نص الشريط
الإعجاز والتحليل العلمي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 13/1/1433 هـ
مرات العرض: 2889
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2920)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تتحدث عن ظاهرة الإعجاز لدى الأنبياء والرسل، ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ - يعني: بمعجزة - إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ - يعني: ظهرت المعجزة - وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ، فانطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محورين:

  • في اندراج الإعجاز تحت قانون السببية.
  • وفي أنّ الإعجاز هل هو أمرٌ نسبيٌ أو هو أمرٌ حقيقيٌ.

المحور الأول: هل أنّ ظهور المعجزة يخضع لقانون السببية أم لا؟

المعجزة التي تحدث كإحياء الموتى من قِبَلِ عيسى بن مريم، أو رد الشمس من قِبَلِ أمير المؤمنين، هل أنّ هذه المعجزة حتى تحدث لابدّ أن تستند إلى سببٍ وأن تستند إلى علةٍ أم لا؟ هل أنّ ظاهرة الإعجاز تخضع لقانون السببية أم لا؟

حتى نوضّح هذه النقطة نذكر أنّ هذا الوجود الذي نعيش فيه ينقسم إلى قسمين: عالم خلق، وعالم أمر.

والقرآن الكريم أشار لهذين القسمين، قال: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [2]  عالم الخلق هو الموجود الذي يحتاج وجوده إلى مادةٍ وإلى مدةٍ، مثلاً: الشجرة حتى توجد تحتاج إلى مادةٍ - وهي البذرة - وتحتاج إلى مدةٍ، جسم الإنسان حتى يتكون يحتاج إلى مادةٍ - وهي النطفة - ويحتاج إلى مدةٍ «ستة أشهر أو تسعة أشهر»، إذن فالشجرة والجسم البشري من عالم الخلق؛ لأنّه يحتاج في وجوده إلى مادةٍ وإلى مدةٍ.

بينما هناك قسمٌ آخر من الموجودات لا تحتاج لذلك، يعني: يكفي أن تتعلق بها الإرادة الإلهيّة، بمجرد أن تتعلق بها الإرادة الإلهية توجد دفعة واحدة بدون مادة، بدون مدة، هذه الموجودات تسمّى عالم الأمر، التي عبّر عنها تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إشارة إلى عالم الأمر، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [3] ، وعبّر عنها قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [4]  دفعة واحدة يوجد هذا القسم من الموجودات بدون مادةٍ، بدون مدةٍ، مثل ماذا؟ عالم العقول، هذا الوجود الذي نسبح فيه له عوالمُ متعددة، أوّل عالم أبدعه اللهُ من هذا الوجود يسمّى بعالم الجبروت، عالم العقول، هذا العالم عالمٌ مجردٌ، يعني: العقول وجدت بالإرادة الإلهية من دون مادةٍ ومن دون مدةٍ، فعالم العقول يسمّى بعالم الأمر، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.

بعد أن نعرف هذا الشيء نأتي الآن إلى المعجزات: المعجزة التي تحدث من نبي أو وصي، النبي يحيي الموتى كعيسى بن مريم، أو يشق له القمرُ كالنبي ، هذه المعجزة عندما حدثت حدثت في عالم الخلق، حدثت في عالم المادة، العالم الذي نحن نعيش فيه، ردت الشمس، شق القمر، أحيي الموتى، كله في هذا العالم ألا وهو عالم الخلق، عالم المادة، هل حدثت هذه المعجزات من دون سببٍ وراءها «من دون علة وراءها» أم لا؟

نقول: لا، مستحيل، بدون سبب مستحيل، لا يحدث الشيء المسبب في عالم المادة إلا وهو مستند إلى السبب، كيف؟

القرآن الكريم يدل على ذلك، القرآن الكريم يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [5] ، يعني كيف؟ يعني أنت الآن قبل أن تأتي إلى هذا العالم - عالم المادة - كنتَ موجودًا، كنتَ موجودًا في عالم آخر، أنت كنتَ روحًا تسبّح الله، تهلله، تشاهد ملكوت الله وجلاله وجماله، بعد ذلك أنت انتقلت من ذلك العالم النزيه - عالم التسبيح والتهليل - وأتيت إلى هذا العالم، هذا سمّاه القرآن نزولاً، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ أنت كنتَ مختزنًا في عالم آخر ونزلت إلى هذا العالم عبر حيوان منوي، عبر نطفة منوية جئت إلى هذا العالم، ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ماذا يعني القدر؟ يعني نحدد زمانًا، ونحدد مكانًا ونحدد أبًا ونحدد أمًا ونحدد علة، فينزل هذا المخلوق إلى هذا العالم المادي وهو محدد بأقدار معينة، ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [6]  بدون تقدير لا يكون، ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [7] ، وقال: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [8] .

إذن كلٌ منا جاء وله قدرٌ، يعني: جاء وله سببٌ يقتضي وجوده؛ لأنّ من القدر تقدير السبب، فجميع الأشياء المادية من بشر من شجر من حجر جميع الأشياء المادية جاءت إلى عالم المادة ولها قدر يعني ولها سبب تستند إليه في وجودها، فكل مسبب له سبب، المعاجز أيضًا لها سبب لا محالة، رد الشمس، طي الأرض، شق القمر، إحياء الموتى، كل هذه المعاجز والكرامات هي من عالم المادة، هي من عالم الخلق، إذن لها قدرٌ، وقدرها يعني أن لها سببًا وراءها، فلا يمكن أن تحدث المعجزة من دون سببٍ وراءها.

المحور الثاني: الإعجاز هل هو أمرٌ نسبيٌ أو هو أمرٌ حقيقيٌ؟

يعني: هل أنّ المعجزة تختلف باختلاف الزمن بحيث تصير في زمن معجزة وفي زمن غيرَ معجزة؟! هل المعجزة تتغير فتصبح في زمن ليست معجزة «تفقد إعجازها» فيكون الإعجاز أمرًا نسبيًا أم أنّ الإعجاز أمرٌ حقيقيٌ «معجز يعني معجز في كل زمان ولكل مجتمع ولكل ثقافة»؟ إذن عندنا اتجاهان:

  1. اتجاه يرى أن الإعجاز أمرٌ نسبيٌ.
  2. اتجاه يرى أن الإعجاز أمرٌ حقيقيٌ.

أشرح لك كلاً من الاتجاهين:

الاتجاه الأول «الذي يقول: الإعجاز أمرٌ نسبيٌ يختلف باختلاف الأزمنة»:

صاحب هذا الاتجاه يقول: بما أنّ المعجزة شيءٌ ماديٌ، والشيء المادي يحتاج إلى سبب، إذن لابدّ أن يكون هذا الشيء المادي مستندًا إلى سبب أيضًا مادي مثلاً، لِمَ؟ لقاعدة فلسفية: قاعدة السنخية بين السبب والمسبّب، لابدّ من وجود مشاكلة بين السبب والمسبب، يعني الآن مثلاُ: التفاحة لا تأتي إلا من بذرة معينة، بذرة التفاحة لا تنتج برتقالة، واضح، بذرة التفاحة لا تنتج حيوانًا، رحم الحيوان لا ينتج إنسانًا، نطفة الإنسان لا تنتج نباتًا، كل مسبّب له سببٌ من سنخه ومن جنسه، لا يصير له سببٌ من جنس آخر، هذا يسمّى بقاعدة السنخية، لكل مسبّب سببٌ من سنخه ومن جنسه، وإلا لا يولد كل شيء من كل شيء، حجر يخرج من بطن حيوان! أو حيوان يخرج من بذرة نبات! لا، ما يصير، لكل مسبّب سببٌ من سنخه ومن جنسه، هذه قاعدة السنخية.

بناءً على هذه القاعدة: بما أنّ المعجزة شيءٌ ماديٌ - «إحياء الموتى» هذا شيءٌ ماديٌ، «ردّ الشمس» هذا شيءٌ ماديٌ... - إذن لابدّ أن يكون سبب المعجزة سببًا ماديًا حتى تكون سنخية بين المسبّب والسبب، فإذا كان سبب المادة أمرًا ماديًا إذن لم تصبح المعجزة معجزة؛ لأنّ هذه لها سببٌ ماديٌ، فمتى ما اطلعنا على سببها المادي فقدت إعجازها.

يعني الآن مثلاً: ولادة عيسى ، عيسى وُلِدَ من غير أب، هذا في زمان عيسى كان معجزة، أن يولد الإنسان من غير أب هذا إعجازٌ، لكن بعد أن تقدّم العلم واكتشف أنّ الإنسان لا يحتاج إلى حيوان منوي حتى يتكون منه، يمكن أن يُنْتَزَعَ الإنسان من خلية من خلايا جسد أمّه إذن بعد أن تقدم العلمُ في مجال بحوث الاستنساخ واكتشف أنّه يمكن أن يأتي الإنسان من دون حيوان منوي، يمكن أن يأتي الإنسان من خلية من خلايا أمه، إذن بالنتيجة: أصبحت ولادة إنسان بدون أب ليست معجزة، كانت معجزة، الآن ليست معجزة، فقدت إعجازها، لماذا؟

لأنّ البشرية اكتشفت السببَ المادي الذي وراء هذه الظاهرة، وهو ولادة الإنسان من غير أب، فما كان معجزة في زمن لم يعد معجزة في زمن آخر، وما كان معجزة بالنسبة إلى ثقافة لم يعد معجزة بالنسبة لثقافة أخرى، إذن هذا معناه أنّ الأعجاز أمرٌ نسبيٌ، فإذا اطلعت البشريّة بمرور الزمن على الأسباب الماديّة لرد الشمس أو الأسباب المادية لشقّ القمر أو الأسباب الماديّة لطيّ الأرض سوف تفقد هذه الأمور إعجازها، هذا معنى أنّ الإعجاز أمرٌ نسبيٌ.

الاتجاه الآخر: الإعجاز أمرٌ حقيقيٌ.

في مقابل الاتجاه الأوّل عندنا اتجاهٌ آخر يقول: لا، الإعجاز إعجازٌ، الإعجاز أمرٌ حقيقيٌ، المعجز معجزٌ لكل زمن، لكل ثقافة، لكل مجتمع هو معجزٌ، لماذا؟

صحيح أنّ المعجزة مسبّبٌ، والمسبّب يحتاج إلى سببٍ، كلّ هذا معقولٌ، لكن ليس بالضرورة أن ينحصر السّبب في سبب مادي، ليس بالضرورة، لماذا ليس بالضرورة؟

أنا ذكرتُ لك في الليلة السابقة، قلتُ لك: كلّ شيءٍ في الوجود له عنصران: عنصر ملكي مادي، وعنصر ملكوتي غيبي.

كل شيء، أنت الآن تتكون من عنصرين، عنصر مادي: وهو جسدك، وعنصر ملكوتي: وهو روحك التي تدير جسدك.

كل موجود يتكون من عنصرين: عنصر مادي ملكي، عنصر غيبي ملكوتي.

حتى الحجر، لاحظ هذا الحجر، الحجر الأصم، هذا فيه عنصرٌ ملكوتيٌ مضافًا إلى عنصره المادي، كيف؟!

القرآن الكريم يقول: ﴿إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [9]  يعني: لكل شيء لغة لكن نحن لا نفقه هذه اللغة، الحجر له لغة، الشجر له لغة، النبات له لغة، كل شيء له لغة، كل شيء له تسبيحٌ لكننا لا نفقه تسبيحه ولا ندرك لغته، القرآن الكريم يقول: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [10]  يعني: جعل لكل شيء نطقًا، جعل لكل شيء لغة، فلكل شيء لغة، إذن لغته هي عنصره الملكوتي، لكل شيء لغة فلكل شيء عنصرٌ ملكوتيٌ وهو لغته، وهذا ما يقول القرآن الكريم عنه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا [11]  كيف يصير الجبل خاشعًا وهو جبلٌ أصم؟! كيف يصير خاشعًا؟! معناه أنّ له عنصرًا ملكوتيًا من خلاله يخشع، من خلاله يسبّح، من خلاله يلتفت، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ، إذن لكل شيء عنصرٌ ملكوتيٌ لا فقط عنصر مادي.

إذا فهمنا هذه النقطة اتضح لنا، المعجزة أيضًا لها جانبان: جانب مادي، وجانب ملكوتي، بما أنّ المعجزة لها جانبان وعنصران: عنصرٌ ماديٌ، عنصرٌ ملكوتيٌ، إذن ليس بالضرورة أن يكون سبب المعجزة سببًا ماديًا، قد يكون سببها سببًا ملكوتيًا؛ لأنّ العنصر الملكوتي موجودٌ فيها، ما دام للمعجزة عنصرٌ ملكوتيٌ فسببها يمكن أن يكون سببًا ملكوتيًا أيضًا، سببًا غيبيًا.

من أجل ذلك نقول: ما هو سبب المعاجز؟ ظهور المعجزة ما هو سببه؟

ليس سببه مقدماتٍ مادية يقوم بإعدادها المعصومُ حتى تنتج هذا المسبّب المادي، سبب المعجزة الإرادة القدسية للمعصوم، سواءً كان نبيًا، أو إمامًا، أو وليًا كفاطمة الزهراء «عليها السّلام»، كل معصوم إرادته القدسية هي منشأ ظهور المعجزة على يديه، الإرادة القدسية التي هي سببٌ غيبيٌ، سببٌ ملكوتيٌ، لِمَ؟

لأنّ المعصوم إرادته مظهرٌ لإرادة الله، إرادته وجهٌ لإرادة الله، ”السّلام على محالّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سرّ الله“، إرادة المعصوم وجهٌ لإرادة الله، مظهرٌ لإرادة الله، فهو بإرادته القدسية يُحْدِث المعجزة ويصنع المعجزة، فالمعجزة تستند لإرادته القدسية، ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ - إذا أذن تطابقت إرادة المعصوم مع إرادة الله عزّ وجلّ - فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ، إرادة المعصوم هي سبب المعجزة إذن ستبقى المعجزة معجزة.

يعني: لو وُجِدَ عيسى في زماننا وأحيى الموتى سوف يكون إحياء الموتى معجزة، لِمَ؟ لأنّه استند لإرادته القدسية، لو وُجِدَ موسى بن عمران في زماننا وحوّل العصا حية تسعى لكانت معجزة لأنّ ذلك استند لإرادته القدسية، ولو بُعِث عليُ بن أبي طالب فطوِيَت له الأرضُ لكان ذلك إعجازًا؛ لأنّه مستندٌ إلى إرادته القدسية.

طبعًا التعبير المعروف عند علمائنا عن الإعجاز يسمّونه «ولاية تكوينية»، لماذا الإعجاز يعبّر عنه بالولاية التكوينية؟ هل هناك سرٌ وراء هذا التعبير؟

نحن من أجل أن نقرّب المطلب للذهن - ذهن الإنسان - نقول: الولاية التكوينية مَنْ ملك علمًا وقدرة ملك ولاية، كيف يعني من ملك علمًا وقدرة ملك ولاية؟! أنت الآن مثلاً تستطيع أن تتكلم باللغة الإنجليزية، تستطيع أن تتحدث نصف ساعة باللغة الإنجليزية، نحن نستطيع أن نقول لك: لك ولاية على اللغة الإنجليزية، ما معنى لك ولاية؟ يعني: لك سلطة، لك سيطرة على اللغة الإنجليزية، من أين أتت لك هذه الولاية والسّيطرة على اللغة الإنجليزية؟ من عنصرين: علم، وقدرة.

عندك علمٌ باللغة وعندك قدرة على النطق، حيث ملكت العلم وملكت القدرة صارت لك ولاية على أن تتحدث باللغة، يعني: صار لك سيطرة وسلطنة على أن تتحدث باللغة، الولاية التكوينية شبيهٌ بهذا، ما يستند إلى العلم والقدرة يكون ولاية تكوينية، يعني أنت الآن عندما تتحدث باللغة الإنجليزية وهناك شخصٌ يستمع ليس عنده قدرة ويعتبر فعلك شيئًا عظيمًا؛ لأنّه فاقدٌ للقدرة، لأنّه فاقدٌ للقدرة يعتبر حديثك باللغة الإنجليزية شيئًا عظيمًا، بينما أنت تعتبره شيئًا عاديًا، هو فعلك الطبيعي أصلاً، أنت عندما تمارس الحديث حديثك باللغة الانجليزية فعلٌ طبيعيٌ لك وليس عظيمًا بالنسبة لك، هو عظيمٌ بالنسبة لمن يفقد القدرة عليه.

نفس الشيء في الولاية التكوينية، يعني: نحن عندما نرى أنّ الأرض تطوى لعلي بن أبي طالب هو بالنسبة إلينا فعلٌ إعجازيٌ، لكن بالنسبة لعلي نفسه هو فعلٌ طبيعيٌ، هو يمارس فعله الطبيعي أصلاً، هو هذا فعله، فعله الطبيعي أن تطوى له الأرض، فعله الطبيعي أن تردّ له الشمسُ، هذا فعله الطبيعي، لِمَ؟ لأنّ الفعل حتى يصير طبيعيًا بالنسبة لك يحتاج إلى علم وقدرةٍ، إذا علمتَ وكانت لك القدرة عليه صارت لك ولاية عليه فأصبح فعلاً طبيعيًا بالنسبة لك.

نحن نعتبر ردّ الشمس فعلاً إعجازيًا لأنّنا فاقدون لمواد هذا الفعل، لكنّه بالنسبة لعلي فعلٌ طبيعيٌ، هذا معنى الولاية التكوينية، إذن الولاية سيطرة على الفعل بحيث يصبح فعلاً طبيعيًا لمن يصدر منه، وهذه السيطرة تعتمد على عنصرين: علم وقدرة.

القرآن يؤكّد على هذا المعنى، القرآن عندما يقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ليس من اللازم أن تقيده الأسبابُ المادية، لا، يستطيع أن يتجاوز الأسباب المادية، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - يعني: يستطيع أن يتوصل لمسببات بدون أسباب مادية، بأسباب ملكوتية، بأسباب غيبية - وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ [12] ، إذن من الممكن أن تتوصل إلى المسبّب بأسباب غير مادية.

وهذا ما تعتقده الشيعة الإماميّة في باب البداء، البداء يرتكز على هذه النقطة: أنّ للمسبّبات أسبابًا غير مادية، البداء يرتكز على هذه النقطة، لو أنّ المسبّبات انحصرت أسبابها في الأسباب المادية لما تم البداءُ، يعني الآن مثلاً: مريضٌ شفاء مرضه شيءٌ ماديٌ، إذا يتوقف على سبب مادي، يعني لابد أن يشرب دواءً، لابد أن يتحرك، إذن معناه لغت الأسباب الغيبية، وهذا هو خلف اعتقادتنا بالبداء، نحن نعتقد أنّ شفاء المرض وإن كان شيئًا ماديًا - يعني: له جهة مادية - لكن بلحاظ جهته الملكوتية يمكن أن يستند لسبب غير مادي، ”الصدقة تدفع البلاء وقد أبرم إبرامًا“ كما ورد عن النبي .

وورد عن النبي محمّدٍ : ”إنّ للرحم لسانًا طلقًا ذلقًا يوم القيامة يقول: يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني، وإنّ صلة الرحم تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتعمر الديار، وتنسئ الآجال“ يعني: تطيل الأعمار، إذن صلة الرحم لها سببية ملكوتية، الصدقة لها سببية ملكوتية، الدعاء له سببية ملكوتية، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [13] ، فالمسببات يمكن أن يكون لها أسبابٌ غير مادية، وهذه هي عقيدتنا في البداء، فالمعجزة وإن كانت أمرًا له صورة مادية لكن يكون سببه سببًا غير مادي، سببًا غيبيًا، سببًا ملكوتيًا، ألا وهو الإرادة القدسية للمعصوم، وهذه الإرادة القدسية متفرعة عن علم وقدرة، من ملك العلم والقدرة ملك الولاية.

والقرآن الكريم يركّز على هذا، والقرآن الكريم يركّز على هذا، مثلاً تأتي إلى سليمان: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ يعني: الريح فعلٌ طبيعيٌ لسليمان، لا يحتاج أن يتكلم، هو يأمر الريح، ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [14] ، إجراء الريح فعلٌ طبيعيٌ لسليمان، تأتي إلى داوود: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ [15]  هذا فعلٌ طبيعيٌ لداوود.

وهكذا تأتي إلى عيسى بن مريم: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [16]  هذا الفعل بالنسبة لعيسى فعلٌ طبيعيٌ ناشئٌ عن إرادته القدسية، وإرادته القدسية متقوّمة بعلمه وقدرته التي سمّيناها ولاية تكوينية.

أيضًا يؤكّد القرآن الكريم على استناد الإعجاز والولاية التكوينية لعنصر العلم، بدون عنصر العلم ما يصير، كيف؟

يقول القرآن الكريم في حقّ آصف بن برخيا وصيّ سليمان، سليمان قال لأصحابه: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا - عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين - أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ - رجعنا إلى عنصر العلم - قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ «يعني: أنا عندي عنصر علم وعندي عنصر قدرة، إذن أنا عندي ولاية» قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [17] ، وقد كان لآصف بن برخيا علمٌ من الكتاب فكيف بمن يكون عنده علم الكتاب؟! كما قال القرآن الكريم: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [18]  وهو أمير المؤمنين عليٌ .

ممّا يؤكّد لنا استناد الولاية التكوينية إلى العلم هذه الرواية عن الإمام الكاظم ، سأله بعضُ أصحابه، قال له: هل ورث النبيُ علمَ النبيين كلهم؟ قال: بلى، قال: من لدن آدم إلى أن انتهى إلى زمانه؟! قال: ”بلى، ما بعث نبيٌ قط إلا وكان محمّدٌ أعلم منه“، قال السائل «السائل يقول للإمام كأنّه معترض»: إنّ عيسى بن مريم أحيى الموتى وإنّ داوود علم منطقَ الطير! يعني هذا لم يصر للنبي وأنت تقول كل شيء للنبي؟! فأجابه الإمام: ”إنّ النبي يقدر على هذه المنازل كلها، ونحن أهل بيته أعطينا القرآن وفيه تبيان كل شيء، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [19] “ يعني: من اطلع على القرآن بحقيقته، بواقعه، اطلع على أسرار كل شيء، ومن اطلع على أسرار الكون ملك مفاتيح الكون وملك التصرف في هذا الكون لأنّه اطلع على مفاتيحه، اطلع على أسراره، فلذلك تثبت له الولاية على هذا الكون، ”ونحن أهل بيته أعطينا القرآن وفيه تبيان كل شيء، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ففيه تقطع الجبال وتطوى البحار وتحيى الموتى بإذن الله“.

إذن كما ثبت لسليمان ولعيسى ولموسى الولاية التكوينية لأنّه ثبت لهم عنصر العلم ثبت لأهل بيت النبوة الولاية التكوينية لأنّ لهم عنصر العلم، ولذلك يذكر سيدنا الخوئي «قدّس سرّه» في كتابه «مصباح الفقاهة»، والإمام الخميني «قدّس سرّه» في كتابه «كتاب البيع»: إنّ للأئمة الطاهرين ولاية على كل ذرةٍ من ذرات الوجود، لماذا؟! لأنّ من ملك أسرار الكون، من ملك العلم بالأسرار ملك مفاتيح التصرف في هذا الكون.

جاء بعضُ الواقفيّة إلى الإمام الرضا ، الواقفة وقفوا على الإمام الكاظم، قالوا: الإمام الكاظم لم يمت، مازال حيًا، ثم أقبلوا على الإمام الرضا ، قالوا له: هل مضى أبوك؟! قال: نعم، قالوا: كيف مضى؟ قال: مضى موتًا «مات»، قالوا: من الإمام بعد أبيك؟ قال: أنا، ضحكوا! قالوا: ما وجدنا أحدًا من آبائك يقول عن نفسه أنّه إمام! أنت تقول: أنا إمام، ما وجدنا أحدًا من آبائك يقول عن نفسه إنّه إمامٌ إلا أنت! قال: إنّ خير آبائي رسول الله وهو الذي قال عن نفسه: إنّي رسول الله إليكم بين يدي عذاب شديد، قالوا له: لقد سمعنا من آبائك أنّ الإمام إذا مات لا يلي أمرَه إلا إمامٌ مثله، فكيف وليتَ أمرَ أبيك وأبوك مات في سجن السندي بن شاهك ببغداد وأنت بالمدينة؟! كيف وليتَ أمرَ أبيك؟! إذا أنت الإمام كيف وليتَ أمرَه؟! قال لهم: من ولي أمرَ الحسين بن علي وقد كان بكربلاء وابنه بالكوفة مقيّدًا ومغللاً؟! كيف ولي أمره؟! قالوا: إنّ الله مكّنه وفكّ القيدَ منه فجاء من الكوفة إلى كربلاء وولي أمرَ أبيه ثم رجع إلى الكوفة، قال: إنّ الذي مكّن زينَ العبادين وهو مقيّدٌ أن يأتي من الكوفة إلى كربلاء فيلي أمرَ أبيه مكّني وأنا لستُ مقيّدًا ولا سجينًا أن آتي من المدينة إلى بغداد فألي أمرَ أبي موسى بن جعفر.

إذن علي بن الحسين ولي أمر أبيه، علي بن الحسين جهّز أباه، علي بن الحسين وارى الجثة الطاهرة في مثل هذه الأيام العظيمة...

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1] غافر: 78.
[2] الأعراف: 54.
[3] يس: 82.
[4] القمر: 50.
[5] الحجر: 21.
[6] القمر: 49.
[7] الأعلى: 2 - 3.
[8] الطلاق: 3.
[9] الإسراء: 44.
[10] فصلت: 21.
[11] الحشر: 21.
[12] الطلاق: 2 - 3.
[13] غافر: 60.
[14] ص: 36 - 39.
[15] ص: 18.
[16] آل عمران: 49.
[17] النمل: 38 - 40.
[18] الرعد: 43.
[19] النحل: 89.

وحدة الوجود بين الفلسفة والعرفان
القداسة ضرورة للمجتمع الإنساني