نص الشريط
الكمال الإنساني وَدور النبوة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 11/9/1432 هـ
مرات العرض: 3328
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2355)
تشغيل:


بسم الله الرّحمن الرّحيم

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

صدق الله العليّ العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في عدّة محاور:

المحور الأوّل: في الحاجة إلى وجود الأنبياء والأئمة.

ولأجل أنْ نبيّن وجهَ الحاجة إلى وجود الأنبياء والأئمة فنحتاج إلى أنْ نذكر هنا مقدّمتين:

المقدّمة الأولى:

إنّ الهدف من وجود الإنسان ومن خلق الإنسان وصوله إلى الكمال، والدّليل على أنّ الهدف من وجود الإنسان وصوله إلى الكمال أنّ الإنسان أعطي عناصرَ الكمال وأعطي الأجهزة التي تعدّه للوصول إلى الكمال، أعطي الإنسانُ العقلَ، وأعطي القدرة، وأعطي الإرادة، وهذه العناصر والرّكائز الثلاثة هي أجهزة الوصول إلى الكمال، فالإنسان إذا أراد أنْ يتكامل احتاج لعقلٍ يرشده إلى طريق الكمال، واحتاج إلى قدرةٍ وطاقةٍ يبذلها كي يصل إلى الكمال، واحتاج إلى إرادةٍ وصمودٍ يصبّره كي يصل إلى الكمال، فعناصر الكمال أعطيت للإنسان، فلو أنّ الإنسان لم يخلق للكمال لكان إعطاء هذه العناصر لغوًا وعبثًا لا داعي له، لو لم يكن الهدف من وجود الإنسان أنْ يصل إلى الكمال لكان إعطاؤه هذه العناصر وهذه الأجهزة التي توصله إلى الكمال إذا استخدمها استخدامًا دقيقًا، إعطاؤه هذه الأجهزة يكون لغوًا وعبثًا، واللغو والعبث قبيحٌ على الخالق الحكيم تبارك وتعالى، إذن فالهدف أنْ يصل الإنسانُ إلى الكمال، ولذلك جاءت الآياتُ القرآنيّة الشّريفة ترشد إلى أنّ الهدف من خلق الإنسان أنْ يصل إلى الكمال، قال تبارك وتعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا لا أيّكم أكثر مالاً، لا أيكم أكثر أولادًا، لا أيّكم أكثر ذكاءً، لا أيّكم أكثر علمًا، أيّكم أحسن عملاً، الكمال، خلق الإنسان لكي يكون أحسن عملاً، يعني: أكمل من غيره، ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا إذن الهدف هو وصولك إلى الكمال.

المقدّمة الثانية:

ليس المقصود بالكمال الكمال المادّي بأنْ يكون لدى الإنسان ثروة أو يكون لدى الإنسان مثلاً زوجة وأولاد أو أنْ يكون لدى الإنسان مثلاً قوّة بدنيّة قاهرة، أو أنْ يكون لدى الإنسان مثلاً علمٌ وافرٌ في أيّ مجالٍ من المجالات، المقصود بالكمال الذي خُلِقَ من أجله الإنسانُ الكمال الرّوحي، والكمال الرّوحي بحكومة الإرادة، كيف يعني حكومة الإرادة؟

الإنسان يعيش صراعًا حادًا وصراعًا صاخبًا بين مجموعة الغرائز التي يمتلكها وبين العقل الذي يرشده إلى طريق الكمال وطريق الصّواب، حكومة الإرادة على مسيرة الإنسان، إذا كان المسيطر على مسيرة الإنسان هو الإرادة وليست العاطفة، إذا كان المسيطر على مسيرة الإنسان هو الإرادة وليس الشّهوة وليس الغريزة، إذا كانت الإرادة هي المسيطر فهذا الإنسان كاملٌ، الكمال بسيطرة الإرادة.

افترضوا مثلاً هذا الإنسان طالبٌ جامعيٌ يدرس طبًا، يدرس هندسة، يدرس أيّ شيءٍ، هذا الطالب الجماعي لو انقاد إلى نفسه فإنّ النفس ترغب في الاسترخاء وترغب في الكسل وترغب في الاستجمام دائمًا وترغب في الرّاحة دائمًا، ولكن إذا سيطرت إرادته على نفسه أصبح طالبًا متفوّقًا، أصبح طالبًا متميّزًا، فسيطرة الإرادة على النفس مظهرٌ للكمال، هذا يصبح إنسانًا متفوّقًا، لماذا؟ لسيطرة إرادته على عواطفه.

حتى هذا التّاجر، التّاجر الذي عنده ثروة من الأموال، هناك تاجرٌ كسولٌ ثروته كلها في البنوك، البنوك تستفيد منها وهو نائمٌ بالبيت! وهناك تاجرٌ يحرّك مالَه وينفع مجتمعَه، يقضي على البطالة، يحرّك اليد الاجتماعيّة، يساهم في تحريك عجلة الاقتصاد، هذا التّاجر لو أصغى لنفسه فإنّ النّفس تحبّ الاسترخاء والكسل بطبعها، لكنّه إذا سيطرت إرادته على عواطفه وعلى نفسه وعلى غرائزه فإنّ سيطرة الإرادة تقوده إلى أنْ يكون تاجرًا متميّزًا نافعًا لمجتمعه، وهذا نوعٌ من الكمال، الكمال في سيطرة الإرادة على الغرائز والشّهوات.

كذلك الإنسان في مجال عباداته، كذلك الإنسان في مجال أعماله، الآن أنت في شهر رمضان، طبيعي شهر رمضان وصوم وتعب.. أفضل شيء عند الإنسان في شهر رمضان ما هو؟ أنْ ينام! لا يوجد أحسن من النّوم! أفضل شيءٍ في شهر رمضان أنْ ينام ويرتاح! تعبان وهو صائمٌ فهذا أفضل شيء، إذن لو استرخى الإنسانُ واسترسل مع نفسه ومع عواطفه وغرائزه لكان مسترخيًا وكان نائمًا، لكنّ الإرادة إذا سيطرت على الإنسان وحكمت على الإنسان أيقظت هذا الإنسان إلى أنْ يستغلّ فرصة شهر ضيافة الله ألا وهو شهر رمضان المبارك، ”شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله، أنفاسكم فيه تسبيحٌ“، أنت في هذا الشّهر المبارك إذا استثمرت فرصة المسجد، فرصة الدّعاء، فرصة قراءة القرآن، فرصة دعاء أبي حمزة... إذا استثمرت هذه الفرص الثّمينة فهذا مظهرٌ للكمال، سيطرة الإرادة على النفس، سيطرة الإرادة على الغرائز والعواطف.

إذن ما خُلِقَ الإنسانُ لكمالٍ مادّي وإنّما خُلِقَ الإنسانُ لكمالٍ روحي ألا وهو سيطرة الإرادة وسلطنتها على مسيرة الإنسان وعلى حركة الإنسان، هذا هو الكمال.

من ذلك نستنتج أنّ الإنسان خُلِقَ للكمال الرّوحي، بما أنّه خُلِقَ للكمال الرّوحي إذن الله عزّ وجلّ يعلم بأنّ هذا الإنسان محتاجٌ إلى الكمال فلماذا لا يدعمه بروافد توصله إلى كماله الرّوحي؟! عدم دعم الإنسان بما يوصله ويبلغه إلى كماله الرّوحي إمّا لجهل الله بحاجة الإنسان، والله عالمٌ بكلّ شيءٍ، وإمّا لعجزه عن إيصال الإنسان إلى الكمال، والله قادرٌ على كلّ شيءٍ، وإمّا لبخله، بمعنى أنّه يعلم بحاجة الإنسان إلى الكمال، وهو قادرٌ جلّ وعلا على أنّ يوصل الإنسان إلى الكمال، لكنه بخل على هذا الإنسان، وهذا يتنافى مع تماميّة فيّاضيّته وتماميّة جوده تبارك وتعالى، وهو تامّ الإفاضة، تامّ الجود، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، تامّ الإفاضة، تامّ الجود، تامّ العطاء تبارك وتعالى.

إذن مقتضى علمه بحاجة الإنسان وقدرته على إيصال الإنسان وجوده أنْ يوصل الإنسان إلى الكمال من خلال توفير روافدَ وتوفير طرق إذا سلكها الإنسانُ وصل إلى كماله الرّوحي، وتلك الرّوافد والطرق هي الأنبياء والرّسل والأئمة، فالإنسان محتاجٌ إلى وجود الأنبياء والرّسل والأئمة في حاجته الماسّة والذاتيّة إلى الكمال، إلى الكمال الرّوحي، إلى سيطرة الإرادة على غرائزه وعواطفه وشهواته، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ - لماذا؟ لأجل الكمال الرّوحي - لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ - لماذا؟ للكمال الرّوحي - إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، اذكر الله لماذا؟ لأنّ ذكر الله يقود إلى الكمال الرّوحي ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وهكذا.

المحور الثاني: ما هو تعريف النبوّة؟

متى نقول: هذا نبي، هذا ليس بنبي؟ ما هو تعريف النبي؟ مَنْ هو النبي؟

النبوّة هي انكشاف عالم الملكوت، المائز بين النبي وغير النبي أنّ النبي انكشف له عالمُ الملكوت، الانكشاف - أي: انكشاف عالم الملكوت - له طرقٌ طبعًا، كيف الإنسان يكتشف عالمَ الملكوت؟

هناك عالم ملك وهو عالم المادّة، أيّ إنسانٍ يستطيع أنْ يكتشف عالم الملك عالم المادّة، وهناك عالم ملكوت، ما وراء عالم المادّة، عالم الأرواح، عالم الملائكة، عالم العقول، عالم النفوس، كلّ عالم وراء عالم المادّة، هذا العالم كيف يصل إليه الإنسان؟ كيف يكتشفه الإنسان؟

الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا - الطريق الأوّل هو الوحي - أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، الإنسان يتّصل بعالم الملكوت، القرآن عبّر عنه بكلام الله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ يعني: أنْ يتّصل بالعالم الآخر، بعالم الملكوت، إمّا أنْ يتّصل به عبر الصّوت، بعض الأنبياء يسمع صوتًا فقط، لا يرى شيئًا، يسمع صوتًا - كما ورد عن الصّادق عليه السّلام - ولا يرى شخصًا، وبعض الأنبياء يصل إلى عالم الملكوت عبر رؤية الملك، الملك يتجلّى لبصره وينكشف أمامه، من خلال هذا الملك يدرك العالمَ الآخر، بعض الأنبياء عن طريق الإلهام القلبي، عن طريق الرّوع القلبي، كيف؟

نحن كلنا لأنّنا مسلمون متديّنون كلنا ندرك عالم الملكوت لكننا ندرك عالم الملكوت إدراكًا صوريًا، يسمّى بالعلم الحصولي، يعني: نحن ندرك عالم الملكوت من خلال الصّور المتخيّلة، نسمع عن الجنّة فنتصوّر، نسمع عن النّار فنتصوّر، نسمع عن القبر فنتصوّر، نسمع عن منكر ونكير فنتصوّر، فنحن لأنّنا نؤمن بما ورد عن النبي محمّدٍ فنحن ندرك عالمَ الملكوت إدراكًا صوريًا عن طريق الصّور، الصّور صحيحة أم خاطئة؟ الله العالم، لكنّ النبي يدرك عالمَ الملكوت إدراكًا وجدانيًا، وهو ما يسمّى بالعلم الحضوري لا بالعلم الحصولي، النبي يشعر بحرارة جهنم، النبي يشعر بلذة الجنّة وهو في الدّنيا، هو يعيش في الدّنيا وهو يشعر بحرارة النّار وبلذة النّعيم، فهو يدرك عالمَ الملكوت على نحو العلم الحضوري، يعني: على نحو الإدراك الوجداني الباطني، مثلما أنت الآن إذا تحبّ إنسانًا تدرك لذة حبّك له، عندك ولد مثلاً تحبّه، أنت إذا أحببتَ ولدك تدرك حبّ ولدك في قلبك، تشعر بهذه اللذة، أنت إذا تكره إنسانًا تشعر بألم الكراهة في نفسك، كما تشعر بلذة الحبّ شعورًا وجدانيًا، كما تشعر بألم الكراهة شعورًا وجدانيًا، النبي يشعر بلذة النّعيم وبألم الجحيم شعورًا وجدانيًا، فإدراكه لعالم الملكوت وصل إلى حدّ العلم الحضوري والإدراك الوجداني.

إذن المائز بين النبي وغيره أنّ النبي يدرك عالمَ الملكوت إدراكًا وجدانيًا، وهذه هي النبوّة، وهذه هي حقيقة النبوّة، انكشاف عالم الملكوت، القرآن الكريم يقول: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هذه أوّل خطوةٍ خطاها إبراهيمُ فانتقل إلى مرحلة النبوّة، أوّل خطوةٍ انتقل بها إلى مرحلة النبوّة أنّه أدرك ملكوتَ السّماوات والأرض ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فحصل على اليقين، قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، هذه العمليّة - عمليّة الخلق الحسّيّة - أراد بها تعالى أنْ يصوّر لنبيّه كيفيّة ما يدخل فيه وينفذ فيه عالمُ الملكوت.

حتى الإنسان العادي يحتاج أنْ يزيل حجابَ الذنوب والمعاصي يصل إلى بعضٍ من عالم الملكوت، حتى الإنسان العادي، القرآن الكريم يقول: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أنت تستطيع أنْ تشعر بألم الجحيم وأنت في الدّنيا بمرتبةٍ لا تصل إلى مرتبة النبي، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لكننا محجوبون ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ نحن محجوبون بذنوبنا، ذنوبنا تشكّل حجابًا لنا، الذنب، المعصية، نحن لا نشعر بتأثير الذنب، نظنّ أنّ الذنب تأثيره بسيط، اليوم أذنب وغدًا أستغفر وانتهت القضيّة! أذنب سنة ثم أستغفر شهرًا وانتهت القضيّة! الذنب يطهّره الاستغفارُ وانتهى المحذورُ!! هكذا؟! لا، قد تستغفر، قد تتوب، لكنّ الآثار الظلمانيّة والسّوداويّة للذنب مازالت باقية وراسخة، ”إنّ العبدَ إذا أذنب خرج في قلبه نكتة سوداء، فإنْ تاب انمحت، وإنْ عاد عادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدًا“.

بعدها هو يتوب، يصبح زينًا، لكن القلب، تاب يعني سقط العقاب، تاب عن ذنوبه سقط العقاب عنه لكنّ القلب مازال فحمة سوداء، مازال فحمة سوداء هي تخيّم عليه، تخيّم على أفعاله، لماذا الإنسان ينصرف عن العبادة؟ لماذا؟! هناك الكثير من الناس لا يذنب «خوش إنسان، خوش آدمي» لكن لا يحبّ أنْ يقرأ دعاء، لماذا؟! لماذا لا يحبّ أنْ يقرأ دعاء؟! أنت الآن في شهر رمضان، شهر رمضان شهر العبادة، شهر التقوى، شهر لذة العبادة، الإنسان المؤمن يلتذ بالعبادة في شهر رمضان، ترانا أحيانًا لا، في شهر رمضان شهر العبادة ليس لنا رغبة في أنْ نقرأ دعاء، ليس لنا رغبة في أنْ نفتح القرآن، ليس لنا رغبة في أنْ نصلي النافلة، لماذا؟! ما هو المانع؟! المانع ظلمة النفس، سوداويّة النفس، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، طيّب الذنوب التي ذهبت أين أثرها؟! الذنوب قبل عشرين سنة، قبل عشر سنوات، تلك الذنوب التي صنعتها وإنْ تبت منها وإن استغفرت منها أثرها يظهر الآن، بعد عشرين سنة، بعد خمس عشرة سنة يظهر أثرها، ليس له رغبة في الدّعاء، لا تقبل على الدّعاء، لا تقبل على النافلة، لأنّ ظلمة الرّوح حالت بينك وبين الإقبال على التقوى والإقبال على العبادة، إذن حقيقة النبوّة تتميّز بإدراك عالم الملكوت، فالنبي مَنْ أدرك عالم النبوّة.

المحور الثالث:

النبي بما أنّه مدركٌ لعالم الملكوت لذلك يكون معصومًا، فإنّ إدراك عالم الملكوت يكون سببًا لعصمته، العصمة هي الطهارة، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، العصمة هي الطهارة، الطهارة الرّوحيّة التي تبعث على الطهارة السّلوكيّة، هذه الطهارة الرّوحيّة رافدها «ركيزتها» انكشاف عالم الملكوت، لأنّه انكشفت له الرّذيلة..

لاحظ الآن نحن ندري أنّ الكذب رذيلة، ندري أنّ الغيبة رذيلة، ندري أنّ عقوق الوالدين رذيلة، ندري أنّ سماع الأغنية رذيلة، وهكذا... لكن نحن لا نشعر بقبح الرّذيلة، لو كنا نشعر بقبحها لما اقترفناها وأصررنا عليها، إذن نحن لا نشعر بقبح الرّذيلة وإنْ علمنا بهذا القبح، لكنّ المعصوم لأنّه انكشف له عالمُ الملكوت انكشف له قبحُ الرّذيلة، صار شعورُ المعصوم بقبح الرّذيلة كشعور الإنسان العادي بشناعة القذارات.

كيف أنا مثلاً أنا الإنسان العادي أشعر بفظاعة البول والدّم والأوساخ «أوساخ البدن»؟! لو أنّ شخصًا جمّع لك هذه الأوساخ كلها في كأس وقال لها: هيا اشربها! فهل ستشربها؟! هيا هذه كلها من بدنك هذه!! هي من بدنك لكن لا تشربها، من بدنك، كلّ ما يصدر من بدنك من دم، من قيح، من بول، من مني، من، من، من... كلها منك وفيك، كلّ هذه الأوساخ لو جُمِعَت لك أبدًا لا تقدم عليها، ما الذي يجعل الإنسان يمتنع عمّا يصدر منه وعمّا ينتجه بدنُه؟! ”إنّما أوّله نطفة قذرة، وآخره جيفة مذرة، وهو ما بينهما يحمل العذرة“، الإنسان بين الولادة وبين الموت برميلٌ يحمل أوساخًا! وهو ما بينهما يحمل العذرة، هذا جسم الإنسان! بدايته نطفة قذرة، نهايته جيفة مذرة، ما بينهما برميلٌ خزّان يحمل الأوساخ ويمشي بها!! هذا الإنسان لو جُمِعَ له ما في بدنه وما ينتجه بدنُه لا يتناوله، لماذا؟! لأنّه يشعر بخسّة هذه القذارات شعورًا وجدانيًا، لذلك يشمئز منها وينفر منها مع أنّها من بدنه، المعصوم كذلك، المعصوم يشعر بخسّة المعصية، بخسّة الكذب والغيبة والنميمة وسائر المعاصي، يشعر بخسّة المعصية شعورًا وجدانيًا فينفر منها، يمشئز منها، وفي المقابل يشعر بلذة الطاعة ونعيم الطاعة وجمال الطاعة شعورًا وجدانيًا فيُقْبِلُ عليها، ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فالعصمة هي الطهارة النفسيّة الناشئة عن إدراك عالم الملكوت، ومن إدراك عالم الملكوت إدراك حقائق الأعمال إدراكًا شعوريًا وجدانيًا.

ربّما يقول قائلٌ: طيّب إذن المعصوم لا يستطيع أنْ يفعل المعصية إذن! مادام هو يشمئز من المعاصي بطبعه ويرغب في الطاعات بطبعه إذن لا يمكنه فعل المعصية، وإذا لم يمكنه فعل المعصية وترك الطاعة إذن لا تكليف له، لماذا يكلف؟! مادام هو على كلّ حالٍ سيفعل الطاعة وعلى كلّ حال سيترك المعصية إذن إذا كان على كلّ حالٍ سيفعل الطاعة ويترك المعصية فما هو وجه تكليفه؟! وثانيًا: ما هو مجال فخره؟! كيف يفتخر المعصومُ على غيره وهو قد جُهِّزَ من الأوّل بأجهزةٍ تنفره من المعصية ترغبه في الطاعة؟! كيف؟!

هناك فرقٌ بين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي - كما يقول الفلاسفة - ما هو الفرق بينهما؟

الإمكان الذاتي إمكان حصول الشّيء في ذاته، والإمكان الوقوعي إمكان حصول الشّيء من حيث المقارنة بغيره، نأتي الآن نطبّق هذا بالأمثلة، نقول: الآن الإنسان هل يستطيع أنْ يطير في الهواء أم لا يستطيع؟ بالإمكان الذاتي يستطيع أنْ يطير في الهواء، طيران الإنسان في الهواء لا يستلزم دورًا، لا يستلزم تسلسلاً، لا يستلزم اجتماعَ النقيضين، لا يستلزم أيّ محالٍ من المحالات، طيران الإنسان في الهواء في حدّ ذاته أمرٌ ممكنٌ، إذن لماذا لا يقع؟ الآن تجاوزنا مرحلة الإمكان الذاتي، جئنا إلى مرحلة الإمكان الوقوعي، لماذا لا يقع؟ للجاذبيّة، فهناك مانعٌ، بمجرّد أنْ يرتفع الإنسان أخذته الجاذبيّة إلى الأرض، إذن هناك مانعٌ، إنّما لا يمكن للإنسان أنْ يطير في الهواء لا لأجل أنّ الطيران مستحيلٌ بل لأجل وجود المانع، إذن هذا يسمّى ممكنًا ذاتًا غير ممكن وقوعًا لوجود المانع.

مثلاً: أنا مثلما قلنا الآن نحن مثلاً مثّلنا، الإنسان ممكن ذاتًا أنْ يشرب بولَه، ممكن، قد يأتيك شخصٌ ويقول لك: والله أعطني مئة ريال وسأشرب! هناك أناس يفعلون هكذا! ممكنٌ ذاتًا أنْ يشرب البولَ الذي يصدر منه، الإمكان الذاتي موجودٌ، ممكن، لكن الإمكان الوقوعي إذا كان الإنسان حاضر العقل، عقله حاضرٌ، لأنّ العقل أحيانًا يغيب ويحضر كما تعلم! إذا كان الإنسان حاضرَ العقل وعقله مسيطرٌ على جوارحه وجوانحه، في حال سيطرة العقل على الجوانح والجوارح لا يمكن للإنسان أنْ يشرب البولَ، لا يمكن وإلا لم يكن حاضرَ العقل، هذا خلف كونه حاضر العقل، إذن شرب البول منه ممكنٌ ذاتًا وليس ممكنًا وقوعًا، المانع منه حضور العقل وسيطرته على الجوارح والجوانح.

نفس الشّيء الإنسان المعصوم، المعصوم إذا لوحظ بما هو بشرٌ إذن يمكن صدور الذنب منه لأنّ البشر يملك نفسًا كما ذكر القرآنُ على لسان النبي يوسف عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصّلاة والسّلام: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، بما هو بشرٌ يمكن صدور الذنب منه، لكن بما هو معصومٌ لا يمكن، فالعصمة منعت، صار صدور الذنب من المعصوم ممكنًا ذاتًا غير ممكنٍ وقوعًا، والذي منع من وقوعه هذه الطهارة القلبيّة المسمّاة بالعصمة، هذا العلم الذي هو إدراكٌ لعالم الملكوت، هذا الإدراك منع.

ولذلك تلاحظ الآية المباركة التي تخاطب النبيَ محمّدًا : ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ما هو هذا الذي علمه؟ غير الكتاب والحكمة ماذا؟! أنزل عليك الكتاب والحكمة واضحٌ، علمك ما لم تكن تعلم ما هو؟! ما هو الذي علمه؟! هو هذا: كشف عالم الملكوت، غير الكتاب والحكمة أيضًا كشف لك عالمَ الملكوت وحقائق الأعمال، ولذلك عبّر عن الكتاب والحكمة بالإنزال، ما عبّر عنه بالتعليم، ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ما قال: علمك الكتابَ والحكمة، قال: ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ لأنّ الكتابَ والحكمة كان وحيًا، فعبّر عنه بالإنزال، بينما إدراك عالم الملكوت هو علمٌ وجدانيٌ حضوريٌ شهوديٌ، لذلك عبّر عنه بالتعليم، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا.

خُلِقْتَ  مبرّئًا  مِنْ  كلّ عيبٍ

وأجمل منك لم ترَ قط عيني

 
كأنّك  قد  خُلِقْتَ  كما iiتشاءُ

وأفضل  منك لم تلدِ iiالنّساءُ

فإذن العصمة لا تمنع من فعل الذنب، فعل الذنب من المعصوم ممكنٌ ذاتًا غير ممكنٍ وقوعًا، وهذا ما أشارت إليه الآياتُ القرآنيّة: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، وقال: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ومن هنا لأنّ المعصوم ذو إرادةٍ فهو بإرادته اختار طريقَ الطاعة واجتنبَ طريقَ المعصية، لذلك لأنّه ذو إرادةٍ صحّ تكليفه بالطاعات واجتناب المعاصي، ولأنّه ذو إرادةٍ صحّ له أنْ يفتخر بأنّني أطعتُ الله عن إرادةٍ واختيارٍ مني، فكلّ ما أعطيت من النعم لا يسلبني الإرادة والاختيار.

قد الإنسان يطرح هذا السّؤال: طيّب لماذا الله أعطى النبوّة للنبي ولم يعطها لغيره؟! لماذا لم يعطها مثلاً جعفر بن أبي طالب وجعله هو النبي مثلاً؟! لماذا لم يعطها عمّار بن ياسر وصار هو النبي؟! لماذا لم يعطها إلا هذا الإنسان؟! لماذا؟!

إنّما أعطاه النبوّة والعصمة لأنّه علم من الأوّل قبل خلقه، من الأوّل يعلم أنّ هذا الإنسان، هذه الذات الطاهرة حتى لو لم تعطَ النبوّة، حتى لو لم تعطَ العصمة، هذه الذات الطاهرة ستكون أقوى الناس إرادة، أقوى الناس صبرًا، حتى لو لم تعطَ شيئًا، افترض أنّ الله لم يعطه النبوّة ولا العصمة مع ذلك سيكون أقوى الناس إرادة، أقوى الناس صبرًا، أقوى الناس صمودًا، فإنّ هذا الإنسان تسيطر إرادته على عواطفه وعلى مشاعره، لأنّه عَلِمَ بأنّه أقوى الناس إرادة وصبرًا وهبه النبوّة، وهبه العصمة، وهبه العلمَ .

ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا - متى؟ - لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، يعني: لمّا علمنا بصبرهم ويقينهم قبل خلقهم، ولذلك أنت تقرأ في زيارة السّيّدة الزّهراء صلوات الله وسلامه عليها، ماذا تقول في الزّيارة؟ ”يا ممتنحة امتنحك الله قبل أنْ يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة“ عَلِمَ بصبركِ قبل خلقكِ فوجدكِ لما امتنحكِ صابرة، ولأجل هذه الطاقة من الصّبر والإرادة عند فاطمة الزّهراء استحقّت هذا المقام العظيم، وكانت هي الحلقة الواصلة بين النبوّة والإمامة، وكذلك أبوها النبي إنّما أعطي هذا المقام للعلم قبل خلقه بأقوائيّة إرادته، كما يقول الأزري في قصيدته:

قلب  الخافقين ظهرًا iiلبطنٍ

لم   يكن   أشرفَ   النبيّين

 
فرأى ذاتَ أحمدٍ فاصطفاها

حتى  عَلِمَ  اللهُ  أنّه iiأزكاها

والحمدلله رب العالمين

ماهية الحياة والموت
فطرة الدين