نص الشريط
الحسين (ع) ميراث الأنبياء
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 10/1/1433 هـ
مرات العرض: 4675
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (3470)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث عن محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأول: في الفرق بين التراث والإرث.

التراث كلمة مشتقة من الإرث؛ لأنّ التراث أصلها اللغوي: وُرَاث، أبْدِلَتِ الواوُ تاءً للتخفيف، ولذلك القرآن الكريم استعمل التراث بمعنى الإرث، قال تبارك وتعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [2] ، والمقصود بذلك أنّ الشّخص يأكل نصيبَه من الميراث ويأكل أيضًا نصيبَ غيره، لكنّ التراث بعد ذلك اُسْتُعْمِلَ في معنىً أخصّ من الإرث، الإرث: كل ما ينتقل من إنسانٍ بعد موته إلى غيره يسمّى إرثًا، سواءً كان مالاً أو كان عادة من العادات، كأنْ يرث الولدُ عادة من عادات أبيه، وسواءً كان شيئًا ثمينًا أو كان شيئًا رخيصًا، لكن التراث لا يطلق على كل ما يورث، التراث: يطلق على المعنى الذي يجمع سمتين:

السّمة الأولى: أنّ التراث هو ما يورث من عدّة أشخاصٍ لا ما يورث من شخصٍ واحدٍ، يعني: ما يرثه الولد من أبيه لا يسمّى تراثًا، يسمّىًا ميراثًا، لِمَ؟ لأنّه ورثه من شخصٍ واحدٍ، أمّا لو ورث الإنسانُ النجابة أو الزعامة أو الشجاعة من قبيلته كلها، هذا يسمّى تراثًا؛ لأنّه لم يُورَث من شخصٍ واحدٍ، وإنّما أورِثَ من قبيلةٍ، أو أورِثَ من أمّة، فالتراث ما يُورَث من مجموعةٍ لا من شخصٍ واحدٍ.

السّمة الثانية: أنّ التراث ليس أمرًا مضى بل هو أمرٌ مؤثرٌ في الحاضر، التراث شيءٌ من الماضي لكن مؤثرٌ في الحاضر، ما لم يكن مؤثرًا في الحاضر لا يسمّى تراثًا، لو كانت هناك عادة هجرها المجتمعُ وتركها، مثلاً: في السابق كان الرّجالُ يستخدمون الحناءَ كما يستخدمه النساءُ، ثم المجتمع هجر هذه العادة، هذا لا يسمّى تراثًا، التراث ما يكون من الماضي لكنّه مؤثرٌ في الحاضر، لذلك تجارب الأمم السّابقة إذا استفاد منها الأجيالُ اللاحقة يعبّر عنها بالتراث.

ومن هذا المنطلق الإمام أمير المؤمنين عليٌ عبّر عن القيادة والإمامة التي كانت لأجداده من الأنبياء والأوصياء بأنّها تراثه، ”فطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذاءَ أو أصبر على طخيةٍ عمياء، يشيب فيها الصّغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمنٌ حتى يلقى ربّه، فرأيتُ أنّ الصّبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبًا“ تراثه هو القيادة التي اتسم بها أجدادُه من الأنبياء والأوصياء حتى وصلت إليه عليه .

المحور الثاني:

الآية المباركة التي افتتحنا بها: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، مَنْ هم الذين اصطفاهم الله لوراثة الكتاب؟

هنا تفسيران:

التفسير الأول: ما ذهب إليه أغلبُ علماء إخواننا من أهل السنة.

أنّ الذين ورثوا الكتاب هم أمة النبي، كلّ الأمة هي التي ورثت الكتابَ، قالوا: والدّليل على ذلك أنّ الله شرح الذين ورثوا الكتاب فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ إذن يقصد الله بالمصطفين الوارثين هم كلّ الأمة؛ لأنّ كلّ الأمة هي التي تنقسم إلى أقسام ثلاثة: ظالم لنفسه، ومقتصدٍ، وسابق بالخيرات، فتكون هذه الآية نظير الآية التي تقول: ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3] ، وتكون نظير قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [4] ، إذن الوارث هم كلّ الأمّة، هذا تفسيرٌ.

التفسير الثاني: الذي تراه الشّيعة الإماميّة وبعضُ علماء أهل السنة.

أنّ المقصود بالوارثين هم الصفوة من ذرّيّة النبي محمّدٍ ، لماذا؟

أوّلاً: لأنّ هذا المعنى هو الوارد عن أهل البيت الذين هم أعرف بالقرآن، فقد ورد عن الإمام الباقر ، قال: ”الظالم لنفسه مَنْ يحوم حول نفسه «يعني: الذي لا يهتم إلا بمصلحة نفسه»، والمقتصد مَنْ يحوم حول قلبه «يعني: الذي يجهد نفسَه في إصلاح قلبه وتهذيب روحه»، والسّابق بالخيرات هو الإمام“، وعن الإمام الرّضا سُئِلَ: مَنْ هم المصطفون الذي أورثوا الكتاب؟ قال: ”هم وِلْدُ فاطمة، فالسّابق بالخيرات هو الإمام، والمقتصد العارف بالإمام، والظالم لنفسه من لم يعرف الإمام“، وورد عن الإمام الكاظم أنه قال: ”فأمّا قوله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فنحن المصطفون، ونحن الوارثون علمَ هذا القرآن الذي فيه تبيان كلّ شيءٍ“.

ثانيًا: هذا المعنى هو المناسِب للآية؛ لأنّ الآية قالت: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا، لم يقل: عبادنا، لو قال: ثم أورثنا الكتاب عبادَنا، لقلنا: المقصود به كلّ الأمّة، لكن قال: ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا، إذن الوارث هو المصطفى، والمصطفى لا يعبّر به عن كل شخصٍ ولو كان عاصيًا لله يقال له: مصطفى؟! ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [5] ، المصطفى الشخص الذي صُفي ونُقي من قِبَلِ الله عزّ وجلّ من جميع الأدران والأكدار والشّوائب، هذا يعبّر عنه بالمصطفى، إذن تعبير الآية بالمصطفين يدلّ على أنّ المصطفين هم فئة خاصّة، وليسوا جميع أمّة النبي .

وأمّا قوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ هذا تعليلٌ وليس شرحًا، ما معنى تعليل وليس شرحًا؟

يعني الآية المباركة هكذا تقول: الآية تقول: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فكأنّ سائلاً يسأل: لماذا الله خصّ الإرث بالمصطفين؟! لماذا لم يعطِ الإرثَ لكلّ عبادنا؟! فأجابت الآية: لأنّ عبادنا منهم ظالمٌ لنفسه، ومنهم مقتصدٌ، ومنهم سابقٌ بالخيرات، فهذه كلمة ﴿فَمِنْهُمْ ﴿وَمِنْهُمْ تقسيمٌ إلى كلمة ﴿عِبَادِنَا وليست تقسيمًا لكلمة ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا، سيقت مساقَ التعليل، فكأنّه قال: إنّما اصطفينا جماعة وأورثناهم الكتاب لا كلّ عبادنا لأنّ عبادنا منهم ظالمٌ لنفسه، ومنهم مقتصدٌ، وسابقٌ بالخيرات.

المحور الثالث:

من صغريات ومصاديق الآية المباركة ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ما نصّت زيارة وارث عليه، زيارة الإمام الحسين : ”السّلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السّلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السّلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السّلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السّلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السّلام عليك يا وارث محمّدٍ حبيب الله“.

نتحدّث عن المضامين العالية لهذا المقطع من الزيارة، وهذا المقطع من الزيارة لم يختص بالإمام الحسين، ورد في زيارة الإمام علي أيضًا، وورد في زيارة الإمام الرّضا، وورد ما مضمونه في زيارة الإمامَيْن الكاظمَيْن، والإمامَيْن العسكريَيْن، ولكن تكرّر في زيارة الحسين ، في زيارة وارث، زيارة عيدَيْ الفطر والأضحى، زيارة عرفة، زيارة أول رجب، زيارة ليلة القدر... تكرّر هذا المقطع في حقّ الحسين مما يظهر أنّ للحسين خاصيّة ومعنىً من معاني هذا المقطع، نتحدث الآن عن معنى الوراثة في هذا المقطع الشريف، الوراثة هنا لها مضامينُ أربعة:

المضمون الأول: الوراثة الماديّة.

يعني: هناك شيءٌ ماديٌ محسوسٌ انتقل من الأنبياء السّابقين إلى الحسين ، فما هو هذا الشّيء المادي الذي انتقل من الأنبياء السّابقين إلى الحسين ؟

هنا نرجع إلى الرّاوية: عندنا رواية سعيد السمّان، يقول: دخل رجلان من الزيديّة - الذين يقولون بإمامة زيد بن علي بن الحسين - دخلا على الإمام الصّادق يناقشانه في مسألة الإمام، وقالا له: أفيكم إمامٌ مفترض الطاعة؟! الإمام الصّادق حتى يثبت أنّه هو الإمام حقًا وليس زيد عمه «وليس زيد ابن علي» ماذا قال الإمام الصّادق؟ قال: ”إنّ عندي سيفَ رسول الله، ودرعَه، ولامتَه، ومِغْفرَه، ورايتَه، وإنّ عندي ألواحَ موسى، وعصا موسى، وقميصَ يوسف، وخاتمَ سليمان، وإنّ عندي الطست الذي يقرّب به موسى القربانَ، وإنّ عندي التابوت التي جاءت به الملائكة تحمله، فالسلاح منا كالتابوت في بني إسرائيل، فإذا وقف التابوتُ على باب دار أحدهم أوتِيَ النبوة، وكذلك نحن فمَنْ صار السّلاح إليه منا فقد أوتي الإمامة“ يعني: يريد أن يقول: هذه علاماتٌ، من علامات الإمام أنّ مواريث الأنبياء بيده، علامات الإمام أنّ بيده مواريث الأنبياء والمرسلين، ثم قال: ”وإنّ أبي لبِسَ درعَ رسول الله فخطت على الأرض خطيطة، ولبستها فكانت كذلك، فإذا قام قائمُنا لبسها فملأها إنْ شاء الله“.

وفي روايةٍ أخرى: رواية المفضّل الجعفي، يسأل الإمام، يقول له: ما قميص يوسف؟ «ما هي حقيقة قميص يوسف؟!» قال له : ”إنّ إبراهيم لما أوقدت له النارُ نزل جبرئيلُ بقميصٍ من الجنة، فألبسه إبراهيمَ، فلم يضرّه بعده حرٌ ولا بردٌ، ولما جاء إبراهيمَ الموتُ قلده ابنه إسحاق، فلما جاءه الموتُ قلده ابنه يعقوب، فلما وُلِدَ يوسفُ قلد إبراهيمُ القميصَ ليوسفَ، فلمّا خرج به وأخرجه يوسفُ من تميمته وأرجعه إلى أبيه قال: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ [6]  فهذا القميص ثوبٌ من الجنة“، فقال له المفضّلُ الجعفيُ: وأين صار القميص؟ قال إلى أهله، قال: ومن هم أهله؟! قال: ”كلّ نبي ورّث علمًا أو غيره فقد انتهى إلى النبي وإلى أهل بيته مِنْ بعده“.

إذن فالمضمون الأول لهذا المقطع: ”يا وارث.. يا وراث.. يا وراث.. يا وراث...“ هو الموروثات الماديّة التي تكشف عن الإمامة وأنه لولا أنّه الإمام لما وصلت إليه هذه المواريث الماديّة الثمينة.

المضمون الثاني: الوراثة الرّوحيّة.

ما معنى الوراثة الروحية؟ نحن ذكرنا في الليالي السّابقة أنّ هناك مخلوقًا أعظم من الملائكة، وهذا المخلوق يسمّى بروح القدس، وروح القدس وظيفته التأييد والتسديد للأنبياء والمؤمنين كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [7] ، روح القدس إذا اتصل بكل نبي برزت له صفة، فلكل نبي من أنبياء الله صفة يتميّز بها على غيره، والإمام الحسين وغيره من الأئمة ورثوا من كلّ نبي صفته التي تميّز بها.

آدم تميّز بأنّ الملائكة سجدت له، نوح تميّز بأنّه وسيلة لنجاة المؤمنين، والحسين أيضًا كذلك، ورد عن الإمام الباقر : ”كلنا سفنُ النجاة ولكنّ سفينة جدي الحسين أكبر وأوسع“، وإبراهيم صفته أنّه خليلٌ لله، وورث الحسينُ خلته، وموسى صفته أنّه كليمُ الله، وورث الحسينُ كلامَه، ولذلك يقول الشّاعرُ طبقًا لبعض الرّوايات:

وَرَدَ الحسينُ من المدينة واردًا

وله    تجلى    اللهُ   جلّ   iiجلاهُ

وهناك  خرّ  وكلُ عضوٍ قد iiغدا



 
لا  ماءَ  مدين  بل  نجيعَ دمائي

في  طور وادي الطفِ لا سيناءِ

منه    الكليمُ   مكلمَ   iiالأحشاءِ

وصفة عيسى أنّه تكلم في المهد صبيًا، والحسين تكلم في المهد صبيًا، فالحسين ورث من كل نبي صفته التي اختصّه اللهُ بها، وهذا ما نعبّر عنه بالإرث الرّوحي، أو بالميراث الرّوحي.

لاحظ ما يقوله الرّسولُ : ”مَنْ أراد أنْ ينظر إلى آدم في جلالته، وإلى شيث في حكمته، وإلى إدريس في مهابته، وإلى نوح في شُكْرِه لربّه، وإلى إبراهيم في خلته، وإلى موسى في بغضه لكلّ عدوٍ لله ومنابذته، وإلى عيسى في محبّته لكلّ مؤمنٍ ومعاشرته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب“.

ويقول في هذا المعنى عبدُ الرّحمن بن كثير عن الإمام الصّادق ، يقول: سألتُ الإمامَ الصّادقَ عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [8]  مَنْ هم؟ قال: ”المؤمنون محمّدٌ وعليٌ، والذرية هم الأئمة والأوصياء، لم ينقص ذريتهم من الحجّة التي جاء بها محمّدٌ في علي ، فهم حجّة واحدة، ولهم طاعة واحدة“.

المضمون الثالث: الوراثة القياديّة.

ما هو المقصود بالوراثة القياديّة؟ المقصود بها الولاية، ثبتت للأنبياء الولاية، وثبتت للأئمة الولاية، والولاية تنقسم إلى قسمين: ولاية على التشريع، وولاية على التكوين.

1. ولاية التشريع: بمعنى أنّ للنبي - بمقتضى علمه بأسرار التّشريع - الولاية على أن يشرّع، فإذا شرّع أمضى اللهُ تشريعَه، ففي الرّواية الصّحيحة: ”إنّ الله حرّم الخمرَ بعينه، وحرّم رسولُ الله المسكرَ من كلّ شرابٍ، فأجاز اللهُ له ذلك، وإنّ الله فرض الصّلاة ركعتين ركعتين عشرَ ركعاتٍ، فأضاف رسولُ الله إلى الرّكعتين ركعتين فصارت عديلة الفريضة لا يجوز تركهنّ إلا في سفرٍ، وأفرد للمغرب ركعة وأقامها فلا تسقط في سفرٍ ولا حضرٍ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة، فأجاز اللهُ له ذلك“، فالنبي مشرّعٌ.

وورد في رواية موسى بن أشيم ومحمد بن الحسن الميثمي عن الصّادق قال: ”إنّ الله فوّض إلى نبيه أمرَ دينه فقال: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [9]  وما فوّض إلى نبيّه فقد فوّض إلينا“، إذن لهم الولاية على التشريع.

2. ولاية التكوين: ولهم الولاية على التكوين أيضًا، الولاية التي ثبتت لسليمان، سليمان له ولاية على الوجود، القرآن الكريم يقول: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [10] ، وسُخّرَ لداوود، ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [11]  معه ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ [12]  وعُلم منطقَ الطير، وأيضًا أعطيت الولاية لعيسى بن مريم: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [13] .

هذه الولاية على الوجود التي ثبتت للأنبياء ثبتت للنبي وأهل بيته، ومنهم الحسين ، ولذلك نحن نقرأ في زيارة الجامعة: ”بكم فتح اللهُ، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيثَ، وبكم يمسك السّماءَ أنْ تقع على الأرض إلا بإذنه، وبكم ينفس الهمّ، وبكم يكشف الغمّ، وعندكم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته“.

والولاية بقسميها - سواءً ولاية على التشريع أو ولاية على التكوين - تحتاج إلى العلم، الولاية فرع العلم، من أوتي العلمَ بأسرار التشريع أوتي الولاية على التشريع، ومن أوتي العلمَ بأسرار الكون ومفاتيح الكون أوتي الولاية على الكون، وهذا ما يؤكّده الأئمة الطاهرون «صلوات الله عليهم أجمعين» في هذه الرّواية عن أبي الحسن موسى بن جعفر ، يقول له الرّاوي: هل ورث النبيُ علمَ الأنبياء كلهم؟ قال: نعم، قال: من لدن آدم إلى أنْ انتهى إليه؟! قال: ”نعم، ما بعث اللهُ نبيًا قط إلا وكان محمّدٌ أعلم منه“، قلتُ: إنّ عيسى يحيي الموتى بإذن الله وإنّ سليمان علم منطقَ الطير فأين النبيُ من ذلك؟! قال له الإمامُ: ”إنّ النبيَ يقدر على هذه المنازل كلها، وكذلك نحن أهل البيت ورثنا هذا القرآن الذي تُسَيّر به الجبالُ وتُقطع به البلدانُ ويُحْيَى به الموتى بإذن الله؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [14] “، يعني: هذا القرآن يضمّ بين دفتيه أسرارًا لا يتعرّف عليها إلا النبيُ وأهلُ بيته، وتلك الأسرار هي مفتاح الولاية والتحكّم في هذا الكون كله، ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، ”قال اللهُ عزّ وجلّ: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [15] ، وقال جلّ وعلا: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فنحن المصطفون، ونحن ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء“.

وهذا المعنى يؤكّده علماؤنا، الإمام الخميني في كتابه «كتاب البيع» وسيّدنا الخوئي في كتابه «مصباح الفقاهة» نقلاً عن شيخه محمد حسين الأصفهاني: إنّ لأهل البيت ولاية على الكون كله وعلى كلّ ذرّةٍ من ذرّات هذا الوجود.

المضمون الرابع: الوراثة الجهاديّة.

ما هو المقصود بالوراثة الجهاديّة؟ التاريخ لا يسير عبثًا ولا ارتجالاً، التاريخ يسير على ضوء سننٍ، وهذه السّنن أشار إليها القرآنُ الكريمُ عندما يقول: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [16] ، هناك سننٌ يسير عليها التاريخ، ومن هذه السنن: أنّ الأحداث التي تقع في الأمم السّابقة تعكس تأثيرها على الأمم اللاحقة، تجارب الأمم السّابقة تؤثر في الأمم اللاحقة، أحداث الأمم السّابقة تؤثر على الأمم اللاحقة، هذه سنة من سنن التاريخ.

وكذلك معركة الحقّ والباطل، معركة الحقّ والباطل بدأت منذ يوم آدم ومرّت بفصولٍ وتجاربَ، كلّ تجربةٍ منها صارت تمهيدًا للتجربة التي بعدها، تجربة آدم صارت تمهيدًا لتجربة نوح، وتجربة نوح صارت تمهيدًا لتجربة إبراهيم، وتجربة إبراهيم تمهيدٌ لتجربة موسى، وهكذا... فصول المعركة بين الحقّ والباطل مرّت بأدوارٍ وتجاربَ ومشاهدَ إلى أن تلخصت تلك التجارب في رسالة النبي ، وتلخصت تجربة النبي في صراعه مع الكفر والشّرك في الإمام علي الذي قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وتلخصت فصولُ الأنبياء كلها... كل فصول الصّراع بين الحق والباطل من يوم آدم إلى يوم علي تجسّدت وتمثلت في الحسين يوم كربلاء، فهو وارث الأنبياء في حركة الصّراع، وهو وارث الأنبياء في الإرث الجهادي، وهو وارث الأنبياء في فصول المعركة الحاسمة بين الحقّ والباطل، لم يبلغ نبيٌ ما بلغ الحسينُ.

الحسين بذل دمَه ونفسَه ونفيسَه في سبيل دعم الحقّ وتشييده، فكان الحسينُ خلاصة جهود الأنبياء وخلاصة تجارب الأنبياء، وكان دمُ الحسين هو القربان الذي تقرّب به كلُ الأنبياء إلى الله تبارك وتعالى، الحسين هو إرث الأنبياء، دم الحسين هو قربان الأنبياء الذي أقبلت إليه العقيلة زينبُ ومدّت يديها ورفعته وقالت: ”اللهم تقبّل منا هذا القربانَ“، يوم العاشر يوم معركة الحقّ ضدّ الباطل، يوم الدم الحسيني الذي تدفق وكلّ قطرةٍ منه تقول: ”لا واللهِ لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل ولا أقرّ إقرارَ العبيد، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السّلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى اللهُ لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجذورٌ طابت، وحجورٌ طهرت، وأنوفٌ حمية، ونفوسٌ أبية، أنْ تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي متقدّمٌ بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر“.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1] فاطر: 32.
[2] الفجر: 19.
[3] غافر: 53 - 54.
[4] الشورى: 14.
[5] آل عمران: 33 - 34.
[6] يوسف: 94.
[7] البقرة: 87.
[8] الطور: 21.
[9] الحشر: 7.
[10] ص: 36 - 37.
[11] الأنبياء: 79.
[12] ص: 18.
[13] آل عمران: 49.
[14] النحل: 89.
[15] النمل: 75.
[16] آل عمران: 137.

المنهج العلمي في التعامل مع الرواية
خط الموت على ولد آدم