضعت لتغيّرٍ، لكنّ قانون الجاذبيّة لا يخضع للتّغيّر، يعني: قانون الجاذبيّة فقط هذه السّنين وفيما بعد سيبطل قانونُ الجاذبيّة؟! أو قانون الجاذبيّة ما كان قبل ألف سنة والآن صار؟! لا، الأشياء التي تخضع لقانون الجاذبيّة تتغيّر، أمّا نفس القانون فإنّه لا يتغيّر، إلا أنْ تُزَالَ السّماءُ والأرضُ، هذه مسألة أخرى، القانون نفسه لا يتغيّر.

تأتي إلى الماء: نفس المثال الذي جئنا به في الماء، الماء يتغيّر، صح؟! كان باردًا، أصبح حارًا، ثم وصل إلى درجة الغليان، ثم أصبح بخارًا، الماء يتغيّر، لكنّ القانون الذي يحكمه وهو: «كلّ ماءٍ بلغ درجة حرارته مئة فإنّه يغلي» هذا القانون هل يتغيّر؟! هذا القانون ثابتٌ لا يتغيّر، فما يخضع للتّغيّر هو الموجودات والظواهر، أمّا القوانين الكليّة التي تحكمها فإنّها لا تتغيّر بل هي ثابتة، إذن فدعوى أنّ كلّ شيءٍ يتغيّر في هذا الكون هذا خلط بين الظواهر والقوانين، بين الموجودات الجزئيّة وبين الأحكام الكليّة.

الملاحظة الثانية: أنّ هذه الدّعوى - أنّ المعلوماتِ العقليّة تتغيّر لأنّها مرتسمة في الدّماغ والدّماغ متغيّرٌ - هذه الدّعوى يكذبها الوجدانُ، المعلومات العقليّة لا تتغيّر، والدّليل على ذلك: لو كانت المعلوماتُ العقليّة تتغيّر لكانت خاضعة للزّمن والمكان، كيف خاصعة للزّمن والمكان؟

الآن سأمثل لك بمثالٍ وجداني حسّي: الآن نحن جالسون في هذا المسجد، الآن أنا إذا أغمضتُ عيني سوف أتصوّر صورة، وهي صورة الجالسين في هذا المسجد، هذه الصّورة لها زمنٌ، السّاعة مثلاً الثالثة عصرًا كانت هذه الصّورة، لها مكانٌ، أين؟ مسجد الإمام علي، طيّب أنا إذا خرجتُ من مسجد الإمام علي، بعد ساعتين صرتُ في السّوق فهل أستطيع أنْ أتصوّر الصّورة أم لا؟ أستطيع أنْ أتصوّر الصّورة نفسها، مع أنّه لو كانت الصّورة خاضعة للزّمن والمكان لما استطعتُ أنْ أتصوّرها مرّة أخرى لأنّ الزّمن والمكان قد تغيّر، لو كانت الصّور العقليّة والمعلومات العقليّة متغيّرة لكانت مأسورة بالزّمان والمكان، فإذا تغيّر الزمانُ والمكانُ تغيّرت، مع أنّنا نجد أنّ الصّور العقليّة لا تتغيّر بتغيّر الزّمان والمكان، ولذلك أنا أتصوّر الأشياءَ المتغيّرة مع أنّ الصّورة التي تصوّرتُ بها الأشياءَ المتغيّرة لم تتغيّر، يعني الآن مثلاً أنا أراقب ماءً، أجعله على النّار وأراقبه، هذه صورة متغيّرة أمامي، أراقب الماء هذا، أراقب الماءَ منذ أنْ وُضِعَ على النّار، بدأت ترتفع درجة حرارته، إلى أنْ وصل إلى حدّ الغليان، إلى أنْ تبخّر وصار بخارًا، هذه كلها صورة متغيّرة، هذه الصّورة المتغيّرة أحتفظ بها في ذهني، أتصوّرها بعد يوم، الصّورة التي تصوّرتها بعد اليوم هل هي متغيّرة؟! لا، هي نفسها التي أنا لاقيتها، الماء المُتَصَوَّرُ تغيّر، أمّا الصّورة نفسها فلم تتغيّر، إذن فالوجدان شاهدٌ على أنّ المعلوماتِ العقليّة لا تخصع للتّغيّر وإنّما الذي يتغيّر هو المتصوِّر بهذه الصّور والمتعلَق لهذه المعلومات لا نفس هذه المعلومات.

فثبت بذلك أنّ ما أكّد عليه الدّين وحثّ عليه القرآنُ من استخدام العقل المتحرّر من شوائب المادّة وشوائب الشّهوة في إثبات صحّة الفكر وسقمه هو الصّحيح، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.

والحمدلله رب العالمين

معرفة النفس
العدالة